أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سالم رزقي - ڴنْبُور















المزيد.....

ڴنْبُور


سالم رزقي

الحوار المتمدن-العدد: 3232 - 2010 / 12 / 31 - 09:38
المحور: الادب والفن
    


سأموت هنا ..وليرسموا على ظلي البارد أشياءهم الكريهة وشتائمهم الباهتة.. ليأتواإذن!ولنقف وجها لوجه مجردين من أي سلاح ..وبدون أحذية ولا ملابس حتى ..حفاة وعراة.. لنتصارع حتى الموت.. حتى يصرخ فينا الدم صرخة العدم .سيد أنا وسأظل سيد الليل ..الليل مملكتي، أغنيتي الأثيرة ،به وفيه أكون ملء نفسي حتى ذاك الجنون الذي جعلني أن أكون ڴنبور .
كل ما أعرفه عني إسمي لا غير، ووجوه كل أولاد القحبة الذين كانوا يطؤونني ليلا ونهارا ولا يملون، رغم صغري ، رغم بكائي وتوسلي لهم أحيانا، خاصة لذلك النتن،صاحب الشارب المعقوف الذي كان يقوم الليلة كلها فوقي،وأنا أترنح وأتنفس بصعوبة،وهو يدخل شيأه ،وأنا أتمزق من شدة الألم، وهو لايبالي ولا يشبع أبدا .يوم طعنته لم يستطع الصراخ،ابتلع صوته من شدة المباغتة والألم و أبقى فمه مفتوحا عن آخره ،وظلت عيناه جاحظتان حتى خرَّساقطا.أرجعت السكين مكانها تحت حزامي الجلدي السميك بخفة وأنا أتساءل عن غرزها في مؤخرته لكني،لم أستحسن الفكرة،فأخرجت شفرةالحلاقة المدسوسة بعناية في كم قميصي وبترت شيأه بترا.. "تْفُو على باباه" .."تفو "عليهم كلهم .عوض أن يعلموني الصنعة جعلوني أظل طول الليل مكوزا أو منبطحا حسب أهوائهم وتلك الندوب المتقيحة بمخرجي لا تكاد تستكين آلامها حتى تعاودني من جديد وتشتد.ذلك اليوم عرفت مكمن قوتي،وقررت ألا أرحم أحدا..السكين و شفرة الحلاقة قوة من لاحول ولاقوة له في عالم هؤلاء،عالم الخديعة والنفاق و"الحڴرة" ..يعتقدون أنهم وحدهم من لهم الحق في الكرامة أما أنا فلست إلا "جَلْدَة "..مجرد جربوع أمرد منبوذ،رمت به دورة الأيام بين أيديهم ليفعلوا به مايشاؤون وأنى يشاؤون وكيف يشاؤون .. وهم لايشاؤون مني إلا شيئا واحدا ."تفو "عليهم وعليَّ..وعلى القحبة بنت القحبة..من وضعتني ورمتني لهذه الأنياب الجائعة. لماذا لم تخنقني يوم ولدتني ؟ تستحق القتل لأنها لم تفعل ذلك.الموت راحة المعذبين،يجعل كل الآلام ترحل إلى الأبد،لكني لا أعرفها ولا أعلم لها سبيلا.أقسمت أن أقتلهم كلهم حين عدت إلى هذه المدينة التي هجرتها منذ سنوات.هذا ما أشاء فعله بكل تلذذ وبفرح لا نظير له.مرة لعقت الدم !دم ذلك الملعون،وهو يتقاطر من السكين،كان مالحا وساخنا.لم أكن أعلم أن طعم الدم مالح،إلا حين تذوقته يومه بلذة وبشغف متعاظم،فتعاظمت رغبتي في قتل كل أولئك الأوغاد. ليتني أنفرد بهم كما انفردت ،ليلة البارحة،بالملعون " الفرناتشي"1 في" دار اعْمل"2 تلك الليلة كان وحيدا متكئا على كومة الفيتور قرب" الفرنة"3 يحتسي خمره الرخيص .رأيت الخوف يسطع من عينيه لما برزت أمامه مشهرا سكيني البتار.وبطعنة قوية ومحكمة تحول إلى مجرد "بْطَانة"نتنة .قلت لك سأموت هنا لن أغادر المقابر ولا غارسكة الحديد وليكن مايكون!من أراد أن يرحل فليرحل! من رحل؟ ومن سيرحل ؟ لا أحد .ڴنبور عاد وبقي وحيدا كما هو في عمقه وصمته،يبتلع حزنه ويجتر آلامه في قاع الحفرة كما يسميها، يدخن ويسكر محدثا الأشباح التي تبدو له متراقصة أمام عينيه كذاك القرد الذي تتصاعد منه ألسنة اللهب وهو يقف مواجها له،وغالبا ما يتهيأله في عزلته مثلما يحدث هذه الليلة .لقد حدثه طويلا عن نفسه وعن أفعاله و هو ينصت في صمت وهدوء، هدوء النار المشتعلة في جسده ،كانت ليلة فريدة وممتعة لڴنبور فذكره لما فعله جعله يستشعر قوته ويشحذ همته استعدادا للانقضاض على أشد أعدائه صلابة : ڴودْزيلّا كما يلقبه سكان الحي . شخص قدم للحي ذات صباح :وجه صارم،عينان زرقاوتان يعلوهما حاجبان كثيفا الشعر، عضلات مفتولة وقامة فارعة الطول .هيأة آدمية توحي بالرهبة،تميزها القوة الواضحة والاعتداد بالنفس والنظرات الحادة الساكنة ،والمتوجسة أحيانا .لا يثق بأحد ولا يصاحب أحدا .كل وقته يقضيه مشتغلا بتلبية طلبات الشحن والتفريغ أونائما في معصرة الزيتون،والتي نادرا ما يغادرها .لكن، حين يحل الليل لابدله من إحضار ڴنبور، فالليل لا يحلو إلا بڴنبور .وڴنبور هدَّه التعب :طول النهار يحمل الصلصال من "الزوبيا"4 إلى الأماكن المخصصة لصنع الآجور والزليج، يرتب أواني الفخار داخل الفرنة أويخرجها ، مجرد" مَتْعَلَّمْ" لا غير،بالكاد يحصل على مايسد به رمقه وما يشتري به قنينةكحول الحريق ليخلطها بالماء حتى يستطيع بلعها دون كثير معاناة ويبعد عنه،كما يعتقد،تلك الأصوات الغريبة التي تظل تلاحقه لفترات متقطعة ليلا ،ونهارا أحيانا ،فتزعجه .لكنه مع مرور الأيام تعودها وأصبح يبادلها الحديث ويرد عليها . أما القرد الملتهب فغالبا ما يقفز من أحد جيوبه ويقف أمامه في صمت مطبق ،ثم يشرع في التوهج والتضخم وألسنة النار تتصاعد منه بهدوء. لايتحدث أبدا ..ينصت مكشرا عن أنيابه أو عابسا متجهما كما هو ڴنبور بقسمات وجهه الجاف المنحوتة بحدة الرعب وظلال القهر.
أعرف يا ڴنبور لوفتحت صفحات ليلك للحكي لجرفنا التيه إلى أدغال كثيرة ترصف أعماقك،لنطل على أشياء وتفاصيل لا ترغب أنت فيها الآن .لأنك لا تريد أن تنبش ما كان غامضا..قاسيا،كثير الثقوب والألم ،عصيا على التحمل،يمانع النزول في شباك الكلام ويرابط في منطقة لغزمظلمة،ماحطم جذور روحك وجعلك تتدلى في الرفض الكلي للاندماج في عالم أضاع مفاتيح إنسانيتك بعيدا عن العلاقات الحميمة حيث يضيء الدفء . أعرف أنك وعاء الصمت الذي يقف على حافة البركان وأن الحياة كفت عن ندائك لأنك كنت دوما خارجها .بحثت عنها ولم تجدها إلا غريبة عنك مغدورة ومطعونة في مؤخرتك.لم تلمس المحبة ولا حتى الشفقة يوما .لم تر نفسك إلا مكسورا معنفا.. فريسة محتقرة، لذلك قررت أن تدخل لعبة الشطب بالقتل.والكلام في كل هذا هو خيانة،لأنه خارج النص.. لأنه عبور إلى معاني أخرى تبحث عن جسور لنقاط أخرى لا تكاد تُرى، كمالا تُرى أبدا دموعك التي نزلت في مدافن روحك والتي تعرف وحدك سيرة أسرارها،كما تعرف وحدك هذه الحفرة في غار سكة الحديدخلف المقابر وخارج السور المحيط بالمدينة العتيقة.أمضيت أياما وأنت تحفر بكل ما تملك من قوة العنف التي تولدت فيك وحولت الصوت الذي يلاحقك إلى جسد ملتهب يقف وينظر إليك دائما دون كلام . وحدك تمضي في الكلام عاريا ..فارغا بلارغبة أو هدف . لقد تجردت من كل معنى، تجرعت معنى الموت وكنت ميتا تقريبا تتشرب وقتا مرا وصدئا يتشقق في الظلام. وقت يعشق العدم ويتجدد بالشطب. أصبحت تائها في إرادتك لاتملك إلا جثمانا وريحا داخلك تزفح.. تسكنها وجوه لابد أن تصير صورا في الشطب. ولابد إذن من شطب ڴودزيلا مهما كان الثمن ..هي لغة صراخ جواني تنادي بأعماق ڴنبور يستشعرها الآن في نظرات القرد الملتهب ويلمسها في تلك الرعشة التي تهز كيانه كلما تقدم بخطواته الثابتة باتجاه معصرة الزيتون بعد أن ابتلع أقراصا من " القرقوبي " فهي تملك قوة مفعول سحري تجعله يقاوم دون هوادة. فمنذ قدومه وجد كل كائنات الهامش في مملكة الليل تتداولها فهي عملة نادرة و مفتاح للتسجيل في مساحات الغياب الصارخ بالعماء الكلي وعمق الغضب الأسود بعيدا عن مراقبة العقل الذي يأمر ويجعل الشعور ممكنا.فبها يُلغى كل ما تبقى من إحساس إنساني طائش أو عالق بالصدر يزفر أناته، مثلما يزفر الآن ڴنبور أنفاسه وهو يمسك بمقبض الشاقور ويطرق بشكل متواصل وجنوني باب معصرة الزيتون.بدأ ڴودزيلا يسب ويلعن بصوت عال ويصرخ في الطارق ويسأل عمن يكون، وڴنبور يتهيج أكثر ويطرق الباب بقوة أكثر. استسلم ڴودزيلا للأمر وفتح الباب بسرعة.. واستفاق الحي على صرخة مدوية،فبمجرد ظهوره سحبه ڴنبور من تلابيب ملابسه وهوى بالشاقور،بملء قوته الكلية ،على رأسه. ترنح ڴودزيلا قليلا ثم سقط مضرجا في دمائه. لم يعد أدراجه ڭنبور ،لم يعد! ظل متسمرا في مكانه ساهما في شرود مثبتا نظراته على الجثة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ثم اقترب منها وشرع يهوي عليها بالشاقوربشكل متتابع،محدثا بهاجراحا غائرة وثقوبا بارزة،ونقط دم تتطاير في وجهه و على باب المعصرة.بدأ بعض ممن تجمهر يطالبه بالتوقف،أحدهم رماه بحجر فتوقف،استدارببطء ملحوظ وهو يسمع صوت زفاح5 يحتد ويشعر بأذنه اليسرى تستطيل وتنتفخ وتصير بحجم كبيرجدا ..غشاوة تغطي عينيه ، ظلال تتماوج ووجوه تتراقص في غير تناسق ولا انسجام، وصوت الزفاح يعلو ويرعد والوجوه المتراقصة تتداخل ،تبتعد وتقترب وتصير وجها واحدا: وجه ڴودزيلا.يرفع ڴنبور الشاقور عاليا،يزفح ..ويزفح في حركات تأهب للهجوم فيشرع المتجمهرون في الهرولة كما اتفق في أي اتجاه . لم يعد ڴنبور يميز إلا ظلال قامات تتناسخ وتتوالد وتنحل في دوائر من نور شاحب ،تروح وتجيء ،تغيب وكأنها تلقى في عمق سحيق وتعود للظهور بقوة لتتحول أثناء دورانها إلى أشباح هلامية متعددة الألوان وبأشكال مرعبة تتجه نحوه،وكلما تقدمت تضخم حجمها فيتهيج أكثرويزفح بكل قوةكيانه،يتراجع قليلا إلى الوراء وينطلق كالطود إلى الأمام ليصطدم بكل قوته بالجدار المقابل.وكوحش وقع في فخ ينخرط فيما يشبه البكاء الممزوج بصراخ غريب .يحاول النهوض دون جدوى. يتلوى على الأرض.يتمالك مستندا على يديه لكن رأسه المشجوج لايعتدل .تارة يميل يمينا وأخرى شمالا كأنه عاد دون رقبة.
لم يتمكن أبدا من الوقوف،والذين فروا وظلوا على مقربة يراقبون المشهدعادوا بخطى حذرة، تتقدمهم سيارة شرطة توقفت أمامه ،ونور الأضواء الأمامية مسلطة عليه مباشرة .نزل رجا ل الشرطة أغلبهم بزي مدني. المسؤول منخرط في حديث عبر الهاتف ويأمر معاونيه بضرورة حجز الشاقور أولا.وماهي إلا لحظات حتى بدأ ڴنبور يهمهم بكلمات خافتة (سأموت ...لنقف ..حفاة ...لنتصارع ...الدم ...الليل أنا ..أنا ...) ويئن من شدة وثاق الحبل الذي يلف جزء جسده العلوي كليا ويشل حركة يديه، وصوت الساعفة ممزوجا بصافرة القطار الآتي من بعيد يتناهيا لسمعه ولا يتراءى لناظريه إلا أطياف صور تشيع كبريق النجوم وتختفي .. تغرق في بطن الظلمة ،ظلمة أعماقه المنسوجة بحبال القهر ،العصي على التجاوز ، والإقصاء إلى مدارات السحق، والعنف الخفي الأخرس والوجود المطوح في هامش اللامعنى..

سالم رزقي
11/2010
**********************
هوامش

1 الفرناتشي : إسم الشخص المكلف بالفران التقليدي .
2 دار اعمل : المكان المخصص لصناعة الأواني الخزفية بكل متطلبات سلسلة الإنتاج . أي المصنع
التقليدي
3 الفرنة : الفران التقليدي الخاص بإعداد الأواني الخزفية.
4 الزوبيا : حفرة دائرية بعمق 60 سم وبشعاع متر تقريبا تملأ بالماء ويوضع فيها الصلصال حيث
يترك لعدة أيام كخطوة أولية من أجل إعداده كمادة صالحة للصناعة الخزفية .
5 الزفاح : صوت القرد



#سالم_رزقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- احتراق لوحة بالأ سود وبالرمادي ( قصة قصيرة)
- قا مات وخفا فيش


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سالم رزقي - ڴنْبُور