أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - مسرحيات جليل القيسي : الانتظار + الحلم + اليأس = الموت او الضياع















المزيد.....



مسرحيات جليل القيسي : الانتظار + الحلم + اليأس = الموت او الضياع


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 3232 - 2010 / 12 / 31 - 01:02
المحور: الادب والفن
    


مسرحيات جليل القيسي :

الانتظار + الحلم + اليأس = الموت او الضياع


صباح هرمز الشاني


على الرغم من ان نص مسرحية (في عودة الابناء الذين لن يعودوا الى الوطن) يأتي ضمن اعمال جليل القيسي المبكرة. حيث نشر عام 1971 في مجلة السينما والمسرح ولم يسبقه سوى نص مسرحي واحد وهو (هي حرب طروادة اخرى) المنشورة في مجلة الاداب البيروتية عام 1969 الا انه يعد الخطوة الاولى لنجاح نصوصه اللاحقة. ولعل ارتفاع عدد المسرحيات التي كتبها على مدى ربع قرن اعتبارا من نهاية الستينيات الى بداية التسعينيات للقرن الماضي الى خمس وعشرين مسرحية اي بمعدل مسرحية واحدة لكل عام دليل على ان بداياته كانت اساسا لبروزه كواحد من المع كتاب المسرح العراقي والعربي الى جانب : محي الدين زنكنه ، عادل كاظم ، يوسف العاني ، الفريد فرج، الطيب صديقي ،يوسف ادريس ،وسعدالله ونوس .
قد يتبادر الى الذهن وللوهلة الاولى ان هذا النص يسعى الى التصدي للحرب التي خاضتها امريكا ضد الشعب الفيتنامي بهدف ابراز هزيمتها عبر انزال جنودها الجرحى على ارض المطار وهم في حالة يرثى لها. واهلهم بانتظار اللقاء بهم بعد سبع سنوات من الاسر.
بينما في الحقيقة ان هذا النص لاعلاقة له بالحرب بقدر ماله علاقة بتصوير المشاعر الانسانية النبيلة للام وهي بانتظار اعز شخص لها في المطار بعد غياب طويل وعاش احلك الظروف ولاتتعدى علاقة الحرب به الا في حدود استخدامها كوسيلة مكان حيث الانتظار لأشاعة مايمكن اشاعته من عنصر الملل.
ولأبثاث مثل هذه المشاعر لايلجأ المؤلف الى تقديم اللعب المسرحية المتوفرة والمتاحة لديه كلها دفعة واحدة وانما يستخدم طريقة: ((step by step لتفجير الحدث وتثويره على نار هادئة باتجاه تحفيز عنصر المفارقة الهادف الى الضحك والبكاء في آن لاثارة الفجوة القائمة بينهما . ولفت الانتباه الى مغزاها الكامن بالاجابة عن سبب عدم وجود (جان) وهو ابن روبرت وزوجته هيلينا ضمن الوجبة الاخيرة لاسرى الجنود الامريكيين مما يعني انه قد لقي حتفه وذلك من خلال توظيف العناصر المسرحية الدرامية كالقلق والانتظار والتوتر والتشويق والمزاح.
مباشرة ودون مقدمات يطرح المؤلف من البداية وبجمل برقية وموحية الخلاف القائم بين الزوج وزوجته (روبرت هيلينا) وهو خلاف ناجم عن معرفة الزوج بالحقيقة ، حقيقة استشهاد نجله في الحرب وعدم معرفة زوجته بها وعلى ضوء هاتين الحقيقتين ينطلق المؤلف في رسم حوار شخصيتيه المبني على السخرية والتهكم من جانب الزوج والجدية من جانب الزوجة.
يستهله هذا الخلاف باللجوء الى ابراز توتر الام في اول جملة تطلقها للكشف عن مدى توقها اللقاء بابنها او كما لو انها تريد اللقاء به في حضور والده وليس بغيابه لتتضاعف فرحة اللقاء او لأنه بهذه الصيغة سيكون أجمل.
هيلينا : روبرت اين ذهبت الهي انه يسير مثل المذهول تماما .
انه بدأ يشرد هذه الايام ويتركني.
يرد عليها ببرود وهو يتامل ساحة المطار : انا هنا ياهيلين..
لماذا تصرخين مثل الباعة المفلسين...
وجملة (الباعة المفلسين)، وان لم تنتبه اليها هيلينا والمقصود منها كونها تعيش لحظات نادرة فمعناها واضح هو عدم جدوى انتظارها وبالتالي مجيئها الى المطار ويعزز عدم انتباه الام الى هذه الجملة تأكيدها عن سبب تركه لها وقلقها على حضورهما بشكل متأخر وتأخر وصول الطائرة واعتقاد الاب بعكس ماتذهب اليه بانهما قد جاءا مبكرين، ممايدل على عدم اهتمامه بهذا الموضوع.
هيلينا: (بتافف) اوه.. انت هنا.. لماذا تتركني؟
روبرت: كنت افكر باننا جئنا مبكرين..
هيلينا: بالعكس ياعزيزي .. اعتقد تاخرنا (تقترب منه وتلتصق به) لا اعرف سببا لهذا التاخير السخيف.. (بضجر)، بعد كل هذا الضجر الطويل لاشي يظهر لا في السماء ولا في الارض ..
(باستفسار) ألم ينزلوا بعد؟
وهذا التوتر يتكرر ثانية قبل ان يشرف النص على نهايته بصفحة واحدة عبر ارتياب الأم ومباغتتها للكل بعدم قراءة اسم جان وأجابة المرأة العجوز عليها بخوف شديد ولا اسم حفيدي والفتاة بخوف اشد ولا اسم خطيبي.
والعنصر الثاني الموظف في هذا النص هو عنصر الملل من خلال انتظار الطائرة وجاء توظيفه مرتين وفي كليهما تمهيداً لتبليغ الزوج زوجته بحقيقة الامر وذلك عبر تداخل الجد باللاجد وتوظيف احدى قصائد الشاعر الامريكي لورنس فيرلنكيتي في المرة الاولى بهدف تقريب صورة الجندي الامريكي القادم من الحرب اكثر الى زوجته والمرة الثانية بغية ان يوضح لها ولكن من خلال توظيف مسرحية (في انتظار غودو) لبيكيت ان ابنها لاياتي كغودو.
المرة الاولى:
روبرت: (يردد برفق هذه الابيات):

اظنني نسيت شيئاً
في هذه القصة
ربما ثمة خطأ مطبعي
هي هذه الورقة
ارفعوا القبعات..
المرة الثانية :
المرأة العجوز : وهل هو مع الوجبة الاخيرة ؟
هيلينا :نعم ..نعم..اوه بالتاكيد
روبرت: (مازحا) انه مع وجبة غودو
المرآة العجوز: غودو! وهل تسمي الوجبة الاخيرة من الاسرى بوجبة غودو.. .
روبرت :(ضاحكا) :وهل جاء غودو حقا؟

ان هذا النص من بدايته الى نهايته ينحو منحى التراجيكوميدي ،بهدف اثارة عنصر المفارقة ولكن اكثر المشاهد اثارة لهذا العنصر هو مشهد الزوج والزوجة في الحوار الدائر بينهما حول الوسام.
هيلينا :(بسذاجة) وهل سينال جان وساما؟!
روبرت: لقد نال وسامه في عنقه
هيلينا: وهل ثمة اوسمة توضع في العنق؟
روبرت: (بسخرية كاوية) واخرى توضع في القلب ،وفي البطن..
هيلينا: اهي من ذهب ؟
روبرت: كلا من الرصاص المصهور.. وعليها صورة رئيس الجمهورية.
هيلينا: اوه جان العزيز .. ترى ماشكل وسامه ؟
روبرت: انه من نوع غريب..
هيلينا: اي نوع قل لي
روبرت: (بحيرة) من نوع الانتظار الطويل .. والابدي.
هيلينا: (بسذاجة) لا افهم..
والعنصر الثالث الذي يوظفه المؤلف بهذا الاتجاه هو عنصر الحلم ، من خلال استعادة الام ذكرياتها مع ابنها جان في طفولته وشبابه اذ سيخبرها بعد اللقاء به عن كل شئ وسوف تسمع نكاته وتتمتع بمزاحه ولاتنسى ان تتذكر نكتته الاولى وهو في الرابعة من عمره والبرد الذي اصاب ظهره.
ويتكرر هذا الحلم مثل العنصرين الاخرين ولكنه لن يدوم طويلاً اذ سرعان ما ينقلب الى وهم ويعيد النساء الثلاث الى وضعهن الطبيعي.
هيلينا: (بفرح) روبرت.. الطائرة دخلت اجواء المدينة الهي انها مسأله دقائق.
روبرت: (يقدم الفتاة لزوجته) انظري ياهيلينا هذه الجميلة تنتظر خطيبها..
هيلينا: اوه رائع..رائع.. انه مع وجبة جان اذن.
الفتاة: آمل.. لااعرف.
المراة العجوز: الدقائق الاخيرة في الانتظار تطول ، تطول ،وكأنها ساعات.
الفتاة: لاننا نفكر فيها بعمق.
هيلينا: الم اقل لك ياروبرت ؟
المراة العجوز: سأرى بيتر اخيراً ..
هيلينا: انظر ياروبرت كل واحد هنا سعيد ويفرح الآن.
روبرت: ان هذه الطائرة ياهيلينا فيها احزان كثيرة للبعض.
قد يبدو الاب رجلا قاسياً وهو يحاور زوجته بسخرية ولكنه كذلك رغما عنه لانه اكثر واقعية منها ولربما لانه يعرف الحقيقة وتكتمل في دواخله عذابات قد تكون اشد من عذاباتها الا انه يتصرف ازاءها بهدوء وحكمة وهاهو في حواره مع الفتاة يفصح عن هذه العذابات.
روبرت: عيناك تفضيان بالحب والتوتر والانتظار
الفتاة: الذي يسمعك يعتقد دونما اي شك انك تغازلني..
روبرت: انا شيخ ايتها الحلوة.. شيخ معذب (يربت على ظهرها) ان رؤية وجه جميل وسعيد مثل وجهك يخفف الكثير من الاحزان.
الفتاة : للمناسبة، الاتنتظر احداً ؟
روبرت : انتظر من مثلا
الفتاة : في سنك.. اوه .. ابنك مثلا.. او حفيدك..
روبرت :انني لا انتظر احداً
الفتاة : لاحتما تنتظر .. لايمكن
روبرت: (مازحا) صدقيني جئت لاتفرج على هذه الهزيمة..
الفتاة: هل حقا لاتنتظر احداُ ؟
روبرت: كنت انتظر.. لم اعد بعد الان.
الفتاة: هل مات؟
روبرت: اتبلعته مدينة حي سانة.
واذا كان المؤلف من البداية قد اعلن على لسان الاب عبر العناصر الموظفة في النص عن وفاة ابنه سواء في حواراته مع زوجته او مع الشخصيات الأخرى فمن غير الضروري اعادة صياغة عبارات تمنح نفس المعنى عندما يكلم مع نفسه في حوار داخلي (مونولوج) وهو يقول : منذ سنين استلمت خبر موته.
ذلك ان هذه المعلومة ليست جديدة على المتلقي كما انها لاتضيف شيئا جديداُ على الحدث.
اقرب جنس ادبي الى مسرحية ذات الفصل الواحد هو القصة القصيرة لاشتراكهما في بناء الحدث من وجهتين لنفس المنظور تتمثل الوجهة الاولى بعدم تكراره اكثر من مرة والثانية باستخدامه في ادنى حد من التفاصيل والحوارات الا ان ما ينأيهما عن بعضهما ويحدد نهج كل منهما هو الاختلاف في طريقة بناء هذا الحدث لاعتماد بنائه في القصة القصيرة على السرد ومسرحية ذات الفصل الواحد على الفعل الدرامي هذه الاشكالية القائمة بينهما لتبعية مسرحية ذات الفصل الواحد الى القصة القصيرة تجعل السرد في معظم مسرحيات من هذا النوع وليس مسرحيات جليل القيسي فقط عنصرا دخيلا عليها وبالتالي ازاحة الفعل الدرامي منها.
ولعل مثل هذه الاشكالية في مسرحيات جليل القيسي تظهر اكثر في معالجتها الدرامية اذ انها غالبا ماتنتهي بالوعظ والحكمة او بابيات من قصيدة كما في هذه المسرحية التي انتهت ببيت من احدى القصائد الا ان هذا المثلب وغيرها من المثالب التي سناتي عليها لاحقا لاتقلل من شان مسرحيات جليل القيسي لان تجليات مسرحياته والمكانة التي تحتلها في المسرحين العراقي والعربي لم تستمدها من اجتماع العناصر الدرامية حسب وانما نتيجة تعزيزها بمفردات مبتكرة اخرى اضفت عليها جمالاً والقا فريدين كالمكان واللغة الشعرية التي يسكبها في حواراته وعوالمه الوهمية والمتخيلة والاهتمام بالمشهد واغناء الشخصيات الرئيسية بالثانوية الى جانب مفردات وعناصر اخرى...
ومسرحية (غداً يجب ان ارحل) كمعظم مسرحيات جليل القيسي يدور الحدث فيها في مكان ما من امكنة الانتظار كالمطار في (الابناء الذين لن يعودوا) والصحراء في (زفير الصحراء) والدار في (خريف مبكر) و منطقة حافلة المصلحة في هذه المسرحية التي تبدو لي من انضج مسرحياته رغم انها من مسرحياته المبكرة حيث نشرت في مجلة الاديب المعاصر عام 1975 وذلك لانفتاح النص فيها وقابلية تأويله وتفسيره واختلاف صنعتها عن بقية مسرحياته اذ هي المسرحية الوحيدة التي تتخذ من عنصر التوتر النفسي لحالات الجو والطقس وقوعا تحت تاثيرات مسرحيات تشيكوف نهجا لتقنيتها ربطا بالثيمة وهي كمسرحيات تشيكوف يلفها الغموض ومن الصعب فهمها في القراءة الاولى لعدم وجود خيط مشترك يشد الشخصيات الخمس لبعضها، وهي تتناوب الانتظار في منطقة حافلة المصلحة اذ في النهاية يعرف المتلقي وعبر الجملة التي تطلقها المراة بان الرجل الذي كان بانتظار الباص رقم(6) هو زوجها.
المرأة: (تبكي بحرقة.... بصوت مخنوق) ! الهي واخيرا أتحت بعد هذه المدة الطويلة ان ارى زوجي ..دعني احبه مثلما احبك يا الهي حتى لحظاتي الاخيرة.
تبدا المسرحية بوقوف امرأة في حوالي الستين من عمرها في منطقة حافلة المصلحة لوحدها وهي ترتدي معطفا أسود وتحمل حقيبة سوداء وتضع نظارات سوداء وعلى رأسها منديل اسود وبعد قليل ياتي صبي يرتجف وينفخ باطن يديه بلهاث ويقول لها: هل مر الباص رقم (4) ثم يجري حوارا قصيرا بينهما ويعقبه رجل اخر يطرح عليها نفس السؤال وهكذا ايضا بالنسبة للشابة.
كما اشرت ان العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة لاتتضح الى ان تعلنها المرأة في النهاية وبهذا الاعلان تنكشف كل خيوط المسرحية ولعبتها الحاذقة فالمراة وهي تعرف مسبقا ان الرجل الواقف في منطقة حافلة المصلحة زوجها عن طريق مراقبته في هذا المكان فانها وكمن تعيش في حلم وذلك بالربط بين زوجها والطفل الذي حرمت منه تجعل من الصبي الذي ينتظر الحافلة ابنها هذا الابن الذي اخذه منها والده الواقف الان بجانبها في انتظار الحافلة وهو في الشهر العاشر من عمره.
وياتي توظيف هذا التصور ، تصور المراة للصبي في كونه ابنها عبر عنصرين وهما الصمت الذي يعتمد على الاشارة والكلام الذي يعتمد على اللغة وباستخدام مفردة (خالي).
المراة : وهل جئت الى المدينة لشراء ثلاث نوبات في هذا البرد؟
الصبي : جئت لازور خالي.
المراة : (تبتسم له بحنان) شاطر .. هل تذهب الى المدرسة.
الصبي: (يهز رأسه) في الصف الخامس الابتدائي .
المرأة : (تتأمله بحنان اكثر) ..عال .. اسمع.. ان امك يجب الا تسمح لك بالنزول الى المدينة لأشياء بسيطة.
الصبي : انها لاتوافق على النزول ابداً ... انني احب خالي ..احب ان ازوره.
المرأة: حسنا.. اعتقد من الاحسن ان تاخذ واحدة من سيارات الصاروخ من امام زق السماكة هيا اذهب البرد شديد.
الصبي: (وهو يرتجف) ساذهب.. (يتبادل نظرات طويلة وقلقة مع المرأة) ...... سأذهب ...(يذهب)...
ولو اعدنا قراءة الحوارات الدائرة بين الصبي والمراة لتبين لنا ان مفردة (خالي) ترد مرتين على لسان الصبي وتبتسم المراة له بحنان مرة واحدة وتتامله كذلك بحنان مرة واحدة وبالاضافة الى ذلك فانه اي الصبي قبل ان يغادر منطقة الحافلة يبادلها نظرات طويلة وقلقة..
ان ورود مفردة (خالي) على لسان الصبي مرتين لها اكثر من مدلول لامن وجهة نظر الصبي وانما من وجهة نظر المراة التي تنظر الى الصبي باعتباره ابنها فالخال هو اقرب الى الأم منه الى الاب وهو بذلك يحبها هي الاخرى ايضا وعندما تعرف انه في الخامس الابتدائي تتذكر ابنها الذي لاتدري بأنه الان يدرس في الاتحاد السوفيتي لنيل شهادة الدكتوراه وتتصوره بعمر هذا الصبي وقد مر بنفس المرحلة وتتعجب من ان امه قد بعثته في هذا البرد لشراء اشياء بسيطة وربما طرحت على نفسها هذا السؤال وهي تتامله بحنان لو كانت مكانها ترى. هل كانت تتصرف مثلها؟!
اما لو اعدنا قراءة الحوارات الدائرة بين المراة والرجل والشابة والرجل لاصطدمنا عشرين مرة بالتمام والكمال في مفردة (البرد).
وعلاقة الشاب والشابة بالحدث، هي نفس علاقة الصبي بالحدث من حيث وجهة نظر المرأة التي أعتبرت الصبي أبنها، فأنها ترى في الشابة نفسها هي، عندما كانت في هذا السن، وفي الشاب زوجها ومسوغي في هذا التأويل، يأتي من خلال ربط تأخر الشاب عن موعد اللقاء بالشابة، موازيا لطلاق هذه المرأة من زوجها، سيما والشابة ذهبت مع الشاب، ولم تردعه على تأخره، أو تلغي هذا اللقاء، مثلها ضحية نزواته كأبن وحيد ومدلل، لذا فأن الحوارات الدائرة بين الشاب والشابة، هي الحوارات الدائرة بين المرأة والرجل في شبابهما.
الشاب: آه جداً آسف يا عزيزتي.. ان هذا البرد يعمي الواحد من الغضب (يمسك من يدها) سعيد لأنني وجدتك.. أعتذر.. يا الهي أي برد لعين.. هل كنت تنتظرين من مدة ؟
الشابة: فكرت أن أخذ الباص واذهب.. كان يجب ان تأتي في الموعد.
الشاب: أعتذر لنذهب.
الشابة: وهل تعتقد ان الجو يساعد على
الشاب: جدا.. جدا.. تحركي
الشابة: لكن ..
الشاب: (بغضب) ماذا مرة اخرى... مادخل الجو .. لنذهب .. هيا .. تحركي ...
ليس المقصود من البرد الحالة الناجمة من التغيرات الجوية في المناخ والطقس وإنما يأتي هنا كرمز ودلالة موحية الى العلاقة الزوجية المبتورة بين الرجل والمرأة، ولكن رغم مرور ثلاثين سنة على انقطاع هذه العلاقة بينهما، فأنهما يحبان بعضهما، بدليل أنه حاول إرجاعها، ولكن محاولته هذه فشلت، لأن اهلها رفضوا مواجهته، واقسم الا يراها، أو يدعها ان ترى ابنها، أو ابنه، لا فرق، وهجر هذه المدينة مع أخته الوحيدة الى بغداد.
وها هي زوجته الان تقف الى جانبه، ملاطفة اياه، وتتأمله بأمعان، وتدعوه الى الحفاظ والحرص على صحته من البرد بتدثره بشكل جيد، ذلك لأنه ، أي ان هذا البرد، الدال الى العلاقة المبتورة بينهما، قد منعه أن يفتح فمه، ويحرك يديه، متحولاً الى انسان أخرس وشبه مشلول، ويلجأ المؤلف في حوارات الرجل والمرأة، اضافة عنصر آخر من عناصر التوتر النفسي الى جانب البرد، الا وهو المطر، بأعتباره رمزا للخير، والوسيلة الوحيدة لأذابة البرد، اي اعادة العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة، وادخال الابن، ابنهما، كعنصر ثالث، للجمع بينهما، بعد ان ترد المرأة على زوجها بلطف تعقيبا على قوله: المطر.. المطر.. وحده فقط بوسعه ان يذيب هذا البرد الثلجي الذي يلفنا، (هل هذه من كلمات ابنك؟)
وفحوى المسرحية موجز بهذه العبارة، ذلك ان الرجل يأبى ان يدخل ابنهما كطرف لأعادة علاقتهما على سابق عهدها، ويؤاثر عليه المطر الذي لا يهطل، او غودو الذي لا يأتي بالاجابة عليها.... لا.. لا.. البرد عندنا كما تعرفين لا يقتله سوى المطر ...
وهذه المسرحية كسابقتها، تتسم معالجتها الدرامية بالقتامة والسوداوية، مثل شخصيتها الرئيسية، وهي بمعطفها وحقيبتها ونظارتها ومنديلها.... وليس فيها من بصيص أمل، سوى السماء الداكنة السوداء التي تلقيان اليها المرأة والشابة نظرة سريعة.. علها.. تمطر..
وأدناه الحوارات المقرونة بـ مفردة (البرد):
• المرأة: وهل جئت من التسعين الى المدينة لشراء ثلاث نوبات في هذا البرد؟
• المرأة : حسنا .. اعتقد من الاحسن أن تأخذ واحدة من سيارات الصاروخ من أمام زق السماكة.. هيا.. اذهب.. البرد شديد.
• الرجل (بغضب): من ساعات وهذا البرد يدق عظامي مثل الهاون
• الرجل: برد وبش .. وبش .. وحشي..
• الرجل: انظر ياسيدتي ماذا يعمل بنا هذا البرد السكين؟
• الرجل: كنت من شدة البرد أحرف عليها بغضب جمل هائج
• الشابة: أي رد هذا؟
• الشابة: أوه ايها العم وماذا بوسع الشباب ان يعمل امام هذا البرد؟
• الشابة: ياليت. لكنه برد لعين.
• الرجل: يحتاج الواحد الى اثارة اعصاب، الى غضب، ليسكن وجع هذا البرد الويش..
• الرجل:ربما .. ليث المطر يجئ.. بسرعة ليخفف من وهج هذا البرد الوحشي السيبيري..
• الشابة: آه ايها العم. تقول نصف السيبيري، اعتقد لايوجد فرق كبير بين برد مدينتنا وبرد سيبيريا
• الرجل: كلا أبني يدرس الجيولوجيا في الاتحاد السوفيتي ويشتكي من البرد كثيرا..
• الشاب: ان هذا البرد يعمي الواحد من الغب
• المرأة: آه .. شاب ويشتكي من البرد
• الرجل: يكتب لي ما ان تمس موجة البرد الأذن حتى تطرش
• الرجل: تأملي أي برد هناك
• الرجل: المطر وحده فقط بوسعه ان يذيب هذا البرد الثلجي.
• الرجل: لديه رسائلي، ثم قليلا من الفودكا الذي يقول عنه انه وحده يؤدب البرد.
• الرجل: ... اما اذا كنت تأملين ان يخف هذا البرد فبالعكس يصبح اكثر وحشية وسعارا..
خرجت بعثة علمية مصرية للبحث عن النفط في احدى المناطق الصحراوية.. وأثر زوبعة رملية قوية، ضل الطيار طريقه، وأضطر أن يهبط بعد أن نفذ وقود الطائرة في مكان ما من الصحراء.. وعبثاً حاولت فرقة الانقاذ معرفة مكان البعثة التي مات طاقمها بعد أيام صعبة من المعاناة والعذاب والعطش والجوع.
قرأ المؤلف هذا الخبر في مجلة الف باء، ومنها استلهم مسرحيته هذه الموسومة (زفير الصحراء) المنشورة في مجلة الاقلام عام 1977، والممثلة من قبل فرقة المسرح الفني الحديث على مسرح بغداد عام 1978، وتتكون من ثلاث شخصيات هي:
1- عماد الأمباني: مهندس جيولوجي في الخامسة والثلاثين، يصفه المؤلف، انه شاب وسيم وهادئ، ويعاني بصمت.
2- محمد السعدني: طيار شاب في الثلاثين، يصفه هو الآخر، في كونه شابا وسيما وحيويا وجاداً ونشطا.
3- سعيد مجدي: شاب صحفي.
بحكم وقوع الحدث في الصحراء، ينزع المؤلف الى توظيف المفردات الموجودة في الصحراء، كالزوبعة الرملية، وغير الموجودة، وما هو بحاجة اليها شخصيات المسرحية، كالماء، والطائرة، والحلم، وقد جاء توظيف الماء وما يمثله في المعنى كالعطش، بحدود خمس وعشرين مرة، والزوبعة الرملية تسع مرات، والطائرة إحدى عشرة مرة، والحلم تسع مرات، مقرونة كل مفردة بمصادرها كالماء في البركة، والطائرة بهديرها، والزوبعة بصوتها، والحلم بالزوجة والمدينة والاطفال والماء والطعام والطائرة ...
وتوظف هذه المفردات احيانا مع مصادرها فرادى، وأحيانا اخرى تتداخل مع بعضها الاخر، الا ان مفردة الحلم، تكاد أن تصبح العامل المشترك بينهما، وهي تقريبا موجودة وحاضرة في المفرات الثلاث، والمسرحية ضمن هذا الاطار، ما هي الا مجموعة أحلام وكوابيس وسط صحراء، لا منفذ للخروج منها الا عن طريق الطائرة التي تبحث عن طاقم البعثة الذي ينتظرها، ولا تأتي، شأنه شأن (جان) ابن روبرت وهيلينا في (الابناء الذين لن يعودوا) وشأن حافلة المصلحة في (غداً يجب ان ارحل).
ولعل قساوة جوع، الشخصيات الثلاث، جعل أحلامها أن لا تتوقف عند هذا الحد، وانما تمتد الى التفكير بـ (ماجلان) الذي تاه في يوم ما مثلها، وعندما جاع بحارته أكلوا جلود السفينة، بعد أن أتوا على جميع فئران السفينة، ومن ثم لتتوسع اكثر بعد شعورها بالعطش، لتصل الى السحالي، لأن وجودها قد يعني انهم على مقربة من قرية ، أو واحة، أو بادية.
ويدفع المؤلف هذه المفردات عن طريق شخصيتيه عماد وسعيد من الحوارات الاولى للمسرحية الى سطح الحدث على هذا النحو: الماء اولا، والرياح ثانيا والحلم ثالثا، والطائرة رابعا، وبنصيب ثلاثة احلام لـ عماد، وخمسة لـ سعيد، وحلما واحدا لـ محمد.
جاء الحلم الاول لعماد، بفعل قوة الرياح المسمومة التي تزيد حاجته لقطرات من الماء، وتجعله يحلم بها، وفي هذا الحلم يرى بركة فيها ماء نظيف، فيهرول نحوها، ولكنه ما ان يصل اليها، حتى يجد أسداً يعب منها: تسمرت في مكاني.. آه عندما كان الاسد يرفع رأسه كان خيط من الماء النظيف يتساقط من زاوية فمه.
وحلمه الثاني يأتي نتيجة الزوبعة ايضا، الا انه في هذه المرة يرى عشرات البدو والجمال والنساء، ثم واحة ساحرة: البدو يؤشرون لي ان أقترب منهم.. وهرول البعض منهم صوبي وحملوني الى الابار .. كنت رغم الامي، اردد خلاص ياسعيد، خلاص يا محمد أنقذنا أخيرا.. سنرجع الى البيت.
وبفعل العطش ايضا، يصرخ في الحلم الثالث بممرضة لأنها منعته من شرب الماء، وتحط طائرة في الصحراء، ثم تأخذهم وتقلع، وتسقط بعد قليل في مكان ما، ويجرون له عملية في الفخذ، واخرى في البطن: آه والغريب ياسعيد زوجتي كانت تتحول الى ممرضة وتؤشر لي بأصبعها وتقول لالا ماء.. مستحيل بعد العملية ماء... يارب، وأنا اصرخ (صمت) ماذا كنت تعمل؟
وبحكم عمل سعيد الصحافي الاقرب الى الادب والفن والثقافة عامة، فأن أحلامه تختلف عن احلام عماد، في كونها اكثر شاعرية من احلامه، اذ لمجرد سماعه صوت الطائرة، ينقلب الى هبوطها، وبالتالي الى تبادل العناق والقبلات مع أفراد طاقمها، وعندمايصل الى قناعة بأن هذا الحلم ما كان الا أكذوبة من أكاذيب الصحراء، يردد هذه الابيات من الشعر للشاعر الانكليزي ماكديارميد:
المرأة العاشقة ضوء
انها تشع على كل عظمة من عظامه
تتلوى كالأفعى وتتعرج كحبل الوريد
وتتوهج بسرعة ثم تختفي..
وفي سعي من المؤلف لتعزيزوتقوية معنويات عماد المنهارة، وهو يتحدث عن عدم السيطرة على الموت، يعمد ان يضعه سعيدا، في حلم جميل، لأعرابي ملثم، يدخل مع جمله، وينزل الاعرابي خرجا فيه حليب وعسل وخبز، ثم ينطلقون على ظهر الجمل الى قرى يسمعون فيها الى خوار الابقار ونباح الكلاب.
وفي الحلم الثالث يرى الاف الناس في الحدائق يشربون ويتغازلون ويجد نفسه في البيت يستنسخ مقالاته اليومية ويلعب مع سوسن وزوجته تتلصص بين حين وآخر لتتأكد فيما اذا انتهى من الكتابة، وهو يشم رائحة الاكل، ويرى زوجته في منامتها البيضاء، وكأنها فراشة كبيرة. وفي الحلم الرابع يكلم ابنته سوسن، ويتجول في حي الحسين، ويتمشى في الدقي، وفي الحلم الخامس، كالحلم الاول، يسمع صوت هدير الطائرة، ويحلف على انه كذلك، ويحتضن عماد، ويدور حول نفسه، ويلوح بيده، ومثل الاهبل يصيح: من كل الجهات.. من كل الجهات.. نعم اسمع بوضوح.. نعم نحن البعثة العلمية التي جاءت لتنقب عن النفط.. نعم أنا الصحفي سعيد مجدي (يسمع صوت سقوط ماء) الله لماذا ستسكبون الماء.. أقتصدوا بالماء.. نحن نأتي حالا.. حالا.. (الى عماد) يا صبر أيوب .. انهض بسرعة..
اما حلم محمد الأقرب الى الهلوسة فيأتي نتيجة تحطيمه جسديا، بعد رجوعه من بحثه الدؤوب في الصحراء عن الاتجاهات، وتخيله لسماع عواء الذئاب وصهيل الاحصنة، وثغاء الخرفان، وخوار الابقار،وطلبه من سعيد ان يسمعه كلمات حلوة، فيرى في حلمه آبارا كثيرة، واعرابيا وسيما يشبه عمر الشريف، واعرابية جميلة، وأطفالا كانوا يلوحون له بأيديهم يركضون والهواء ينفخ دشداشتهم: وأنا أتلوى من العطش، نمت يا يا سعيد، الاطفال اقتربوا وقطروا ماء في فمي، والاعرابية غسلت وجهي.
وعندما تصل الشخصيات الثلاث الى قناعة تامة، بأن لامفر لها في النجاة من قبضة الصحراء، تتحول احلامها الى هلوسة وجنون، ثم يموت الواحد تلو الآخر، متحدية الصحراء والموت، ومقترنة تحديها هذا بالوظائف التي تمارسها، فمحمد يموت كعسكري بطل، وعماد معتزا بشهادة الدكتوراه في اختصاصه، وسعيد في كونه صاحب قلم.
محمد: بوسعي ان أدير المعركة من جديد (يسقط ويعود فينهض) على قدميك حتى اللحظات الاخيرة.. مت كعسكري بطل... أتحدى هذه الصحراء الكلبة.
عماد: أنا عندي دكتوراه في اختصاصي وأعرف كيف اسمي الاشياء..
سعيد: ما فائدة الانسان الذي ليس لديه ما يخسر.. أنا قلم..
ان اليأس يلف أعطاف المسرحية، ويعتمل دواخل الشخصيات، ذلك ان المؤلف من البداية وضعها في مواجهة الموت المحقق، على الرغم من إدعاء عماد بأن والده قدعلمه الثقة بنفسه، وترك محمد زميليه وراح يبحث ويستعمل كل ما لدى الطيار الجيد من حس ومعرفة بالاتجاهات، وسعيد الصحافي يلقي القصائد على عماد ليرفع من معنوياته، ولعل إطلاق سعيد لعبارة: هل سنموت هنا؟ هي تمهيد وتوكيد لما يعنيه، والبداية الحقيقية لموتهم، هذا الموت يأخذ طابع الموت البطيء، ويمر بمحطات عديدة اذ تدنو أوانه كلما تقدمنا بصفحة في المسرحية، وهنا تكمن متعتها وتماسك بناء نسيجها الفني، في تكوين عناصرها، وبالتالي تجسيد الفعل الدرامي لها، هذا الفعل الغائب من معظم مسرحاته والحاضر في هذه المسرحية حصرا...
لان مسرحيات جليل القيسي، تتسم بالواقعية وتطرح هموم ومعاناة المواطن العراقي وعلاقته بالمجتمع، فأنها قد تترك إنطباعا لدى المتلقي بجنوحها نحو الفوتوغرافية في تصوير هذا الواقع ان لم يذهب به الظن اكثر في أنها تعاني من التفكك وعدم التلاحم بين وحداتها الثلاث.
لا أخفي القاريء سراً، اذا قلت ان هذا المتلقي ما كان الا أنا، اذ تركت مسرحية (شفاه حزينة) هذا الانطباع، بعد انتهائي من قراءتها الاولى، ولكن في القراءة الثانية، اكتشفت انها بالعكس ليست مسرحية سهلة، لا بل يلفها قدراً من الغموض، شأن مسرحية (غداً يجب ان ارحل) لتعامل المؤلف معها بلغة الرموز، سيما في وحداتها الثلاث، تحديدا في المقدمة: (الزوج يحتسي العرق) والوسط في الحوار الدائر بين الزوج والزوجة حول ضياع (طفل جيرانهما)، وعمليات (التزوير) التي اكتشفها الزوج في دائرته دائرة التقاعد، والنهاية (بأقتحام الشاب خلوة الزوجين)، اذ لم أجد الخيط المشترك بين هذه الوحدات، وتبين لي فيما بعد وجو علاقة وشيجة بينها وبين عدم إنجابهما.
لقد راقتني هذه المسرحية، وأحببتها كثيرا، لسبب قد لا يتوقعه القارئ، وهو أن شخصية المؤلف واضحة فيها بكل تفاصيلها... بطبيعتها وهدوئها وكلامها المعسول وأسلوب مغازلتها وطريقة رشفتها للعرق بعذوبة، ومضغها للطعام بهدوء، وحتى ارسالها للقبل، واذا كان هذا هو السبب الاول في اعجابي بها وحبي لها، فأن السبب الثاني يكمن في الطقس الاسري الجميل الذي استطاع ان يرسمه، بالجمع بين الزوج والزوجة في جو إحتفالي مترع بقناني العرق والكؤوس ومواعين الزلاطة.
ان هذه المسرحية كثيرة الشبه بمسرحيته الاخرى الموسومة (فراشات ملونة)، وان كان كل منهما يعالج مسألة تختلف عن الاخرى.
اذ شخصيتيه في كلا المسرحيتين في حالة انتظار، ففي (فراشات ملونة) ينتظر الزوج والزوجة قدوم أبنتهما من البصرة، وفي هذه المسرحية، رغم بلوغهما الاربعين، يحلمان بأنجاب طفل. كما ان اشتراك كلا الزوجين في صفة واحدة، وهي اقبالهما على الكحول، تجعلني هذه الصفة ان أجد في الحوار الدائر بين الزوجين في هذه المسرحية حول طعم العرق الشبيه بحامض الكبريتيك أكثر انسجاما مع مسرحية (فراشات ملونة) ذلك ان الزوج يموت فها نتيجة سهو في تناوله مادة سامة بدلا من العرق الذي لم يأت نتيجة تصعيد الفعل داخل بنية النص، وانما جاء من خارجه، وبشكل مفاجيء وغير متوقع وميلودرامي.
ومع هذا فأن ورود هذه الجملة في المسرحية لها ما يبررها، لارتباطها بالحالة النفسية التي يمر بها هو وزوجته، بعدم إنجابهما للاطفال، وبالحالة النفسية التي تعم خارج البيت، أي في الشارع، حيث السكارى يغنون ويبكون ويتأوهون....
اي ان حامض الكبريتيك الحارق الذي يعبه العراقيون لايعبونه، بسبب طعمه اللذيذ،وانما لطرح همومهم ونسيان معاناتهم، ولو بشكل مؤقت، ما يعني ان عدم الانجاب ليس المشكلة الحقيقة، وانما هو رمز وواجهة لمسألة اخرى أكبر وأوسع ووأشمل، وهذه المسألة لا تهم فردا واحدا او اسرة واحدة، وانما افراد المجتمع برمته، بدليل ان الزوج ليس هو الشخص الوحيد الذي يعب هذه المادة الحارقة، وانما هناك من يمارسون هذه العادة مثله وفي الشارع.
الزوج: (بفرح) أتعرفين بماذا اشبه العرق؟
الزوجة: لونه؟ ام ذاقه؟
الزوج: (يأخذ رشفة ويتلمظ) مذاقه طبعا.. بحامض الكبريتيك الزوجة: .. (بتقزز) الزوجة : اتعجب كيف تضع هذه النار في جوفك..؟
الزوج: (يأخذ رشفة اخرى) أريد أن أصحى... (وقفة، يمرسكير وهو يدندن بأغنية بغدادية حزينة..)
الزوجة: (بمزح) هو الاخر يصحو.. (تتنهد) بعد الساعة، او ربما اكثر ينشرون مثل الزنابير في الشوارع، يغنون ويبكون ويتأوهون .. (وقفة) أسالك.. كيف تفسر بكاء ذلك السكير ليلة البارحة على الرصيف وهو يتقيء ويصرخ بين حين وآخر، أنه لم يشرب كثيراً، أنه متألم فقط، لأن صديقه اسمعه كلمات جارحة.
الزوج: رغم كل شيء كان سعيدا..
الزوجة: (بتعجب).. سعيداً؟ يالتلك السعادة البائسة...
ان العرق وعدم الانجاب هنا يغدوان صفة ملازمة لبعضهما ورمزا للعذاب والهدم والدمار والقتل، وعدم تطور المجتمع، ومراوحته في مكانه، بكافة مرافقه الحياتية، ابتداءً من وسائل النقل، ومروراً بترية ابناء هذا الجيل، وانتهاءً بالفسد الاداري للدولة.
وها هي زوجته تجد نفسها مرهقة من الانتظار لحافلة المصلحة يوميا لثلاثة ارباع الساعة، الى ان تصل الى عملها، وهذا الانتظار اللعين يتعبها أكثر من عملها، فالحافلة هنا، رمز لتأخر العراق وعدم تطوره، كما ان الشاب الصعلوك الذي يزعج الزوج يوميا برفع صوت جهاز تسجيل الموسيقى، هو رمز للجيل الفاسد الذي نشأ في عهد الحكم البائد، وقول زوجته، ان نادية، اي ام الشاب (لا تملك سواه، لذا لا تضغط عليه) اشارة واضحة على فلتان هذا الجيل، الا ان الزوجة تبدي عطفها نحوه، هي تصف شعره بالأشقر، وتشبه وجهه بالقطة، وهذا العطف والوصف هما رمزان لحلم ولادة، وبناء جيل جديد بهذه المواصفات، والرجال الثلاثة الذين زور أولهم دفتر تقاعد وظل يستلم راتبا محترما لسنوات، وثانيهم الذي زوَّرَ توقيع المدير العام، والشخص الثالث المحامي الذي كسب قضية الرجل الاعرج ولم يعط له حقه، ما هي الا نماذج للفساد الاداري المستشري في ادارة الدولة.وبينما الزوجان، ينتقلان في أحدايثهما من موضوع الى آخر، فجأة يتناهى الى أسماعهما اصواتا مختلفة ووقع أحذية سريعة، فأذا بها جارتهما، وهي تبكي، لانها لاتعرف اين ذهب طفلها، وهي إشارة الى مقولة ماركس الشهيرة: (غزارة في الانتاج وسوء في التوزيع) بتعليق الزوجة، ان لجارتهم خمسة اطفال.. كل شهر يضيع أحدهم، وإضافة الزوج قائلا بحزن: ونحن نحلم بطفل واحد.. فقط.. ويغني بصوت جميل وشجي:
دللو لول لول
ياولد يا بني دلول
لول لول ياقمر
ها، تعيش وتكبر.
والحوارات التي جاءت بعد هذه الاغنية، وإن بدت في ظاهرها حديثا اعتياديا وعن حبهما عندما كانا شبابا قبل الزواج، الا انها في باطنها ما هي الا استذكارا لنضالهما السري ورموزا له.
فقولها: لماذا لم تعد تغني كما كنت... صوتك ما زال جميلا) اشارة الى تشجيعه على العمل النضالي، وما زال قادرا عليه. وجملة: (أتعرف عندما تغني اتذكر ايام حبنا) ايماءة الى الاعتزاز بنضالهما.
و: (ويالذاك الشبه اللامعقول.. ويا لخوفي)...
ايحاء الى رجال الامن.
وقول الزوج: (انتظار، قلق، مطاردات، ارشادات، رسائل، هدايا..) رمزا لأدوات النضال..
ولعل تعزيز الزوج والزوجة هذه الحوارات بجملتين تمنحان نفس معنى هذه الدلالات، كأطلاق الزوجة جملة (التعاسة تفتح المخ أحيانا) والزوج : (التعاسة تمنح القوة)، دليل واضح على ان المسرحية تنحو منحى رمزيا باتجاه ادانة الحكم البائد، والرغبة في ممارسة العمل النضالي من اجل تغييره، ويتضح مفهوم المسرحية بشكل اوسع وأشمل، تعزيزها بشخصية الشاب المتهم بالجنون، والرامز على تمرد الشباب المثقف على العهد البائد، مخفيا إياه النظام وراء قناع المجنون الهارب من المستشفى، بينما هو سياسي فار من السجن.
الشاب: هل تريد أن تعرف اين والدي؟
الزوج: غير مهم.. يهمني فقط أن تكلم في الشئ الذي ترتاح أنت له...
الشاب: يروح في تأمل طويل) أنا أريد أن اعرف اين هو.. اين هو ..
الزوج والزوجة: (معا) ماذا ؟ لاتعرف اين هو؟
مايعني، أنه يجهل مصيره، ولعل توقفه عند الخارطة والقاء نظره طويلة اليها، وهو يقول: اتعرف ماذا يعني التصميم الصارم؟
إذ بالرغم من ان هذه الجملة توحي التخطيط لتربية الاطفال والشباب، الا ان عدم انجذاب الكلمتين للاخر، (التربية والصرامة) ما يؤكد بأن الشاب يريد ان يقول، بأن النظام قتل والده عبر التعذيب الصارم، وليس التخطيط الصارم..
كما ان قول الشاب: اين مرة اخرى الى تلك الغرفة.. الى تلك المقصلة. والزوج: اقسم انه لم يكن مجنونا. والزوجة: شيء غريب. كلها ايماءات تشير الى نفس المعنى.
بأختصار.. ان مسرحية (شفاه حزينة)، لانفتاحها على النص، يمكن قراءتها وتأويلها في كلا النفسين، التربوي والسياسي، الا انني اميل الى انها مكتوبة بالنفس الثاني وبالرموز والدلالات الموحية، وليس بشكل مباشر...
أما مسرحية (فراشات ملونة) المنشورة عام 1977 في مجلة الاقلام، فأنها مستمدة من اغنية تركمانية، تتلخص ثيمتها بهذا المقطع: (ذات يوم أنا الآخر كان عندي ربيع زاهر... آه وهل يدوم الربيع؟).
وتدور حول زوجين طاعنين في السن، محمود في السبعين، وزوجته سلوى في الخامسة والستين، يعيشان لوحدهما، ولم ينجبا في حياتهما الزوجية، سوى طفلة واحدة، وبعد أن كبرت، تزوجت وسافرت مع زوجها الى البصرة، ومع بداية المسرحية يرن جرس الباب، وتتوجه اليه سلوى، وبعد أن تفتحه، يسلمها ساعي البريد برقية، فأذا هي من بنتها التي لم ترها منذ سنين، وتخبرهما فيها، بأنها وزوجها والصغير كرم سيكونوا عندهم في العاشر من ايار، اي نفس اليوم الذي وصلت البرقية، وعندما تخبر سلوى زوجها بهذا الخبر السار، وبفعل فرحتهما الغامرة، يستعيدان ذكرياتهما مع بعضهما، وتتحول لحظاتهما هذه الى سعادة حقيقية، وهما مرة يتحدثان عن انواع الزهور، ومرة اخرى عن طفولة ابنتهما، وثالثة عن اخلاص محمود وجديته في وظيفته عندما كان مديرا لاحدى المدارس، وفي هذه الاثناء تخطر بباله قنينة العرق التي اهداها له جاره القس في حارة الماس قبل عشر سنوات التي ما تزال في مكانها، وبعد ان يأخذ منها جرعة، يشعر بألم في أمعائه، فيعرف بأنه خطأ شرب محلول قاتل الحشرات وفي اللحظة التي تصل أبنته يموت، اذ يرن جرس الباب الخارجي مرات عديدة وصوتها يأتي بقوة! بابا.. بابا.. ماما..
يمتلك المؤلف حساً مرهفا وحالما ازاء الاشياء الجميلة، لذلك فهو يلتقط كل ماهو فريد ونادر منها ويوظفه في مسرحياته اذ قلما نجد عملا ادبيا او فنيا استطاع ان بتعامل مع زهور الحدائق بالحرفية التي تعامل معها القيسي في مسرحيته هذه، وذلك وفاءً للربيع من جهة ووفاءً للاغنية من جهة اخرى، من خلال عدم الخروج عن فحواها، ولكنه كان قاسيا في معالجته الدرامية لها، قاسيا لا على محمود لأنه لم ير ابنته، ولا على ابنته لانها لم تر والدها، ولا على سلوى لانها لم تسعد بقدوم ابنتها، وانما على القاريء الذي لم يتوقع هذه النهاية المفجعة.
صحيح ان مفردة الموت جاءت اكثر من مرة في الحوار الدائر بين الزوجين، كقول محمود: نعم.. وساوس.. ماذا لو مت من غير أن اراها:
وزوجته: ما هذا الضحك يا محمود، لقد رحت تكثر من الضحك مع نفسك هذه الايام..
الا انها لم تأت كعنصر مهم في الحدث، لدفع وحدات المسرحية وتفعيلها، وانما من خارج النص، وبدون أن تتوافر فيها شروط التفاعل مع بقية العناصر الموجودة داخل النص، اما مفردة (الخمر) لم تأت الا مرة واحدة على لسان محمود في بداية المسرحية، لا بمعناها كمادة كحولية، وانما إنتشاءً بفصل الربيع.
صوت محمود: انني مخمور بهذا الربيع الساحر. ماذا؟ هل وصلني كتاب جديد؟
واذا كانت مسرحية (شفاه حزينة) كثيرة الشبه بالمسرحية التي نحن الان بصددها، فأنها بدورها كثيرة الشبه بمسرحية (في عودة الابناء الذين يعودوا الى الوطن) مع فارق في نهايتهما، وان كان يؤدي نفس النتيجة، وهو عدم مجيء الابن في الثانية، ومجيء البنت في الاولى لموت الأب.
سوف لن أكون مبالغا اذا قلت، ان معظم مسرحيات جليل القيسي تتشابه مع بعضها تشابها كبيرا في اثارة عنصرين اثنين هما الانتظار والحلم، ومعالجتها معالجة سردية، اي قصصية، وغير درامية، ويغلب عليها الطابع المأساوي، وأحيانا الميلودرامي، كما في (الابناء الذين يعودوا الى الوطن) و (شفاه حزينة) و (غدا يجب ان ارحل) و (خريف مبكر) و (ربيع متأخر) و (غرقوا في رائحة الظلمة) و (ها نحن تعرى) والمسرحية التي نحن بصددها، وهي مسرحية (مرحبا ايتها الطمأنينة) التي يدور الحدث فيها عن سيدة في الثلاثين من من عمرها تركها زوجها لسبع سنوات خلت، وسافر الى لندن، بعد أن انجب منها طفلا.
يبدو من خلال غرفة الجلوس الصغيرة، وأثاثها القديم والمهمل وجدرانها المتسخة بلون التراب، ان اهمال هذه السيدة لدارها، جاء بفعل هجرة زوجها لها، واستلامها رسالة منه ينص فيها على أنه سوف يبقى الى الابد في لندن ويمنحها حرية التفكير بمصيرها واختيار الزواج إذا ارادت.
وكما حصل في (فراشات ملونة) يرن جرس الباب وتخرج السيدة واسمها (ساهرة) فاذا بها تفاجيء بساعي البريد وهو يسلمها مظرفا فيه برقية من زوجها، تنص على انه سيصل كركوك في العاشر من الشهر الجاري.
ففي (فراشات ملونة) كانت البرقية من ابنة سلوى ومحمود (جميلة) وفي هذه المسرحية من زوجها (فوزي) ويضمان نفس الخبر، ويتركان نفس الاثر، وهي مثلهما تطير من السعادة، وتبدأ بمناجاة زوجها، وتقوم بحركات صامتة لا إرادية، وتحتويها نشوة، وتدور من شدة فرحها، حول نفسها، وتلقي نظرة طويلة الى جسدها الرشيق والى وجهها، وتغني اغاني ام كلثوم، وتهتف الى صديقاتها بهذا النبأ، وتقرر الا تداوم هذا اليوم، لتفرغها لترتيب البيت، ثم تستعيد ذكرياتها معه في المتوسطة والجامعة، وايام كانا يزهوان بلغتهما الانكليزية، ويقومان بترجمة المتنبي والسياب اليها، كاستعادة محمود وسلوى ذكرياتهما مع ابنتهما في (فراشات ملونة)، واستعادة سامر وسميرة في (خريف مبكر) لحبهما في الجامعة.
وبينما هي في لحظاتها السعيدة هذه، وتدعو الرب بأنه اخيرا دفع بأنيسها من بلاد الضباب، وتودع الآهات، وترحب بالطمأنينة، تفتح الباب، ويدخل ساعي البريد نفسه الذي يسلمها برقية اخرى، ويطلب منها إعادة البرقية الاولى التي سلمها اليها، لأنها لا تعود لها، وانما تعود لسيدة اخرى تحمل نفس الاسم، وتسكن في الزقاق المجاور الذي يلي هذا الزقاق، وفحواها ان زوجها السيد فوزي قد مات في حادث دهس سيارة، واضطر اصدقاؤه ان يدفنوه في لندن...
وتنتهي المسرحية بدخول ابنها وهو يصيح: ماما.. ماما... كما انتهت مسرحية (فراشات ملونة) بصوت ابنة محمود وسلوى: ماما..
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه بالحاح:
* ترى لماذا يختتم جليل القيسي معظم مسرحياته بالمأساوية... ان لم اقل كلها..؟
أعتقد لسببين وهما:
1- وقوعه تحت تأثيرات كافكا
2- نتيجة تحطيمه لتوقعات المتلقي
ذلك ان بطل كافكا كما يقول بوريس بورسوف في كتابه: (الواقعية اليوم وابدا) يختفي داخل الجحر، مدركا عجزه المطلق وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه بأي شكل كان.
او كما يقول في مكان آخر: أن أناس كافكا تائهون في الظلمات وكل واحد منهم وحيد وبلا أمل.. وانسان كافكا يتعطش للسعادة لكنه غير واثق على الاطلاق بحقه في السعادة، بل غير واثق حتى من حقه في وجوده، فخاصيته الاساسية هي الاحساس بالذنب، كل هذا نتيجة لأنفصال الانسان عن العالم، وهكذا تظهر القضية.
ويقول عن نفسه (نفس المصدر):يوجد هدف ولكن لايوجد طريق. ويقول مرة اخرى، يوجد طريق ولكن لايوجد هدف، لقد سمى كافكا نفسه بالباحث عن السعادة، بل بالمناضل ولكن هذا المناضل لم يكن يعرف اهداف وطرق النضال، فنضاله ما هو الا وسيلة للدفاع عن النفس، واذا ما حاولنا مراجعة مسرحيات جليل القيسي، لتلمسنا بوضوح تأثيرا كافكا عليها، اذ ان البطل فيها يدرك المشكلة ولكنه لا يتحرك بأتجاه حلها، أو يعجز عن حلها، وللتعويض عن هذا النقص يلجأ الى الحلم، كما في شخصية هيلينا في مسرحية (الابناء الذين يعودوا) والمرأة في (غدا يجب ان ارحل) والرجل والمرأة في (شفاه حزينة) و عماد وسعيد ومحمد في (زفيرا الصحراء) وسامر وسلوى في (خريف مبكر) و محمود وسلوى في (فراشات ملونة) وساهرة في (مرحبا ايتها الطمأنينة).
ان المؤلف في هذه المسرحية لا يخبر المتلقي عن سبب هجرة زوج ساهرة لها، الا ان ما يعرفه وعبر أثاث غرفة منزلها المتسخة والمهملة، انها تعيش في كابة وحزن شديدين، نتيجة انقطاع الامل عنها من عودة زوجها الى العراق، ترى كيف تتصرف ازاء هذه المشكلة؟ هل تتزوج من شخص آخر؟
ربما حرصا على تربية ابنها تحت رعايتها، والذي انجبته منه، يردعها هذا الحل، والاقدام على هذه الخطوة، ثم ان والدتها تعيش معها. ولكن هل هذه هي السعادة التي تتمناها وتحلم بها؟
هنا عند هذه النقطة تبرز اشكالية ابطال القيسي، لتبدأ تائهة في الظلمات، بعدم إتخاذ القرار، والانكفاء على الذات في عزلة تامة عن العالم الخارجي، ولكن ما ان تتلقى اشارة تشع منها بصيص أمل حتى تبدأ بالخروج عن هذه العزلة، بالعودة الى الماضي عن طريق الحلم، كما في شخصية ساهرة وهي تقول: منذ ايام المتوسطة زرعت شبابك حولي.. وأنا في نضارة شبابي، وفي الجامعة كنا مع بعض .. كنت تقول لي: انت جميلة، لذا انت مثل قفيرة النحل.. ولكن هل السعادة تأتي عن طريق الحلم وحده؟ وهنا تبرز اشكالية بطله الثانية، ذلك ان زمن الحلم قصير، وان هدفه غير واضح، والطريق اليه غير مأمون، وحتى ان كان واضحا ومأمونا، فأن أمر قيادته غير خاضعة له، وانما خارجة عن ارادته، كخروج البرقية الاولى من يد ساهرة الرامزة الى الحلم، ودخول البرقية الثانية الرامزة الى اليأس، وفي كلتا الحالتين بقوة لاتستطيع مقاومتها. والحالة هذه ما عليها الا الانتظار، وهذا الانتظار معلوم نتائجه، وهو بدون هدف، لتبرز الاشكالية الثالثة وهي اضطرار المؤلف الى تحطيم توقعات المتلقي، لا كما يقول فيلتروسكي، بالافادة في ايقاظ إدراكنا للبنية الادبية والوسائل التي ترتكز عليها، وانما بتحطيم توقعاتنا للمعالجة الدرامية التي تنتهي بالمأساوية إما بالموت، او بالضياع، كما في هذه المسرحية التي اختتمت بضياع مستقبل ساهرة. كما ان (روبرت) في الابناء الذين لن يعودوا، لأنه لا يعرف كيف يواجه زوجته بخبر موت ابنها، أو لايستطيع مواجهتها، فأنه يرتأي إتباع الاساليب الايحائية، عن طريق اللغز واللمز، ايصال الحقيقة اليها، ولكنها لاتسعى الى فهمها، والاصح انها تفهمها ولربما تعرف بموت ابنها، غير أنها لا تريد أن تصدق، أنه ليس ضمن الوجبة الاخيرة من الاسرى، بسبب توقها ورغبتها أن تستعيد ذكريات طفولته وشبابه، وهي تلقاه على ارض المطار عن طريق الحلم فالحلم هو سلواها الوحيد وسعادتها القصوى، اذ به ومن خلاله فقط تندمل جراحاتها.
هيلينا: (بضيق): اوه.. روبرت.. انت لا تعرفه مثلي.. أتذكر نكتته الاولى وهو في الرابعة؟
روبرت: كان يتبول في هذا العمر.
هيلينا: أعرف... بسبب البرد الذي أصاب ظهره.. هل تتذكر وجهه في ذاك العمر؟
وفي مسرحية (غدا يجب ان ارحل) يحدث نفس الشيء، إذ تذهب المرأة يوميا لمنطقة حافلة المصلحة، لترى زوجها الذي لا يعرفها، لتستعيدد احلامها معه، لأنها ما تزال تحبه، رغم مرور ثلاثين سنة على انقطاع العلاقة بينهما، وتحب اكثر أن تعرف مصير ابنها الذي تركته وهو في الشهر العاشر من عمره، الا أن ما يمنعها ان تعود الى زوجها وابنها هو اهلها، أي قوة ليس بوسعها ردعها أو مواجهتها، لذا تكتفي بمراقبته يوميا، هذه المراقبة التي تكسبها جزء من السعادة التي فقدتها وتعينها على استعادة احلامها معها، وتطلع عن كثب على وضعه ومستقبل ابنها، ولربما تكون قد عرفت الطريق ولكنها لم تهتد الى الهدف، أو ان الهدف لم يعد في متناولها، لأن رَدَعَتْهُ قوة اخرى اكثر جبروتا من القوة الاولى، هي زوجها، بأيمانه المطلق، بأن المطر، وحده فقط بوسعه ان يذيب البرد.
المرأة (بحزن): مسكين الا يكتب لوالدته؟
الرجل: طلقت والدته وهو في الشهر العاشر من عمره
المرأة: لماذا؟
الرجل: لا اعرف طيش.. نزوة.. هكذا كأي احمق دونما سبب
المرأة: وهل لابنك نفس نزواتك؟
الرجل: ابدا هو هاديء رزين.. له الكثير من خصال والدته
المرأة: الم تحاول ان تراها طوال هذه المدة؟
الرجل: عناد سخيف.. تعال حقير.. حماقة..
المرأة: متى ستكتب له؟
الرجل: حال رجوعي
المرأة:اكتب له بسرعة .. دعه يحس بالسعادة
الرجل: انه سعيد
المرأة: حقا
الرجل: لديه ما يملأه السعادة.. دروسه. صديقته الروسية..
المرأة: ما أروعه.
الرجل: ويحب كثيرا منظر اشجار التبولا والزلاطة الروسية التي يسيمها سيمفونية.. انه بأختصار.. سعيد.. سعيد..
المرأة: اكتب له اشياء جميلة عن مدينتك.. أخبره انها كما كانت هادئة رزنة كعهدها وفية.. لم تفسد.
الرجل: من؟
المرأة: اكتب.. اكتب.. له..
والمقصود هنا من المدينة هو (الام) اي هي زوجته التي تدعوه الكتابة الى ابنيهما، بأنها ما زالت هادئة ورزنة ووفية ولم تفسد.
في (زفير الصحراء) كذلك، لم تسنح القوة الاكبر، وهي (الطبيعة) للشخصيات الثلاث ان تعمل على ما يساعدها من النجاة، باستثناءمحمد الطيار الذي أنعزل عن زميليه عماد وسعيد، سعيا للبحث عن الاتجاهات، هذا البحث الذي لم يحس به المتلقي، لعدم تجسيده كفعل درامي، وانما جاء سردا واقرب الى القص منه الى الحركة. ولعل استسلام الشخصيات الثلاث من البداية الى اليأس، بفعل اختيار المكان الاصعب لها، وهو الصحراء، جعلها أن تنهار معنوياتها، أو أنها جربت أن تعمل شيئا ما على نجاتها ولم تفلح، لذلك فلم تعاود الكرة، وعلقت آمالها على طائرة النجاة التي تبحث عن مكان سقوط الطاقم في الطائرة، وعندما فقدت هذا الامل ايضا، اضحت فريسة احلامها، وهذا ما يبتغيه المؤلف، أن يزج شخصياته في عوالم غريبة وغير مألوفة، أي أن يجعل من الواقع لا واقعا، ولكن لا واقعا، مقنعا اكثر من الواقع، واجمل واقسى منه.
محمد: (بصوت حزين) من جديد حتى في الليل ايتها الصحراء الا يكفي عذاب النهار.. كوابيس النهار.. من الصباح وأنا مع آبار كاذبة، واحات كاذبة، ونخيل لا وجود له.. آه من يغلي من العذاب.. (وقفة) حتى انت يا اطيب واجمل حبيبة.. بهية.. الا يكفي ظلم العطش والجوع والتعب، وظلم هذه الصحراء..
مثلما لم تعمل معظم شخصيات مسرحيات جليل القيسي، لتغيير واقعها، كذلك فأن الزوج في (شفاه حزينة)، تعويضا عن هذا النقص، جلس في منزله يحتسي العرق وهو يغازل زوجته، ويتذكران ماضيهما معا، بعد ان كفا الحديث عن حلمهما بطفل. اذ القوة الاكبر تقف حائلا دون تحقيق امنيتهما، سواء كانت مقرونة بقوة الطبيعة، ام بقوة السلطة، ولمدى جبروت القوة الثانية، فأنهما لم يقويا حتى الدفاع عن الشاب الذي دخل منزلهما، واقصى ما استطاعا أن يقوما به هو ان يعبرا عن المهما تجاهه.
الزوجة: شيء غريب
الزوج: تأملت كثيرا له.. اريد ان... اين سيأخذونه.. ماذا سيفعلون به..؟
مفهوم من جملته المبتورة: اريد ان ...
يريد فعلا ان يعمل شيئا لانقاذ الشاب، ولكنه لا يستطيع، وحتى ان استطاع، وهذه هي محنة شخصيات جليل القيسي، انه سوف يفشل، وسبيله الوحيد الى الحياة هو الدفاع عن النفس، وهذا اقصى ما بوسعه ان يفعله لكي يبقى على قي الحياة.
وأدناه قائمة بمسرحياته:
1- هي حرب طروادة اخرى منشورة في مجلة الاداب البيروتية عام 1969
2- ايها المشاهد جد عنوانا لهذه المسرحية: مثلت عام 1978
3- في انتظار عودة الابناء الذين يعودوا: منشورة في مجلة السينما والمسرح عام 1971
4- غدا يجب ان ارحل : منشورة في مجلة السينما والمسرح عام 1975
5- زفير الصحراء: منشورة في مجلة الاديب المعاصر عام 1980
6- فاه حزينة : مثلت عام 1078
7- جيفارا عاد افتحوا الابواب: مثلت 1973
8- وداعا ايها الشعراء: منشورة عام 1979
9- غرقوا في رائحة الظلمةمنشورة عام 1979
10- التدريب على تحطيم القناني الفراغة منشورة عام 1979
11- نحسكي ساعة زواجه بالرب 1977
12- ها نحن نتعرى 1977
13- وداعا ايها الجمال الوامض 1977
14- الحب يرغب فقط 1977
15- ملكوت الصحراء 1977
16- خريف مبكر 1977
17- فراشات ملونة 1977
18- مرحبا ايتها الطمأنينة منشورة في مجلة الاقلام 1985
19- انه خادم مطيع مجلة كاروان
20- ربيع متأخر منشورة في الاديب المعاصر 1976
21- جاءت زهرة الربيع منشورة في الاديب المعاصر 1976
22- الليلة الاخيرة للورق منشورة في الاديب المعاصر 1976
23- مدينة محجة بالسكاكين: منشورة في الاديب المعاصر 1976
24- انهزامية حزينة منشورة في الاديب المعاصر 1976
25- ومئات من خلال منشور الذاكرة: 1986




#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغواية بين روايتي عزازيل و الوسوسة الاخيرة للمسيح
- قراءة في صنعة مسرحيات تشيكوف الاربع الطويلة
- قراءة في صنعة مسرحيات تشيكوف
- (الخال فانيا...بين برودة الحدث...وغلبة النماذج) الرديئة على ...
- في بغديدا الخطيئة الاولى ...بين الامكانيات المحدودة ..وعدم ت ...
- النص المسرحي.. (الشبيه).. وتوظيف الرموز والدلالات
- الملجأ ......... بين التمرد والغموض
- شلومو الكردي... بين توظيف الاسطورة.. وعنصري...التوقع والربط
- ديوان.. كتاب الماء.. بالعربية
- (عمارة يعقوبيان ..بين الرواية ..والسينما)
- روايات عبدالستار ناصر بين توظيف السيرة الذاتية وتحفيز المفار ...
- اخر الملائكة - والميتا الواقعية السحرية
- عبور الغبار ... بين .. الاداء العفوي..وإدانة التعصب العنصري*
- سرقة جريئة ومكشوفة ل(المكان الخالي) ل.. بيتر بروك
- قراءة متأنية في المسرح الكردي بعد الانتفاضة... أزمته، نقوده، ...
- دور يوسف عبد المسيح ثروة في إثراء النقد في المسرح العراقي
- الم سهرا الافعال غير المبررة والتزاوج الفني المفتعل
- رواية قشور الباذنجان -بين بناء الشخصية - والنظام السابق والح ...
- رواية بابا سارتر.. بين وصف المكان.. والاسلوب الواقعي الساخر. ...
- من يخرج المسرح في عنكاوا من عنق الزجاجة..؟


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - مسرحيات جليل القيسي : الانتظار + الحلم + اليأس = الموت او الضياع