أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خضر محجز - الخطابة: التأثير، المتعة، الهيمنة















المزيد.....

الخطابة: التأثير، المتعة، الهيمنة


خضر محجز

الحوار المتمدن-العدد: 3230 - 2010 / 12 / 29 - 10:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الخطابة هي فن التوجه إلى الجمهور شفهياً، لإحداث استجابة نفسية لدى الأغلبية فيه، لأهداف متعددة، سياسية واجتماعية وأيديولوجية وثقافية... إلخ. أي أنها فن قولي يعتمد على مجموعة من المؤثرات الجمالية: الأسلوبية والصوتية والبلاغية والنفسية.
الخطابة والديماغوجيا:
كثيراً ما نُظر إلى الخطابة نظرة سلبية، بسبب ممارسات تاريخية كثيرة، استُغلت فيها البراعة الخطابية، لأهداف لا يمكن القول إنها مقبولة أخلاقياًً. لهذا السبب اتُهم الكثير من الخطباء، على مر الزمن، بالديماغوجيا. والديماغوجيا (Demagogy): كلمة يونانية الأصل مشتقة من "ديموس" أي الشعب، و"غوجية" أي العمل. وكانت تطلق في الماضي على زعماء الحزب الديمقراطي في جمهورية أثينا، الذين كانوا يدّعون العمل من أجل مصلحة الشعب. أما اليوم فالكلمة تحيل إلى معنى تجريحي، فهي تدل على الأساليب الكفيلة بإثارة مشاعر الجماهير، عن طريق استفزاز النوازع الدنيا الكامنة في لاشعورها؛ وأكثر ما يكون ذلك من خلال خطاب غير منطقي وغير عقلاني، يخاطب الغرائز ويخدر الشعور، وعادة ما يقوم به الخطباء لخدمة أهدافهم الشخصية أو السياسية أو الحزبية العقائدية... إلخ.
أهم مميزات الخطابة الديماغوجية عدم اللجوء إلى البرهان، لأن من حق البرهان أن يبعث على التفكير وأن يوقظ الحذر، الأمر الذي لا يساعد الخطيب في تحقيق أهدافه. فالكلام الديماغوجي مبسط، يعتمد على جهل سامعيه وسذاجتهم، ومن هنا قدرته على السيطرة التي يمارسها على المخيّلة الجماعية لدى الجماهير. ولعل كل ما ذكرناه كان وراء الحديث المحفوظ عن الرسول الذي يقول: "إِنَّ الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه، كما تتخلل الباقرة بلسانها"(1).
إن هناك تعارضاً وتناقضاً لافتين بين الحضارة والغرائز. أدرك ذلك الإنسان مبكراً. وأدركت ذلك الشرائع السماوية، منذ آدم ونوح إلى محمد صلوات الله عليهم جميعاً. لكن الخطباء الديماغوجيين لا يهمهم هذا الإدراك في شيء، لأن كل ما يسعون إليه هو اقتناص وعي الناس والسلطة بكل وسيلة. وخلال رحلتهم الماكرة، في تغييب العقل والعلم، يستعينون بالغرائز: فالشرائع تطالب الإنسان بالعفو، لكن الديماغوجيا تركز على الثأر، واستثارة الغرائز الأولية، الدافعة إلى السبق بالقتل حفاظاً على البقاء. إن ما تريد أن تقوله الديماغوجيا هو: حرر غرائزك من كبت الحضارة. ومن هنا تأتي خطورتها، فمن المعلوم أن خطاب تحرير الغرائز يلقى استجابة سريعة من اللاشعور. الخطابة هنا هي نوع من التنويم المغناطيسي، لدفع الضحية لارتكاب الجريمة دون وعي. وكل ذلك لمصلحة الخطيب أولا وآخراً.
لهذا ولغيره، لا يجب أن تؤخذ الحقائق من أفواه الخطباء. وقد شهد التاريخ نماذج متعددة من الخطباء الديماغوجيين، لعل من أشهرهم "روﭙسبير" خطيب الثورة الفرنسية، الذي امتلك بلاغة رفيعة أتاحت له السيطرة على جماهير پاريس، ودفعها إلى إعدام عدد هائل من المعارضين، في الساحات العامة، على المقصلة. كما أن من أمثلتهم "مناحيم بيغين" السياسي الإسرائيلي اليميني، ورئيس الوزراء الأسبق، الذي امتلك قدرة بلاغية هائلة على خداع جماهير اليهود الشرقيين، وقيادتهم بطريقة تناقض مصالحهم الحقيقية. وربما يجدر بنا هنا تذكر كيف افتُضح شيخ المقارئ المصرية (الشيخ الحصري)، وشُهر به على الملأ، على لسان خطيب شعبوي، دفعه إلى هجرة مصر، والموت بعيدا، خجلا مما صار يراه في عيون الناس، بتأثير خطابة لا تحترم العقل ولا الدين. ولكم أن تتصوروا مدى عذابه وهو يسمع الخطيب يصرخ بصوت مجنون: "يا شيخ المقارئ، ابنتك تفعل كذا وكذا...".
ورغم كل ما سبق، تبقى الخطابة فناً قولياً جمالياً قادراً ـ إذا ما أُحسن استخدامه ـ على توجيه المتلقين وجهات إيجابية، من حب الحقيقة، والسعي إلى العدالة، والحث على الخير. وقد حفظ لنا التاريخ العديد من النماذج المشرقة، لخطباء جمعوا بين جمال العبارة وجمال الهدف. وأعظم هؤلاء محمد، الذي أوتي جوامع الكلم، فلم يقل إلا جميلاً، ولم يوجه إلا إلى خير. وكذلك فعل الخلفاء الراشدون ـ رضي الله عنهم ـ والمصلحون العظام.
الخطابة والمتعة:
لا ريب أن الخطابة ـ بما هي إنشاء لغوي إبداعي ـ تحدث نوعاً من المتعة لدى السامعين تؤثر في أفعالهم تأثيراً كبيراً. وقد رأينا كيف يمكن للخطاب الجمالي أن يقود الناس من أحاسيسهم وعواطفهم، قبل عقولهم ومبادئهم. ولا جرم خدرت المتعة عقول الناس، وقادتهم خلافاً لما يعلنون. فهل يمكن القبول بأن فعل المتعة دائماً هو فعل جميل من الوجهة الأخلاقية، أم أنه بات من الواجب لنظر إلى فعل الإمتاع نظرة إشكالية، تضع المتعة، مع غيرها من الأفعال البشرية الأخرى، موضع الفحص وإعادة السؤال.
إن التساؤل الجوهري، الذي علينا اليوم فحصه، يدور حول عما إذا كان ما يمتعنا اليوم، هو إيجابي لمجتمعنا ومستقبلنا، ويدفع إلى حياة أفضل، أم أنه مجرد فعل يومي مخادع، ننساق من خلاله إلى الاستجابة لما يُملى علينا، نفسياً وموضوعياً؟. هل المتعة فعل حر مستقل ناتج عن اختيار متمعن وتفكير مسبق؟. وهل المتعة لدينا دال جميل، يحيل إلى مدلول جميل، وطنيا وثقافيا، أم أنه مجرد ضوضاء لفظية لا مدلول لها، إلا الضرر النفسي والعقلي والاجتماعي؟. هل فرحنا مجرد ضوضاء؟. وهل أفعالنا مجرد استجابات لاعقلانية، ولاإرادية، لظواهر الطبيعة من حولنا؟. وهل متعتنا مجرد فعل يومي عادي نمارسه كما نتنفس؟.
إن فحص فعل المتعة هذا، سوف يتطلب منا الحفر المتأني، والعلمي، فيما وراء الظواهر الآنية، وعلاقات الهيمنة التي احتضنت، ولا تزال، أفعال رفضنا النمطية، وأفعال متعتنا النمطية كذلك. فلطالما تمتعنا سريعاً، ثم اكتشفنا ـ من بعدُ ـ أن متعتنا انقلبت علينا وبالاً. إن واجب كل العقول النيرة، اليوم، أن تبحث عن تلك الأنساق الخفية، التي طالما نظمت فعل متعتنا الساذجة سابقاً، ثم ها هي تنظم اليوم استثمار متعتنا، بما يضر مصالحنا، الآنية منها والاستراتيجية.
تحدث الخطابة البليغة متعة للسامعين. فهل هذه المتعة تبرر الضرر الذي يقع من جرائها؟. لقد نقل لنا المؤرخون خطب الحجاج البليغة وأثنوا عليها، وتقبلنا هذا الثناء مخدرين، ولم نحفر فيما وراءه. ولعل هذا هو ما جعل الكثيرين منا يترحمون على الحجاج، متناسين الدماء التي سفكها، والحرمات التي انتهكها، حتى قال ابن كثير فيه:
"فرأى عبد الملك أنه لا يسد عنه أهل العراق غير الحجاج، لسطوته وقهره وقسوته وشهامته... ويقال إنه لما صعد المنبر واجتمع الناس تحته، أطال السكوت؛ حتى أن محمد بن عمير أخذ كفا من حصى، وأراد أن يحصبه بها، وقال: قبحه الله، ما أعياه وأذمه!. فلما نهض الحجاج وتكلم بما تكلم به، جعل الحصى يتناثر من يده، وهو لا يشعر به؛ لما يرى من فصاحته وبلاغته"(2).
وكأن بلاغة الحجاج هي ما أخاف الخصم لا سيفه!.
والآن فلنضرب مثلاً على تخدير وعي الجماهير، بالخطبة الشهيرة التي ألقاها شكسبير على لسان (مارك أنطونيو)، وقد قتل المتآمرون (يوليوس قيصر) حاكم جمهورية روما، وقد رأوا أنه سيحول الدولة إلى مملكة يحكمها بصورة مطلقة، وأرادوا من ثم إقناع أنطونيو أن ينحاز إليهم، فخادعهم أن يفعل، وطلب منهم أن يسمحوا له بالتوجه بخطبته إلى الجماهير، ليبين لها أسباب الانقلاب. فلما ظنوه ـ وهو الخطيب المفوه ـ سيقدم لأهل روما خطبة تبرر انقلابهم، سمحوا له بارتقاء المنبر. فقال:
"أيها الأصدقاء، أيها الرومان، يا أبناء وطني، أعيروني أسماعكم: لقد جئت لدفن قيصر، لا للثناء عليه. إن آثام الناس لا تموت بموتهم، أما العمل الصالح فغالباً ما يُدفن مع عظامهم. فليكن هذا موقفنا من قيصر.
قال لكم بروتس النبيل: إن قيصر كان طماعاً. لو كان ذلك صحيحاً، لكان ذنباً عظيماً، ولقد كفّر عنه بموته تكفيراً عظيماً. ولقد أتيتُ إلى هنا بإذن من بروتس وعصبته، إذ أن بروتس رجل شريف، وكذلك هم جميعاً: كلهم شرفاء. لقد أتيت لتأبين قيصر في جنازته، إذ كان لي صديقاً مخلصاً منصفاً. لكن بروتس يقول: إنه كان طماعاً. وبروتس رجل شريف.
حين عاد قيصر إلى روما بالعديد من الأسرى، وافتداهم أهلهم بأموال طائلة، أودعها قيصر الخزانة العامة، فملأتها. فهل يدل هذا على طمع في نفسه!. عندما بكى الفقراء إبّان المجاعة، بكى قيصر إشفاقاً وألماً. أفلا يكون الطماع أقسى قلباً وأغلظ نفساً؟!. ولكن بروتس يقول: إنه كان طماعاً!. وبروتس رجل شريف.
لقد شاهدتموني جميعاً، يوم عيد اللوبريكال، وأنا أعرض عليه التاج الملكي: لقد عرضُته عليه ثلاث مرات، ورفضه ثلاث مرات. هل كان هذا طمعاً؟. ولكن بروتس يقول: إنه كان طماعاً. وهو بالتأكيد رجل شريف. إنني لا أحاول إثبات خطأ ما قاله بروتس؛ ولكنني أقول لكم ما أعلمه علم اليقين: لقد كنتم تحبونه يوماً ما، وكنتم محقين في حبكم، فماذا يمنعكم الآن من تأبينه ورثائه؟. أين الرأي السديد إذن!. هل فر إلى الوحوش الكاسرة، فعُدم البشر سداد الرأي!. أرجوكم بعض الصبر، إذ أن قلبي في النعش مع قيصر، ولا بد أن أصبر حتى يعود إليّ (...)(3). بالأمس فقط كانت كلمة واحدة من قيصر تتحدى العالم كله، أما الآن فها هو طريح الثرى.. وأحقرُ الحقراء أرفع من أن ينحني احتراماً له!.
أيها السادة، لو أني جئت لأشحذ عقولكم، وأستثير قلوبكم، حتى تثوروا وتغضبوا؛ لأسأت إلى بروتس، وأسأت إلى كاشياس، وهما كما تعرفون جميعاً رجلان شريفان!. وإذن، لن أسيئ إلى أيّ منهما؛ بل إني أؤثر أن أسيئ إلى الموتى، وأسيئ إلى نفسي ـ بل وأسيئ إليكم أنتم ـ على أن أسيئ إلى مثل هؤلاء الشرفاء. ولكنَّ في يدي ورقةً مختومةً بخاتم قيصر، وجدتها في غرفة مكتبه. إنها وصيته!. أرجو المعذرة، فلن أقرأها أمامكم؛ إذ لو عرف الأهالي ما في هذه الوصية، لارتموا على قيصر يقبلون جراحه بعد موته، ويغمسون مناديلهم في دمه المقدس؛ بل لأخذ كل واحد شعرة يذكره بها، ويثبتها في وصيته عند مماته، ويحدد من سيرث هذا التراث القيم من أبنائه (...). صبراً يا أصدقائي الشرفاء. ما ينبغي أن أقرأ الوصية، إذ ما ينبغي أن تعرفوا مدى حب قيصر لكم، فلستم من الخشب، ولستم من الحجارة، بل أنتم بشر. وما دمتم من البشر، فإن الاستماع إلى وصية قيصر سوف يلهب مشاعركم، ويطير صوابكم. الأفضل ألا تعلموا أنكم ورثته. فلو علمتم ذلك، فما ستكون العاقبة! (...). هل تستطيعون الصبر؟. هل تنتظرون قليلاً؟. لقد تجاوزتُ حدودي حين ذكرتُ الوصية. وأخشى أن أسيئ إلى الشرفاء، الذين غرسوا خناجرهم في صدر قيصر. أخشى ذلك حقاً (...). هل تجبرونني على قراءة الوصية؟. تحلَّقوا إذن حول جثمان قيصر، حتى أريكم الرجل الذي كتب الوصية. هل أنزل إليكم من المنبر؟. أتسمحون لي بذلك؟ (...).
إن كان لديكم دموع، فاستعدوا للبكاء!. تعرفون جميعاً هذا الوشاح. وأذكر أول مرة ارتداه قيصر. كان ذلك مساء يوم من أيام الصيف، في خيمته، في اليوم الذي قهر فيه جيش الترقيين الأشرس. انظروا، من هذا الشَّق اخترق الوشاحَ خنجر كاشياس. وانظروا الشَّق الذي شقه كاسكا الحقود. وهنا طعنه بروتس، الذي أحبه قيصر كل الحب. وعندما انتزع خنجره اللعين، تدفق الدم في أثره هنا. انظروا!. لكأنما خرج من الباب مسرعاً، ليتأكد إن كان بروتس حقاً هو الذي طرق هذه الطرقة النكراء!. إذ أن بروتس ـ كما تعلمون ـ كان الملاك في عين قيصر!. واشهدي أيتها الآلهة كم كان قيصر يحبه ويعزّه!. كانت تلك أقسى الطعنات جميعاً!: إذ عندما شاهده قيصر النبيل وهو يطعنه، أحس بالجحود وهو يقهره، فالجحود أقوى من أسلحة الخونة. وعندها انصدع قلبه الجبار ـ وسقط قيصر العظيم، وعلى وجهه هذا الوشاح، على قاعدة تمثال بومبي ـ الذي أخذ ينزف الدم بلا توقف. ما أبشع تلك السقطة يا أبناء وطني!. لقد سقطتُ عندها وأنتم، سقطنا جميعاً عندها، بينما تباهت الخيانة الدامية فوق رؤوسنا!. آه، إنكم تبكون الآن وتشعرون ـ كما أرى ـ بلذعة الأسى!. ما أكرم عَبْراتكم!. أيها الرحماء الأبرار، أتبكون لرؤية الجروح التي مزقت رداء قيصر؟. انظروا إذن (يكشف جسد قيصر) ها هو ذا قيصر نفسه وقد مزقه الخونة (...) بل انتظروا يا أبناء وطني (...) أيها الأصدقاء المخلصون المهذبون، كيف أدفعكم إلى هذه الثورة العارمة المباغتة!. إن من ارتكبوا هذه الفعلة شرفاء. واأسفاه!. لا علم لي بالأحقاد الشخصية التي دفعتهم إلى ارتكابها!. إنهم حكماء وشرفاء وسوف يعرضون عليكم ـ لا شك ـ دوافعهم المقنعة.
أنا لم آتِ إليكم كي أستولي على مشاعركم، فلستُ خطيباً مفوهاً مثل بروتس. ولكنني ـ كما تعرفون جميعاً ـ رجل بسيط ساذج، يخلص الحب لصديقه. وهم يعرفون ذلك خير المعرفة: من سمحوا لي بالتحدث أمامكم. إنني أفتقر إلى البديهة الحاضرة، والألفاظ المنتقاة، والمكانة المرموقة، وبراعة الأداء، وحسن الإلقاء، وذلاقة اللسان، التي تثير مشاعر الناس، ولكنني أتحدث إليكم عفوَ الخاطر وحسب، وأحدثكم عما تعرفونه، وأريكم جراح قيصر الحنون ـ تلك الأفواه الخرساء البائسة المسكينة ـ وأسألها أن تتحدث نيابة عني. أما لو كنتُ أنا بروتس، وكان بروتس هو أنطونيو،لاستطاع أنطونيو أن يلهب نفوسكم غضباً، ويجعل لكل جرح في جثة قيصر لساناً يثير أحجارَ روما، ويدفعها إلى الغضب والثورة (...). ما هذا أيها الأصدقاء!. إنكم لا تعرفون ما تفعلون!. لماذا استحق قيصر منكم كل هذا الحب؟. واأسفاه إنكم لا تعرفون!. وإذن فلا بد لي أن أخبركم. لقد نسيتم الوصية التي أخبرتكم بها (...) هذه هي الوصية، وهي مختومة بخاتم قيصر: إنه يوصي لكل مواطن روماني ـ لكل فرد على حدة ـ بخمسة وسبعين درهماً (...) كما أوصى لكم بجميع بساتينه ومتنزهاته الخاصة، وحدائقه الحديثة على هذا الجانب من نهر التيبر. لقد تنازل عنها لكم ولأبنائكم من بعدكم إلى الأبد، كي تصبح أماكن لهو وسرور، تروِّحون فيها عن أنفسكم، وتمرحون. كان هذا هو قيصر، فمتى يجود الزمان بمثله!" (4).
لا يهم إن كانت هذه الخطبة حقيقية أو منحولة، لأنها إشارة لازمنية إلى غيرها مما لا يجادل أحد في حقيقة وجودها. ولهذا تستحق أن تكون مثلاً. إنها مثال جوهري لكل خطابة تستفز الغرائز للسيطرة على الأجساد. من هنا فإن تفكيك مدلولاتها، وكشف أثرها المخدر، يعطي إشارة لكل المتلقين بكيفية التأمل العقلي في كل ما يقوله الخطباء، ومحاكمته بقوانين المنطق.
وإذا كانت هذه الخطبة الشكسبيرية قد فتنت البلغاء، فحري بمثلها أن يخدر البسطاء والمحرومين. إنها مثال ذهبي لقدرة الكلمات على التلاعب بالعواطف، بما يخدم الهدف السياسي، الذي لن يكون منزهاً في الغالب؟.
إن مارك أنطونيو يعلم علم اليقين، أن المستمعين ـ الذين كانوا حتى اللحظة مؤيدين للثوار ـ لن يسألوه عن حقيقة ما يقول!. إنه في موضع المبدع المتمرس، فيما هم في موضع المتلقين الأغرار وغير المدربين. وهو إذ يدرك ذلك ويعيه تماماً؛ يستحلب منه أقصى طاقاته في الفعل، مبتدئاً بإعلان غير حقيقي عن مدى حب قيصر لهم، وتخطيطه لإغنائهم وإسعادهم، لولا أن فاجأته يد الغدر بالقتل!. إنه يطلق لهم في السماء إشاراته الكاذبة، التي يعلم أنهم يرغبون في تصديقها، كونها تخاطب أحلامهم بالوفرة، وقبل أن تسأل الجماهير نفسها عن مدى الصدق في الكلام، تجد نفسها متفاجئة بأن الذي منع ذلك هو مجموعة الثوار!.
إلى هنا والجماهير متحيرة في تصديق ما يقوله أنطونيو!. إنها تسمع منه كلاماً يختلف عن كلام قاتلي قيصر، رغم أنهم هم الذين سمحوا له بالكلام!.
فلنتأمل كيف يخدع الخطاب اللغوي الناس، باستغلال البراعة الكلامية. لقد حول خطاب أنطونيو المستمعين من مؤيدين للثائرين إلى متشككين في نزاهتهم. وعندما وصل بهم أنطونيو إلى هذا الحد، ألقى في وجوههم بعصا موسى: قال لهم بأن قيصر أوصى لهم بالمال والسعادة والرفاهية. وبذا فقد وضع العشب أمام الحصان الجائع، وقادهم من رغباتهم ومصالحهم!. وعندما تتعادل القضايا في نظر البسطاء وتصبح في موضع المتشكك في كل شيء، فإن مصلحتهم هي من يتدخل ويكون له الحكم والترجيح.
وهكذا انقلبت الجماهير ـ التي كانت مؤيدة للثوار ـ إلى عدو، بفعل خطاب بلاغي لا يقدم دليلا واحدا على صحة ما يقول، سوى الكلام. فنحن نعلم جميعاً أنه لا وقت ـ في ظل تلك المعمعة ـ ليسأل الناس أنطونيو دليلاً على صحة الوصية المزعومة.
ــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات:
1ـ أخرجه أبو داود من رواية عبد الله بن مسعود. انظر: جامع الأصول. حديث رقم 9415.
2ـ ابن كثير. البداية والنهاية. ج9. دار الفكر. بيروت. 1978. ص7... 8.
3ـ كلما وجد هذان القوسان، فمعناه أننا حذفنا جزءاً من حوار الحاضرين، لنقتصر على كلام مارك أنطونيو.
4ـ وليم شكسبير. يوليوس قيصر. ترجمة محمد عناني. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة. 1991. ص134ـ143.



#خضر_محجز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المواجهة وشرط الميراث
- في الدراما التلفزيونية: عفاريت السيالة (المحتوى، التقنيات، ا ...
- فاروق القدومي واحتكار التسميات
- شجرة الكستناء الفصول الثلاثة الأولى
- المثقفون العرب: ثقافة مطمئنة
- في العلاقة بين الأيديولوجيا والديموقراطية
- حول الدين والسياسة والغاز و-لا ينفعك ذلك-
- حين تتفكك العوالم: قراءة نقدية في مجموعة زكي العيلة -بحر رما ...
- يحدث في غزة: في العلاقة بين الركاب والسائقين
- محمود درويش في -أَبدُ الصُبَّار*: لن يموت البيت
- المحتوى الأيديولوجي في قصة أحمد حسين -الوجه والعجيزة-*
- المتعة الفلسطينية
- العلاقة بين الحداثة والنصية: وعي الحاضر، وحضور النص
- هل باتت القدس مسرى نبي الفلسطينيين وحدهم؟.
- نسغ الحرية: لذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية
- البول أيها الأخوة البول:هذا بعض ما نسمع يوم الجمعة
- تغييب الوعي وتسريد التاريخ
- في الوعي والميتافيزيقا
- على أُوْنَهْ.. على دُوِّيْهْ
- الأطفال لا يموتون


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خضر محجز - الخطابة: التأثير، المتعة، الهيمنة