أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - إشكاليات في المعرفة الكونية















المزيد.....

إشكاليات في المعرفة الكونية


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 3207 - 2010 / 12 / 6 - 15:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"الزمن الكوني" لا يَعْرِف، ولن يَعْرِف أبداً، ما يُدْعى "الآن (الكونية) الواحدة المُطْلَقَة"، فإنَّ "الآنية"، بمعناها هذا هي شيء مستحيل الوجود.

لماذا؟

لأنَّ "المعلومة (الكونية)" من "ضوء"؛ والضوء الحامِل (الناقِل) المعلومة على متنه، والذي بفضله نرى ونَعْرِف ونَكْتَشِف الأشياء، لا يَنْتَشِر (مِن مَصْدَرِه إلى عيوننا) انتشاراً "لحظياً (فورياً)"، فهو يَنْتَشِر (يسير، يَنْتَقِل، يسافِر) في (أو عَبْر) الفضاء (أو الفراغ) بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة (تقريباً). إنَّها سرعة عظيمة (بل هي السرعة القصوى في الكون والطبيعة) لكنْ محدودة.

هي "السرعة القصوى"؛ لأنَّ الأشياء جميعاً إمَّا أنْ تَصِل "مع" الضوء، وإمَّا أنْ تَصِل "بَعْدَه"؛ وليس من جسم، أو جسيم، يمكنه أنْ يسبق الضوء، أي أنْ يَصِل "قَبْله". و"المادة التي لها كتلة Mass (أي تملك ولو نزراً ممَّا يسمَّى "كتلة السكون")" لا يُمْكِنها أبداً أنْ تسير بسرعة الضوء؛ أمَّا "المادة التي لا تَمْلُك شيئاً من الكتلة"، أي "الطاقة"، فهي وحدها التي تسير (وينبغي لها أنْ تسير) بسرعة الضوء.

في إحدى ليالي 1987، أضاءت السماء (الكونية) فجأةً، فإنَّ نجماً ضخم الكتلة والحجم انفجر "في تلك الليلة"؛ وهذا الانفجار، الذي لغزارة ضوئه كاد أنْ يَجْعَل "ليل" الكون "نهاراً"، هو ظاهرة كونية تسمَّى "سوبر نوفا (Supernova)".

"الخبر الصحافي" ينبغي له (حتى يكون "خبراً") أنْ يتضمَّن إجابة سؤالين، هما: "أين حدث هذا الذي حدث؟"، و"متى حدث؟"؛ ونحن اعتدنا أنْ نفهم "متى" على أنَّها شيء منفصل ومستقل عن "أين".

ذلك الانفجار (في إجابة سؤال "أين وقع؟") وقع في المجرَّة المجاوِرة لمجرَّتنا ("درب التبانة") والتي تُدْعى "سحابة ماجلان الكبيرة" Large Magellanic Cloud. وهذه المجرَّة تَبْعُد عنَّا نحن سكَّان كوكب الأرض نحو 190 ألف سنة ضوئية (الضوء يقطع في كل ثانية 300 ألف كيلومتر).

متى وقع (ذلك الانفجار)؟

إنَّ اثنين من سكَّان كوكب الأرض مِمَّن شاهدوا الانفجار لن يختلفا في إجابة هذا السؤال؛ فالانفجار وقع، على ما شاهدوا، "في تلك اللحظة من تلك الليلة من سنة 1987".

أمَّا سكَّان كوكب موجود على مقربة من "مسرح الحدث"، أي من موضِع حدوث ذلك الانفجار، فلن يتَّفِقوا معنا في الإجابة، وسيقولون لنا: إجابتكم خاطئة، فالانفجار شاهدناه قبل أن تشاهدوه بنحو 190 ألف سنة!

في تلك اللحظة من تلك الليلة من سنة 1987، يستطيع المشاهِد الأرضي (الذي شاهد الانفجار) أن يقول: "الآن" وقع؛ لكنَّ سكَّان ذلك الكوكب البعيد (الافتراضي) لهم كل الحق في أنْ يعترضوا قائلين له: هذا الانفجار وقع "من قبل"، أي قبل نحو 190 ألف سنة، ولم يقع "الآن".

تخيَّل أنَّ "مصوِّراً" كان هناك، أي حيث وقع الانفجار، وأنَّ هذا "المصوِّر" التقط (بكاميرته) صورة لهذا الانفجار، وانطلق، من ثمَّ، نحو كوكب الأرض، حاملاً معه تلك الصورة، ليرينا إيَّاها.

وَلْتتخيَّل أيضاً أنَّ هذا "المصوِّر (الذي هو كناية عن "الضوء")" يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية.

لقد وصل إلينا سنة 1987، منهياً رحلة فضائية استغرقت نحو 190 ألف سنة؛ ثمَّ أرانا تلك "الصورة" التي التقطها (قبل نحو 190 ألف سنة).

إنَّ ما شاهدنا (في السماء) في تلك اللحظة من تلك الليلة من سنة 1987 ليس سوى "صورة (ضوئية) قديمة"؛ إنَّها "صورة" الْتُقِطَت للانفجار قبل نحو 190 ألف سنة؛ لكنَّها لم تصل إلى عيوننا إلاَّ في تلك السنة، فهذه "الآن (الكونية)" تخصُّ حادثاً حدث في الماضي السحيق (أي قبل نحو 190 ألف سنة).

سكَّان كوكب آخر، يَبْعُد عن "مسرح الحدث" 200 ألف سنة ضوئية لن يشاهدوا ما شاهدناه، نحن سكان كوكب الأرض، إلاَّ بَعْد 10 آلاف سنة؛ فإنَّ "المصوِّر" الذي زارنا سنة 1987، وأرانا "الصورة"، والذي استأنف، على الفور، رحلته الفضائية نحوهم لن يصل إليهم إلاَّ بعد 10 آلاف سنة.

الانفجار نفسه هو، على ما رأينا، "اجتماع الأفعال الثلاثة معاً (الماضي والحاضر والمستقبل)".

سنة 1987، رأينا ذلك الانفجار، والذي هو انفجار نجم ضخم الكتلة والحجم؛ فإذا أردنا أنْ نَعْرِف الهيئة التي يوجد عليها "الآن" النجم الذي انفجر فإنَّ علينا الانتظار 190 ألف سنة، فـ "الصورة (مع "المصوِّر")" ما زالت تخطو خطواتها الأولى على الطريق إلينا.

إنَّكَ لن ترى من الأشياء جميعاً "الآن" إلاَّ "صورها القديمة"، أي الصور (الضوئية) التي فيها تَظْهَر الأشياء في الهيئات التي كانت عليها في ماضيها "الأقرب"، أو "القريب"، "الأبعد" أو "البعيد".

لو رأيتَ "الآن" حادث انفجار وقع في مكان يبعد عنك 300 ألف كيلومتر فإنَّ هذا الذي رأيته "الآن" هو حادث حدث قبل ثانية واحدة من رؤيتكَ له؛ ولو وقع في مكان يبعد عنك 150 ألف كيلومتر فإنَّكَ ستراه في ماضيه أيضاً، فهو وقع قبل نصف ثانية من رؤيتك له؛ ولو وقع في مكان (في الكون) يبعد عنك 10 بلايين سنة ضوئية فإنَّكَ ستراه في ماضيه السحيق، فهو وقع قبل 10 بلايين سنة من رؤيتك له (الآن).

إنَّ كثيراً من الأشياء التي تراها الآن في السماء قد اختفت من الوجود قبل ملايين، أو بلايين، السنين؛ وإنَّ كثيراً من الأشياء الموجودة الآن في الكون لم تَرَها بَعْد؛ لأنَّ "صورها (أي الضوء المنطلق منها)" لم تَصِل إلينا بَعْد.

تخيَّل أنَّ سكَّان كوكب يبعد عنَّا 80 مليون سنة ضوئية، وأنَّ لديهم من "العيون الاصطناعية (كالتليسكوب)" ما يمكِّنهم من رؤية كوكب الأرض في وضوح، فما الذي يرونه "الآن"؟

إنَّهم يرون كوكب الأرض وقد امتلأ بالديناصورات، فالإنسان، بحسب مشاهدتهم، لم يَظْهَر بَعْد.

"المعلومة (الكونية)" أو صورة الجسم (مجرَّة أو نجم أو كوكب..) هي "ضوء".. هي جسيم يسمَّى "فوتون"، ويسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، فنحن بفضل الضوء المنبعث من الجسم، أو المرتد عنه، نرى هذا الجسم، فما معنى أنْ ترى، مثلاً، وردةً حمراء؟

قبل أنْ تراها، ومن أجل أن تراها، لا بدَّ لضوء ما من أن يسقط عليها؛ وهذا الضوء (أو الضوء عموماً) يمكن تصوُّره على أنَّه شيء مُركَّب من سبعة ألوان (أحمر، برتقالي، أصفر، أخضر، أزرق، نيلي، بنفسجي).

الوردة، في جزئها الأحمر، تمتصُّ من هذا الضوء الساقِط عليها ستَّة ألوان، مُطْلِقَةً اللون المماثِل للونها، وهو اللون الأحمر، فَيَنْفُذ هذا "الضوء الأحمر" إلى عينيكَ، فترى، عندئذٍ، وردةً حمراء.

تراها واضحة تماماً إذا ما كانت على مقربة منك؛ لأنَّ المقدار الأكبر من ضوئها (الأحمر) يَدْخُل في عينيك؛ وكلَّما بَعُدَتْ عنك تضاءل مقدار ما يَدْخُل إلى عينيك من ضوئها، فتراها، من ثمَّ، في وضوح أقل.

ومن أجل أنْ ترى الوردة البعيدة في وضوح أكثر لا بدَّ لك من أنْ تستعمل "عيناً اصطناعية" هي التليسكوب، الذي هو أداة تَسْتَجْمِع وتُركِّز "خيوط الضوء"، فَتُدْخِل في عينيك مقداراً أكبر من ضوء الوردة البعيدة، فتراها، من ثمَّ، وعلى بُعْدِها، في وضوح أكثر.

إنَّ توضيح صورة جسم بعيد (كوكب بعيد مثلاً) يعني أنْ تُدْخِل في عينيك (من خلال التليسكوب) مقداراً أكبر من ضوء هذا الجسم.

و"صورة الجسم" إنَّما تشبه "كلمة"، حروفها على هيئة "نُقَط"، فأنتَ تراها في منتهى الوضوح إذا ما رأيتَ كل النُّقَط التي تُكوِّن حروفها؛ وتراها أقل وضوحاً إذا ما رأيْتَ كمية أقل من تلك النُّقَط.

وإنَّ التليسكوب هو الآلة التي تَسْتَجْمِع لعينيكَ أكبر كمية يمكنها استجماعها من تلك النُّقَط.

والتليسكوب يشبه "آلة الزمن" التي من خلالها نزور الأشياء (في الكون) في ماضيها، فأنت َ برويتكَ (من خلال التليسكوب) كوكباً يَبْعُد عنَّا 10 ملايين سنة ضوئية، مثلاً، تزور هذا الكوكب في ماضيه السحيق، أي تراه في الهيئة التي كان عليها قبل 10 ملايين سنة؛ وكلَّما نَظَرْتَ (عبر التليسكوب) إلى الأبعد (مكاناً) في الكون زُرْتَ الأقدم، أي الأبعد (زماناً).

وثمَّة أجسام في الكون لا نراها الآن؛ مع أنَّ ضوءها وصل إلينا منذ زمن بعيد. إنَّنا لا نراها؛ لأنْ ليس لدينا بَعْد من "العيون الاصطناعية" ما يستطيع استجماع وتركيز خيوط ضوء تلك الأجسام بما يفي بالغرض، وهو إدخال مقدار كاف من ضوئها في عيوننا (الطبيعية).

ولفهم "الآن"، لجهة صلتها بـ "الماضي" و"المستقبل"، تخيَّل أنَّك تقود سيَّارة في طريق مستقيمة لا نهاية لها؛ فإنَّكَ كلَّما اجْتَزْتَ مسافة، ولو صغيرة جداً، زاد طول المسافة المُجْتازة؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "الآن" تُسْتَنْفَد، مضاعِفَةً حجم "الماضي"، من غير أن تقلِّل حجم "المستقبل"؛ لأنَّ حجمه لا نهائي.

إنَّ "الآن" هي "لحظة قَيْد التحوُّل إلى ماضٍ، أو إلى مزيدٍ من الماضي، أو إلى الماضي الأقرب"؛ لكنَّ هذا "الماضي الجديد" لن يتحقَّق إلاَّ مع تحقُّق ما كان منتمياً إلى "المستقبل"، أي مع تحوُّل هذا الذي كان منتمياً إلى "المستقبل" إلى "حاضرٍ جديد"؛ وهذا هو المعنى المزدوج لـ "زوال الحاضر (أي لزوال "الآن")".

الأجسام في الكون، ولجهة صلتها بالضوء المرئي، بعضها، كالنجوم، مُنْتِج، مولِّد، للضوء (والحرارة) فالاندماج النووي في باطن النجم يُحوِّل بعضاً من كتلته إلى ضوء وحرارة، ينتشران في الفضاء؛ وبعضها نراه؛ لأنَّ الضوء الساقِط عليه لا يخترقه، ويرتدُّ عنه، منتَشِراً في الفضاء، فإذا وصل إلينا، واخترق عيوننا، رأيناه (أي رأينا الجسم الذي ارتدَّ عنه هذا الضوء). أمَّا إذا كان الجسم لا لون له، أي إذا كان "أسود اللون"، فإنَّه يمتص كل الضوء الساقِط عليه.

ورؤية الجسم من خلال، أو بفضل، الضوء المرتد عنه تظلُّ رؤية سطحية، فإنَّ "سطح" الجسم، لا "باطنه"، أو "عمقه"، هو ما يرينا إيَّاه الضوء المرتد عنه.

و"المعرفة الكونية" تظلُّ غير واضحة، يكتنفها كثيرٌ من "عدم اليقين"؛ لأنَّ جسيم الضوء هو "الفوتون"؛ و"الفوتون" لا يختلف في الخواص والجوهر عن "ضديده"، فالضوء بحدِّ ذاته لا يحيطنا عِلْماً بماهية المادة التي إليها ينتمي الجسم الذي يرينا إيَّاه، فمادة هذا الجسم قد تكون من جنس "المادة المضادة" Antimatter.

إنَّ الضوء (المرئي) هو الذي بفضله نرى الأجسام في الكون، ونستدل على وجودها، أو على أنَّها كانت موجودة؛ لكن ثمَّة نوع من الأجسام من فَرْط جاذبيته، أو لشدَّة انحناء "الزمكان (Spacetime)" الخاص به، لا يستطيع حتى الضوء، وعلى سرعته التي لا تفوقها سرعة، الإفلات من قبضة جاذبيته؛ وهذا النوع هو ما يسمَّى "الثقب الأسود" Black hole.

"الثقب الأسود"، وبحسب خواصه الفيزيائية التي يتصوَّرها، أو يفترضها، معظم الفيزيائيين الكونيين، هو أشبه ما يكون (من الوجهة الفلسفية) بـ "الشيء الكانطي (نسبةً إلى الفيلسوف الألماني كانط)"، أي الشيء الذي لن يتمكَّن العقل البشري أبداً من معرفة ماهيته.

هذا الجسم هو "الكثافة المطلقة"، المتأتية من اجتماع "الكتلة المحدودة" و"الحجم الصفري (أو المعدوم)"؛ وهو، من ثمَّ، "الانحناء الأقصى (إنْ لم يكن المطلق) للزمكان"، أو "الجاذبية التي في منتهى القوَّة والشِّدة".

وهذا إنَّما يعني أنْ لا شيء، ولو كان الضوء نفسه، والذي يسير في الفراغ بسرعة هي السرعة القصوى في الكون، يمكنه الإفلات من قبضة جاذبيته؛ والنتيجة المترتبة على ذلك هي استحالة معرفة ماهية "الثقب الأسود"، فالمعرفة هي "معلومة يحملها الضوء"؛ والضوء لا يمكنه أبداً مغادرة هذا الجسم.

لكنَّ استحالة معرفة ماهية هذا الجسم لا تعني أنَّ الاستدلال على وجوده هو أيضاً أمْرٌ مستحيل، فإنَّ تأثير الجاذبية القوية لهذا الجسم في كل ما يقع على مقربة منه من أجسام ومواد هو ما يُثْبِت ويؤكِّد وجوده.

والمعرفة الكونية تزداد تعقيداً مع افتراض أنَّ معظم المادة في الكون هو من جنس "المادة الداكنة" Dark matter. إنَّها "داكنة (أو مظلمة)"؛ لأنْ لا ضوء (ولا معلومة من ثمَّ) يمكن أن يصدر عنها؛ وهي، أيضاً، يُسْتَدلُّ على وجودها من خلال تأثير جاذبيتها بـ "المادة العادية"، وبـ "الخواص الهندسية" للفضاء.

والقسم الأعظم من "المادة الداكنة" يُوْجَد، على ما يفترض فيزيائيون كونيون الآن، على شكل "طاقة داكنة" Dark energy، يَنْسِبون إليها ظاهرة "التمدُّد الكوني"، و"تسارع" هذا التمدُّد الآن؛ وهذا "التمدُّد الكوني (مع تسارعه الآن)" هو، أيضاً، مَصْدَر لمزيد من الإشكاليات في معرفة الكون.

و"تمدُّد الكون" يشبه تمدُّد بالون ضخم، نُقِّط سطحه بعدد من النُّقَط، فكلَّما أدْخلنا فيه مزيداً من الهواء تمدَّد، واتَّسعت المسافة بين كل نقطة وسائر النُّقَط. وهذا الاتِّساع للمسافة لا يعني أنَّ النُّقَط هي التي تتحرَّك على سطح البالون مبتعدةً عن بعضها بعضاً، فغشاء البالون، والذي هو كناية عن "الفضاء"، هو الذي يتمدَّد، فنرى، من ثمَّ، النُّقَط تبتعد، أو ترتد، عن بعضها بعضاً.

في نظرية "الانفجار الكبير" Big bang، يُفسَّر "تمدُّد الكون" على أنَّه نتيجة لـ "تمدُّد الفضاء نفسه"؛ ويُنْظَر إلى "النُّقَط" على "سطح البالون الكوني الضخم" على أنَّها كناية عن "زُمَر المجرَّات"، فالفضاء المتمدِّد، المتسارِع تمدُّداً الآن، ليس الفضاء بين النجوم ضمن كل مجرَّة، وليس الفضاء بين المجرَّات ضمن كل "زُمْرَة من المجرات"، وإنَّما "الفضاء بين زُمَر المجرَّات".

النجم يتحرَّك "في (أو عبر)" الفضاء الداخلي لكل مجرَّة؛ والمجرَّة تتحرَّك "في (أو عبر)" الفضاء الداخلي لكل "زُمْرة مجرَّات"؛ أمَّا "زُمْرة المجرَّات" نفسها فلا تتحرَّك "في (أو عبر)" الفضاء بينها وبين "زُمَر المجرَّات" الأخرى. إنَّها، فحسب، تتحرَّك، وتنتقل، "مع" هذا الفضاء، فالفضاء بين "زُمَر المجرَّات" الساكنة الثابتة (غير المتحرِّكة في الفضاء) يتمدَّد، في استمرار، كما يتمدَّد غشاء البالون، فتبدو "زُمَر المجرَّات" تتباعد، أو ترتد عن بعضها بعضاً، كما "النُّقَط" على سطح البالون المتمدِّد.

إنَّ تلك "الزُّمَر من المجرَّات" تشبه "جُزُرَاً"، أو "أرخبيلاً"؛ وهذه "الجُزُر" الثابتة في أمكنتها تبدو تتباعد؛ أمَّا السبب (الخيالي) لتباعدها الظاهري فهو "تمدُّد البحر نفسه".

هذا "التمدُّد الفضائي (المتسارع)" يَخْلِق إشكالية كبيرة في "المعرفة الكونية"، فإنَّ كل "زُمْرة من المجرات" نراها الآن لن تكون "الآن" في الموقع الكوني " الذي نراها فيه، وإنَّ أجزاء من الكون يمكن أن تصبح منفصلة (فيزيائياً) تماماً عن كوننا.

تخيَّل أنَّ "زُمْرة (ما) من المجرَّات" تبعد "الآن" عن كرتنا الأرضية 9000 م. لقد انطلقت منها "الآن" رصاصة (هي كناية عن الضوء) نحو الكرة الأرضية.

افْتَرِضْ أنَّ سرعة هذه الرصاصة (أي الضوء) 3000 م في الثانية الواحدة.

لو كان الفضاء ثابت الحجم، لا يتمدَّد، لوصلتنا الرصاصة بعد 3 ثوانٍ من انطلاقها؛ وسنقول، عندئذٍ، في يقين، إنَّ الرصاصة قطعت مسافة 9000 م في 3 ثوانٍ، وإنَّ تلك "الزُّمْرة من المجرات" ما زالت تبعد عنَّا 9000 م (أي أنَّها ما زالت في موقعها الكوني نفسه).

لكنْ تخيَّل الآن أنَّ المسافة التي قطعتها الرصاصة أصبحت، بسبب تمدُّد الفضاء بين النقطة (الفضائية) التي من عندها انطلقت الرصاصة وبين الكرة الأرضية، 13500 م؛ لقد ابتعدت "زُمْرة المجرَّات" عن تلك النقطة (الفضائية) 4500 م، وزادت، في الوقت نفسه، المسافة بين النقطة والأرض 4500 م، فأصبح طول هذه المسافة عند وصول الرصاصة 13500 م.

لقد سارت الرصاصة في مسارٍ (فضائي) يزداد طولاً كل ثانية؛ فهي تقترب من كوكب الأرض الذي يبتعد عنها في الوقت نفسه؛ لكنَّها وصلته أخيراً، قاطعةً في 4.5 ثوانٍ مسافة 13500 م، وليس مسافة 9000 م؛ فنقول، من ثمَّ، إنَّ "زُمْرة المجرَّات" تلك تبعد عنَّا "الآن" 13500 م (لكنَّ بُعْدها الفعلي هو 18000 م).

كان ينبغي للرصاصة أن تصل إلينا بعد 3 ثوانٍ من انطلاقها؛ لكنَّها وصلت بعد 4.5 ثوانٍ.

كان ينبغي لها أن تقطع مسافة 9000 م؛ لكنَّها قطعت مسافة 13500 م.

كان ينبغي لـ "زُمْرة المجرَّات" تلك أن تظل بعيدة عنَّا 9000 م؛ لكنَّها أصبحت تبعد عنا (لدى وصول الرصاصة) 18000 م.

في خلال 4.5 ثوانٍ زاد طول المسار 4500 م، أي أنَّ سرعة تمدُّد الفضاء كانت 1000 م في الثانية؛ وهي سرعة أقل من سرعة الضوء (أو الرصاصة) والتي في مثالنا التخيُّلي هذا تبلغ 3000 م في الثانية.

إنَّ الفضاء هو وحده (بحسب نظريات آينشتاين) الذي يستطيع أنْ يكون أسرع من الضوء في تمدُّده؛ فإذا افترضنا أنَّ الفضاء بين "النقطة" تلك وبين كرتنا الأرضية قد تمدَّد بسرعة 3500 م في الثانية (وظل يتمدَّد بهذه السرعة، أو بسرعة أكبر) فهذا إنَّما يعني أنَّ تلك الرصاصة (الضوء، أو كل تأثير فيزيائي) لن تصل أبداً إلى أرضنا.



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخيارات الستَّة البديلة!
- حلٌّ من طريق -تجميد- خيار المفاوضات!
- العالم على شفير -حرب عملات-!
- مصر تضيف -العلمانية- إلى -الديمقراطية- في انتخاباتها البرلما ...
- أُمَّة تَنْتَحِر بسلاح التعصُّب!
- شرط نتنياهو ولا -صفقة أوباما-!
- مجلس نيابي يمثِّل 470 ألف مواطن!
- كيف نفهم -سرعة الضوء-؟
- لم أرَ انتخابات تشبه التعيين أكثر منها!
- ما بين وزير الداخلية الأردني والفيلسوف هيجل!
- بلفور إذ تعدَّد!
- أخلاق انتخابية وانتخابات أخلاقية!
- كيف تُشْرِك الشعب في الانتخابات وتقصيه عن -البرلمان-؟!
- الانتخابات الأردنية..التحريض على المقاطعة!
- بلفور الفلسطيني!
- صراع رُبْع الساعة الأخير.. إسرائيلياً وفلسطينياً!
- -القرار الفلسطيني-.. معنىً ومبْنىً!
- فتوى جيِّدة لزمن رديء!
- 26 أيلول.. ما قبله وما بعده!
- هل تتلاشى فلسطينية -القضية الفلسطينية- بعد تلاشي قوميتها؟!


المزيد.....




- السعودية.. الديوان الملكي: دخول الملك سلمان إلى المستشفى لإج ...
- الأعنف منذ أسابيع.. إسرائيل تزيد من عمليات القصف بعد توقف ال ...
- الكرملين: الأسلحة الأمريكية لن تغير الوضع على أرض المعركة لص ...
- شمال فرنسا: هل تعتبر الحواجز المائية العائمة فعّالة في منع ق ...
- قائد قوات -أحمد-: وحدات القوات الروسية تحرر مناطق واسعة كل ي ...
- -وول ستريت جورنال-: القوات المسلحة الأوكرانية تعاني من نقص ف ...
- -لا يمكن الثقة بنا-.. هفوة جديدة لبايدن (فيديو)
- الديوان الملكي: دخول العاهل السعودي إلى المستشفى لإجراء فحوص ...
- الدفاع الروسية تنشر مشاهد لنقل دبابة ليوبارد المغتنمة لإصلاح ...
- وزير الخارجية الإيرلندي: نعمل مع دول أوروبية للاعتراف بدولة ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - إشكاليات في المعرفة الكونية