أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد صقر - الأسرة في المسرح الأمريكي المعاصر















المزيد.....


الأسرة في المسرح الأمريكي المعاصر


أحمد صقر

الحوار المتمدن-العدد: 3254 - 2011 / 1 / 22 - 11:24
المحور: الادب والفن
    


(العلاقة بين الأبناء والآباء فى المسرح الأمريكي)
الأستاذ الدكتور/ أحمد صقر
قسم الدراسات المسرحية-كلية الآداب-جامعة الإسكندرية
============================
المسرح جزء من الحياة وقطع من الواقع ... لهذا كان طبيعى أن نجد على خشبة المسرح كثيراً من العلاقات الطبيعية وغير الطبيعية. وبين هذه وتلك تمثل العلاقات الاجتماعية وخاصة العلاقات داخل الأسرة الواحدة مناخاً أكثر طبيعية وواقعية لاحتمالات الصراع والتطور الدراميين من التجمعات الأخرى التى قد تبدو فيها العلاقات الاجتماعية واهية أو مفتعلة.
وعندما نتطرق للحديث عن الأسرة فى المسرح الأمريكى لا نستطيع أن نغفل بداية " دور المسرح الأوروبى منذ العصور اليونانى... والذين لم يبتدعوا هذا النوع من المسرحيات إلا عندما اكتشفوا الإمكانات الموجودة فى الأسرة الأبوية الكبيرة والأيديولوجية الفكرية والإجتماعية النابغة منها .
ونجد ذلك على سبيل المثال لا الحصر فى " أجاممنون " أولى حلقات ثلاثية الأورستية ... و(الكترا ) سوفوكليس حيث العلاقة بين "الكترا" و "أوريست" من جهة والأم "كليتمنسترا" من جهة أخرى...
كما نلمح العلاقة نفسها عند يوربيدس فى " ميديا " بين شخصيات الأسرة ... "ميديا" وزوجها "جاسون".
ثم نلمح قوتها مرة أخرى فى عصر النهضة الأوروبية وفى مسرح شكسبير بالتحديد حيث يموج بالعلاقات الأسرية ... وتتضح فى كثير من مسرحياته كما فى " روميو وجوليت " و" هاملت " على سبيل المثال.
ثم تظهر بعد ذلك عند هنريك ابسن فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ونستطيع أن نلمح أو نتبين العلاقات داخل الأسرة فى مسرحه من خلال مسرحيته " بيت دمية " والتى أحدثت ضجة هائلة عند ظهورها.
إن ما قدمه ابسن قد حمل معه إلى عالم المسرح والأدب الدرامى تصويراً جديداً للحياة العصرية آنذاك ... وهو نفسه ما نقله الأمريكيون لمسرحهم ولآدابهم الدرامية الناشئة قبل مولد رائدهم الدرامى (يوجين أونيل) أبو المسرح الأمريكى المعاصر – 1888-1953 وقبل أن توجد على الساحة الأمريكية مسرحيات "تينس وليامز" و"آرثر ميللر" وغيرها من الكتاب المعاصرين. عن كل عوامل الإرهاب والقمع والإذلال.
علق برنارد شو على أعمال الكاتب المسرحى هنريك ابسن رائد المسرح الأوربى الحديث الذى كتب والمجتمع يمر بعدة أزمات وحروب وتحولات نتج عنها كفر الإنسان بكل القيم والمبادئ فى أعقاب انهيار المجتمع الأوربى والحضارة الغربية على يد هتلر . من كل هذا نستطيع القول إن أبسن عندما كتب بيت الدمية فهو يصر إصرارا واضحاً على إبراز العلاقة بين الآباء والأبناء وكيف أن الآباء يورثون أبنائهم بعض الخصال والقيم السلبية، وإن كان الحب هو دافعهم نحوهم فإنهم قد يجنون عليهم كما تمثل فى مسرحية بيت دمية حيث "نورا" تعامل من قبل الأب كدمية لا تعطى فرصة لتفكر أو تشارك فى شئ وتستمر على هذا الحال إلى أن تنتقل من أيدى أبيها إلى ايدى زوجها وهنا يؤكد المؤلف أن سلطة الآباء على الأبناء قد تفقدهم كثير من الاستقلالية وتجعلهم فاقدى الرأى والقدرة على تحمل الحياة- وهو ما سوف نجده يختلف عند جورج برنارد شو الذى لم يكتف بإن يجعل الأبناء يشاركون الآباء الرأى ويختلفون معهم بل تعدى ذلك بحيث وصل الأمر إلى ثورة على الأباء كما يتضح هذا من الأمثلة التالية.
1- فى مسرحيته " مهنة ميسز وارن تعامل فيفى أمها كما لو كانت امرأة غريبة عنها لا تمت إليها بصلة الدم ... وهى فى معاملتها هذه تمثل الجيل الجديد عند شو . ذلك الجبل المتحرر ومن كل ضغوط الواجبات التقليدية التى فرضها المجتمع بمرور الزمن .. وتحارب فيفى كل محاولة من أمها للتدخل فى شئونها الخاصة وتشكيل حياتها كما تحب.. وتحار أمها من معاملة ابنتها التى يغلب عليها البرود واللامبالاة والخلو من أى نوع من الانفعالات.. بل يتعدى الأمر هذه الحدود وتحاول فيفى التدخل فى شئون أمها الخاصة وتنصحها بأن تخرج للمشى يوميا وتمارس التنس حتى تتخلص من الشحوم التى تراكمت حول قوامها .. وتحاول أمها كسب عطفها وذلك بالبكاء وادعاء الضعف والاستكانة ولكن فيفى تهددها بأنها ستترك لها الحجرة إذا لم تكف عن البكاء .. ثم تصد محاولة أمها بكسب عطفها بسؤالها عن من يكون أبوها .. وتحاول أمها إخفاء خجلها وعارها بالامتناع عن الإجابة ودفن وجهها بين يديها ... ولكن فيفى لا ترحمها كعادتها بل تقول لها فى حزم وإصرار :- " لا تفعلى هذا يا أمى .. أنت تعلمين جيدا أنه لا يوجد احساس يعتمل فى صدرك .... " ثم تخرج من جيبها وتسأل أمها بمنتهى البرود عن ميعاد الإفطار غدا ثم تجذبها بهدوء من على مقعدها لكى ترسلها إلى سريرها ... ولكن أمها تقول لها أن النوم لن يزور جفونها فى تلك الليلة ... فتسألها فيفى بأسلوب ينضح باللامبالاة وعدم الاكتراث " لماذا لا تنامين " ؟ .... سأنام أنا ملء جفونى .... ".
ولكن فيفى ليست مستقلة تماما بنفسها كما تظن .. فهى تدين لأمها بمولدها وتربيتها والإنفاق عليها حتى صارت فتاة ناضجة .. ومع هذا تعامل أمها كما لو لم تكن مدينة لها بشئ وتعرف أن أمها بدأت حياتها العملية كعاهرة من بنات الليل بعد أن هربت من مصنع الرصاص لأنها كانت على وشك الموت بالتسمم ثم انتهى بها الأمر إلى إدارة بيوت للدعارة فى كل من لندن وباريس وبروكسل .. وعندما تعرف كل شئ عن أبيها .. وعندما تعلم أنها ابنه غير شرعية لعشيق أمها الثرى الذى يمول مشروعاتها ... تدرك أن أمها ليست بالمرأة التى خرجت من قلب حشود الفقراء المطحونين ولكنها رأسمالية من الطراز الأول تعيش على تجارة واسعة فى الرقيق الأبيض .. وتستأجر الفتيات من أجل المزيد من الأرباح العائدة عليها على حساب الشرف والكرامة الإنسانية... وتعقد فيفى العزم على ترك هذا الجو الفاسد الخانق وتخبر أمها أن عليها أن ينفصلا عن بعضهما البعض لأنه لا يوجد ثمة ما يربط بينهما .. تقول لأمها: " أنك امرأة تقليدية قلبا وقالبا " ثم تشد على يدها مودعة اياها ببرود ... وهى كبطلة واقعية لا تقيم وزنا للعواطف لا تتأثر بحالة أمها ولا تستمع إلى شفاعاتها لأن من حقها أن تعيش حياتها كما تحب وأن تختار المناسب لتكوينها النفسى وكيانها الاجتماعى.

ثانياً : العلاقة بين الآباء والأبناء فى المسرح الأمريكى (الأسرة):
نستطيع أن نقول أن كثير من الدرامات التى قدمها هؤلاء الكتاب الأمريكيون تحوى بداخلها من قريب أو من بعيد ملامح لتلك العلاقة بين الآباء والأبناء داخل الأسرة والتى تعد نواة للمجتمع الكبير فالأسرة الصغيرة تعد الركيزة الأساسية فى تكوين وتشكيل شخصية الأفراد والتى تعدهم بدورها لمواجهة المجتمع الكبير . فالأسرة هى بمثابة القلب من تطور البشرية ... ليس لأنها تحافظ على الكيان الإنسانى فحسب بل لأن التطور النفسى الملائم للفرد الواحد لا يتحقق إلا داخل الحلقة الأسرية الدافئة.
قامت الدراسات الاجتماعية والسيكولوجية على أن الكيان الأسرى القوى يساعد على نمو الشخصية السوية وتغذيتها تغذية خالصة من الخصائص الخطرة على الذات والمجتمع.
وإذا نظرنا إلى الدراسات التى تناولت هذه العلاقة – علاقة الآباء والأبناء فى المسرح الأمريكي والتى لا نستطيع حصرها بالطبع من خلال هذا العرض المحدود فنحن نحاول فقط أن نلتمس هذه العلاقة فى بعض أعمال الكتاب الذين أثروا فى كيان المسرح الأمريكي بأعمالهم الدرامية ونبدأ هذه الدراسة برائد المسرح الأمريكى يوجين أونيل ... وهو أول من كتب مسرحيات ناضجة بمعنى الكلمة .. فى سنة 1921 قدم أونيل :
1- مسرحية " أنا كريتسى " ويرجع النقاد استمداد أونيل لموضوعها من حياته المبكرة ... ففيها نجد حياة البحر المختلطة بحياة الدعارة... فهو يقدم بطلته – أنا – التى كانت ابنة لقبطان بحرى سويدى ... تربت فى بيئة قاسية حكمت عليها باحتراف الدعارة وانتهاك كرامتها حتى نقمت على أبيها الذى تركها وهى طفلة وليدة لا تعرفه .... وتحولت نقمتها على أبيها لكى تشمل العالم كله .. ويحدث أن تقابل أباها بعد زمن طويل وتسافر معه فوق إحدى عابرات المحيطات لنقل الفحم ... فتقع فى حب بحار ايرلندى يدعى – مات – مما يؤدى إلى صراع مؤسف بين الأب والحبيب حين يحاول كل منهما السيطرة عليها لتكون فى حوزته ... يوقظ صراع الرجلين مكامن الكراهية عند – أنا – تجاه الرجال فتثور ضد الأب والحبيب – ضد الأب الذى أهملها وتركها وهى طفلة مما اضطرها إلى بيع جسدها .. وضد الحبيب الذى ما زال يشعر بأن المرأة من ممتلكات الرجل .. وعلى سبيل الانتقام منها ومواجهتهما بالحقيقة المرة تعترف لهما بماضيهما الأسود فى احتراف الدعارة .. فيستيقظ ضمير الأب على ابنته الضحية ويهرب الحبيب إلى الكأس ليغرق فيه أحزانه لكن – أنا – تعد الاثنين بالتوبة وبدء حياة نظيفة شريفة وبالسهر على شئونها عند عودتهما من رحلاتهما البحرية.
والذى نلمسه فى هذه المسرحية من الخطورة وسوء العاقبة الذى أحدثه غياب الأب بمعنى غياب دوره تجاه تلك الابنة التى هى بالطبع ضحية سوء التربية التى افتقدتها منذ الطفولة عما دفعها إلى عالم الرذيلة والدنس ومما أحدثه بداخلها من مشكلة نفسية أفقدتها الثقة فى كل الرجال .. واحترفها لعالم الرذيلة والدنس لم يكن إلا نتيجة لعدم وجود التوجيه والرعاية منذ الصغر أى من محيط حميمية ودفء الأسرة.
2- مسرحية " رغبة تحت شجرة الدردار " لنفس الكاتب التى كتبها سنة 1924 نرى مشكلة الأب العجوز الذى لا يفكر إلا فى نفسه فقط ومتعته الشخصية... وتدور المسرحية حول شاب يعشق زوجة أبيه والتى لا تلبث أن تقع فى غرامه بدورها بسبب أنوثتها المتفجرة وتنجب منه طفلاً تقتله بيدها لخوف عشيقها من أن يؤل ميراث مزرعة أبيه إلى هذا الطفل وهى بدورها أرادت أن تثبت لعشيقها أن حبها له أقوى من رغبتها فى امتلاك المزرعة .. لكن جريمتها تكتشف وتقدم إلى القضاء الذى يدينها مع عشيقها بينما يبرئ الأب العجوز المجرم الحقيقى الذى تزوج فتاة فى سن حفيدته ... والقانون هو القانون.
وما دام الحال هكذا فكابوت العجوز هوالمجنى عليه والعاشقان هما المجرمان بينما العجوز كابوت هو أشد الثلاثة إمعاناً فى الإجرام .. فقد انساق الشابان إلى الخطيئة ولهما بعض العذر فى ذلك لأن أحداً منهما لم يحظ قط بالسعادة بينما عاش العجوز حياته بالطول والعرض حتى جاوز السبعين من عمره...
3- وإذا انتقلنا إلى كاتب آخر وهو تينس وليامز نستطيع أن نلمح تلك العلاقة بين أفراد الأسرة وتبرز هذه العلاقة فى مسرحيته:
" قطعة على سطح من الصفيح الساخن " حيث تدور المسرحية حول أسرة أمريكية على رأسها رجل يتهدده السرطان بالموت مابين لحظة وأخرى – وقد خفى عنه أعضاء أسرته هذا النبأ الأليم ويوهمونه أن كل ما به هو التهاب فى القولون.. هذا الرجل قد ذاق مر العيش وذل الحرمان والجوع والفاقة فى شبابه ... ولكنه استطاع بعد هذا البؤس أن يصبح من أغنى أصحاب الأراضي ويغدو مالكاً لثروة تزيد على 28 ألف فدان من أجود الأراضى الزراعية ... ولهذا الرجل ولدان... الأكبر أنانى جشع تشاركه فى هاتين الصفتين زوجته وهما يبذلان معا كل ما فى وسعهما لكى يستوليا على هذه الثروة الطائلة ، ويحرما منها الابن الأصغر الذى يعانى بدوره من عقدة نفسية أزمنت فى دخيلته عقب موت صديقه الذى تربطه به صلة جنسية .. وهو يعتقد أن زوجته هى التى كانت السبب فى موت صديقه ولذلك فهو يخاصم زوجته ، يشاطرها الغرفة دون أن يشاطرها السرير – والزوجة ماجى (القطة) تحب زوجها ولا تمل عن محاولة استعادة حبه لها .. وهى فى الوقت نفسه غيوره من أخو زوجها وزوجته اللذان ينجبان الأطفال وهى لا تستطيع أنجاب طفل واحد وتخشى من أن تُكل مساعيهما للفوز بالثروة الطائلة ... وفوق هذا توجد الأم التى تحب زوجها والتى تؤثر بالحب ابنها الأصغر دون الأكبر شانها فى ذلك شأن الأب...
هذه هى الخطوط الرئيسية للمسرحية ... وهى خطوط رسمها المؤلف داخل إطار مما يسميه (الرياء) ... فالكل يرائى ، والكل ينافق ويكذب .
هذا هو الأب الثرى الذى ظل يعيش مع زوجته أربعين عاماً وهو لا يحبها بل يكرهها ويمقتها ولكن لا يعلن هذا الكره والمقت .
وهذا هو الابن الأكبر الذى يرفض أباه الذى لا يحبه بدوره ولكنه لا يجرؤ على إظهار هذا البعض .. والابن الأصغر يأبى أن يعترف بحقيقة العلاقة التى كانت بينه وبين صديقه الذى مات ...
هذا هو الجو الذى تسير فيه حوادث المسرحية جو حافل بالرياء والمواربة وهو فى الوقت ذاته أو لهذا السبب ذاته جو مشحون بالتوجس والتوتر – وإذا نظرنا إلى علاقة الأفراد والشخصيات بعضها ببعض – والتعاسة والشقاء التى تحيا فيها هذه الأسرة ... ما السبب فيها ؟ بالتأكيد أن السبب بعد قليل من التفكير سيكون واضح أمامنا وهو التفكك الأسرى .
فالأسرة لا تربطها تلك الرابطة التى توجد عادة فى أية أسرة ترفرف عليها السعادة فهى بعيدة عن رابطة التعاطف والمحبة والتآخى... فهذه الرابطة مفقودة او تكاد تكون بين الجميع ... فالأب ظل مشغولاً طوال حياته بارتقاء سلم الثراء درجة بعد أخرى فانشغل به عن أولاده وعن زوجته بل حتى عن نفسه فلم تنشأ بين أفراد الأسرة صلة روحية تقربهم من بعضهم البعض- فقد احدث ابتعاد الأب عن هذا الجو ... الجو الأسرى وانشغاله عن أولاده وما هم فى حاجة إليه من رعاية وتفاهم إلى خلل فى شخصية كل منهم.
ونتجه بعد ذلك إلى مسرح "آرثر ميللر" والذى اهتم بموضوع الأسرة باعتبارها الخلية الأولى فى المجتمع فهو يرى أنها لابد أن تتماسك وإلا تعرضت للانهيار .. وغالباً ما تضم الأسرة عدداً غير قليل من الأفراد غير المتماثلين فى الظروف أو حظوظ الحياة.. وحين تقع قضية أو حادثة يكون لها وقع على الضمير الفردى الخاص ثم ينتقل وقعها وصداها إلى حلقة الأسرة بأكملها .. لكن غالباً ما تضم الأسرة أيضاً ولدين شقيقين يمثلان مشكلة الأخوين القديمة والتى ظهرت منذ قابيل وهابيل .. فلدى ميللر فى الغالب أخ ناجح وآخر فاشل مضطهد – أو أخ إيجابى ممتاز متميز وآخر سلبى متخلف وهكذا .
ولنحاول من خلال بعض أعمال آرثر ميللر أن نتبين مدى العلاقة الأسرية بين الآباء والأبناء والتى تحدث أو تشاركه بشكل أو بأخر فى إحداث هذا الخلل داخل الشخصيات.
ولنأخذ مثالاً من خلال مسرحية (الرجل الذى أوتى الحظ كله) وهى أولى مسرحيات ميللر والذى لم تحظ بالنجاح عند عرضها سنة 1942م .. فنستطيع التقاط الخيط من البداية وهى الأسرة التى نشأ فيها دافيد حيث نلمع عملية التفرقة فى المعاملة .. معاملة الأب لابناءه وإيثاره لابن دون الآخر .. فالمسرحية تدور حول دافيد الذى يقيم في مدينة بالغرب الاوسط وله شقيق يصغره يدعى آموس دلـله أبوه وأراد أن يجعل منه بطلاً فى الباسبول.. لكنه لا يصل إلى هدفه بينما دافيد الذى أهمله الأب يكافح ويحاول شق طريقه فى الحياة معتمداً على نفسه – ويتوسط له أصدقاؤه فيلحقونه بأحد الجراجات ليعمل ميكانيكياً.. ثم يهبط عليه الحظ فجأة فيربح من صفقة خمور حين تحدث موجة برد قصيرة تأتى على كل الخمور الذى سبق أن ابتاعها وخزنها .. وعندئذ تزول العقبة الماثلة أمامه ويتوالى الحظ فيغدو دافيد ثرياً صاحب مشروعات ناجحة.. لكنه يكتشف شيئاً فشيئاً أن حظه لا يمكن أن يدوم نتيجة لما يراه يحدث لاصدقائه من فشل وسقوط .. ولهذا يعزم على عدم الانجاب .. ويتسلل إليه التشاؤم فيتنبأ بأن طفله سيموت بعد ولادته .. لكن الطفل يولد ويكبر ويصبح فى صحة جيدة .. وتحاول زوجته عبثاً أن تثبته عن وساوسه لكنه يتمادى ويتصدى الحظ بالمهارة فتكون النتيجة هى الفشل والتمادى فى التماس الخرافات لإعادة الأمور إلى نصابها
ونستطيع أن نقول أن عقدة الاضطهاد التى أوردناها فى البداية والتى كان يشعر بها دافيد نتيجة لعدم اهتمام والده به فى الصغر وإثياره لآموس هذه العقدة بالتأكيد قد تكون هى السبب أو سوء معاملة الأب له قد خلقت لديه روح التصدى والشجاعة اللازمة للوصول إلى ما يصبو إليه .. هذه الروح التى خلقها لنفسه والتى لم يشعر بها من قبل والده ولكن التمادى فيها لم يؤد به فى النهاية إلا إلى الفشل .. فالأسرة بالتأكيد لها دور كبير فيما آل إليه دافيد .
وإذا انتقلنا إلى مسرحية " كلهم أبنائى " لنفس الكاتب يظهر فيها أيضاً غياب دور الأب والذى يلعب دوراً أساسياً فى حياة الأبناء من خلال شخصية جوكلر الأب صاحب مصنع أجزاء الطائرات الذى يتهم بتوريد أجزاء طائرات فاسدة إلى الجيش أثناء الحرب الأخيرة .. وحين تبدأ المسرحية يكون شريكه فى المصنع قد دخل السجن بدلاً منه .. ولكلر ولدان أحدهما خطب ابنة الشريك السجين ثم قتل فى الحرب، والآخر يعتزم الزواج من خطيبة شقيقه – والأخير مثالى متحمس لمبادئه الأخلاقية .. خجل من عدم اشتراكه فى الحرب.
ويركز ميللر هنا على علاقتين متبادلتين .. بين كريس الابن المثالى وفتاته خطيبة شقيقه ثم بين كريس وأبيه .. وهما علاقتان تتأجج بهما أحداث المسرحية .. فجو كلر ليس شخصاً مرددلاً ولكنه صغير النفس- قصير النظر .. عاجز عن تبين عواقب أفعاله – وهو كذلك بسيط عادى – مرح عطوف بل أنه صورة أخرى لدافيد بكل المسرحية السابقة (الرجل الذى أوتى الحظ كله) والتى أشرنا إليها سابقاً .. فقد أدنى كله وربح عن الغش لكن إذا كان دافيد قد لقى من أبيه اهمالاً بحيث بدا الأب مذنباً فى حق ابنه .. فان كلر فى هذه المسرحية مجرم فى حق أبنه بالمعنى القانونى للكلمة فقد تسبب فى قتله ببضاعته الفاسدة .. وإذا كان كلر يبحث عن حل وسط كى يعيش فان ابنه تريس يفزعه ويقضى مضجعه للاثم الذى ارتكبه أبوه – فكيف يتزوج اذن من ابنة رجل سجن بسبب يمين كاذبة أقسمها أبوه ؟ ... عندئذ وحين تتطور أحداث المسرحية حت ينكشف الأب تماماً.. يقبل المسئولية بغير اقتناع ثم ينتحر برصاصة من مسدسه.
وكذلك الحال فى مسرحية " وفاة بائع متجول " بما تتضمنه من فناء وتحطيم لقدسية الأب- ويللى لومان – هذا الرجل الضعيف السلبى وحلمه بمهنة البائع .. وولديه هابى الذكى الحساس وبيف المصدود لسبب لا يدريه..
وتبدأ المسرحية ببيف الطالب السابق وقد عاد إلى بيته فى بروكلين مفلساً حيث يجد أباه يكاد يجن من الفشل والسقوط والافلاس – وخلال الأربع والعشرين ساعة التالية تأخذ أحداث المسرحية فى الظهور حدثاً فى أثر حدث ونتابع خلال سلسلة من العود إلى الماضى أفكار ويللى لومان وذكريات ماضية .. ثم نعود معه فى لحظة الذروة فى الكارثة حين دخل عليه أبنه بيف فى غرفة فندق فوجده مع عاهرة فى نصف ملابسها ..
هذا اللقاء والمواجهة بما تضمناه من فناء وتحطيم كما أوردنا فى البداية لقدسية الأب يربكه بيف ويحيره بل يؤثر فى حياته ومستقبله .. ويخلف ويللى لومان نفسه محملاً بوزر عظيم .. وشيئاً فشيئاً نجد الذاكرة تفجر شرنقة الأوهام التى يحتفظ فيها ويللى لومان باحترامه لنفسه فينقاد فى النهاية إلى الانتحار .. وهو يمضى إلى قدرة المحتوم دون أن يعرف بالضبط السبب الذى أدى إلى هذه النهاية .. وهو الذى رفض لرصد أصدقائه وظيفة عليه بعد أن فصل من عمله فى الشركة التى قضى فيها اربعين عاماً من حياته.
ولكن من خلال بعض المسرحيات التى أوردنا ملحقات لها فى هذا البحث القصير حول العلاقة بين أفراد الأٍسرة الواحدة بعضهم ببعض.. نستطيع أن نستخلص عدة نتائج عن هذه العلاقة فى المسرح الأمريكى .. والذى تناول هذا الموضوع من قريب أو بعيد – وهذا الموضوع الذى يرجع صداه بالتأكيد إلى ظروف المجتمع الأمريكى نفسه .. فهو مجتمع كما نعرف تتحكم فيه الآلية والتى تعتبر عصب الحضارة الأمريكية .. تلك الحضارة التى ليس لها جذور ضاربة فى القدم ومن الممكن أن نعتبرها ابتداداً للحضارة الأوربية .
ونستطيع أن نقول أن المسرحيات التى تتطرق إلى هذا الموضوع الحساس وهو العلاقات الأسرية قد نشأت من طبيعة المجتمع ذاته- فهى تبرز لنا مدى سيطرة الآلة على كل مفردات الحياة الأخرى- والتى تنعكس بالتأكيد على الأسرة بشكل كبير – فهو مجتمع منفتح ليست له عقيدة موحدة أو صلة وثيقة بالخالق – فكل شئ فى هذا المجتمع مباح وكل فرد مسئول عن نفسه وله مطلق الحرية فى أفعاله أو حياته الشخصية. أيضاً هو مجتمع يحوى كثير من الجنسيات المختلفة والتى أتت من شتى بقاع أوروبا واستوطنت فى هذه القارة وكما نعرف من تاريخها لكى يمارس كل فرد ما يشاء من عقائد إلخ.
دون إجبار وخضوع لسلطة تفرض عليهم سلطانها دون رغبتهم- فالكل يسعى للعمل والكل أصبح مشغول عن الآخر.
فقد أثرت الآلية على علاقات الأفراد داخل الأسرة بعضها ببعض ولم تترك مجالاً للتفاهم والمودة والمحبة والمشاركة الوجدانية التى هى أساس تكوين وتشكيل شخصية الفرد – فلم تعد هناك تلك الحيسية والعلاقات الدافئة ولا مجال للمشاعر والاحاسيس – فهذا التباعد النفسى والمعنى بين الأشخاص أو بين أفراد العائلة الواحدة يخلق فى كل منهم اضطرابات نفسية شديدة تتحكم بعد ذلك فى سلوك الأفراد عند مواجهتهم للمجتمع.
فدائماً ما يكون الأب مثالاً يحتذى به الأبناء ويتطلعون إليه ينتظرون منه المحبة والتعاطف والتفاهم الذى يخلق بالتالى بداخلهم نوع من الطمأنينة أى الأمن والأمان على مستقبلهم- كما ننظر إلى مسرح تينس وليامز هذا المسرح الذى يموج بالشخصيات الغير سوية أو بمعنى أدق الشخصيات الشاذة كما نجده فى شخصية برك – فى مسرحية (قطة على سطح من الصفيح الساخن) هو نوع من الهروب من هذا الواقع أو من الواقع الذى يحياه والذى ينشأ من التفكك الأسرى فيتجه إلى ممارسة الشذوذ مع صديقة سكبر " فهو لم يستطيع المواءمة بين نفسه وبين المجتمع الذى يعيش فيه.
وتعد هذه الصورة .. من صور الحياة الأمريكية والمجتمع الأمريكى التى تفتقد إلى الصلات الروحية والمعنوية بين الأفراد داخل الأسرة.
مع تحيات ا.د أحمد صقر – جامعة الإسكندرية



#أحمد_صقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد صقر - الأسرة في المسرح الأمريكي المعاصر