أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصرقوطي - حلم غريق















المزيد.....

حلم غريق


ناصرقوطي

الحوار المتمدن-العدد: 3224 - 2010 / 12 / 23 - 00:38
المحور: الادب والفن
    



قصة قصيرة ناصرقوطي


حلم غريق


الإهداء : إلى روح عثمان العبيدي وكل أبرياء حادثة الجسر

(( أكان حلماً .. كابوسا ثقيلاً ، أم بدء نبوءة غامضة .. لا .. لا أعرف ذلك ، فلألقم فمي بحجارة الصمت مادام لم يكشف سري بعد .)) .

فوق الساحة الخالية بضع نجيمات تبرق في سماء واطئة ملطخة بغيوم سود زاحفة .
كنت قد اجتزت مركز شرطة مهجورا ، مصحة غادرها نزلاؤها وساعة ضخمة عاطلة تحيط بها أعمدة الطاقة وهي تمتد كمشانق بأسلاكها المتصالبة المتدلية . في جيوبي قصاصات ورق ـ مشاريع قصص مؤجلة ـ وفي الحقيبة التي تغفو على كتفي بضعة كتب أنقذها الشغف القديم من البيع والحرائق.. كنت مزمعا على السفر ولا أعرف مالذي جعلني أوجل موعدي إلى يوم غد ..!.. سألت نفسي : لربما هو الحلم الذي راودني منذ ليلة أمس ، حث خطاي وجاء بي نحو هذا المكان . الحلم الغريب الذي لم أرو تفاصيله المفزعة حتى اللحظة ، فطويته بين الجوانح كما تطوى الأشرعة على سر بحار مشرف على الغرق . الشارع الموحل يموج تحت قدميّ وبلل ندي يعصب بالطراوة جبهتي فيما نسمات هواء باردة تتلاعب بخصلات شعري فتجعلني ثملا في الصمت الثقيل اللايتزحزح ولايجرحه إلا نعيب غربان تتقافز على الأسلاك الرخوة المتدلية . بضعة كلاب تجوس بصمت وهي تغرز أنوفها في زوايا الأزقة المظللة . كنت أتحرك كما لو آلة موقوتة باتجاه الجسر ، قوة قاهرة تدفعني نحو المكان الذي احتضن سنوات ..!.. بل لحظات الطفولة الهاربة . ثم صوت بشري راح يدعوني سرعان مايبتعد ويتكسر بموجات متعاقبة ، نقلت خطاي دون ان أجد صعوبة بتحريك جسدي ، كنت أقفز كما لو كنت أطير بأجنحة خفية تدفعني أنامل رقيقة من نسيمات ندية رطبة كأنها تهمس : أن تقدم ولا تخش شيء ، وها أنذا أخطو، أطير باتجاه الصوت ، أنط وأحط لصق السور الحجري الواطئ ، كفي تلامس برودة حافته المثلمة وعيوني تبحث ، تتجول وتمسح سطح مياه النهر .!. كنت أبحث عن .. أبحث .. عن ماذا ـ تساءلت ـ فلا أحد في المدينة غيري .. لا أحد غير رفيقي الصمت الذي يغلف جثة الشارع والبيوت بكفن ثلجي .. البيوت التي كانت تشرب الصمت ، تدعوه ليتغلغل في مسام حجارتها القديمة وشقوق جدرانها المتهاوية .كان صوت صفارات الإنذار وزعيق سيارات الإسعاف يتقهقران في أقصى المدينة حتى إذا ابتلعها الصمت انبثق الصوت ثانية ، صوت حاد كصرخة طفل حديث الولادة تتبعه غمغمات متحشرجة ماتلبث ان تنأى ليخيم الصمت على كل شيء . ( يالله ماهذا ... هل ماتراه عيني حقيقة ) أغمضت عيوني لأتمثل المشهد ( هل حقيقة ما أرى ) . وعسى أن يكون ماأراه ليس أكثر من خدعة بصر أو وهما من الأوهام الكثيرة التي امتلأت بها حياتي . كانت عشرات الجثث تطفو على سطح النهر ، جثث أطفال وعجائز ، جثث بالعشرات بل مئات . ( هل هو الموت الذي لاجرس له ) جثث تطفو ويدفعها التيار بعيدا وأخرى تنحشر بين صخور الجرف وهي مستسلمة لعشرات الجرذان التي تغزوها بنهشات خاطفة سريعة ، ودون أن أمتلك زمام أمري انطلق فمي بصرخة مفاجئة لم أستطع كتمها ( من المسئول عن كل هذا ، من ) فرجع الصدى .. من .. من .. من .. من ..
ـ لاتصرخ ,, هل فقدت عقلك ..
ـ من ..!.. همست وكان الصوت الذي تناهى لسمعي أليفا ، صوت بشري حفظت نبراته فهمست بصوت مسموع ..
ـ أيعقل هذا ..
ـ ولماذا لا يا يوسف .. تعال هنا وانظر ..
وببطيء شديد حركت عنقي نحو جهة الصوت . كان صبيا لم يتجاوز العاشرة بدشداشة بيضاء يبحث بين طحالب الجرف القريب ، ولأن السور الحجري لايتعدى النصف متر ارتفاعا عبرت نحوه من دون تردد وفي ذاكرتي تتوالى صور تبرق سريعا لوجوه كثيرة قد فقدتها ، اقتربت منه كان وجهه المدور يتلألأ بعينين ضاحكتين وشفتين مكتنزتين وهو يبتسم بفرح طفولي ويهمس :
ـ ألم أقل لك يايوسف ..
ـ من ..
ـ اشش انظر هنا لاترفع صوتك وإلا ستوقظهم .
ـ من ..
ـ الذين تراهم هنا ..
ـ ولكنهم ..
ـ اسكت .. انظر هنا .. هنا .
أشار إلى قبضته الصغيرة فتقلصت أصابعه وانفرشت راحته لتكشف عن محارة لولبية بلون اللازورد تلتمع في راحته ، كان يهمس بإلحاح وبصوت خفيض يكاد لايسمع ..
ـ انظر .. هنا .. هنا .
ونظرت فيما الذهول يغلف كياني وبدأ المطر يهمي بقطرات صغيرة ناعمة وراحت الظلال الداكنة تحشد أشباحها وتفرقها في الزوايا التي لم يصل لها ضوء مصابيح الجسر.. قال بلهجة آ مرة ولكنها رقيقة متوسلة ..
ـ ادخل هنا ..
ـ أين ..
سألت مستغربا وعادت ذاكرتي تلملم ذرات من رمال جرفها لسنين خلت ، (( كنت وأخي الصغير نجمع المحارات الملونة وهو لايكف عن السؤال .
ـ إنها تشبه حصاة مبرومة .. كيف تأكل وتعيش وهي بدون فم.
ـ ان المحارة التي بيدك ماهي إلا بيتها الذي كانت تسكن فيه وهو بمثابة جلدها .
ـ أين ذهبت إذن ..
كان يملأ رأسي بأسئلته ورحنا نبحث بين رمل الجرف والصخور الناتئة عن حلزون حي فلم نعثر إلا على دبيب سرطانات صغيرة سرعان ماتهرب لبيوتاتها التي قد يهدمها الموج قريبا . ))
ـ أين ذهبت خلال كل هذه السنين ..؟ سألت
ـ هنا أنا هنا منذ الحادثة ..!.. قال ذلك وأشار إلى جوف المحارة التي كانت تلتمع وسط راحته البضة ، رفعت عيوني ، جلت ببصري حتى أتيقن ان مايحدث أمامي حقيقة وواقعا ، كان الصمت يلف جثة المدينة بكفن أسود ، بعض الجثث راحت تبث روائحها في الأثير الرطب ، صرخت :
ـ أين أنت .. ومن سرقك ، من ..
أجابني الصدى برجع ممطوط راح يتناهى .. من .. من .. من .. من .. ؟ .. وحين رفعت رأسي كان الصبي قد تلاشى ، لا لم يتلاشى إنما بدأ بالتحول إلى شيء آخر غير مرئي ، إلى ذرات رمال في جوف محارة وربما تحول إلى نسمة ندية دفعتني برفق نحو الجسر كي أراه لكن صوته ظل يهمس من الجرف القريب..
ـ انظر هنا .. انظر ..
ـ أأنت شبح أم ماذا .. تكلم ..
ـ هه هه هه هه هه هه .. أنت تسافر هربا من الموت ..
ـ لم يمت إلا من غادر محارته ..
ـ انك دائم الهرب ..
ـ ولكن أين أنت ألم تهرب ..
ـ أنا هنا ..
ـ أين ..
ـ (( بعيد النظر لايرى ماتحت أنفه )) ..
ـ من أين لك هذه الشطارة ..
ـ الموت ..
ـ أي موت تقصد ..
ـ الموت الذي يحدث ، فماعليك إلا ان تفتح عيونك لترى ..
ـ القتل أم الموت ..
ـ كلاهما ..
ـ لكنك بلا قبر ..
ـ ..........!
****************
كنت وحدي مع النهر الذي بدأ يستقطب الأضواء الواهية ويحولها إلى التماعات شذرية ، وقرب قدمي كانت عشرات المحارات ، بل المئات منها . محارات بلون اللازورد تتلألأ تحت بريق السماء الخاطف حتى انبثق الصوت من جديد وهز ركود المياه الساكنة حولي.
ـ كلنا هنا يايوسف ، لاتعجز ..
ـ أين ..!
ـ كلنا هنا .. انظر .. هنا كريم وذاك عثمان ، وهذا علي وزيد وعمر .
ـ أين أنت ومن يحدثني ..من .
فردد الصدى صوتي وبترجيعات رتيبة .. من .. من . .
ـ أين ستذهب إذن ..
ـ إلى مكان لايعلمه أحد ..
ـ أنت تخسر ماتعرفه ..
ـ لن أذهب بعيدا ..
ـ حاذر من أن تكون هدفا واضحا ..
ـ لن أخسر شيئا ..
ـ عليك أن تكتب قصتك ..
ـ ربما لن يفهمها أحد ..
ـ أكتبها لزمان آخر إذن ..
ـ لازلت أحلم ..
ـ العالم لايفرق بين الحالمين والقتلة ..
ـ هل أهرب بعيدا ..
ـ انك دائم الهرب
ـ لم أهرب ولكن مرأى الدماء يؤرقني ..
ـ حاول أن لاترى
ـ هل أعصب عيوني ..
ـ اهتم بنفسك فقط ، انه حلمك وحدك
ـ بل حلم الناس جميعا ..
ـ سيفتضح سرك
ـ ............
ـ لاتسافر إذن وأكمل مشوارك ..
رحت أهمس من انها مشاريع مؤجلة سأكتبها ، أجل أدونها عل القاتلون يتعلمون القراءة يوما . كما أن الحروب صادرت كل شيء . كان الصوت يتصادى بإذني يجيء من النهر وأنا أتقهقر عبر ساحة المدينة تجتازني الأماكن الكثيرة مثل ظلال شاحبة وثلة من مجانين بلحى شعثاء يحتلون الأرصفة وساعة ضخمة لاترن ، وأنا أغذ السير باتجاه محارة ما اقبع فيها ، زاوية معزولة من مقهى لأغزل بقية أطراف حلم لم يكتمل .



#ناصرقوطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لعبة
- حلم يقظة
- مايتبقى من البياض
- آخر العمق
- الأعور والعميان
- السلالات السعيدة
- فتيات الملح
- خضرقد
- غرباء
- أعماق
- الحائك
- ايقاع الأمكنة
- قصة
- المحنة
- عين النخلة
- وهم الطائر
- قصة قصيرة
- قراءة في مجموعة - خمار دزديمونة - للقاص فاروق السامر
- رواية شلومو الكردي (وأنا والزمن)دراسة نقدية


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصرقوطي - حلم غريق