أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد جميل حمودي - الله... لماذا؟ رؤية نقدية (الجزء الأول)















المزيد.....


الله... لماذا؟ رؤية نقدية (الجزء الأول)


أحمد جميل حمودي

الحوار المتمدن-العدد: 3210 - 2010 / 12 / 9 - 04:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


من حقك أن تتصور الإله، وتثير في نفسك الجدل حوله. فالشك يزيل اليقين كما يقول الفقهاء وإن قالوها في غير سياقنا.
مثّل الشك ظاهرة لم تلقى القبول عبر قبل وبعد التاريخ حتى في العصر الإغريقي فـ "أناكساجوراس" أنكر ألوهية القمر والنجوم فنُفي خارج أثينا، وسقراط حكم عليه بالإعدام حين حاول أن يتصور الإلهة وفق مكنونات ذاته، والغزالي بحث عن اليقين وغدت شكوكه ثقيلة الوطأة لدرجة انه عانى من انهيار وأُجبر على التخلي عن منصبه الأكاديمي رفيع المكانة، ومن بعده، عانى من السلطة بوجهيها السياسي والفقهي، كل من ابن عربي والسهروردي والحلاج وابن سبعين ومنهم من عدم!
تصور الإله حسب ما تثيره غريزتك العقلية ما زال أحد التابوهات المحرمة وإن كانت جدلية التغيير الاجتماعي أثرت على ظاهرة الاستقطاب الجماهيري للشُكّاك المعاصرين. في كتابها " الله... لماذا؟ " تتحرك كارن آرمسترونج Karen Armstrong في تحليلها لله بحرية قلما يمتلكها عالمنا العربي وبطريقة علمية وموضوعية إلى حدّ كبير وبأسلوب غير إرشادي كما تفعل غالب كتاباتنا العربية. ويمثل كتابها بالفعل تاريخا لله. رغم أن لها تصورات محل نقد بل إن مشروعها حول تصور وظيفة الدين كما سأوضح لاحقا أظن بأنه معرّض لمعاول النقد الشديد وفيه من الطوباوية بعض الشيء، إلا أن هذا لا يمنع أن يفتح الكتاب لديك مسارات للجدل ويحررك من افكارك النمطية التي باتت تأسُر معظم المتلقّين اليوم على اختلاف توجهاتهم.
تنتقد المؤلفة تدجين الله من أجل اكتساب الشرعية: " يستشهد السياسيون بالله لتبرير سياساتهم، ويستخدم المدرسّون اسمه للحفاظ على النظام بالفصول، والإرهابيون لارتكاب بشاعتهم باسمه".
وتؤكد المؤلفة أن هناك ثمة نزوع للافتراض أن أسلوب البشر للتفكير في الله ظل على الدوام كما هو اليوم دونما أي تغيير. لكن وعلى الرغم من ذكائنا التكنولوجي والعلمي المذهل، نجد احيانا أن تفكيرنا الديني متخلّف بدرجة لافتة، بل إنه حتى بدائي.
في دراستها المقارنة للأديان العابرة للقارات تذكر المؤلفة أنه في غالبية الثقافات قبل الحداثية، كان ثمة أسلوبان معترف بهما للتفكير، وللحديث واكتساب المعرفة. اطلق عليهما الاغريق "التفكير الاسطوري" ميثوس Mythos و"التفكير العقلاني" لوغوس Logos. وكان كل منهما ضروريا ولم يكن ينظر لأيهما على انه أسمى من الآخر، ولم يكونا متضادين بل مكملين لبعضهما. كان لكل منهما مجال كفاءته. وكان يعتقد أنه من غير الحكمة مزجهما.
أما اليوم فنحن نحيا في مجتمع التفكير العقلاني العلمي، مجتمع فقدت فيه الاسطورة مصداقيتها وسمعتها الطيبة. ففي لغة العامة تعني الأسطورة شيئا غير حقيقي. لكن الأسطورة لم تكن- حسب رؤية المؤلفة- في الماضي إغراقا في الخيال. الأحرى أنها ومثل التفكير العقلاني، كانت تساعد الناس على العيش الفاعل في عالمنا المربك لكن باسلوب مختلف. فحينما تصفُ أسطورة ما ابطالا يتلمّسون طريقهم خلال المتاهات، وينزلون الى العالم السفلي، أو يحاربون، أو يصارعون مسوخا ووحوشا، كان الجمهور يفهمها على انها ليست قصصا واقعية بشكل أساسي. كان المقصود بها مساعدة الناس على محاولة تفحص المناطق الغامضة من النفس البشرية التي ليست في متناول إدراكنا رغم أنها تؤثر بعمق على أفكارنا وسلوكنا.
لكن لم يكن للأسطورة أن تكون فاعلة اذا اكتفى الناس بالايمان بها. لقد كانت جوهريا برنامجا للعمل. وبالمثل فلم يكن الدين وبشكل مبدئي، شيئا اتخذه الناس موضوعا للفكر بل كان شيئا يمارسونه. كان يكتسب حقيقته من خلال الممارسة العملية. فليس من المجدي ان تتخيل أنه سيكون باستطاعتك قيادة السيارة إذا اكتفيت بقراءة كتاب إرشادي أو درست قواعد المرور.
وهذه هي الفكرة المحورية التي حاولت المؤلفة أن تثبت دلالاتها خلال مفاصل الكتاب الأساسية. كانت تحاول بين الفينة والأخرى أن تدلل من الديانات قبل التاريخية والتوحيدية على أن الدين ليس للتنظير المعرفي ولكنه مجال للمارسة فقط.
وتسوق لهذه الرؤية نظرة "الداويون" Daoists المبكرون إلى الدين بصفته مهارة خاصة تكتسب بالممارسة الدؤوبة. فقد اوضح "زوانجزي" Zhuangzi "من حوالي 370-311 ق.م" أحد أهم الشخصيات في تاريخ الصين الروحاني، أنه من غير المجدي أن نحاول تحليل التعاليم الدينية منطقيا.
وتربط المؤلفة بين الفن والدين بطريقة افتعالية في بعض الأحيان. فالموسيقى، حسب المؤلفة، مثل التجربة الدينية في أفضل أحوالها تعيّن حدود العقل ولأن كل مجال معرفي يعرف بحدوده القصوى، فمن المنطقي أن تكون الموسيقى " تعريفيا" عقلانية. أي إنها نشاط عقلي عالي الدرجة لكن ذلك العقلاني الزخم له بعده المتسامي حيث تصل الموسيقى الى خارج نطاق متناول الألفاظ. فمثلا لا تمثل رباعيات بيتهوفن المتاخرة الحزن، لكنها تستثيره في المستمع والعازف معا، بيد انها من المؤكد ليست تجربة حزينة.
وهنا يمكن أن يطرح على المؤلفة التساؤل التالي اذا كان الدين ممارسة فإنه لا بد لهذه الممارسة من أطر نظرية تدعو الأفراد للايمان بها. وهذا يعني ان عملية التنظير قد تكون الخطوة الاولى لممارسة الدين. وتنطبق هذه الرؤية على الأديان التوحيدية بشكل خاص والتي تمتلك كتبا سماوية شكلت الرؤية لمختلف الأجيال وإن بدرجة متفاوتة وبفهم مختلف. فالنظرية القرآنية مثلا هي التي قادت الأجيال الأولى للممارسة وليس العكس. فهل كانت المؤلفة طوباوية في طرحها أم ارادت ان تخرجنا من عنق الزجاجة أي من أزمة التنظير الديني التي ادت إلى صراعات أيديولوجية عبر التاريخ. فلنكتفي باليوجا مثلا كممارسة رياضية روحية تعزز انماط التفكير الإيجابية؟
ومن نقطة ان الأسطورة والدين هما مجالين للممارسة وليس التنظير تصورت المؤلفة أزمة الأديان التوحيدية خاصة المسيحية حين جعلت الدين مجالا للجدل فحين " بدأ اللاهوتيون في تبني معايير العلم، مضوا يفسرون أساطير المسيحية على انها وقائع يمكن البرهان على صحتها امبيريقيا، وعقلانيا وتاريخيا، وزجوا بها في نطاق أسلوب تفكير غريب عنها. لم يعد بمقدور العلماء والفلاسفة فهم جدوى الطقوس أو معناها، وغدت المعرفة الدينية نظرية لا عملية. بحيث أصبح القبول الساذج بالتعاليم العقائدية متطلبا سابقا للإيمان، بدرجة أن أصبحنا كثيرا ما نتحدث عن المتدينين بصفتهم معتقدين Believers وكأنما القبول بالتعاليم التقليدية دونما مساءلة هو نشاطهم الاهم. ( تناقش المؤلفة في فصل "الإيمان" [ص148] بطريقة شيقة عميقة احاول اختصارها هنا أن كلمة I believe الإنجليزية لم تكن تعني أعتقد أو أؤمن وإنما تعني الولاء لكن ترجمة العهد الجديد من اليونانية إلى اللاتينية ومن ثم إلى الإنجليزية هي التي أدت إلى هذا التحريف).
ومن سياق فكرة الإيمان الأصم إن صح التعبير تنتقل المؤلفة إلى نقطة ساخنة مازال يدور حولها الجدل حيث ترى أنه نتج عن التأويل المُعقلن للدين ظاهرتان حديثتان متمايزتان: "الأصولية" و"الإلحاد" والاثنتان مترابطتان. إذ تفجر الورع القتالي الذي يعرف بالأصولية في جميع العقائد الأساسية تقريبا في القرن العشرين، فسر الأصوليون المسيحيون، ورغبة منهم في الإتيان بعقيدة كلية العقلانية والعلمية، تمحو الأسطورة لحساب الفكر المنطقي، لقد فسروا الكتاب المقدس باسلوب حرفي لا نظير له في تاريخ الأديان. في المقابل، تاريخيا، حسب المؤلفة، لم يكن الإلحاد سوى فيما ندر إنكارا للمقدس بذاته بل كان دائما يمثل رفضا لتصور بعينه للمقدس. كان المسيحيون والمسلمون، في مرحلة مبكرة من تاريخهم، يسمون ملحدين من قبل معاصريهم الوثنيين، لا أنهم كانوا ينكرون وجود الله بل لأن تصورهم للإله كان مختلفا بدرجة بدا معها وأنه نوع من المروق. وفي العصر الحديث طوّر فويرباخ وماركس ونيتشه وفرويد الإلحاد الغربي الكلاسيكي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. كانت أيديولوجياتهم في جوهرها رد فعل على المدرك اللاهوتي للإله الذي تطور في أوربا والولايات المتحدة في العصر الحديث، بل إن ذلك المدرك هو الذي أملى تلك الأيديولوجيات. اما الإلحاد المعاصر الذي يتبناه دوكينز وكريستوفر هيتشنز وسام هاريس فهو مختلف لأنه يركز حصريا على الإله الذي طورته الأصوليات، حيث يعتمد ثلاثتهم على ان الأصولية تشكل جوهر الدين جميعه ولبه. وقد أدى هذا حسب رأي المؤلفة إلى إضعاف جدلهم النقدي لأن الأصولية هي في واقع الأمر شكل غير تقليدي للعقيدة لدرجة التحدي وغالبا ما تسيء تمثيل الموروث الذي تحاول الدفاع عنه.
وقد قسّمت المؤلفة كتابها إلى بابين رئيسين: أسمت الباب الأول بالرب المجهول (30000ق.م- 1500) حيث قامت المؤلفة في هذا الباب، الذي شكّل نصف الكتاب، بمناقشة تصورات الأديان القديمة والتوحيدية للإله بطريقة تسلسلية بدءا من تحليل كهف لاسكو في فرنسا الذي يشير إلى رسومات أسطورية يعود تاريخها إلى 30000 ق.م وانتهاء بالقرن السادس عشر أو بداية عصر النهضة. لكن مناقشتها لم تكن سردا تاريخيا مملا إنما كانت بين الحين والآخر تخرج باستنتاجات فكرية وتدلل على أفكارها الجوهرية من وحي تاريخ الديانات الرئيسة في العالم. وقد دللت على كل مرحلة دينية تاريخية بكلمة جوهرية وُصم بها اسم الفصل. فمثلا في مرحلة الاديان الضاربة بالقدم التي لم يدلل على وجودها إلا الرسومات والاثار التي وصلت إلينا مثل العصر الحجري سمت فصلها " الإنسان ذلك المخلوق الديني" Homo Religiosus. وكان هذا الفصل من أمتع الفصول الذي غير كثيرا من اتجاهاتي حول الديانات قبل التاريخية وأنها فعلا ذات إرث انساني عريق. إنها أرادت أن تكشف لنا أنه في مرحلة العصر الحجري " لا هوة عميقة تفصل بين البشري والمقدس. كان الكاهن يرتدي الزي المقدس، أي جلد حيوان ليتقمص شخصية (الحيوان السيد) ويصبح تجسيدا مؤقتا للقدرة الإلهية". فلم يكن الطقس، في العالم قبل الحديث، نتاج افكار دينية، بل على النقيض، فقد كانت الافكار نتاج الطقوس. وبعد تاريخ العصر الحجري وصّفت المؤلفة لأديان القبائل الآرية القديمة التي كانت تسكن سهول القوقاز منذ حوالي عام 4500 ق.م. وبالمقارنة مع صيادي كهف لاسكو فإن الآريين لم يكونوا يفكرون بسهولة، من خلال الصور كما فعل "اللاسكيون" كان الصوت هو أحد رموزهم الرئيسة للمقدس من خلال تراتيل الريج فيدا Rig Vida، وذلك لأن فاعلية الصوت وطبيعته غير الملموسة بدت تجسيدا مناسبا بخاصة للبرهمن/الإله. بيد ان ريادة السومريين في تخطيط المدن كانت المصدر الرئيسي الذي استلهموا منه قصتهم عن بدء الخلق. تريد أن تقول لنا المؤلفة أن في الديانات القديمة كان هناك علاقة وثيقة بين الفن والدين فلاسكو اتخذت من الصورة طقسا لها لأن الصورة طبعت على كهوفهم كذلك الآريون اتخذوا من الصوت طقسا لهم من خلال التراتيل كذلك السومريون استوحوا قصة الخلق من خلال رؤيتهم لبناء حضارتهم. وتؤكد المؤلفة فكرة انه في الأزمان السحيقة كان يعتقد أن أحد الآلهة عرف بصفته "الإله العالي" أو "إله السماء" لأنه كان يسكن أقصى الأماكن القصية بالسماء، قد خلق بمفرده السماء والأرض. أسماه الآريون دياوس بيتر Dyaeus Pitr والصينيون تيان Tian وأسماه قدامى العرب الله، والسوريون إل عليون ( أعلى إله). وتتوصل المؤلفة في هذا الفصل الثري إلى جملة أفكار ثرية تستحق التأمل:
- لا تصبح حقائق الدين متاحة إلا إذا كان الإنسان مستعدا للتخلص من الأنانية والطمع والانشغال بالذات.
- لا يمكن للخطاب الديني الحق أن يؤدي إلى حقيقة واضحة مميزة يمكن إثباتها إمبيريقيا/ميدانيا!. ولعل هذه الفكرة من أعقد القضايا التي تواجه علماء الدين عندنا هل يمكن تطبيق مناهج المعرفة (الملاحظة والتجريب) على الدين؟
- القاعدة الذهبية لكونفوشيوس " لا تفعل ابدا بالآخرين ما لا تحب ان يفعلوه بك" تؤكد ان الدين شأن للممارسة لا للتفكير.
وفي فصل " الله" تحلل دلالات قصة آدم وحواء وضيوف إبراهيم وذبح ابنه وغرق فرعون في الديانات القديمة والتوحيدية. فمثلا ترى المؤلفة أن بعض المسيحيين الغربيين يقرأون قصة آدم وحواء على انها سرد واقعي للخطيئة الأصلية الاولى التي قضت على الجنس البشري بالهلاك الروحي الابدي. إننا نميل إلى النظر إلى تلك الحكايات القديمة من خلال فلتر التاريخ اللاحق ونسقط المعتقدات الراهنة على نصوص كانت تعني في الأصل شيئا مختلفا تماما.
وتميز هذا الفصل بقيامه بتحليل مقارن للنسخ التوراتية حول هذه القصص آنفة الذكر التي دار حولها الجدل، والتي تذكرني بكتابات السوري فراس السواح الذي حاول من خلال كتاباته في الميثولوجيا التدليل على أن هناك اتصالا وثيقا بين الروايات الأسطورية وروايات الكتب التوحيدية بشأن القصص الدينية الشهيرة على سبيل المثال ملحمة جلجامش.
وتوصلت المؤلفة في هذا الفصل بفكرة مثيرة مفادها أنه نظرا لأن الانجيل يتكون من نصوص متناقضة كثيرة ظلت قراءتنا له حتى الان انتقائية. لكن من المأساوي أن القراءة الانتقائية للنصوص المقدسة من اجل فرض وجهة نظر بعينها، أو تهميش الآخرين، ظلت إغراء دائما لأتباع الديانات التوحيدية.
وفي فصل "العقل" تحلل المؤلفة تصور الإغريق اليونان للإله. بدءا من ما باتوا يعرفون بـ "أتباع المذهب الطبيعي" Naturalists الذين كان تفكيرهم يرتكز على العالم المادي. امثال طاليس Thales (850ق.م) وآنا كزيمينيس (560-496 ق.م) ديموقريطيس (466-370 ق.م)...
وترى المؤلفة أن طقوس الإغريق كانت مصممة بحيث تعلم المشاركين التكيف مع أحزان الحياة من خلال جعلهم يواجهون ببسالة ومباشرة ما لا يمكن النطق به.
وتنتقل المؤلفة إلى مرحلة فلسفية إغريقية أرى انها كانت البذور الاولى للالحاد، حينما بدأ بعض فلاسفة الإغريق ينقدون الاساطير القديمة أمثال إكزنوفانيس وأناكساجوراس وبروتاجوراس. حين قال مثلا أناكساجوراس على " أن القمر والنجوم هي مجرد صخور ضخمة، وان من يتحكم في الكون ليس الآلهة بل عقل Nous مكون من مادة مقدسة".
ثم تعرضت لفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو تباعا حول تصورهم للإله ثم للمدارس الفلسفية الشهيرة بعد ارسطو: الأفلاطونية، الأرسطية، الشكوكية الابيقورية، الرواقية... وأخيرا العصر الهلنستي الذي تلا إنشاء امبراطورية الاسكندر الاكبر.
وتخلص المؤلفة في هذا الفصل إلى انه "لم تكن عقلانية الإغريق القدماء تتناقض مع الدين، كانت هي نفسها موروثا إيمانيا طور نسخته المميزة من المباديء التي أرشدت غالبية الموروثات الدينية".
لكن هنا يبدر التساؤل التالي: إذا كانت الفلسفة الإغريقية تشكل موروثا دينيا فلماذا قامت النهضة الأوربية على هذه الفلسفة؟ هل لأن هذه الفلسفة كانت على درجة من التنوع الفلسفي سمح لرواد التنوير اتباع منهج الانتقائية في الاستفادة من هذه الفلسفة أم أننا كثيرا ما نبالغ في ربط الدين بالفلسفة الإغريقية إلى درجة أننا لحظنا دعوات إلى اعتبار سقراط وأفلاطون وأرسطو... أنبياء؟
اما في فصل "الإيمان" فيدور حول تصور الحاخاماتية والمسيحية الجديدة والإسلام للإله (بدءا من عام 70م). وأعتقد ان هذا الفصل من أعقد الفصول إذ يتعرض للجدل اليهودي والمسيحي حول طبيعة الطقوس عبر الازمات والنكبات السياسية التي تعرض لها اليهود خلال العصر الروماني.
ويمكن تلخيص أهم الأفكار التي تمددت خلال هذا الفصل:
- بلغ دين اسرائيل مع اليهودية الحاخاماتية سن الرشد بتطويره نفس المباديء التراحمية مثل الموروثات الشرقية الأخرى. وهذه الفكرة بالتحديد بددت لي الكثير من الأفكار النمطية حول معتقد اليهود بأنهم شعب الله المختار فلعل هذه العقيدة لم تتمدد عبر تاريخ اليهود على سبيل المثال تعايش اليهود مع المسلمين دون ان يشعروا بهذا المعتقد وكانوا فاعلين حقيقيين في مجتمعاتهم، حيث اعتبر الحاخامات أن كراهية أي انسان صنع في صورة الله ترقى الى مرتبة الالحاد من ثم رأوا ان القتل ليس مجرد جريمة ضد الانسانية بل كفرا بالله.
- شكّلت هذه المرحلة (مرحلة الحاخاماتية والمسيحية الجديدة) مرحلة التأويل أو ما اسمته البريكولاج Bricolage وهو نوع من استيلاد المعاني الجديدة من النصوص القديمة. وقد يعتبر البعض ان هذا انتهاكا لسلامة النص الأصلي، لكن المؤلفة تعتبر أن هذا النهج أسلوبا ابداعيا للسير قدما بالموروثات حينما كان من المتعذر العثور على مادة جديدة وكان على الناس ان يعملوا على ما لديهم من مادة.
- كان الحاخامات يقدرون التوراة الشفاهية المصنوعة أكثر من أي نص مقدس مكتوب لأن هذا الموروث الحيّ يعكس تقلبات الفكر البشري ويُبقي على "الكلمة" الإلهية مرنة تستجيب للتغيرات.
- كانت دراسة التلمود البابلي ديموقراطية ومفتوحة للنهاية. إذا وجد دارس أنه لا يوجد من بين تلك المرجعيات المهيبة من يقدّم حلا يرضيه لمشكلة عليه ان يحسمها بنفسه. تساءل التلمود البابلي " ما التوراة؟" وكانت الإجابة " إنها تأويل التوراة".
- لا يهتم القرآن كثيرا بـ " الاعتقاد" والتنظير، ويتم التعاطي مع الجدالات الفقهية التي ينتج عنها صياغات عقائدية مبهمة تستعصي على الفهم بصفتها: "ظنا" أي تكهنات مغرقة في الذاتية عن أشياء لا يستطيع أحد إثباتها او نفيها، لكنها تتسبب في الصراعات والانقسامات الطائفية، ومثل العقائد والفلسفات الاخرى كان الإسلام أسلوبا للحياة (دينا).
وفي فصل "الصمت" تتحدث المؤلفة عن مطلع القرن الرابع الميلادي حيث بدأت المسيحية تتحرك باتجاه على قدر من الاختلاف. ففيما بدأ بعض المسيحيين يتجادلون برطانة حول التعريفات العقائدية الدوغماتية طور آخرون- ربما كرد فعل على هذا- روحانية الصمت وعدم إمكان معرفة ما لا سبيل إلى معرفته، وكان هذا توجها أصبح سمة على نفس الدرجة من الأهمية والتأثير. ويبدو لي ان الجدل المسيحي في هذه المرحلة بدأ باصطدامه بالفلسفة الإغريقية. فقد كان يبدو للمسيحيين "أن من العبث لأرسطو أن يتخيل إلها أزليا مستغرقا تماما في تأمل ذاته وفجأة يقرر خلق النظام الكوني". لقد اعلن قسطنطين الأول المسيحية دينا مسموحا به قانونيا رغم أنه لم يعمّد سوى على فراش موته. بيد أنه ثبت أن هذا الدعم الامبراطوري كان نعمة ونقمة في آن.
فمع تصاعد جدل المسيحية حول طبيعة المسيح قرر قسطنطين التدخل واستدعى جميع الأساقفة إلى نيفيا بآسيا الصغرى في 20 مايو عام 325. وتمكن أثانا سيوس من فرض آرائه على الوفود، وأصدر هذا المجمع السكوني "مجمع نيقيا الشهير" بيانا بأن المسيح الكلمة، لم يُخلق، بل أُنجب "بأسلوب مقدس لا يمكن النطق به او وصفه" من جوهر الأب- لا من العدم مثل كل شيء آخر. في المقابل كان فهم المسيحيين الشرقيين لتجسد المسيح مختلفا تماما عن نظرائهم الغربيين.
نتج عن مجمع نيقيا ما سماه المؤلف " الصمت" أو إن شئت قل ما لاسبيل إلى معرفته بإطلاقه. كان إفاجريوس البنطي (348-399)، في الصحراء المصرية يعلم رهبانه فنون التركيز اليوجية التي كانت تبعث فيهم السكينة، بحيث، وبدلا من السعي إلى تحديد المقدس بحصره داخل مصنفات عقلانية بشرية، يصبح باستطاعتهم تنمية صمت مُصغ متيقظ. وكان جريجوري (331-395) أحد أشهر الداعين الى لاهوت الصمت الجديد، على الرغم من معرفة جريجوري أن بيان نيقيا قد ادى الى تشوش مسيحيين كثيرين.
وترى المؤلفة أن النهج الصامت كان مركزيا في أسلوب فهم اللاهوتيين الغربيين للحقيقة الدينية وفي الأسلوب الذي كانوا به يثقفون العامة عن كيفية التفكير في الله. وبمقدم العصور الوسيطة كانت العادة الصامتة قد أصبحت متأصلة في الوعي المسيحي الغربي.
والفكرة الاخيرة قادت المؤلفة إلى الفصل الأخير من الباب الأول " الإيمان والعلم" ففي نهاية القرن الحادي عشر كان الفلاسفة واللاهوتيون الغربيون قد اضطلعوا بمشروع اعتقدوا أنه جديد تماما. بدأو يطلقون التفكير المنطقي، منهجيا، على حقائق العقيدة الإيمانية. كانت أوربا آنذاك قد بدأت تستفيق من العصور المظلمة التي كانت قد دهمتها بعد سقوط روما. ففي تلك الأثناء وفيما تعرف الرهبان الأوربيون على الإرث الفكري لجيرانهم الأكثر رقيا في العالميّن البيزنطي والإسلامي، بدأوا يفكرون ويؤدون الصلوات بأسلوب أكثر "عقلانية". وكان أحد قادة الدعاة إلى تلك الروحانية الجديدة هو "آنسلم" من نورماندي.
ويمكن تحليل ما تريد أن توصله المؤلفة، أن بداية تأثر المسيحية الوسيطة بالفلسفة الإسلامية بدأ عن طريق المترجمين المسيحيين المحليين الذين تعاطوا في البداية مع العلوم الوضعية مثل الطب والفلك؛ ثم بعد ذلك، أولوا اهتمامهم لأعمال افلاطون وأرسطو وأفلوطين الميتافيزيقية، بحيث أصبح إرث الإغريق الفلسفي والعلمي، تدريجيا متاحا للعالم المتحدث بالعربية مع اهتمام خاص بالعلوم.
وبشيء من الإسهاب، تتعرض المؤلفة إلى العصر الذهبي للإسلام. حيث " بدأ المسلمون بدراسة علم الفلك، والكيمياء والطب والرياضيات ونجحوا في هذا وكانت لهم اكتشافاتهم المثيرة للاعجاب. طوروا مبحثا خاصا بهم أسموه الفلسفة. ومثل فلاسفة القرن الثامن، أراد المسلمون أن يعيشوا وفقا للقوانين العقلانية التي اعتقدوا انها تحكم النظام الكوني. فقد كان هؤلاء علماء ورياضيين، وأرادوا تطبيق ما تعلموه على الدين". وهنا تقصد المؤلفة على الأرجح الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد الذين وقف الغزالي في اتجاه مضاد لهم والذي عبر عن رأي الجمهور بينما لم يلقى هؤلاء الفلاسفة حسب رأيي قبولا في العالم الإسلامي. وما زالوا يشكلون مادة فكرية تأريخية وغير فاعلة... ليس أكثر من هذا.
وتذكر المؤلفة إحدى المفارقات العجيبة أنه بينما كان المسيحيون يذبحون المسلمين خلال الحملات الصليبية- مثلا حينما اجتاحوا القدس في يوليو 1099 قاموا بذبح ثلاثين ألف مسلم ويهودي ويقال إن بحور الدماء كانت تصل إلى ركب خيولهم- كان بعض المسيحيين يسافرون إلى إسبانيا للدراسة على أيدي العلماء المسلمين بقرطبة وطليطلة، حيث هناك اكتشف هؤلاء الأوربيون أعمال ارسطو والعلماء والفلاسفة الإغريق التي كانت قد فُقدت بالنسبة لهم منذ سقوط روما.
بحلول القرن السادس عشر كانت أوربا على حافة تغير اجتماعي، ثقافي، سياسي، وفكري كبير. وفيما كانت تلج العصر الحديث شهدت الروحانية تراجعا كبيرا، بل ربما أنها ستجد من الصعوبة بمكان ان تستجيب للتحديات بأسلوب مبتكر.
ومن هذه التغيرات الرهيبة التي سوف تحصل فيما يعرف بـ"عصر النهضة" ينتقل بنا المؤلف إلى الباب الثاني من الكتاب الذي عنونه بـ " الرب الحديث من عام 1500 وإلى يومنا هذا". وفي هذا الباب يتتبع المؤلف صعود " الإله الحديث" الذي قلَبَ الكثير من المسلمات التقليدية رأسا على عقب. وهذا ما سأحاول الوقوف عليه في الجزء الثاني من هذا المقال.



#أحمد_جميل_حمودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النمط القيادي والاتصال الاداري بالمدارس الثانوية
- الاعتماد الجامعي في ضوء متطلبات عصر المعرفة
- جدل الهوية: اللغة في التعليم الأكاديمي
- الحرية الأكاديمية ورياح التغيير
- السياسة التعليمية في ماليزيا
- انها الضربة الحاسمة لاسرائيل على ايران
- تقرير التنمية الانسانية العربية,2009: راديكالية تحت الرماد ( ...
- ترويض النمور: كيف خرج النمو القائم على التصدير لاقتصادات آسي ...
- النموذج الماليزي للتنمية: خطوات محددة ورؤية واضحة
- ذهنية التحريم من عصر الحرملك الى عصر الانترنت
- في نادرة من نوادر الحكام العرب, حسني مبارك يكتب -كيف نحقق سل ...
- مدخل الى الأنسنية
- السلطة والجنسانية في الشرق الأوسط
- انطولوجيا
- أسئلة وجودي؟
- الطفل التوحدي بين مسؤولية الدولة وتقبل المجتمع
- ادارة المعرفة في المؤسسات التعليمية
- الخيال العلمي كمدخل تعليمي
- هابرماس: من نقد الماركسية إلى نقد ما بعد الحداثة
- قبل ان تحين ساعة الصفر


المزيد.....




- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد جميل حمودي - الله... لماذا؟ رؤية نقدية (الجزء الأول)