أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى الحاج صالح - الرساله الثالثه عن مقومات الخيال وأخبار عن زمن الطفوله















المزيد.....

الرساله الثالثه عن مقومات الخيال وأخبار عن زمن الطفوله


مصطفى الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3250 - 2011 / 1 / 18 - 22:39
المحور: الادب والفن
    


فيما أنا بصدد الكتابة عن مصادر التخيل الأولى عندي، وعن مكونات وجداني البدائية أو التأسيسية، أقصد بذلك الأعراس والموالد، شهر رمضان ومواسم الحصاد، أشجار التوت والرمان، فصول السنة واتجاهات الريح ، معتقدات الناس البسيطة وآمالهم الخرافية، أصابني من جديد سهم الوسواس، ظهر لي القرين في هيئة سؤال متشكك. ما النفع يا صاح والناس لايقرأون ؟. ما الفائدة من الكتابة عن قرية صغيرة أمست مهجورة لا يسكنها إلا الفقر والقبور ..؟. هذه حقيقة مرة ، أكثر مرارا من وجود إسرائيل ومن ديمومة النظام ..فـ" الجرن" لم تعد تشبه نفسها ولا تكاد تمت بصلة إلى تلك القرية الوادعة المسالمة والضاجة بالحياة والناس فيها ومن حولها باتوا أكثر جهلا مما كانوا، ما عادوا يتنافسون في العلم وفي المعرفة . الأمية التي كانت في حين من الأحيان مقتصرة على بعض النساء، أمست تطال الصغار قبل الكبار .. فلمن أكتب إذن..؟

استعذت بنفسي من اليأس والقنوط ، أخذت بناصية بعضي باللوم ، فسمعت زغاريد أمي ، أتتْ من الهيش البعيد إلى الهيش القريب كي تبدد غربتي و كي تصرف القنوط عن قلبي وعندما التفت رأيت عشب عيونها يبرق بالحماس وهي تطلق زغرودة عالية مديدة و ( زغرودة أم محمد كزبدتها عذبة المذاق ) يقولون ذلك ويلتفتون قائلين:( عشت أم محمد).

في كل مرة ينتصر فيها الخير على الشر ، تزغرد أمي ، في الموالد كما في التعاليل، في الهرج وعندما تسمع خبرا عن عملية فدائية ناجحة ، حين ننتقل من صف إلى آخر وعندما تسمعنا نقرأ القرآن ونرتله ترتيلا، ولم تكن أحزانها ببعيدة ، مثلها في ذلك مثل معظم النساء بل كلهن، فالحزن منتهى الحنان والألفة ، هو تعبير المشاركة الأبلغ وهو مقياس بالغ الحساسية لآدمية المرء ، أيمكن القول بهذا الصدد ، كان ذلك حال الناس قبل تبدل الأحوال وانقلاب المعاني.

فلما أمر الله الملائكة بالسجود ، كنت إلى جانب أمي بالقرب من نار القهوة، المـُعدة أيضا لتحمية الدفوف، سجدوا جميعا إلا إبليس أبى واستكبر، فقالت أمي: ( سويد الوجه) ، ضج الرجال مستنكرين فعلته وقالت الدفوف قول حماسة ، قول حماسة ألهب القلوب وأعاد للشيخ محمد الحسين بلاغة التعبير فقال على لسان الله : ( أخرج منها) مشيرا إلى الباب، التفت فرأيت عند الباب مجموعة من الشبان، من بينهم أعمام لي، أعمام يقيمون الصلاة ، ويصومون رمضان لكنهم لا يجدون مانعا يمنعهم من بعض الأداء التمثيلي الساخر، أظنهم سخروا من غضب الشيخ في تلك اللحظة ومن ذاك الموقف التاريخي الهائل، فخطر ببالي وأنا أتصور تجهم وجه جدي لو سمع ما يقولون، أنّهم سيمسخون في التو واللحظة خنازيرا ، لكن الله لم يفعل ، أقنعته جوقة المنشدين بالرحمة ، فقال لنفسه أخـْلقُ من ضلع أدم ، مخلوقا يؤانسه والضلع أطهر من التراب الأصلي وفيه حميمية لا ينكرها إلا الساخطون الغاضبون ، استبشرت أمي واستبشرت النسوة، وضعن أطراف أردانهن على أفواههن لإخفاء ابتسامة ملكية كشفتها العيون ولم يلهم الله شيخا كي ينهرهن عن إتيان الفرح .

ففي تلك الأيام لم يكن الله قصير البال ولم يكن المسلمون متوتريين غاضبين ولم يكن رجال الدين قساة متعصبون، أجلاف غلاظ القلوب ، لا يختارون من القرآن إلا أيات الغضب والسخط ، الثأر والانتقام، وفي حالات كثيرة ، عندما يفيض إناء جدي عبدالله ، بأحاديث من هذا النوع أو بأيات تهديد ووعيد، يتلقى أسئلة اعتراض عن المغفرة والرحمة، فيجيب مبتسما ابتسامته الملغزة الشهيرة: ( هو كذلك غفور رحيم) ثم يـُورد عدد كبير من أمثلة الرحمة.

قبل زوال المضافات واندثارها من كل القرى ، كانت مركزا للقاء الناس ببعضهم بعضا، فيها يتحدثون عن السياسة والسياسيين، عن شؤون الدنيا والدين، وفيها تقام صلوات الجماعة وحلقات الذكر، كما تقام حلقات الهرج وتعاليل الليل ولم تكن هذه الأخيرة تخلو من الهزل والكوميديا . عندما ينصرف جدي واضعا يديه خلف ظهره ، وعندما تخلو الساحة من وقار العلم ، يغيب " دكدوك" متبعا خطوات سيده ، فتتحرر نفوس الشبان والرجال من ربقة الدين، يعودون بشرا والبشر في القرى ميالون إلى الهناءة والتبسط ـ آنذاك وليس الآن ـ قبل أكثرمن أربعين عاما، عندما كنت صبيا حسن الصوت، حافظ للقرآن ولجدول الضرب على حد سواء، آنذاك كانت الأمطار أكثر غزارة وكانت إسرائيل بعيدة ، كان النظام مهزوما وكان جيش البلاد مهزوما لكن النفوس لم تكن مهزومة ولم يكن الضيق في المعاش مذلا ومأساويا كما بات عليه الأمر بعد التوريث.

لم يكن الناس في قريتي وفي كل القرى المجاورة كسالى أو يمكن القول لم يكن الكسل طبيعة فيهم ولم يكونوا جهلة ، من لا يقرأ منهم ولا يكتب تراه عليما بشؤون الطبيعة من حوله، عليما بشؤون مواشيه وزرعه، عارفا بالنباتات المفيدة، خبير بأحوال الطقس ، شديد الحساسية تجاه تغيراته. في الخريف يفلحون الأرض بالمحراث، يبذرون البذور، يطبنون الأرض، يصونون بيوتهم، يرممونها باللياص ويحررون الآبار من عطالتها!!. عند هذا الحد المتاح من كلام النهار؛ حضر الوسواس مع أسئلته المقلقة والمسببة للكآبة والقنوط . أين كل ذلك الآن ؟ لم اندثرت المضافات ولم لم تتطور مترقية نحو أشكال عليا من الاجتماع..؟ لم انحدرت أحوالكم على هذا النحو المريع ..؟ . أضاف وهو يوليني ظهره( ولا تلقي بالمسئولية على عاتقي ـ الشيطان ـ أو على أسرائيل )..

بالقطع هو ليس مسئولا، ما لم نمنحه فرصة الوسواس ، هذا رأي قديم سمعته من جدي في المضافة وهو يـُحدث الناس عن قناعاته في دور الشيطان، قناعات مختلفة بعض الشيء عما هو سائد وكذا الأمر بالنسبة لإسرائيل فما كانت هذه لتكون بهذه القوة وبتلك القدرة لولم تكن أسس بنايننا الوطني فاسدة وهشة بحيث يمكن اختراقها بسهولة ويسر، ومن يمضي معظم أيامه أمام التلفاز، منتظرا الفرج وقروض المصرف الزراعي وهو يحلم بمعجزة تغير أوضاعه، ليس كمن يستيقظ قبل الشمس بل هو من كان يوقظها، يوقظها في الصيف و يوقظها في الشتاء.

الإنسان القديم، إنسان " الجرن" والقرى، إنسان المدن والبلدات، هذا الأنسان الموشك على الانقراض، كان صلبا، نشيطا، قوي البنية، عزيز النفس يحب أرضه ولا يرخصها ، كان كادحا وتليق به كلمة كادح، تطابقه وتلازمه، حين يقدم الشتاء مسلحا بالبرد والمطر لم يكن هذا الأنسان يتبلد، لم يكن يكسل، كما قال عنه مغرضون لا يعلمون عنه شيئا ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الاستيقاظ قبله. المرأة والرجل على حد سواء، ينهضون معا، يتفقدون المواشي، يضعون لها العلف، يتحسسونها واحدة واحدة، بالإسم والصفة، يدللون{ الحاط: الحبلى) ويباركون الرغوث، فتنصرف المرأة إلى أعمال منزلها اليومية المعتادة( الخبز والخض ولنا إلى هذين عوده) فيما يمضي الرجل خلف الراعي إن كان من الموسرين أو يذهب بنفسه إلى المرعى.

كلما اعترض القرين دربي مشككا، مالت نفسي نحو الماضي، بحثا عن سر الحال وفيها ميول متلاطمة، ميول تدفع بعضها بعضا فتنسيني ما كان عليه بدء أمري ، فكيف أعزل هذا عن ذاك وكل أمر بالأخر مرتبط متشابك معه في وشائج واقعية( ملموسة ومحسوسة) كما كان يقول صديق قديم لي ، ورواة القصص والحكايات، الخرافات والطرف في قريتي، يلجئون إلى جمهورهم عندما تعترضهم حكاية أخرى أو عندما ينسيهم الشيطان ما كان يروون، فيسألون:( أين صرنا...؟) ويبدأون من جديد، يبدأون بالقول: ( هناك وأنتم سالمين).

هناك وأنتم سالمين ، كان يا ما كان ، في هذا العصر وفي هذا الأوان ، قبل نصف قرن من الآن أو دون ذلك بقليل ، كان هناك قرية صغيرة، لا تبعد كثيرا عن الحدود السورية التركية( ما معنى ذلك وعن أي حدود تتحدث .؟ ) أصابني سهم الله ، كما يقال ولم أعد أدري ، كيف أتابع دربي والقرين يتربص بي عند كل جملة ، أحيانا عند كل كلمة، مشككا وملوثا عقلي بحمولات وإشارات شتى ، فلا الحدود حدود ولا البلدان مطابقة لتاريخها ، هذه حقيقة أقره عليها، لكنني لا استطيع الوقوف عند كل إشاراته ومحطاته وهذه من الكثرة بحيث لا يمكن إنجاز شئ، في نفس الوقت ورغم غاياته المغرضة لا يمكنني إغفال الحقائق. حقائق هي من الثقل والرسوخ بحيث ما فتأت تفعل فعلها، من ذلك الحدود هنا وهناك، ومنها أيضا موقع " الجرن" الجغرافي، موقع بين خطين للمطر، بعيد كل البعد عن البحار وليس له أنهار تحاذية فتؤانسه. عندما تدير الطبيعة ظهرها أو عندما يـُضلل الجفاف السُحب، تصبح " الجرن" ترابا وترابها خفيف ناعم، بلا روح، بلا طل. يقول بالغون في العلم، بهذا الخصوص، أنّ للتراب روح وروح التراب هي الطل الكامن فيه، فمتى فقد التراب روحه. مات التراب، ماتت كائناته الدقيقة وماتت نباتاته أو بذور النباتات فيه ولا يبلغ التراب مرحلة الموت هذه بسبب انقطاع الأمطار أو بسبب عدم هطولها الكافي فحسب بل يـَرون وأرى مثلما يرون سببا آخر لموت التراب، سواء في قريتي أوفي كثيرٍ من قرى البلاد الأخرى ، عند هذا الحد أجد نفسي في منزلق ، منزلق هو أشبه بأحجية عويصة ، وبالكاد ألهم نفسي الصبر متجنبا التفكير بتلك الأحجية ، خشية حضوره.

قبل تعميم زراعة القطن وقبل استشراء ظواهره المرافقة، كان التراب حيا. حتى في أيام الصيف القائضة ، يظل محتفظا ببعض رطوبته ، يظل لونه قريبا من الرمادي وليس كما أصبح فيما بعد أصفر خفيف ، يـَهـِبُ لدى أدنى هبوب والسبب في موته ، في صفرته، في خفته ، ليس حرد الطبيعة بعد جور عظيم لحق بها فحسب بل وبسبب سياسات الاستبداد الزراعية على مدى ما يقارب نصف قرن وهي سياسات ، كما أرى في بعض حالاتي، عندما يغادرني القرين ويصفو ذهني من تبعات الشك والتردد، بسبب أسئلته المغرضة والا ستفزازية...

عند هذا الحد أدركني التعب، ورأيت تأجيل الحديث عن أثر سياسات الاستبداد في موت التراب وفي فقدان الأرض لمقومات النماء الكامنة فيها إلى رسالة أخرى.



#مصطفى_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرسالة الثانية ما بعد الفطنه عن إسرائيل
- ما بعد الفطنة مقدمة عن الوسواس الخناس
- رسالة اعتذار
- هل يحتاج الإسلام إلى إخوان له وهل يحتاج الله إلى حزب له؟
- بين هنا وهناك
- صناعة الخوف/ الخوف مطلب للمستبدين والطائفيين
- في بيان الطائفية
- آفات الجزيرة الثلاث
- العلمانيه المنافقه
- هز البطن على إيقاع النشيد الوطني/ حماة الديار
- قدر سياسي
- جعلوني خروفا .. يًما أو انتخابات الرئاسة في السجن
- من تجارب السجن الإضراب
- البيان في أحوال الإنسان
- نقد الشعب أولا نقد المرأة
- تأسيس الصراع العربي الإسرائيلي ؛ الإنسان أولا
- نص انفعالي تجريبي
- من أوراق السجن جماعة ( أبوصالح )
- رهائن
- المسلسل السوري - طل الملوحي- سيناريو رديء وإخراج سخيف


المزيد.....




- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى الحاج صالح - الرساله الثالثه عن مقومات الخيال وأخبار عن زمن الطفوله