أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - علي أوعسري - في السؤال الثقافي: بخصوص تنامي وتيرة الدعوات والبيانات الثقافية















المزيد.....


في السؤال الثقافي: بخصوص تنامي وتيرة الدعوات والبيانات الثقافية


علي أوعسري

الحوار المتمدن-العدد: 3241 - 2011 / 1 / 9 - 18:09
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يستبطن السؤال الثقافي عمق الإشكالات المجتمعية المرتبطة من جهة بالسياسة والتاريخ والجغرافيا والانتربولوجيا والسوسيولوجيا، أي أساسا بالهوية كمفهوم ديناميكي قابل للتجديد/التجدد والاغناء/الاغتناء والصقل بحسب الشروط الاجتماعية والظروف التاريخية التي يمر منها مجتمع بشري في بلاد يشترك فيها الماضي والحاضر والمستقبل (المصير المشترك)؛ وهنا تبرز وظيفة ودور المثقف في استشعار اللحظات التاريخية الأكثر انعطافة وتعقيدا من أجل توجيه ليس فقط الفاعل السياسي بل مجموع الشعب، ذلك أنه لا يمكن لمبدع (شاعر، روائي، قصصي...) أو كاتب أو باحث متخصص أن يكون مثقفا دون أن يكون مصطفا في معسكر الشعب ينير طريقه الى المستقبل، ويقوم بتوعيته ودفعه للانخراط في الشأن العام بما هو سياسة أو قل تحديدا بما هو سياسي ...
من جهة أخرى يرتبط السؤال الثقافي، في جانبه المتعلق بالثقافة، بمجموع الانتاجات والإبداعات الرمزية اللامادية (الغناء، الرقص، الشعر، الموسيقى، اللغة...) التي يفرزها هذا المجتمع، بسبب من حدة تناقضاته الداخلية، للتعبير عن ألامه ومعاناته وطموحاته الخاصة، من حيث هي مصالح فئوية طبقية، وعن أماله الجمعية المشتركة، من حيث هي أمور مصيرية وطنية. بهذا المعنى تتحدد علاقة الطبقي بالوطني التي ظلت لعقود ما بعد الاستقلال تطبع، في الحالة المغربية، علاقة السياسي بالثقافي في إطار إيديولوجيا الحركة الوطنية، ما أنتج تاريخيا مفهوما محددا للوطنية هو أقرب الى الحالة الوطنية المشرقية منها الى المغربية.... غير أن الثقافة، بما هي إنتاجات وتعبيرات شعبية رمزية، تشكل ذلك العمق الخفي للفعل السياسي الذي فيه تتكشف بشكل مباشر المصالح المادية والطموحات/النزوعات المختلفة والمتناقضة التي تعتمل داخل مختلف البنيات الفئوية والطبقية، بالمعنى الرأسمالي، وداخل مختلف البنيات الما قبل الرأسمالية (قبيلة، عشيرة، زاوية...)، في محاولة من عناصر هذه البنيات المختلفة للسيطرة والهيمنة على السلطة المادية والرمزية في سبيل تحقيق المصالح المادية الاقتصادية.
وإذا كان أمر الثقافة بكل هذا التعقيد الذي لا يوازيه سوى تعقد سيرورة تشكل وتطور المجتمع الذي ينتج هذه الثقافة، في شروط اجتماعية وفي ظروف تاريخية محددة، فان المثقف العقلاني لا يمكن أن يركن الى الحلول السهلة السطحية التي من خلالها يتفادى اتخاذ المواقف السياسية والتاريخية المناسبة في العديد من القضايا الاجتماعية والوطنية ومن مختلف المسائل المفاهيمية ذات الصلة بالشأن العام (الحداثة، العقلانية، فصل الدين عن الدولة، المسألة الديمقراطية، حقوق الإنسان في شموليتها، المسألة اللغوية، مفهوم الوطنية....).
وتزداد الحاجة الى دور المثقفين العقلانيين خاصة في اللحظات التاريخية الانتقالية الدقيقة كالتي يعيشها الشعب المغربي حاليا. إلا أن ما يميز الحالة المغربية، خاصة في ما يتصل بتمفصل الثقافي على السياسي، هو هيمنة ذلك السياسي الحزبي الفئوي في صيغته "اليسارية الوطنية" على الثقافي الذي ينبغي أن يكون نتاجا وملكا لعموم المجتمع وليس لفئة مهيمنة على حساب باقي فئات ذلك المجتمع.
أما وأن السياسي الحزبي قام بترويض الثقافي (وهنا نقصد بالثقافي النخبة المثقفة التي كانت في معظمها متحزبة في إطار أحزاب الحركة الوطنية)، فقد نتج عن هذه العلاقة القسرية/التعسفية انتقال "المثقف" الى حيث يبرر مواقف وممارسة ذلك السياسي الحزبي، حتى إذا صار هذا الأخير جزءا من السلطة بعد "التناوب التوافقي" انبرى "المثقف اليساري الوطني" الى تبرير اللحظة و"مستلزماتها" السياسية التوافقية، بل أكثر من ذلك صار ذلك "المثقف" الحزبي يحتل مواقع في السلطة تبدو كما لو كانت ثقافية، لكن هي سياسية بامتياز(تناوب الاتحاديين على هرم وزارة الثقافة منذ حكومة التناوب التوافقي). لا ينبغي للشأن الثقافي أن يدبر بمنطق سياسوي حزبي فئوي وهو شأن منفتح على عموم المجتمع. لا ينبغي أيضا مأسسة الثقافي سياسيا وحزبيا، لأنه بهذه المأسسة يفقد طابعه العام ويصير ممارسة سياسية بلبوس ثقافي تتغيا تحقيق مصالح فئوية خاصة.
في مثل هذه اللحظات التاريخية الأكثر تعقيدا، والتي ينبغي فيها للثقافي أن ينهض بمهام الإجابة، بشكل عقلاني لا إيديولوجي، عن تلك الأسئلة الاستراتيجية والمصيرية التي يعجز فيها السياسي عن ابتكار رؤية قمينة بفتح أفاق جديدة بسبب من انحصار الفعل السياسي في حدود التكتيكي والتنظيمي بغية التفاعل الظرفي مع استحقاقات وأجندات محددة مرحلية وقصيرة النفس، في هذه اللحظات بالضبط وعوض أن ينصرف الثقافي الى التصدي لهذه المهمات الوجودية والمصيرية الرئيسة في تاريخ المجتمع المغربي، ترى ذلك الثقافي وكأنه يحاول فك/إعادة الارتباط، مع السياسي الحزبي الذي أسره لعقود ما بعد الاستقلال فمنعه من أن يضطلع بمهامه المجتمعية التثقيفية للدفع بالمجتمع الى الانتقال الى الحداثة وثقافة حقوق الإنسان والمواطنة.
في سياق فك وإعادة هذا الارتباط، نسجل عودة الحديث عن أدوار المثقفين، عن "الوضع الاعتباري للمثقفين"، عن مشروع "الميثاق الوطني للثقافة"، وهو حديث ينصب في مجمله عن إشكالية وطبيعة العلاقة النفعية التي تجمع بعض الكتاب المتحدرين من أحزاب الحركة الوطنية ووزارة الثقافة... بهذا المعنى يمكن فهم تنامي "نداءات" أو "بيانات" صادرة عن هذا الشخص أو ذاك (عبد اللطيف اللعبي، محمد برادة ومجموعة العشرة..)، وكذا عن هذا المرصد أو تلك الهيأة (المرصد المغربي للثقافة)...
كثرت إذن النداءات والتسخينات والتأم البعض في لقاءات تحضيرية من دون الانفتاح عن كل الفاعلين المركزيين في الحقل الثقافي الوطني، فهل هناك من وجهة لهذا الذي ينادون ويتنادون من أجله? أم أن هذه الوجوه القديمة-الجديدة، وبعد أن تهاوت مواقعهم السياسية الفردية والجماعية (سواء في العلاقة مع وزارة الثقافة أو اتحاد كتاب المغرب الذي لم يعد له أي اثر ثقافي فعلي في الواقع)، وبعد أن صار من الصعب تحصيل بعض المكتسبات التي كانت لهم من قبل، صاروا يبحثون من جديد عما به يتوسلون "وضعا اعتباريا جديدا للمثقف"?
ألا يمكن مناقشة المسألة الثقافية إلا في العلاقة مع وزارة الثقافة? أليس هذا يعني أن الإشكال المطروح ليس إشكالا ثقافيا عميقا يتغيا الإجابة عن عمق الإشكالات السياسية والاجتماعية والديمقراطية ببلادنا?، وهذا ما نخاله من وظيفة المثقف. إن هذا الإشكال بالصيغة التي يطرح بها بين بعض الكتاب ووزارة الثقافة، ليس سوى مسألة خلل طارئ في سيرورة مأسسة الثقافي سياسيا، وبشكل أدق حزبيا، وفي العلاقة مع السلطة، بسبب من محاولة ذلك الثقافي فك ارتباطاته مع السياسي في زمن وهن وتراجع وخفوت السياسي بعد التناوب التوافقي.
إذا كانت وزارة الثقافة لها ثقافتها الرسمية، بما هي مأسسة سياسية للشأن الثقافي، التي هي بالطبع محصلة ثقافة السلطة والمثقفين الحزبيين اللذين التحقوا بالسلطة إبان التناوب التوافقي، وإذا كان لهذه للوزارة رؤيتها لما ينبغي أن يكون عليه الوضع الثقافي بالبلاد، فأين كان أصحاب كل هذه الخرجات قبل اليوم?... أليسوا في معظمهم ممن طبلوا وزغردوا لزمن التناوب التوافقي? بل حتى ممن برروا هذا التناوب ثقافيا حتى يصير أمرا ممكنا سياسيا! ماذا استجد اليوم حتى يقوم هؤلاء المثقفون في محاولة ل"تصحيح" الوضع الثقافي? أهو إحساس من طرف هؤلاء المثقفين بضعف السياسي الذي كان مهيمنا على الثقافي، وبالتالي عدم قدرته – أي السياسي- على لم شمل الثقافي وإعطاءه ذلك "الوضع الاعتباري" الوهمي? أم أن هذا الثقافي صار، وبعد أن تحرر نسبيا من ذلك السياسي المأزوم، يتغيا إعادة تحديد قواعد اللعب بما يضمن له مواقعه ومحصلاته السابقة? ألا يمكن اعتبار هذه النداءات التي تحيل، بصيغة أو بأخرى، الى تأزم العلاقة بين الكتاب أصحاب هذه الدعوات ووزارة الثقافة نوعا من ممارسة الضغط لانتزاع مكاسب ليست بالضرورة ثقافية، من قبيل تحصين تموقع البعض وإعادة تموقع البعض الأخر في المشهد الثقافي الرسمي?
ونحن نتتبع هذه النداءات وهذه الدعوات منذ سنة تقريبا، أثار انتباهنا كون أصحاب هذه النداءات، رغم اختلاف أصولهم ومشاربهم، يلتقون في تناولهم وطرحهم للمسألة الثقافية، في أمرين/عائقين أساسيين لن يقووا بسبب من إيديولوجيتهم النمطية على تجاوزهما: أولهما أن هذه النداءات صادرة في مجملها – وليس كلها - بعد المعرض الدولي للكتاب الذي أقيم بالدار البيضاء في فبراير 2010، وما وقع فيه من شنآن بين بعض هؤلاء الكتاب ووزارة الثقافة في شخص بنسالم حميش حول أمور لا ترقى الى ما طرحناه من أمور رئيسة ينبغي أن تتوفر لكل من أراد إقحام نفسه في العمل الثقافي بتعقيداته التي أشرنا إليها؛ أما ثاني هذين الأمرين/العائقين فهو أن هذه النداءات والدعوات هي صادرة كلها – وليس مجملها - عن كتاب لم يستوعبوا بعد مكانة ومحورية الثقافة الأمازيغية في التأسيس لمرجعية وطنية ثقافية توحد ولا تفرق الحقل الثقافي الوطني.
في هذه النقطة بالذات لا بد من الإشارة الى مسألة بالغة الأهمية، وهي أن العروي، وبعد طول تجاهل للأمازيغية، وبعد نعته للأمازيغ في كتبه بالبربر، إلا أنه عاد محتشما في الأخير في كتابه من ديوان السياسة وقال في الصفحة 53: "كاذب أو منافق من يدعي انه يقف من مسألة الأمازيغية موقف المتفرج اللاهي أو الملاحظ المتجرد أو الباحث الموضوعي". نقول عاد محتشما لأنه برغم إبدائه لبعض الملاحظات في الأمازيغية إلا أنه لم يدل فيها بدلوه وموقفه الصريح منها.
في سياق هذه النداءات التي توالت في الآونة الأخيرة، سنركز على ما ورد في مقال الأستاذ محمد بنيس (الأحداث المغربية، ص 16، 17 شتنبر العدد 4149) ليس باعتباره أحد أصحاب هذه النداءات، بل من منطلق تفاعله ذاك مع دعوة عبد اللطيف اللعبي الى "الميثاق الوطني للثقافة مارس- أبريل 2010". كما أن اختيارنا لمحمد بنيس لتناول الشأن الثقافي جاء بالنظر لأهمية ما طرحه من أفكار ومن معطيات يزخر بها الواقع الثقافي المغربي.
مجمل القول أن محمد بنيس لم يكن موضوعيا في تناوله للشأن الثقافي رغم الأهمية القصوى للنقد التاريخي الذي قدمه في حق النخبة المثقفة التي تتسم اختصارا بحسبه ب: (أ) التمزق الذي معه لا سبيل لإعداد "الميثاق الوطني للثقافة" (ب) سيادة المصالح الشخصية في وسط النخبة الثقافية، (ت) كثرة النزاعات والمواقف (ج) تبعية الثقافي للسياسي وتصاعد معاناة الثقافي في فترة الانتقال الديمقراطي الذي صادف دخول أحزاب الكتلة الديمقراطية الى الحكومة (هنا في نظرنا تكمن قيمة وأهمية النقد التاريخي الذي قدمه محمد بنيس)، (ح) تنامي وجود وسطاء ثقافيين يلعبون دور المتكلم باسم الثقافة المغربية، (خ) نذرة المؤسسات الثقافية الحرة بسبب من تحكم السياسي في أغلب المؤسسات الثقافية الوطنية في إشارة منه الى تحكم مثقفي أحزاب الكتلة الديمقراطية على هذه المؤسسات الثقافية، (د) تهميش العربية ومحاكمتها هي من العوامل السلبية في الحياة الثقافية، (ر) سيادة الحقل الديني وصرامته من خلال تنامي المد الأصولي منذ الثمانينيات بعد إخفاق المشروع اليساري وطغيان الاسلاموية على التوجه العام للمجتمع. وبعد كل هذه الأفكار المهمة يخلص محمد بنيس الى نتيجة أساسية هي أن العوامل المذكورة تسببت في إفراغ الثقافة من معناها وقطع الصلة بين المثقفين وهو الشيء الذي يعقد إعداد ووضع "الميثاق".
إن الأستاذ محمد بنيس وهو يلامس تبعية الثقافي للسياسي، وهو ما تناولناه بالتحليل من قبل في مقالنا "الايديولوجيا في المسألة اللغوية" (العالم الامازيغي، ص 5 شتنبر 2010/2960، العدد 123) لم يتجاوز السقف/الإطار الإيديولوجي الذي وضعته الحركة الوطنية ليس فقط للثقافي بل للسياسي والمؤسساتي والتعليمي واللغوي، أي باختصار لمقومات الدولة المغربية بعد الاستقلال؛ ذلك أن النقد كان نقدا لما هو سائد وليس لما هو فعلي في الواقع. أما السائد فهو الثقافة المغربية بلباسها العروبي الذي يجد أساسه في إيديولوجيا الحركة الوطنية، في حين أن ما هو فعلي في الواقع هو التعدد الثقافي الذي احتضنه الشعب المغربي بعمقه الأمازيغي والذي دافعت عنه وأبرزته الحركة الأمازيغية بمثقفيها الأولين واللاحقين. فرغم أهمية ما ساقه محمد بنيس من نقد للوضع الثقافي، إلا أنه تجاهل الثقافة الأمازيغية وموقعها في الثقافة الوطنية، حتى أننا نستغرب هنا كيف فات على الأستاذ محمد بنيس، على الأقل من وجهة نظر أكاديمية، الإشارة الى الثقافة الأمازيغية ولو من باب الموضوعية العلمية الرصينة.
إن من أخذ على عاتقه نقد الثقافة المغربية من داخل "ثوابتها وأسسها العروبية والاسلامية" لن يستطيع منهجيا تجاوز هذا السقف الذي حدده لنفسه بمحض إرادته. نحن هنا لا نخفي منهجيتنا، فهي بالتالي تتموقع من خارج هذه "الثوابت الإيديولوجية" التي تجاوزها الشعب بحدسه الجماعي والتاريخي والحضاري، فهو في نظرنا، أي الشعب المغربي، أثقف من مثقفيه هؤلاء الذين لا يمكنهم مناقشة كل القضايا المغربية إلا بربطها بما هو عروبي قومي. نحن نصدر هنا عن منهجية ترمي الى نقض وتفكيك تلك "الثوابت الإيديولوجية" المتهالكة اجتماعيا وتاريخيا، أي ثقافيا، وذلك في سبيل طرح الأسئلة الثقافية التي تلامس الواقع المغربي في راهنه كما هو وليس كما يتبدى للكثير من "المثقفين" الذين لم يتجرؤوا بعد عن نقذ أطروحاتهم البعيدة كل البعد عن الواقع المغربي، مما ساهم في عزلتهم وتبعيتهم للسياسي الذي ما إن تراجع إشعاعه وامتداده الشعبي، بعد التناوب "التوافقي" حتى صار الثقافي في أزمة هي بالضبط أزمة ذلك السياسي الحزبي الذي انفض من حوله الشعب، خاصة بعد التناوب التوافقي.
ليس غريبا، والحالة الثقافية، الممأسسة سياسيا وحزبيا، في هذه المأساة، أن تنبعث أسئلة الهوية – وهي مشروعة ولها ما يبررها- من جديد بحثا عن مرجعية ثقافية وطنية سمتها الأساسية التعدد الثقافي في إطار وحدة الهوية المغربية وتفردها التاريخي وارتباطها بالأرض كمعطى ثابت لا يقبل أي تشكيك؛ ليس غريبا إذن أن تنحصر كل المشاريع الإيديولوجية والسياسية، أي الثقافية، التي جعلت من صلب اهتماماتها التصدي لقضايا فوق وطنية، وأهملت في تناولاتها انشغالات الشعب المغربي وخصوصياته الحضارية والثقافية واللغوية.
يتبدى من كل هذا أن السؤال الثقافي أضحى اليوم يعبر عن سؤال الهوية، أو قل تحديدا أن من بين مهمات الثقافي اليوم تصحيح مرتكزات الهوية الوطنية المغربية؛ أما التغاضي في تسويق وإعادة إنتاج مفاهيم "وطنية" الحركة الوطنية فلن يقدم شيئا سوى الحيلولة دون تمكين انصهار كل عناصر الثقافة المغربية المتعددة في مركز الحقل الثقافي تمهيدا لإرساء مرجعية ثقافية وطنية قمينة بشرعنة الفعل الثقافي وإبراز مكانته الاعتبارية في تحديث المجتمع والانتقال به الى الحداثة وقيم العقلانية والمواطنة التي عليها ينبغي أن تتأسس الوطنية.
إذا كنا خصصنا حيزا كبيرا لأفكار محمد بنيس، في معرض رصدنا وتتبعنا للنقاش الثقافي الدائر والدعوات المصاحبة له، فلأننا لم نلمس في باقي النداءات والدعوات الثقافية التي تناسلت في الآونة الأخيرة سوى كونها دعوات مناسباتية جاءت في سياق انفعالي (رد الفعل وليس الفعل)، بحيث أنها لا تطرح أفكارا جذابة تجعلنا ننخرط في مناقشتها. فأي متتبع موضوعي للنداءات والدعوات التي تعاقبت منذ سنة (بعد المعرض الدولي للكتاب) سيخلص بقليل من الجهد الى أن أصحاب هذه الدعوات، وهم يطرحون الثقافة المغربية من جديد للنقاش، يتوسلون بالإطار العربي – كمرجعية قومية - الذي من خلاله وفقط يتناولون إشكالية الثقافة المغربية التي هي اليوم بحاجة ماسة لإرساء مرجعية وطنية، تلك المرجعية التي لا يمكن بناؤها وتشييدها إلا من خلال التعامل الموضوعي والعقلاني مع القضية والثقافة الأمازيغيتين.
ففي هذه السياق وجه عبد اللطيف اللعبي نداءا لجمع التوقيعات الى كافة المثقفين والسياسيين والفاعلين لكي يحددوا، على حد تعبيره، موقفهم مما سماه التردي الثقافي ويدلوا بآرائهم حول الإجراءات اللازم اتخاذها للخروج من هذا المأزق. هنا يقول عبدا للطيف اللعبي في مطلع نداءه من أجل جمع التوقيعات (جريدة أخبار اليوم المغربية، صفحة 12، 26/04/2010، العدد 120): "عرفت الساحة الوطنية في الآونة الأخيرة هزة غير اعتيادية. وبغض النظر عن تجلياتها الظرفية (السخط العارم الذي انتاب وسط المثقفين على اثر بعض القرارات الهوجاء المتخذة من طرف وزير الثقافة الجديد) فقد كانت لهذه الأزمة نتيجة ايجابية، تكمن في انتعاش الجدل حول حقيقة أوضاعنا الثقافية في بلادنا".
إن مطلع هذا النداء لجمع "التوقيعات" يؤكد ما قلناه سلفا من كون هذا الضجيج الثقافي جاء بعد معرض الكتاب 2010 وبعد أن اتخذ وزير الثقافة "قرارات هوجاء"، وهذا يدل على أن مسببات هذه النداءات إنما هي قرارات الوزير وليس ما يطرحه الواقع الثقافي من إشكاليات مجتمعية ينبغي على المثقفين الحقيقيين أن يتصدوا لتحليلها في استقلالية تامة من أجل أبداء ما يرونه قمينا بتجاوز هذا الوضع الثقافي المأزوم وما يتطلبه ذلك من إعلان مواقف صريحة من كل القضايا الوطنية التي تتمفصل مع الثقافي. ورغم ما يحتويه نداء اللعبي من أفكار متقدمة لا يسعنا المجال هنا لمناقشتها، إلا أنه لا يتضمن ولو إشارة الى موقع ومحورية الثقافة الأمازيغية في الثقافة الوطنية. هذه هي مأساة هؤلاء المثقفون الذين "يتغيون" إقامة مجتمع "ديمقراطي" و"حداثي" وهم متمادون في تجاهل هوية الشعب المغربي وثقافته الأصيلة المتعددة، فأين نحن هنا من الحداثة!?
أما جريدة الاتحاد الاشتراكي فهي أيضا خصصت ملفا ثقافيا حول الثقافة المغربية (12 نونبر 2010، العدد 9630) وفيه طرحت سؤالا مركزيا وهو: لماذا الحوار حول الثقافة المغربية?... الملاحظ أيضا أن هذا الملحق الثقافي لا يشير الى شيء اسمه الثقافة الأمازيغية، رغم ما ورد في هذا الملحق من إشارة الى التعدد والتنوع الثقافيين بقلم عبد الفتاح الحجمري. ودائما في نفس الملحق أثار انتباهنا ما قاله عبد الصمد بلكبير، وهو أحد الأعضاء العشرة الذين التأموا في لقاء تحضيري بدعوة من محمد برادة كان قد عقد باكدال بالرباط يوم 05 نونبر 2010، يقول: "أنه بقدر ما تمكنت الثقافة العربية بالمغرب بالقيام بأدوار جليلة في التاريخ الحديث المعاصر بما سمح للتجربة الوطنية للوصول الى عتبة قل نظيرها في الدول العربية والإفريقية، بالاقتناع بانتقال ديمقراطي هادئ وسلس، إلا أن هناك انعكاسات سلبية بعد تجربة الانتقال الديمقراطي، بحيث لاحظنا أن الثقافة عادت الى لخلف ولم يعد لها تأثير كما هو مطلوب". يتبدى واضحا هنا هذا الربط التعسفي بين الثقافة الوطنية والثقافة العربية؛ فكما قلنا سابقا لا يتناول هؤلاء العروبيون كل ما هو وطني إلا في إطار قومي عروبي.
فهذا الكلام فيه تناقض صارخ، فحتى إذا افترضنا جدلا أن "الثقافة العربية" فعلت فعلها السحري في المغرب و"سهلت" مأمورية الانتقال الديمقراطي السلس بشكل "قل نظيره" في الدول العربية والإفريقية، فالفضل هنا يرجع الى تميز الشعب المغربي في تاريخه وكيانه وحضارته وأصوله عن تلك الشعوب العربية، مما جعله يبيأ "الثقافة العربية" التي اتخذت شكلا مغربيا متفردا، وليس للثقافة العربية التي لو كان لها كل تلك المفاعيل السحرية لجنبت المنطقة العربية كل تلك الحروب والتناحرات العشائرية المذهبية التي أودت هناك بالمجتمع والدولة معا.
وعلى ذكر الأستاذ عبد الصمد بلكبير فانه لم يخف ميولاته العروبية في مناسبات أخرى اجتهد فيها أيما اجتهاد لإعادة إنتاج مفاهيم "وطنية" الحركة الوطنية التي تقصي كل من يخالفها الرؤية والمنطلق؛ فهو يدعو في مقال أخر "الصحراء والعودة الى الشعب: رب ضارة نافعة" في جريدة الاتحاد الاشتراكي (17، 18-19، 20 دجنبر2010، الأعداد 9657، 9658 و 9659) الى وضع حد لما سماه الميوعة اللغوية في إشارة منه الى هذا النقاش اللغوي الذي هو ليس سوى تمظهرا لإشكالية ثقافية عميقة ناجمة عن محاولات العروبيين، منذ الاستقلال الى اليوم، تنميط الفكر السياسي والثقافي المغربي بما يطمس الهوية المغربية الأصيلة بعمقها الأمازيغي. في الأخير ندعو الأستاذ عبد الصمد بلكبير لتوضيح مواقفه أكثر ويشرح للرأي العام ما المقصود بالميوعة اللغوية، أهي التخلي عن هذه المكتسبات والعودة الى تبني "الظهير البربري" أم تراجعا عن الأمازيغية أم شيئا أخر!



#علي_أوعسري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة مركبة في أحداث العيون: رهانات وتحديات ما بعد مخيم أكدي ...
- بين تقرير اللجنة الأممية حول التمييز العنصري ومزاعم اختراق إ ...
- سؤال السياسة اليوم
- في المسألة اللغوية: أو الايدولوجيا في المسألة اللغوية
- توضيحات أخرى بخصوص ملف دكاترة قطاع التعليم المدرسي
- مخاطر الشعبوية وهي في قلب البرلمان: استقالة الرميد نموذجا
- توضيحات بخصوص تطورات ومآل ملف دكاترة قطاع التعليم المدرسي
- -فعاليات- الشعب المغربي في خيمة القذافي
- تبعثر الحقل الاجتماعي وأزمة علاقة النقابي والسياسي
- مأزق الوزارة في ملف الدكاترة العاملين بقطاع التعليم المدرسي
- مأزق المأسسة في ضل غياب حوار اجتماعي وسياسي وثقافي شامل
- تأملات في مفهوم الطبقة الوسطى
- مناقشة في بعض أفكار الجابري حول إصلاح التعليم والمسألة اللغو ...
- أفكار للمساهمة في تسوية وضعية الدكاترة العاملين بقطاع التربي ...
- بيان المنضمة الديمقراطية للتعليم بخصوص الاضراب الوطني لدكاتر ...
- تسوية وضعية الدكاترة العاملين بقطاع التربية الوطنية: أفكار ل ...
- في عدم أهلية العدالة والتنمية للدعوة إلى تشكيل جبهة وطنية لل ...
- حركة -مالي- والحاجة الى حوار عقلاني حول الحريات الفردية
- تصارع العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة وتداعياته على السا ...
- التحالفات المشاعية مظهر من مظاهر التفسخ السياسي: في البدائل ...


المزيد.....




- هكذا أنشأ رجل -أرض العجائب- سرًا في شقة مستأجرة ببريطانيا
- السعودية.. جماجم وعظام تكشف أدلة على الاستيطان البشري في كهف ...
- منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي محذرًا: الشرق الأوسط ...
- حزب المحافظين الحاكم يفوز في انتخابات كرواتيا ـ ولكن...
- ألمانيا - القبض على شخصين يشتبه في تجسسهما لصالح روسيا
- اكتشاف في الحبل الشوكي يقربنا من علاج تلف الجهاز العصبي
- الأمن الروسي يصادر أكثر من 300 ألف شريحة هاتفية أعدت لأغراض ...
- بوركينا فاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين بسبب -نشاطات تخري ...
- حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره ويستهدف مواقع للاحتلال
- العلاقات الإيرانية الإسرائيلية.. من التعاون أيام الشاه إلى ا ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - علي أوعسري - في السؤال الثقافي: بخصوص تنامي وتيرة الدعوات والبيانات الثقافية