أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جورج حداد - ميلاد السيد المسيح: المنعطف التاريخي نحو تشكيل الامة العربية















المزيد.....



ميلاد السيد المسيح: المنعطف التاريخي نحو تشكيل الامة العربية


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 3239 - 2011 / 1 / 7 - 12:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


صوفيا ـ جورج حداد*
في الايام القليلة الماضية احتفل العالم المسيحي (بما فيه العالم العربي) بذكرى ميلاد السيد المسيح وبدء السنة الميلادية الجديدة. واصبح يغلب على هذه المناسبة الطابع الاحتفالي، الطقسي والانشراحي، حيث تقام الصلوات التقليدية وتتم السهرات وتبادل الزيارات والتهاني والتمنيات بالصحة والسلامة والتوفيق. وفي البيئات المسيحية ـ الاسلامية المختلطة، يتم تبادل التمنيات الشكلية والتأكيد الكلامي على التعايش الاسلامي ـ المسيحي. ونظرا لسيادة "الثقافة" المملوكية والعثمانية، التي لا تزال تعشش في بعض الجماجم الفارغة وتجرجر اذيالها منذ مئات السنين، فإن بعض المسلمين، ولا سيما في المواقع السلطوية والنافذة، لا يجدون غضاضة في تمنين المسيحيين باستمرار وجودهم في "المنطقة الاسلامية" طوال الحقبات الماضية وحتى الان، وانهم ـ اي المسيحيين ـ "ضيوف" على الاكثرية الاسلامية، وليسوا اكثر من "جاليات غريبة وغربية" و"محميات اجنبية" و"تفاصيل" متخلفة عن "المسألة الشرقية". ولضمان استمرار وجودهم، فإن المسيحيين التقليديين في مختلف البلدان العربية، هم ملزمون عمليا بدعم السلطة القائمة، ولو كانت سلطة صدام حسين او سلطة الاحتلال الاميركي وعملائه في العراق، والا أفلتت عليهم العصابات المسعورة المتجلببة زورا بالاسلام لاقتلاعهم من جذورهم الضاربة في هذه الارض منذ آلاف السنين قبل ظهور المسيحية والاسلام. وهذا هو "الدرس" الاساسي الذي أريد تلقينه للمسيحيين المصريين، في التفجير الاجرامي الاخير لكنيسة القديسين في الاسكندرية. اي: اما ان يكون المسيحيون مع السلطة العميلة لاميركا، ويحملوا السلاح دفاعا عنها وعن انفسهم، واما ليرحلوا الى اميركا والغرب، واما... القبر!
وفي هذه الاجواء الاحتفالية الشكلية، من جهة، والسياسية والامنية المشحونة، من جهة ثانية، تضيع المدلولات القيّمة لميلاد السيد المسيح. ونترك لرجال الدين المسيحي الصادقين التعامل اللاهوتي مع ضياع المدلول الديني ـ الروحاني لهذا العيد، وتحويله الى مناسبة كرنفالية تجارية لنشر التهتك والعربدة والاباحية والدعاية التجارية وتسويق السلع وعلى رأسها سلعة اللهو والاستعراض واستهلاك المسكرات والمخدرات والعاهرات.
ولكننا ـ كمواطنين في هذا العالم، ولا سيما كمواطنين عرب ـ نرى من الضروري التوقف عند ضياع المدلول التاريخي لرواية ميلاد السيد المسيح، ومجزرة قتل الاطفال في منطقة بيت لحم وجوارها، وهرب العائلة المقدسة واختبائها في مصر.
ونسمح لانفسنا ان نقول، امام تعجب من يريد ان يتعجب ونحن بدورنا نضع على تعجبه الف علامة تعجب والف علامة استفهام، انه، بعد ما يسمى "الحروب الفونية" التي كان من الممكن ان تنتهي بتدمير روما ولكنها انتهت بتدمير قرطاجة، فإن الرواية الانجيلية عن ميلاد السيد المسيح وتداعياتها هي اول حركة تاريخية كبرى، اجتماعية وقومية، في طريق التكوين اللاحق للقومية العربية والامة العربية. ولا يصح الاسفاف والقول انها كانت حركة توحيد ذات طابع ثقافي وحضاري عربي (جزيري)، كما هو الامر بالنسبة لظهور الدين الاسلامي والفتح العربي الاسلامي بعد بضع مئات السنين. ولكنه يمكن الجزم بأن ميلاد السيد المسيح، ومن ثم انتشار المسيحية، شق الطريق للتفاعل الاخوي (الحضاري والثقافي والاقتصادي والديموغرافي، ضمن القالب الديني) بين الشعوب القديمة التي كان يتشكل منها عالم الشرق الادنى وشمال افريقيا بما فيها شعب او قبائل شبه الجزيرة العربية، شمالها وجنوبها. ولولا هذه الحركة التمهيدية الاولى للمسيحية، لما كان بالامكان ان يضطلع الاسلام، فيما بعد، بدوره في استكمال عملية التفاعل وتكوين الامة العربية الواحدة.
ولنأخذ ما يقوله الانجيل المقدس عن ميلاد السيد المسيح وعملية قتل الاطفال في محيط بيت لحم وفرار العائلة المقدسة الى مصر:
متى (2: 1 ـ 6) "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس قد اقبلوا من المشرق الى اورشليم قائلين اين المولود ملك اليهود فإنا رأينا نجمه في المشرق فوافينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك اضطرب هو وكل اورشليم معه وجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب واستخبرهم اين يولد المسيح فقالوا له في بيت لحم اليهودية لانه هكذا كتب بالنبي. وأنت يا بيت لحم ارض يهوذا لست الصغيرة في رؤساء يهوذا لانه منك يخرج المدبر الذي يرعى شعبي اسرائيل".
وطلب هيرودوس من المجوس ان يعودوا ويخبروه بمكان وجود الصبي حتى يذهب هو ايضا ويسجد له، ولكنه في الحقيقة كان يزمع قتله. الا ان المجوس (متى 2: 12 ـ 16) "أوحي اليهم في الحلم ان لا يرجعوا الى هيرودس فرجعوا في طريق اخرى الى بلادهم. ولما انصرفوا اذا بملاك الرب تراءى ليوسف في الحلم قائلا قم فخذ الصبي وأمه واهرب الى مصر وكن هناك حتى اقول لك فإن هيرودس مزمع ان يطلب الصبي ليهلكه. فقام واخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف الى مصر. وكان هناك الى وفاة هيرودس... حينئذ لما رأى هيرودس ان المجوس قد سخروا به غضب جدا وأرسل فقتل كل صبيان بيت لحم وجميع تخومها من ابن سنتين فما دون على حسب الزمان الذي تحققه من المجوس".
وجاء في انجيل لوقا ان يوسف ومريم ذهبا الى بيت لحم (لوقا 2: 6 ـ 12) "وبينما كانا هناك تمت ايام ولادتها. فولدت ابنها البكر فلفته وأضجعته في مذود لأنه لم يكن لهما موضع في المنزل. وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البادية يسهرون على رعيتهم في هجعات الليل. واذا بملاك الرب قد وقف بهم ومجد الرب قد اشرق حولهم فخافوا خوفا عظيما. فقال لهم الملاك لا تخافوا فهأنذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. وقد ولد لكم اليوم مخلص وهو المسيح الرب في مدينة داود. وهذه علامة لكم. انكم تجدون طفلا ملفوفا مضجعا في مذود".
(انتهى استشهادنا بالانجيل المقدس)
ان اللاهوتيين والمتدينين المسيحيين يحملون هذا الكلام على محمل لاهوتي او الهي، فوق طبيعي وفوق بشري، ويؤمنون بأن السيد المسيح جاء لتخليص البشرية من الخطيئة ولبناء "ملكوت السموات". ولهؤلاء اللاهوتيين والمتدينين الحق في أن يؤمنوا بما يشاؤون، شريطة ان لا يعملوا على ايذاء الغير (كما كانت تفعل الكنيسة في القرون الوسطى، وخصوصا كما فعلت في الحروب الصليبية). واذا كانوا حقا يحبون الله ويحترمون مشيئته، فعليهم ان يتركوا الله يتدبر شؤونه مع خلقه.
وفي الوقت نفسه هناك من يشككون في رواية ظهور المسيح وألوهيته الخ. وهناك بعض الناس يدعون انهم مسلمون ينكرون على المسيحيين ايمانهم، ويدعون ان الايمان الحق هو الايمان بالدين الاسلامي. ولهؤلاء ايضا الحق في ان يؤمنوا بما يشاؤون، ويرفضوا الايمان بما يشاؤون، على ان لا يعمدوا الى اكراه الآخرين على الايمان بما هم يؤمنون به.
وفيما يلي عينة لاحدهم باسم محمود خليل يكتب في احد المواقع "الاسلامية" المصرية عن "اكذوبة رحلة العائلة المقدسة الى مصر"، وهو يقول:
"لا ندرى ما سبب إخفاء المسيحيين واليهود حقيقة سفر أسرة المسيح إلى مصر وهى الأسرة اليهودية المتدينة التى تعبد الله الواحد حسب العقيدة اليهودية؟.. فهم يدعون أن المسيح عليه السلام سافر إلى مصر فارا من الرومان وهو ما زال بعد طفلا لم يكمل الشهر من العمر لكنهم يدعون ذلك بدون توضيح متى تركوا فلسطين ومتى قدموا لمصر ومتى رحلوا منها وما هو عمر كل فرد فى عائلة المسيح (المسيح ويوسف النجار والسيدة مريم) فى ذلك الوقت كما أخفوا أيضا أعمار إخوته الأربعة وأخفوا كل المعلومات عن أخواته البنات وعائلاتهم كما أخفوا عمر يعقوب عندما قتله اليهود رجما بالحجارة وكان شخصا عادلا لقبوه بالبار وأخفوا عمر السيدة مريم عندما ماتت واخفوا كل المعلومات التى قالتها مريم بعد صعود المسيح فلقد كان الجدير بالذكر - لمن يهمهم أمر المسيح - هو تسجيل أقوال أمه وإخوته عن حياته ومطاردة اليهود والرومان له ثم رفعه إلى السماء كما لم يوضحوا كيف تسافر الأسرة كل هذه المسافة؟.. فتارة قالوا أنهم سافروا على جحش وحاليا يدعون بأنهم طاروا من فلسطين إلى مصر ولم يوضحوا أيضا كيف طاروا ومتى وباى وسيلة وأين نزلوا وهو ما يتناقض مع الخريطة المكذوبة التى يرسمونها لسير الأسرة كما تتناقض مع الرسومات التى يدعون أنها للمسيح وأسرته وتصوره راكبا مع أمه السيدة مريم على حمار وبجوارهما يوسف النجار! والغريب حقا أن مرقص ويوحنا ولوقا - أصحاب الأناجيل المعروفة - لم يذكروا شيئا عن ذهاب أسرة المسيح لمصر فى أناجيلهم فمن أين أتى المسيحيون بهذا الادعاء؟
ويخلص السيد محمود خليل الى بيت القصيد في اقواله كما يلي:
"ولأن هذه الأمور جميعها لا يمكن إثباتها وكاتب الإنجيل نفسه لم يكن موجودا وقتها ليعرفها يصبح من المؤكد أن كل ما قيل حول تلك القضية مجرد أوهام لا دليل عليها إلا محاولة كاذبة وممجوجة لربط مصر بالمسيحيين أو العكس للتأكيد على أن للمسيحيين مكان فى مصر وهى ذات الأساليب المعتادة التى تدعى كذبا وجود علاقة بين اليهود وبين أى بقعة فى العالم ومن خلال هذه الكذبة التى يصدقونها ويقنعون السذج بها تصبح كالحقيقة كما فعلوا فى فلسطين ويحاولون بشتى الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة أثبات علاقتهم بالقدس والهيكل المزعوم أو الادعاء الكاذب بأن اليهود هم بناة الأهرام رغم أن اليهود كانوا وقتها مجرد رعاة فى الصحراء ولم يقطنوا فى الحواضر المصرية وقتها ألا كعبيد للمصريين. وعلى الدرب يسير المسيحيون مدعومين باليهود والصهيونية فيدعون كذبا وباطلا بأن المسيح جاء إلى مصر لتبرير مطالبهم بطرد المسلمين من مصر وأنهم أصحاب البلاد الأصليين؟!!.. ولكن ساء ما يمكرون فلا يوجد دليل على ما يدعون وألا فليجيبوا على الأسئلة السابقة وليأتوا بدليل مادى أو تاريخى على ما يدعون؟!!.."
"أما الحقائق الثابتة فهي أن مصر لا علاقة لها بالمسيحية التى لم تدخلها ألا من الهاربين اليهود (الذين اتبعوا تعاليم المسيح) من اضطهاد الرومان أو من الرومان الذين عبدوا المسيح ولقبوا أنفسهم مسيحيين اسما فقط".
"إذا فتلك أكذوبة أخرى من أكاذيب المسيحيين فى مصر يتم كشفها ولن يستطيع أحد أن يقنعنا بعكس ذلك كما لن يستطيع أحد أن يخبرنا مدعما بالدلائل والقرائن متى ولد المسيح وأين ومتى سافر إلى مصر ومن كان معه فى تلك الرحلة وكيف سافروا ومتى عادوا إلى فلسطين وما هى أعمار المسيح وأسرته حينما سافروا وبعدما عادوا وماذا حدث فى تلك الرحلة وما هى أقوال السيدة مريم عليها السلام حول الرحلة وحول حياة المسيح نفسه منذ ولادته وحتى يوم رفعه؟؟؟؟!!".
اي ان محمود خليل وامثاله يستنكرون مسيحية اقباط مصر، ويطعنون في مواطنيتهم لمجرد كونهم مسيحيين، ويدعون الى طردهم، ومن ثم الى دفعهم للارتماء في احضان الامبريالية والصهيونية دفاعا عن وجودهم.
اننا لا ندعي لانفسنا الاهلية او الرغبة في الخوض في الجوانب اللاهوتية والدينية لظهور المسيح والرواية الانجيلية او غير الانجيلية عنه. ولكن لو سلمنا جدلا بعدم ظهور السيد المسيح وبعدم فرار العائلة المقدسة الى مصر واقامتها فيها، فإنه ـ بالمقابل ـ من المؤكد انتشار المسيحية في مصر وثباتها فيها، والا فعلى من تقوم قيامة محمود خليل وامثاله ومن يقف وراءهم او فوقهم ويحركهم ويوجههم. وبكلمات اخرى، فمن المهم التثبت تاريخيا من صحة او عدم صحة رواية ظهور السيد المسيح وفرار العائلة المقدسة الى مصر؛ ولكنه من المهم اكثر، من وجهة النظر التاريخية، النظر في المفاعيل الواقعية للرواية الانجيلية حول ولادة السيد المسيح. (ومما يؤكد تاريخية واصالة الوجود المسيحي في مصر، ان التسمية العالمية لمصر لا تزال الى اليوم "اجيبت"، المشتقة من لفظة "القبط"، اي ان لفظة "القبط" ـ كلفظة "العرب" او "الفرس" ـ كانت في الاساس تعني "قوما" معينا هم سكان مصر الاصليين، وان هؤلاء "القوم" كانت البلاد تسمى باسمهم، ومن ثم فإنهم تنصروا جميعا، فأصبح اسم "قبطي" يرادف اسم "مسيحي". ولكن هذا لا ينفي الاصل القومي. ونستشهد على ذلك بأن الرسول (ص) كان قد وجه رسالة الى من سماه "المقوقس... عظيم القبط" اي عظيم قوم "القبط" داعيا اياهم للدخول في الاسلام. كما ان احدى زوجات الرسول (ص) كانت تدعى مارية القبطية، وظلت تحمل هذا اللقب حتى بعد اشهار اسلامها. وهذا يشير الى ان لقبها "القبطية" يدل على انتمائها القومي لا انتمائها الديني. (راجع كتاب: نداء السراة، اختطاف جغرافيا الانبياء، قسم الدراسات والبحوث في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، مملكة البحرين).
اي انه ـ وبصرف النظر عن مختلف الآراء المؤيدة او المعارضة للمسيح والمسيحية ـ فإنه من الثابت تاريخيا:
أ ـ ان المسيحية، كحركة دينية واسعة وبكل ما ترتب ويترتب عليها، قد وجدت وهي موجودة الى اليوم.
ب ـ ان الانجيل المقدس (الاناجيل الاربعة المعترف بها كنسيا) هي ايضا موجودة وصحيحة بنظر من يؤمن بها، ومعتمدة من قبلهم، شاء من شاء ورفض من رفض.
ج ـ ان الوجود المسيحي (كدين ومذاهب، وكمجتمعات بشرية متعددة الاقوام واللغات والثقافات والطبقات) له حضوره وحركيته التاريخيان، في ذاته، ولذاته، وكجزء عضوي لا يتجزأ من الكينونة البشرية، بالتعميم، ومن كل مجتمع او فئة اجتماعية يوجد فيها مسيحيون، بالتفصيل والتخصيص.
وهذا الوجود المسيحي التاريخي هو واقع لا يمكن انكاره، بصرف النظر عن طبيعة المعتقدات المسيحية وصحتها او عدم صحتها، بأي مقياس كان.
ولتوضيح هذه النقطة المعرفية الجوهرية نستميح القارئ عذرا في تقديم المثال التالي: في المرويات الشعبية ان شيخا قرويا كان أشرف على الموت، وكان لديه عدة ابناء وقطعة ارض لا تكفي لتقسيمها على ابنائه كي يبني كل واحد منهم بيتا مستقلا. وكي يبرر الشيخ عدم تقسيمه الارض فيما بينهم، قال لاولاده انه يترك لهم كنزا مطمورا في الارض ولكنه لا يتذكر اين دفن الكنز، واوصاهم ان ينقبوا الارض بعد مماته ويجدوا الكنز ويتقاسموه. وفي اليوم التالي لوفاة الشيخ شرع ابناؤه في تنقيب الارض الى عمق معين، ولما لم يجدوا شيئا تابعوا التنقيب اكثر فأكثر، حتى يئسوا او تعبوا وتوقفوا عن التنقيب وهم يندبون حظهم مع والدهم "الخرف" حسب زعمهم. وبالصدفة مر بهم شيخ آخر من اقاربهم، فحكوا له حكايتهم، فرثى لحالهم، ولكنه قال لهم اخيرا، ان والدهم الشيخ المتوفي لا يمكن ان يكون كذب عليهم لانه يعرفه عن قرب، وهو يؤكد صدقه، وخصوصا انه كان على فراش الموت، ولكن طالما انهم تعبوا ونقبوا الارض بهذا الشكل العميق فليستفيدوا منها ويزرعوها ويتقاسموا غلتها عند الحصاد؛ ففعل الاخوة ما نصحهم به قريبهم الشيخ، وحصلوا على غلة جيدة تقاسموها فيما بينهم؛ وكانت غلتهم افضل غلة في قريتهم نظرا لعمق تنقيب الارض الذي كانوا قد انجزوه. وفي السنوات التالية كان هؤلاء الاخوة الباحثون عن "الكنز الموعود والمفقود" يعيدون التنقيب عملا بنصيحة قريبهم الشيخ، ويعيدون الزراعة، ولا يجدون الكنز ولكنهم يحصلون على افضل الغلال، واصبحوا من اغنى اغنياء القرية والمنطقة.
فسواء كان حديث الشيخ المتوفي كذبة؛ او سواء انه حينما دفن الشيخ الكنز في الارض رآه احد اللصوص واختلسه من حيث لا يدري؛ وسواء ان الكنز لا يزال موجودا في الارض ولم يستطع الاولاد الوصول اليه؛ فإن هؤلاء الاولاد ـ ومن حيث يقصدون او لا يقصدون ـ تحولوا الى مجموعة زراعية هي الافضل والارقى والاغنى في القرية المعنية. وسيكون من السخف تماما ان يمر احدهم بهؤلاء الاخوة وهم ينقبون في ارضهم ويعتنون بزرعهم، ويسخر منهم بأنهم "مخدوعون" يضيعون وقتهم في البحث عن كنز غير موجود.
ومع كل احترامنا لكل معتقد ديني، مسيحي او غير مسيحي، نقول انه ليس المهم صحة او عدم صحة معتقدات الاديان عن نفسها او عن بعضها البعض، واستطرادا ليس المهم صحة او عدم صحة المعتقدات العلمانية والالحادية والفلسفية عن المعتقدات الدينية وبالعكس، بل المهم هو السلوك الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي والسياسي (الوطني والقومي والاممي، الانساني، او غير الوطني والقومي والاممي، الانساني) لكل جماعة بشرية، دينية او غير دينية. (ولبنان هو "نموذجي" على خذا الصعيد: حيث هناك "مسلمون" و"مسيحيون" و"علمانيون" وطنيون وفي صف المقاومة؛ و"مسلمون" و"مسيحيون" و"علمانيون" في صف اميركا واسرائيل واعداء للمقاومة).
وفي المحصلة التاريخية نرى (كما في قصة الاخوة الذين نقبوا ارضهم جيدا بحثا عن "الكنز") ان منطقة الانتشار الاكبر للمسيحية في المنطقة العربية، قبل ظهور الاسلام، وبدونه، وبدون اي انتقاص من دوره اللاحق، هي المنطقة الارقى في جغرافية الخلافة العربية الاسلامية. وهو ما اعترفت به موضوعيا الخلافة ذاتها حينما نقلت مقرها من الجزيرة الى دمشق، ثم الى بغداد. وحينما انقسمت على نفسها الى خلافتين، انقسمت بين بغداد والقاهرة. والسبب طبعا ليس دينيا ـ ايمانيا، بل لان مناطق سوريا والعراق ومصر كانت ارقى حضاريا من شبه الجزيرة العربية، وهي كلها مناطق كانت، بمعزل عن السلطات الوثنية او "المسيحية"، ذات طابع شعبي مسيحي.
وبناء على فهمنا التاريخي الواقعي هذا فإننا نقول انه يجب مناقشة الفعل التاريخي للوجود المسيحي كما هو، اي من خلال معتقداته هو عن نفسه، ومن خلال تنظيمه ونشاطه وحراكه الخاص، وليس من خلال المعتقدات والاحكام الغيرية والمغايرة، عنه وعليه، الدينية او الفلسفية او السياسية.
ومع كل "الاحترام" لاجتهادات السيد محمود خليل وكل الضاربين على طبله، ليسمح لنا عطوفته في ان ننظر فيما تقوله الرواية المسيحية ذاتها (الاناجيل المقدسة والنصوص الكنسية) عن ولادة السيد المسيح، ورد فعل روما وعملائها ويهودها على ولادة السيد المسيح، وهروب العائلة المقدسة الى مصر، والحقائق التاريخية التي تؤكدها تلك الرواية:
ـ1ـ الانتماء الى الفقراء:
تقول الرواية المسيحية ان السيدة مريم العذراء وضعت الطفل يسوع في مذود. وبصرف النظر عن البحث في الحد الفاصل بين المشيئة الالهية والامكانيات المادية لعائلة يوسف النجار من الناصرة، فإن الواقع الذي تأخذ به الرواية المسيحية ويصدقه المسيحيون الصادقون هو ان يسوع المسيح ولد فقيرا وفي عائلة فقيرة، كأي عائلة فلاحية فقيرة يولد اولادها ويعيشون في غرفة واحدة، او خيمة واحدة، او زريبة واحدة مع الحيوانات الاليفة التي تعتاش منها العائلة. وبالرغم من كل هذا الفقر المدقع، فإن الرواية المسيحية، تسمي المسيح المولود "المخلص"، ولكن ليس "الملك".
وهناك الكثير من المسيحيين، ناهيك طبعا عن اعداء المسيحية، الذين يمرون بهذه النقطة مرور الكرام، او اللئام. ولكن هذه النقطة هي نقطة جوهرية، انقلابية او ثورية في التاريخ البشري. اذ ان الحركة الدينية الالهية التوحيدية، المغايرة للدين او الاديان الوثنية عامة والرومانية خاصة، وهي الحركة التي تنسب الى ابرهيم الخليل او النبي موسى، كانت تضم اليهود والمسيحيين على قدم المساواة. وقد عبرت هذه الحركة عن نفسها من خلال كتابة "الكتاب المقدس" المشترك، اي ما يسمى "التوراة" و"العهد القديم"، والذي شارك في كتابته مئات الحاخامين والكهنة ورجال الدين والمفكرين، على مدى 1500 سنة واكثر. وكانت تنبؤات هذا الكتاب تبشر بمجيء المسيح من سلالة الملك داود. وكان اليهود يؤمنون ان المسيح سيأتي كملك. ولكن المسيح الذي "أتى" وآمن به "المسيحيون"، "أتى" كطفل فقير يولد في مذود بقر. اي ان المسيح الذي آمن به المسيحيون قد اعلن، بولادته ذاتها ومنذ لحظة ولادته، وحتى قبل اشهار رسالته، اصطفافه او انتمائه الى الفقراء والتعساء والبؤساء، وذلك ليس كإله او حاخام او كاهن او ارستقراطي متعاطف معهم، بل كأي انسان بسيط هو واحد منهم وفيهم.
اي: ان المسيح الفقير، الذي اعطاه الانجيل صفة "المخلص"، وضعه الانجيل منذ لحظة ولادته بالذات ضد المجموعة اليهودية، وضد عملاء روما، وضد روما ذاتها، وضد طبقة الاغنياء بكاملها، ومن ثم ضد المجتمع الاستغلالي ـ الاستعماري السائد بأسره.
ـ2ـ صراع الوجود مع اليهود وروما:
وتقول الرواية المسيحية ان ممثل السلطة الرومانية هيرودس لما علم بولادة السيد المسيح في حالة هي غير الحالة التي كان يتوقعها اليهود، "اضطرب هو وكل اورشليم معه وجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب". ولما رأى "ان المجوس قد سخروا به" اي لم يرجعوا اليه ويخبروه بمكان وجود الصبي الذي كان قد أزمع على قتله "غضب جدا وأرسل فقتل كل صبيان بيت لحم وجميع تخومها من ابن سنتين فما دون على حسب الزمان الذي تحققه من المجوس".
وهذا ما يذكرنا بالحصار الروماني لقرطاجة في 146ق.م، فبعد محاصرة المدينة وبدء الهجوم عليها من قبل الجيش الروماني بقيادة سكيبيو "تمكن صدر بعل قائد فرق الخيالة من تنظيم المقاومة بين الجيش والشعب وشن هجمات كاسحة في إتجاه الميناء في محاولة مستحيلة للخروج بالاطفال والنساء إلى البحر، وبعد أن أدركه اليأس وضع سيفه على الأرض وانحنى أمام سكيبيو طالبا لهم الرحمة". ولكن سكيبو لم يستجب له. "إذ ذاك تقول الروايات تقدمت زوجة صدر بعل ورمت بنفسها في النار مع طفليها لكي لا تحوجه استعطاف الرومان المتغطرسين، وأندفعت قرطاجة تقاتل من جديد في آخر معركة وآخر يوم فيما أشرف سكيبيو من موقعه في البرج على عمليات القوات الخاصة لإشعال النار في كل بيت". وظلت قرطاجة تقاتل وتشتعل فيها النيران مدة 17 يوما حتى دكت بالكامل (راجع موسوعة ويكيبيديا).
وبعد مرور 2100 سنة على تدمير قرطاجة واقل من 1950 سنة على ميلاد السيد المسيح وصف المفكر "اللبناني" انطون سعادة الصراع مع اليهود، واستطرادا: الصراع مع "روما" القديمة وكل "روما" بعدها حليفة ستراتيجية لليهود، بأنه "صراع وجود لا صراع حدود". ويضيف سعادة ان الصراع مع من يسميهم "يهود الداخل" هو جزء لا يتجزأ من "صراع الوجود مع اليهود". ونذكر هنا ان الحاكم "الروماني" هيرودس لم يكن روماني القومية، ولم يكن يهوديا عبرانيا، بل كان أدوميا متهودا، اي كان احد كلاب روما من "يهود الداخل" حسب تعبير انطون سعادة. وقد نظم "يهود الداخل" في لبنان مسرحية محاكمة واعدام انطون سعادة في 1949، ولكن هذا لم يلغ افكار انطون سعادة بل اكدها بالملموس. ذلك ان انطون سعادة لم يأت بافكاره من فراغ، بل كان يقرأ التاريخ والانجيل.
ـ3ـ الانتشار المسيحي:
أ ـ الرعاة:
وتحدثنا الرواية المسيحية (انجيل لوقا) انه "كان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البادية يسهرون على رعيتهم في هجعات الليل". وان ملاك الرب ظهر لهم وأنبأهم بولادة السيد المسيح. وأعطاهم الملاك علامة محددة وهي "انكم تجدون طفلا ملفوفا مضجعا في مذود". وذهب الرعاة وسجدوا له. اي بفصيح العبارة ان السيد المسيح هو بالتحديد مسيح الفقراء، وان الفقراء هم ركيزته الاولى.
من هم هؤلاء الرعاة؟
ربما كانوا يهودا عبرانيين، وربما كانوا كنعانيين، وربما كانوا بدوا. فالعبارة قد تفيد الفئات الثلاث. وحتى لو افادت الفئات الثلاث معا، فإنها ايضا تفيد وجود انسجام وتفاهم فيما بينهم؛ كما تفيد انهم كانوا ينتظرون "مجيء" المسيح ـ المخلص، وليس المسيح ـ الملك، ومن ثم كانوا ينتظرون مجيء المسيح الفقير. وهذا ما اكده لهم "ملاك الرب"، فذهبوا وسجدوا له.
وهذه الرواية تؤكد على انتشار المسيحية في محيط بيت لحم وفي البادية القريبة، قبل ومع وبعد ولادة السيد المسيح. والالتباس الوارد في الانجيل حول "قومية" الرعاة يدل ان المسيحية كانت قد بدأت بالانتشار بين مختلف الفئات، بما في ذلك بين اليهود الفقراء (الرعاة، والحرفيين كيوسف النجار، والصيادين كبطرس).
ب ـ المجوس:
كما تحدثنا الرواية المسيحية (انجيل متى) "ولما ولد يسوع في بيت لحم ... اذا مجوس قد اقبلوا من المشرق" كي يسجدوا للمسيح ويقدموا له الهدايا.
فمن هم هؤلاء "المجوس"?
الان، بعد لا سنة او عشر او مائة سنة، بل بعد 2010 سنوات من ميلاد السيد المسيح، لو وجهنا هذا السؤال بشكل اعتباطي، لانهال علينا سيل من الاجوبة على لسان بعض "الاسلاميين!!" "القاعديين" والتكفيريين، وبعض بقايا البعثيين الصداميين، بأن "المجوس" هم الفرس الملاعين، عبدة النار والشياطين، والشيعة الرافضيين، المؤيدين للنصارى "المشركين".
ولكن مثل هذه الاجوبة لا تضيء على اي مسألة اضاءة حقيقية، بل تتكشف فقط عن الحقد الاعمى، او العمى الحاقد، الشوفيني والمذهبي، لاصحابها.
وللاضاءة على هذه المسألة نرى من الضروري ايراد بعض ما تقوله المصادر المسيحية نفسها عن اولئك "المجوس".
في الموقع الالكتروني المسيحي LINGA.ORG يرد ما يلي:
( أ ) "ترد كلمة "مجوس" في العهد القديم في نبوّتي إرميا ودانيال. فمن رؤساء بابل الذين دخلوا أورشليم بعد أن فتحها نبوخذ نصر ملك بابل، وجلسوا في الباب الأوسط (يرد اسم) "نرجل شراصر رئيس المجوس" (إر 39: 3و 13). ويري البعض أن الكلمة الكلدية المستخدمة هنا وهي "رب موجي" معناها "أمير عظيم". وكان الفرس والماديون والبابليون يستخدمون كلمة "مجوس" للدلالة علي الكهنة والحكماء. وكان المفروض أنهم رجال حكماء ماهرون في معرفة الأسرار، تلك المعرفة التي نشأت منذ عصور قديمة في مصر الفرعونية، وانتقلت إلي كلديا وبابل.
وكان المجوس يحسبون بين المنجمين، أي الذين يتنبأون عن الأحداث بقراءة النجوم.
( ب ) المجوس عند اليونانيين:
كانت كلمة "مجوس" عند اليونانيين ترتبط بنظام أجنبي للعرافة وبديانة شعب عدو، قد هزموه، وسرعان ما أصبحت نعتاً لأسوأ أنواع الدجل والخداع. كما تطلق علي "سيمون الساحر" (أع 8: 9)، فكلمة "ساحر" في الموضعين هي نفس كلمة "ماجوس".
(جـ) المجوس في إنجيل متي: يستخدم متي كلمة "مجوس" بمعناها الطيب، حتى إنها تترجم في الإنجليزية إلى "حكماء" (مت 2: 1و 7و 16). ولكن متى لا يمدنا بتفاصيل كثيرة عن أولئك المجوس، إلا أنهم جاؤوا من "المشرق" (2: 1و 2)، وهي عبارة غامضة لا تحدد بلداً معيناً، وهكذا تترك المجال واسعاً للتخمين. فقال بعض الآباء إنهم جاؤوا من جنوبي الجزيرة العربية، وذلك بناء على الهدايا التي قدموها "الذهب واللبان والمرّ"، وكانت تشتهر بها هذه البلاد، و(لكنها) لا تعتبر "مشرقاً" بالنسبة لفلسطين، لذلك قال آخرون إنهم جاؤوا من كلديا أو ميديا أو فارس. ومع أنه لا يمكن الجزم برأي، إلاَّ أن الأرجح أنهم جاؤوا من فارس، حيث كان هذا الاسم يطلق على كهنتهم.
ولا يذكر متى كم كان عدد المجوس الذين جاءوا ليروا الطفل يسوع.
كما لا يذكر أسماءهم.
( د ) أهمية قصة المجوس في إنجيل متى: تلعب زيارة المجوس لبيت لحم دوراً هاماً في إنجيل متى، فمن البداية تعلن حقيقة شخصية الطفل الوليد... كما أن الحوار بين المجوس وهيرودس ورؤساء الكهنة والكتبة، يُعلن أن يسوع كان تحقيقاً لنبوه ميخا عن المسيا.
وبالإضافة إلي إثبات أن يسوع هو المسيا الذي طال انتظاره، فإن قصة المجوس- كجزء من مقدمة إنجيل متى- تقدم عدة مواضيع بارزة تعود للظهور في الأصحاحات التالية. فهي تؤكد أولاً أن يسوع المسيح لم يأت لليهود فقط بل للأمم أيضاً (ممثلين في "المجوس من المشرق"). كما كان سجود هؤلاء الأمم صورة مسبقة للإرسالية العظمي للكرازة بالإنجيل لجميع الامم (مت 28: 19،
وأيضاً 8: 11و 12، 12: 21).
والموضوع الثاني الذي تعلنه هذه القصة، هو هذا الإيمان المذهل الذي أبداه أولئك المجوس، والذي كان ينقض الشعب الذي جاء منه الرب يسوع، فبينما قدم هؤلاء المجوس الغرباء الإكرام والسجود للمسيا المولود فإن هيرودس- ولعله كان بموافقة رؤساء الكهنة أيضاً- دبر مؤامرته لقتل الطفل يسوع (2: 3- 6و 16). وهكذا نجد في فصول أخرى من الإنجيل، الأمم يؤمنون، بينما لم يؤمن غالبية الشعب اليهودي (ارجع إلي 8: 5- 13، 15: 21- 28، 27: 19و 54)."
وفي العدد رقم 350 (كانون الاول 2006) من مجلة "صوت الكرازة بالانجيل" (يوجد موقع الكتروني باسم المجلة)، التي تصدر باللغة العربية في اميركا، مقالة بعنوان "مجوس الميلاد: اول عرب عبدوا المسيح". والمقالة هي بقلم: د. طوني معلوف، وترجمتها الى العربية: د. لميس جرجور معلوف. وجاء في المقالة ما يلي:
"1. كلمة "المجوس"
"استخدمت الكلمة اليونانية magos في البداية للإشارة إلى أفراد سبط ميديّ تولّى المهام الكهنوتية في إمبراطورية مادي وفارس. وكان هؤلاء الكهنة ذوي قدرة على تفسير بعض العلامات والأحلام وتضمّنت ممارساتهم السحر والشعوذة. لكن بالإضافة إلى هذه الاستخدامات السلبية، فقد استخدمت الكلمة أيضاًَ للإشارة إلى "من يمتلك معرفة وحكمة فائقتين." وهكذا عيّن الملك نبوخذنصّر دانيال اليهوديّ رئيساً للمجوس. وبهذا المعنى أيضاً اعتُبِر موسى مجوسياً أيضاً في قصر فرعون. ويشير المؤرخ يوسيفوس إلى يهودي اسمه سمعان، دعي مجوسياً، وكان مشيراً لفيلكس والي اليهودية. وإذا أخذنا الكلمة بمعنى "من يملك معرفة فائقة" فإنه كان بين العرب القدماء كثير من المجوس. وبالحقيقة يعرّف لنا كتاب باروخ (من القرن الثالث ق.م.) "أولاد هاجر" العرب بأنهم "الذين يطلبون الحكمة على الأرض" (باروخ 23:3). فضلاً عن ذلك، توجد في الكتاب المقدس عدة شواهد عن حكمة العرب القدماء التي لم تفُقْها في القديم سوى حكمة سليمان (1ملوك 30:4).
"2. رأي الكنيسة الأولى
"من ناحية ثانية، فإن آباء الكنيسة الأولين اعتبروا العربية منشأً لمجوس الانجيل، وفي ذلك عكسوا على الأغلب تقليد الرسل. فأكليمندس الروماني (96م) يلمّح إلى ذلك في كتاباته. أما يوستنيانوس الشهيد (حوالي 150م) الذي ولد ونشأ في السامرة بفلسطين فهو يشير تسع مرات إلى المجوس الذين أتوا من العربية ليعبدوا المسيح المولود. وبدوره يبني ترتليانوس القرطاجي (حوالي 200 م.) رأيه على تقليد معروف في كل المشرق القديم وهو أول شخص يحدد هوية هؤلاء الزوار على أنهم ملوك أتوا من العربية.
"3. الدعم الجغرافي
"قدِم المجوس من المشرق (متى 1:2، 2، 9) الذي عُرِف في الازمنة الكتابية بالكلمة العبرية قِدِم وهو المكان الذي سكنت فيه الأسباط العربية المتعددة المنحدرة من إبراهيم (تكوين 1:25-6، 12-18). وعندما ولد المسيح كانت تلك المنطقة مرتبطة جغرافياً وسياسياً بابن إبراهيم البكر، أي بإسمعيل. ولا يزال البدو العرب في أيامنا يتحدثون عن توجههم إلى صحراء العربية بأنه تشريق (سير نحو الشرق) بغض النظر عن اتجاه سيرهم. وعلى النقيض من ذلك فإن القادمين إلى أرض فلسطين من فارس أو بابل أو أشور كانوا يدخلون فلسطين من الشمال؛ ولذلك كانت بلادهم تُسمّى في الكتاب باستمرار، "أرض الشمال" (إشعياء 31:14). وهكذا فَهِم القراء اليهود تماماً من متى البشير أن المجوس أتوا من الصحراء العربية الواقعة شرقيّ نهر الأردن.
"4. طبيعة الهدايا
"تمثل الهدايا التي قدّمها المجوس للمسيح من ذهب ولبان ومرّ المصدر الرئيسي للقوة الاقتصادية للعربية قديماً. ومن بين تلك الهدايا، كان اللبان والمر ينتجان بشكل شبه حصري في جنوب الجزيرة العربية. وبحسب شهادة المؤرخين اليونان والرومان، فإن هذه المواد التجارية جعلت مملكة سبأ القديمة في جنوب العربية أغنى أمة في العالم القديم. ويخبرنا المؤرخ هيرودتس بأنّ عرب الشمال كانوا يرسلون للإمبراطور الفارسيّ هدية سنوية قدرها ثلاثون طناً من اللبان عربون صداقتهم للفرس. وقبيل مجيء المسيح سيطر العرب الأنباط على تجارة القوافل التي كانت تضمّ الهدايا التي قدمها المجوس للمسيح."
(انتهى الاستشهاد بمقالة د. طوني معلوف).
نستخلص مما تقدم:
1 ـ ان المجوس هو تعبير واسع الاستخدام وكان يعني: ا ـ الاشخاص الاذكياء الذين يستخدمون ذكاءهم بالمعنى السلبي لممارسة التنجيم والشعوذة والسحر (ولا تزال كلمة "سحر Magic " بالانجليزية، وشبهها بكل لغات العالم الحية، تعود بجذرها اللغوي الى كلمة "مجوس"). ب ـ الاشخاص الاذكياء الذين يستخدمون ذكاءهم بالاتجاه الايجابي لاكتساب المعرفة بواسطة الاختلاط والمطالعة، ولا سيما في الكتب القديمة والنادرة والاجنبية، ويخدمون السلطة والناس بعلمهم ومعرفتهم وآرائهم الاكثر سدادا، وكانوا يسمون "الحكماء". وهم يساوون اليوم من يسمون: العلماء، والخبراء، والمثقفين، والتكنوقراط والمستشارين الخ.
2 ـ ان المكان (او الامكنة) الذي جاء منه المجوس يشمل مروحة واسعة: من جنوب شبه الجزيرة العربية حتى بلاد فارس، مرورا بالعراق العربي وبابل واشور وكلديا. وبالمقارنة بين التحديد الدقيق للانجيل عن مكان مجيء الرعاة "كان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البادية"، من الخطأ الاعتقاد ان الانجيل المقدس ابقى مكان مجيء المجوس ضمن دائرة الالتباس "سهوا!!" او "خطأ!!" او "جهلا!!". فالاناجيل الاربعة هي منسوبة الى انجيليين محددين كنسيا، ولكنها قبل اعتمادها ونشرها قرئت ومحصت تماما من قبل آباء الكنيسة الاولين، اي انها مرت على مطبخ (او اكثر من مطبخ) للرقابة الكنسية المشددة، قبل نشرها على الملأ. وانا شخصيا اميل الى الاعتقاد القريب من الجزم، بأن ترك مكان مجيء المجوس ملتبسا، كان لاحد سببين او الاثنين معا: 1ـ عدم الثقة الكاملة باستمرارية العلاقة الكنسية ببعض المجوس المعنيين. 2 ـ عدم كشف المجوس العلى علاقة مع الكنيسة، وحمايتهم من ردود الفعل الانتقامية.
3 ـ ان "المجوس" كانوا اما عربا من شبه الجزيرة العربية، واما كلدانيين او بابليين، واما فرسا؛ واما من هؤلاء جميعا.
ج ـ فرار العائلة المقدسة الى مصر واقامتها فيها الى حين وفاة هيرودس:
جاء في الكتاب المقدس ان الملاك ظهر ليوسف النجار وطلب منه ان يهرب بالطفل يسوع الى مصر.
ولكن الكتاب المقدس لا يعطي اية تفاصيل عن هذه الرحلة الطويلة والشاقة والمحفوفة بالمخاطر من بيت لحم في فلسطين الى داخل مصر، وهي مسافة تقدر بمئات الكيلومترات في ارض صحراوية وساحلية حارة وجافة وصعبة.
الا ان المصادر المسيحية، ولا سيما المصرية منها، لم تهمل البحث في هذه الرحلة، من جهة، لاضفاء القدسية على الانتشار المسيحي في مصر، حتى في المناطق التي ربما لم تصل اليها العائلة المقدسة، ومن جهة ثانية، للتبرير القداسي للانتشار المسيحي ونشاط المؤسسة الكنسية ذاتها بالزعم ـ الصحيح او ربما غير الصحيح في بعض الحالات ـ بأن "يسوع مر من هنا!".
وفي دراسة بعنوان "رحلة العائلة المقدسة الى ارض مصر" (يمكن العثور عليها في الاثير الالكتروني) من اعداد Ava Tony ومن اصدار الكنيسة القبطية الارثوذكسية المصرية، جاء فيها ان العائلة المقدسة سافرت الى مصر، فامتطت السيدة العذراء مريم حمارا والطفل يسوع على ذراعها ويوسف يقود الحمار. وكانت برفقتهم ايضا عجوز من اقربائهم اسمها سالومي او سالوما كانت تسير خلف الحمار. وتقول دراسةAva Tony ان يوسف لم يكن يعلم "إلى اين يمضى؟ لم يكن يعلم كيف سيعيش فى أرض غريبة! كيف سيأكل هو ومن معه؟ أين يحتمى من حر الصيف وبرد الشتاء؟".
وتضيف الدراسة "هناك ثلاث طرق للقوافل للقادم إلى مصر"، "ولكن المصادر الكنسية والتقليد الكنسي... تقودنا إلى إعتقاد أكيد أن العائلة المقدسة سلكت طريقاً خاصا يختلف عن الطرق الثلاثة المعروفة فى ذلك الزمان" والسبب حسب رأي الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات اللاهوتية الذي استشهدت به الدراسة: يبدو أن هيرودس علم بعد فوات الأوان بهرب العائلة المقدسة إلى مصر، فأرسل عشرة جواسيس من قبله إلى مصر، وأمرهم بأن يفتشوا بتدقيق عن الصبي، ويأتوا به إليه حيا ليقتله بيديه". "وكانت العائلة المقدسة تغير مكان إقامتها فى مصر شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، ومات هيرودس قبل أن يتمكن من بلوغ مأربه الخبيث". "وقد دخلت العائلة المقدسة مصر عن طريق صحراء سيناء من الناحية الشمالية من جهة الفرما (بين مدينتى العريش وبورسعيد). وبعد أن عبرت العائلة المقدسة مدينة العريش تابعت السير فى طريق يسمى الفلوسيات". "ثم إنتقلت العائلة المقدسة بعد ذلك من الفرما في طريق إلى تل بسطا والتي كانت قديماً مدينة بسطا." و"دخلت العائلة المقدسة مدينة بسطا وهى الآن تسمى تل بسطا بالقرب من الزقازيق بمحافظة الشرقية، وتبعد عن القاهرة حوالى ١٠٠ كيلومتر من الشمال الشرقى". "ومدينة بسطا هى من المدن المصرية القديمة إسمها المصرى القديم "بير باستيت"Per Bastit أى مدينة الآلهة، واسمها القبطى" بيوباست". وتذكر الدراسة ان العائلة المقدسة طافت في مناطق عديدة في مصر، وهي تعدد وتصف تلك المناطق.
وكان للجوء العائلة المقدسة الى مصر واقامتها فيها الى حين وفاة هيرودوس، دور كبير في انتشار الديانة المسيحية في مصر بعد ظهورها.
وتقدم الدراسة وصفا مفصلا لارتحال العائلة المقدسة في مختلف المناطق المصرية بما فيها القاهرة، والكنائس والاديرة والمزارات الدينية التي اقيمت فيما بعد، في تلك الاماكن.
ولكن الدراسة تجعل العائلة المقدسة ترتحل بشكل سريع الى كل الارجاء المصرية، وهذا يعني شيئين: الاول، التنقل الدائم حتى لا تقع العائلة المقدسة في يد الرومان او اليهود وجواسيسهم؛ والثاني، ان الدراسة موضوعة بعد زمن طويل من فرار العائلة المقدسة واقامتها في مصر؛ وقد ارادت المراجع الكنسية وواضعو الدراسة "تنقيل" العائلة المقدسة في كافة الارجاء المصرية لارضاء مختلف الابرشيات، ومطابقة خريطة ترحل العائلة المقدسة (بمفعول رجعي) مع خريطة انتشار المسيحية، لاضفاء الطابع المقدس على كل اماكن الانتشار المسيحي.
وتفيدنا الدراسة ان العائلة المقدسة تنقلت، على العموم، في اجواء "صديقة" ومؤيدة للمسيح ومؤمنة به؛ ولكن ذلك لم يكن دائما اذ كان يوجد اعداء ايضا، سواء كانوا من مؤيدي السلطة الرومانية او يهودا او مجرد وثنيين. وفيما يلي قصة استشهاد احد المؤمنين بالمسيح الذي ابدى استعداده لاستضافة العائلة المقدسة، كما ترويها الدراسة: "فلما عاد ودامون إلى أرمنت سمع عابدو الأوثان بوصوله، فجاؤوا إليه مسرعين وقالوا: هل الكلام الذى يقولونه عنك صحيح؟
فقال لهم: نعم أنا ذهبت إلى السيد المسيح وباركني وقال لي: أنا آتي وأحل في بيتك مع والدتي إلى الأبد.
فصرخ كلهم بصوت واحد وأشهروا سيوفهم عليه ونال إكليل الشهادة فى مثل هذا اليوم."
تبليغ العائلة المقدسة بموت هيرودوس:
وتكمل الدراسة:
"ويذكر المؤرخون: أن رجلاً من سبط يهوذا إسمه يوسى وهو من أقارب مريم العذراء ويوسف النجار، جاء من بلاد الشام، وأمكنه بعد تعب كثير أن يصل إلى العائلة المقدسة في جبل قسقام . وقد أتى ليبلغهم بما فعل هيرودس الملك، وكيف قتل جميع الأطفال في بيت لحم وإذ علم بهروب الطفل الإلهي وأمه، أرسل عشرة جنود للبحث عن الطفل وأسرته والقبض عليهم أحياء ليقتلهم بيديه واحداً واحداً.
فلما سمعت العذراء مريم هذا الحديث، إنزعجت وأسرعت فإحتضنت الطفل الإلهي وصعدت به إلى سطح الغرفة العليا التي أعدها القديس يوسف النجار له ولأمه للإختباء فيها، فطمأنها الرب يسوع وقال لها: "لا تخافي يا أمي ولا تبكي، فإن بكاءك يحزنني. إن الوقت لم يحن بعد ليسلـَّم إبن الإنسان، وسوف لا يعرف الجند مكاننا". وتطلع إلى القديس يوسف النجار وإلى سالومي وقال لهما:" لا تخافا". ثم وجه الخطاب إلى يوسى: "لقد تعبت من أجلنا كثيراً وتحملت مشاق السفر أميالاً عدة، إن أجرك كبير".
ثم قال له:" والآن أسترح أنت، وهنا يمكنك أن ترقد". فأطاع يوسى وأخذ حجراً ووضعه تحت رأسه، وأغمض عينيه وما هى إلا فترة قصيرة حتى أسلم الروح".
"فلما مات هيرودس إذا بملاك الرب قد تراءى ليوسف فى الحلم بمصر قائلاً: "قم خذ الصبى وامه، واذهب إلى ارض إسرائيل، فإنه قد مات الذين يطلبون نفس الصبي، فقام وأخذ الصبي وامه وجاء إلى أرض إسرائيل" (أنجيل القديس متى: 2: 19 ـ 21).
XXX
واخيرا، ليسمح لنا القارئ في ان نعرض استنتاجاتنا من رواية ميلاد السيد المسيح وتداعياته، مع الاشارة مسبقا اننا اذا اختلفنا بالرأي مع بعض رجال الدين او الاوساط الدينية، فإننا لا نتعرض وليس لدينا اية نية في التعرض للمفاهيم الدينية اللاهوتية بحد ذاتها، بل اننا لا نخرج عن "الشق البشري" من المفاهيم الدينية المسيحية ذاتها، التي تقر بالطبيعتين (الالهية والبشرية) للسيد المسيح. ونحن نقدم كل الاحترام للمفاهيم "الالهية"، وبالمقابل نستخدم حقنا البشري في مقاربة فهم الجوانب البشرية وحسب في رواية ميلاد السيد المسيح وتداعياته. وفيما يلي بعض ملاحظاتنا "البشرية" بامتياز:
ـ1ـ ان ميلاد السيد المسيح ليس حادثا فجائيا مفصولا عن الزمان والمكان (كصاعقة رعدية في صيف في صحراء)؛ بل هو ـ في طبيعته، وفي مكانه وزمانه ـ حلقة في سلسلة الصراع المستميت بين شعوب الشرق (والعالم)، من جهة، وبين الاستعمار العنصري "الغربي" والاستغلال الرأسمالي "اليهودي"، من جهة ثانية. ولا عجب في ان هذا الصراع ـ كان ولا يزال ـ يجد اصداءه في السموات، وفي ما وراء الغيب، طالما "ان الله خلق الانسان على صورته ومثاله"، كما يقول الدينيون، وطالما "ان وجود الله هو ضرورة انسانية"، كما يقول الفلسفيون.
ـ2ـ كانت حركة الوعي والتنظيم الديني "الالهي التوحيدي"، وهي ما يمكن تسميتها مجازا "الحركة الابراهيمية"، تسير وتتطور بشكل موحد في الظاهر على الاقل، حتى لحظة ميلاد السيد المسيح. ولكن الواقع ان تلك الحركة لم تكن موحدة، وانه كان يوجد في داخلها تيارات ومفاهيم مختلفة، واهمها اثنان: التيار الانعزالي ـ العنصري ـ الاستغلالي ـ الممالئ للسلطة الرومانية والطبقات الغنية ـ والساعي الى فرض سلطته المطلقة على "الاغيار"، وهو التيار "اليهودي"؛ والتيار الاممي ـ الانساني ـ المعادي للسلطة الرومانية وللطبقات الغنية ـ المدافع عن الفقراء والمظلومين والعبيد ـ والمناضل لاجل تحريرهم، وهو التيار الذي سمي فيما بعد "المسيحي". واذا كان التيار "المسيحي" لم يكن قد حمل اسما مميزا (ما قبل المسيح) فهذا لا يعني ابدا عدم وجوده. واذا كان من مصلحة "اليهود" والغرب الرأسمالي ـ الاستعماري المسمم باليهودية طمس هذه النقطة، فإنه للاسف الشديد ان العلماء والمؤرخين الشرقيين، الدينيين وغير الدينيين، المسيحيين والمسلمين، لم يعطوا الى الان الاهتمام الكافي لهذه النقطة التاريخية المفصلية. وهو ما تستغله اليهودية الانتهازية للظهور بمظهر الدين التوحيدي الاول، الاساسي والاصلي، وان المسيحية، ومن بعدها الاسلام، ما هما سوى "انشقاق" و"خروج" عن اليهودية.
والواقع ان "المسيحية"، كحركة وعي وتنظيم دينية وجدت قبل المسيح بزمن. وعلى العلماء والمؤرخين وخصوصا رجال الدين المخلصين تدقيق هذا الزمن وتحديده. والرواية المسيحية لميلاد السيد المسيح تؤكد هذه النقطة. اذ ان التيار "اليهودي" كان ينتظر "علامات" اخرى لمجيء المسيح، اي انه كان ينتظر مجيء "مسيح آخر" مختلف عن المسيح الذي "حقا جاء". اما انصار التيار "المسيحي" فصدقوا فورا (اي كانوا مستعدين مسبقا لتصديق) مجيء المسيح الفقير، الملاحق من قبل الرومان وعملائهم ويهودهم، وسجدوا له واحتضنوه وهربوه وآووه واخفوه من وجه اعدائه. اي ان "المسيحية" لم تولد بولادة المسيح، بل ان ميلاد السيد المسيح جاء ليكشف تماما ويكرس نهائيا وجود "اليهودية" و"المسيحية" والتناقض التناحري التام فيما بينهما الى "يوم الحساب".
ـ3ـ جغرافية انتشار "المسيحية" قبل وبعد ميلاد السيد المسيح:
تحدثنا الرواية المسيحية عن "رعاة يبيتون في البادية" وعن "مجوس اقبلوا من المشرق" وعن فرار العائلة المقدسة الى مصر واختبائها فيها. وبتقييم منطقي ـ جغرافي هذا يعني: اولا ـ المحيط الفلسطيني وسوريا وشرقي الاردن والنقب وغزة وسيناء، والعمق المصري، وشبه الجزيرة العربية وبابل وكلديا وربما فارس. وتفيدنا الرواية المسيحية ان "الرعاة" جاؤوا مباشرة للسجود للسيد المسيح، وهذا يعني ان "العلاقة المسبقة والثقة المسبقة" بهم كانت وثيقة، وهم المحيط الاول والاساس الاول للانتشار المسيحي. وفيما بعد سيقول المسيح لبطرس (الفلسطيني) "انت الصخرة، وعلى الصخرة ابني كنيستي". و"الكنيسة" لغويا تعني "الجامع" او "الجماعة" او "الامة". وبعد ذلك سيكرس الاسلام اولوية فلسطين برواية الاسراء والمعراج ذات الطابع الاعجوبي السماوي.
اما "المجوس" الذين اقبلوا من "المشرق" فلم تكن العلاقة معهم بعد بهذا الثبات، وهم جاؤوا وسألوا اولا اليهود وهيرودس المتهود عن ميلاد المسيح، ثم سخروا منه ولم يعودوا اليه ولم يسلموا المسيح.
اما اهل القبطية (التي اصبحت تسمى لاحقا: مصر) فقد كانوا موضع ثقة تامة لملاك الرب وللمسيحيين الاوائل وارسلت اليهم العائلة المقدسة لتختبئ لديهم. وهذا يدل على وجود تنظيم "مسيحي" واسع الانتشار وصلب العقيدة في مصر قبل ميلاد السيد المسيح.
من هذه الجغرافية انتشرت المسيحية بتردد باتجاه الشرق (ما بعد شبه الجزيرة العربية والعراق)، ولكنها اتجهت للانتشار بقوة باتجاه الشمال والغرب: كيليكيا واسيا الصغرى وبلاد البلقان، وجزر وسواحل اوروبا الغربية.
ـ4ـ المسيحية والامة العربية:
ان العلاقات بين الشعوب والامم، واقامة الدول والامبراطوريات الموحدة كانت تتم بصورة رئيسية بواسطة الغزوات والحروب وسيطرة امة على امة. وهذا ينطبق ايضا على الشعوب القديمة التي تألفت منها لاحقا الامة العربية، اي شعوب سوريا وفلسطين ولبنان وما بين النهرين ووادي النيل وشمال افريقيا. ونظرا لخصبها وغناها الاقتصادي والحضاري، تعرضت منطقة فلسطين وسوريا ولبنان مرارا للغزوات الآتية من العراق ومصر. وحتى العشيرة اليهودية، التي امتهنت في مصر الفرعونية مهنة النخاسين ونظـّار العبيد، وبعد ان فرت من وجه المصريين الذين ضاقوا ذرعا بها، تطلعت في وقت ما الى ابادة اهل فلسطين والاستيلاء على مدنهم واراضيهم. وقبل ميلاد السيد المسيح كانت مصر وسوريا وفلسطين وشرقي الاردن قد سقطت في قبضة روما. وجاء ميلاد السيد المسيح، وتحول المسيحية الى ظاهرة دينية واسعة الانتشار في المنطقة كلها، ليرسي اسس نمط جديد من العلاقة بين شعوب المنطقة بمعزل عن سلطة روما وعملائها، وضدها وضدهم. والعلامة المميزة لهذه العلاقة الجديدة هو كونها علاقة اخوية دينية. ولكن من المؤكد انه تحت العلامة الدينية، كانت هذه العلاقة تتشعب في النواحي الثقافية العامة، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، خصوصا وانها تتم في ظروف مغايرة للسلطة القائمة ومعادية لها. وهذا ما يفسر، على سبيل المثال لا الحصر، بداية انتشار استخدام اللغة الارامية، اي اللغة التي كان يتكلم بها السيد المسيح، والتي كتبت بها بعض الاناجيل، وكانت تتلى بها الصلوات المسيحية. وبكلمات اخرى، فإن ميلاد السيد المسيح وبداية الانتشار الواسع للمسيحية، دشنا الاسس الاولى للعلاقات الاخوية، غير السلطوية، بين شعوب سوريا ولبنان وفلسطين ووادي النيل وشبه الجزيرة العربية وما بين النهرين، التي تشكلت منها لاحقا الامة العربية. واذا كان كلامنا يعجب او لا يعجب هذا او ذاك، فإنه لولا "هذه" المسيحية لما كان من وجود لـ"هذه" الامة العربية، ولكانت الامة العربية اتخذت شكل وجود مختلف تماما عما صارت اليه. وحتى ايامنا الراهنة فإن المسيحية، بالرغم من كل ما طرأ عليها من تشوهات، ذات مصدر "غربي"، فإنها ـ بانفتاحها الحضاري وقيمها الانسانية ـ لا تزال تمثل الجهاز العصبي للجسم العربي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كوريا الشمالية: العقدة العصيّة في المنشار الاميركي
- إشكاليات المسألة الاميركية امام محكمة التاريخ
- اوروبا تتجه نحو التمرد
- الازمة الرأسمالية العامة لاميركا والزلزال -الافيوني الالكتر ...
- الامبريالية والشعب الاميركيان
- التبدلات الديموغرافية ومضاعفاتها المرتقبة في اميركا
- الامبريالية والعنف
- الهيمنة العالمية لاميركا: بداية النهاية..
- التقسيم الامبريالي الرأسمالي لاوروبا
- تقرير معهد SIPRI يؤشر الى مرحلة تفكك الامبريالية
- بداية انحسار موجة العداء للشيوعية في المانيا
- بعد 20 سنة: الشيوعيون القدامى يطالبون بتجديد الدعوى حول احرا ...
- لبنان الوطني المقاوم حجر الاساس لنهضة عربية حقيقية
- الثلاثة الاقمار اللبنانيون الكبار في سماء الشرق
- إزالة المسيحية الشرقية: هدف اكبر للامبريالية الغربية
- -الحلقة الاضعف-
- قبل استخراج النفط والغاز: ضرورة تحرير المياه الاقليمية اللبن ...
- قرار مجلس الامن -الاميركي- ضد الشعب الايراني
- -الحرب السرية- القادمة لاميركا واسرائيل
- عشية الموجة الثانية من تسونامي الازمة: اوروبا لا تدار بالدول ...


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقع اسرائيلي حيوي ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جورج حداد - ميلاد السيد المسيح: المنعطف التاريخي نحو تشكيل الامة العربية