أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مازن كم الماز - من التاريخ , عن صلاح الدين الأيوبي















المزيد.....


من التاريخ , عن صلاح الدين الأيوبي


مازن كم الماز

الحوار المتمدن-العدد: 3205 - 2010 / 12 / 4 - 13:47
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


للتاريخ نسخة رسمية , و هي المعتمدة غالبا , عن "الحقيقة" التاريخية , و إلى جانبها عدة نسخ معارضة لتلك النسخة الرسمية , و أخيرا هناك الحقيقة التاريخية كما جرت بالفعل . و نحن للأسف نبقى عاجزين في معظم الأحيان عن معرفتها . و الحقيقة أن شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي تعتبر في صميم هذه النسخة ( أو القراءة ) الرسمية للتأريخ , ذلك أن مثل هذه الشخصيات , القليلة و ربما النادرة في التاريخ , هي من تستخدم لتبرير أية سلطة قائمة و لو كانت تمارس بالفعل ما يناقض الدور المنسوب لصلاح الدين تاريخيا أي مقاومة الغزوات الخارجية , حتى من حلل أو يحلل التاريخ مثلا من وجهة نظر أنظمة الاعتدال العربي اليوم لم يجرؤ على مس هذا المحور المركزي لتبرير الاستبداد و الدولة القائمتين , فمن دون صلاح الدين و خالد بن الوليد و أمثالهم تتعرى الدولة كوحش لا يعرف الرحمة و لا يكترث إلا بالسادة و لا يخدم إلا مصالحهم , لذلك نادرا ما انتقدت هذه الشخصيات إلا بسبب تباينات جذرية عميقة مع "دورها" الرسمي في التاريخ كاختلاف مذهبي لا يمكن معه ابتلاعها . الحقيقة الأخرى أنه لا توجد حكمة حقيقية من التاريخ , خلافا لما تقوله النسخة السائدة عنه , فالتاريخ هو في الحقيقة قصة المجازر و حروب السلب و النهب و الفتوحات التي مثلت مصدر المعاناة الحقيقي للآلاف المؤلفة من البشر الذين عاشوا في أسفل الهرم الاجتماعي لتلك المجتمعات , و إما أنهم سيقوا إلى تلك الحروب ليكونوا وقودا لها أو أنهم كانوا ضحايا تلك الجيوش الفاتحة , و كل هذه الآلام و المآسي لا تصلح مادة لأية حكمة على الإطلاق , لكن الصدفة في التاريخ غريبة لدرجة أنها قد توهم بهذه الحكمة , بحيث أن تكرار بعض الظواهر أو المواقف في ظروف مختلفة قد يبعث على الشعور بحكمة , غرابة , سخرية , مهزلة ما في سطور هذا التاريخ . أما بالنسبة لما سأرويه عن صلاح الدين الأقرب إلى الحقيقة التاريخية و الأبعد عن الصورة – الأسطورة التي رسمها له التأريخ الرسمي , الديني و السلطوي المسمى بالوطني على حد سواء , فأنا أخذتها من كتب التاريخ التي أرخت لفترة حكمه كابن الأثير و المقريزي مثلا , و إذا كنت سأكتفي فقط بصلاح الدين في تلك الفترة دون الكثير من السلاطين الآخرين الذين يقابلون ما يسمى اليوم بأنظمة الاعتدال العربي فلأنهم , و لأنها أي تلك الأنظمة , لا يستحقون حتى مجرد الذكر , إننا أمام حالات بائسة من النهب و السلب و القمع و التآمر الذي يستمر كدوامة لا تتوقف .

نقطة أخيرة تستحق الذكر قبل أن أبدأ رواية قصة صلاح الدين الأقرب إلى الحقيقة , و هي أن الذاكرة الشعبية خلدت صلاح الدين في صورة واليه على مصر قراقوش الذي جعلت منه الحكاية الشعبية رمزا للحاكم الغبي المستبد . هذه نقطة مهمة , رغم أن نفس الذاكرة مثلا ستحتفظ بصورة أفضل , خلقتها هي على الأغلب و لم تكن تاريخية إلا بالاسم , لحاكم مثل هارون الرشيد .

الذي تقوله سيرة صلاح الدين أن ما فعله كان باختصار هو تماما ما فعله أي سلطان أو أمير آخر في ذلك الوقت , أو في أي وقت ( بمن في ذلك من يمكن تسميتهم بملوك "الاعتدال" العربي يومها في مواجهة الغزو الصليبي و من بعده المغولي ) , أي قمع خصومه و التآمر على منافسيه أو التخلص منهم بأية طريقة و إعطاء الإقطاعات لأفراد أسرته و استخدام أجهزة القمع المختلفة في إخضاع الناس لسلطانه أي باختصار سيرة أي ملك أو سلطان عادي آخر في التاريخ . كان صلاح الدين ديكتاتورا عاديا , مجرد ديكتاتور عادي , مارس ما يمارسه أي ديكتاتور في مكانه , و هو لم يكن مشغولا بالقدس أو بالأوامر و النواهي الدينية كما قد يعتقد , على الأقل ليس قبل مضي عشرات السنين عليه في الحكم , و ربما لم يوجد مثل هذا الخليفة أو السلطان الذي يهتم في الواقع بتلك النواهي و الأوامر بل أولا و ثانيا بتثبيت سلطانه و بجني الأرباح أو الضرائب من هذا البزنس السلطاني من رعيته , و حتى عندما حرر صلاح الدين القدس استمر بممارسة السلطة بنفس طريقة أي ديكتاتور أو ملك آخر بما في ذلك علاقته بخصومه "العقائديين" أنفسهم أي الصليبيين , الظروف هي التي ستجعل منه محرر القدس وفق نفس منطق أية سلطة قامت أو ستقوم . في ذلك الوقت كان الناس العاديون لا يحملون السلاح دفاعا عن أنفسهم , كان النظام السائد نظاما إقطاعيا , كان السلطان أو الأمير أو الملك يوزع الإقطاعات على أركان حكمه ليجبوا الضرائب من الناس و ليدفعوا نسبة من هذه الضرائب للسلطان الذي كان أكبر الإقطاعيين أو سيدهم , من تولى "حماية" البشر العاديين كان جنودا مرتزقة يمارسون مهنة الحرب أو الجندية مقابل أعطيات يدفعها سادتهم , كان صلاح الدين أحد هؤلاء المحاربين المرتزقة و تألف جيشه بالكامل من أمثال هؤلاء . الذي حدث مع بدء الغزوات الصليبية ثم المغولية أنه قد تبين أن هؤلاء المحاربين لم يكونوا مهتمين فعلا بالدفاع عن البشر العاديين , كانوا يمارسون الجندية طالما كانت تعني استمرار تدفق الأعطيات التي كانت تؤخذ في نهاية المطاف من هؤلاء البشر , لم يجد الغزاة مقاومة حقيقية و ترك الآلاف من البشر عزلا أمام عدو مدجج بالسلاح , و تعرضوا بالتالي لشتى أنواع المجازر و السلب و النهب , لكننا مع صلاح الدين , و من قبله نور الدين زنكي , نواجه نوعا آخر من الجنود المحاربين المرتزقة , ظهر هذا النوع عندما قتل الجنود الأتراك الخليفة المتوكل العباسي و حولوا منصب الخليفة إلى مجرد منصب شرفي بينما استأثروا هم بالسلطة , و بالتالي بالثروة , كان صلاح الدين و قبله نور الدين زنكي محاربين مرتزقة وصلوا إلى أعلى مراتب الحكم , حيث أصبحوا أكبر الإقطاعيين في الأرض التي سيطروا عليها , لذلك فقد اهتموا ببزنس آخر , هو توسيع ممالكهم لزيادة ثرواتها و تثبيت حكمهم لتأسيس سلالات حاكمة من أبنائهم , هكذا اصطدم نور الدين زنكي و من بعده صلاح الدين بالغزاة و أصبح هؤلاء مثلهم مثل أي ملك أو سلطان تصادف وجوده على هذه الأرض خصوما حاربوهم كما حاربوا أي ملك أو سلطان وجد على تلك الأرض سواء أكان مسلما أم مسيحيا أو وثنيا ( كالمغول الأوائل ) , بل كان ينظر للصراع مع السلطان المسلم , و خاصة إذا كان أخا أو قريبا , على أنه أكثر خطورة و أولوية من الصراع ضد الصليبيين أو المغول . في الحقيقة جاء تحرير القدس محصلة عشوائية لهذه الصراعات غير الموجهة إلا نحو مصالح الأنظمة المتنافسة , اليوم أيضا تندمج إسرائيل تدريجيا في منظومة النظام الإقليمي أو ما يسمى بالنظام العربي الرسمي و تدخل مرحلة تبادل المصالح مع الأنظمة القائمة على اختلافها , و في الحقيقة فإن نتيجة الصراع الآن ستتحدد عشوائيا نتيجة الصراعات القائمة , ستحتاج فيها إسرائيل إلى ذات تصميم و همجية الرجل الأبيض الأوروبي ضد الهنود الحمر و ستلعب أنانية النخب المهيمنة عربيا و رغبتها بالانضمام إلى المنتصر و لو كخدم الدور المتمم لتلك الهمجية , هذا ما فعله بعض الهنود الحمر حتى أن بعضهم قاتل إخوته إلى جانب الغزاة , أو ظهور طغاة أو ديكتاتوريات مهما بلغت من فساد , كالمماليك مثلا , تستطيع أن تلعب دورا المواجهة مع الغزاة كأساس لبزنس سلطوي مضاد , و ستستمر الأحوال هكذا كما كانت دائما حتى يصبح الفقراء هم أصحاب الأرض الحقيقيون , يومها ستختفي الحروب و الفتوحات في سبيل المال و لن يصبح بعدها البشر و أولادهم و أرضهم و ما ينتجوه منها غنيمة لأحد بمجرد أن يملك الجميع , جميع البشر كل الأرض دون أن يستأثر بها أحد أو أية أقلية على الإطلاق .

في الحقيقة لو كان هناك شخص حددت المصادفات , أو ما نسميه بالقدر , مصيره , لكان هذا الإنسان هو صلاح الدين . لا يعني هذا أن صلاح الدين قد وجد نفسه فجأة , ذات صباح , على أبواب القدس و وجد نفسه و هو يحررها دون أن يفعل الكثير في حقيقة الأمر , لكن المقصود أن عددا هاما من المصادفات قد قاده ليكون محرر القدس في حين أنه لم يسع هو لذلك بالفعل , على الأقل في السنوات الأولى من حكمه , مثلا كان دور صلاح الدين في المرحلة الأولى الهامة من الصراع بين سيده نور الدين زنكي و الصليبيين على مصر الفاطمية يقتصر على أنه أحد جنود جيش عمه شيركوه أحد قادة السلطان نور الدين . تمكن شيركوه بعد صراع طويل دخل فيه أرض مصر ثلاث مرات و اضطر في كل مرة لأن ينسحب منها قبل أن يتمكن أخيرا من دخول القاهرة و التخلص من منافس خطير هو الوزير الفاطمي شاور و أن يصبح وزير الخليفة الفاطمي العاضد بما يشبه فرض الوصاية على الخلافة الفاطمية بحجة حمايتها من الصليبيين . لكن بعد أن أتم شيركوه هذا الانتصار بشهرين توفي في القاهرة , و عندها اختار العاضد صلاح الدين للوزارة , على رغم صغر سنه و وجود الكثير من أمراء نور الدين في الجيش الشامي , اختاره طمعا بأن يكون سهل الانقياد له بسبب صغر سنه . لكن صلاح الدين ما أن تولى الوزارة حتى أخضع مماليك شيركوه ثم قضى على الخصيان السودان الذين كانوا آنذاك حماة الخليفة الفاطمي و بعد ذلك أحل جماعة من رجاله محل كبار الإقطاعيين و ملاك الأراضي أي أنه استولى بسرعة على البلاد و شدد قبضته عليها . آنذاك اتفق الصليبيون و البيزنطيون على غزو مصر , فهاجم الأسطول البيزنطي دمياط و تقدم الجيش الصليبي برا من عسقلان قاصدا دمياط أيضا . ظن صلاح الدين أن الهجوم يستهدف القاهرة فشرع بتحصينها و ما أن علم بنية الصليبيين الفعلية حتى طلب النجدة من نور الدين الذي أرسل العساكر تلو العساكر لنجدته , قبل أن ينسحب ملك الصليبيين و من بعده الأسطول البيزنطي دون أن يحقق أهدافه . عندها طالب نور الدين صلاح الدين بالالتزام بما اتفقا عليه من إسقاط الخلافة الفاطمية و رفع الدعاء للخليفة العباسي ببغداد و من بعده للملك نور الدين بما يعني ضم مصر لأملاك نور الدين الزنكي فماطل صلاح الدين حتى هدده نور الدين فاضطر عندها لعزل الخليفة الفاطمي الأخير الذي مات بعد ذلك بثلاثة أيام غير عارف بزوال ملكه . مارس حكم صلاح الدين قمعا فكريا تقليديا تقريبا ضد من كان يشكل , أو يحتمل أن يشكل خطرا على حكمه , ليس فقط ضد المتشيعين في مصر بل أصدر مثلا منشورا يحرم فيه الجدل حول خلق القرآن و كلام الله أي موجها ضد المعتزلة أو بقايا الفكر المعتزلي الذي كان قد استؤصل بنجاح منذ وقت طويل "خرج أمرنا إلى كل قائم في خف أو قاعد في أمام أو خلف ألا يتكلم في الحرف بصوت و لا في الصوت بحرف , فمن يتكلم بعدها كان الجدير بالتكليم فليحذر الذين يخالفون أمره ..." ( أحمد أمين , ظهر الإسلام , ص 759 , يقول أمين أن هذا الفرمان من وضع القاضي الفاضل لأن هذا هو أسلوبه ) , و رغم أنه عمل على تشجيع الصوفية و كان أول من أنشأ خانقاه للمتصوفة في مصر مثلا فإنه هو الذي أصدر في وقت لاحق الأمر بإعدام شهاب الدين السهروردي المتصوف المعروف بسبب تأثيره الكبير على ابنه الذي كان نائبه على حلب . نفس الشيء تقريبا سيجري في إسبانيا فيما يعرف بالاسترداد أي طرد العرب منها من قبل الممالك الإسبانية , فبعد أن فرض ملوك قشتالة و آراغون و غيرها على المسلمين و اليهود إما التنصر أو مغادرة إسبانيا , و قرروا عدم إبعاد أولئك الذين ينحدرون من أصول إسبانية أو مسيحية أول الأمر , اتخذوا في وقت لاحق قرار بطرد حتى من بدل دينه إلى المسيحية , فقط لأن الهدف الحقيقي من كل هذا كان استيلاء هؤلاء الملوك على أموال هؤلاء المبعدين , سواء من بدل أم لم يبدل دينه , كانت ثروات هؤلاء هي السبب الحقيقي وراء هذا النفاق الديني الصريح . في سبتمبر أيلول 1171 خرج من مصر قاصدا حصن الشوبك بناء على أمر من نور الدين و لم تستطع الحامية الصليبية الصمود فطلبت مهلة 10 أيام للتسليم لكن صلاح الدين علم باقتراب نور الدين من الشوبك فأسرع بالانسحاب و العودة إلى مصر . استاء نور الدين حتى أنه قرر مهاجمة مصر لتأديب صلاح الدين , و في اجتماع للعائلة الأيوبية في القاهرة لتقرير ما يجب فعله أمام احتمال هجوم السلطان نور الدين , خاطب نجم الدين أيوب والد صلاح الدين الحاضرين : و الله لو رأيت السلطان نور الدين لم يمكننا إلا أن نترجل له و نقبل الأرض بين يديه , و لو أمرنا بضرب عنقك بالسيف لفعلنا ! و هذه البلاد له و قد أقامك فيها نائبا عنه فإذا أراد عزلك فأي حاجة إلى المجيء ؟ و ينقل ابن الأثير في حوادث 569 هجرية أن صلاح الدين أرسل أخاه توران شاه لفتح النوبة لتصبح مأوى للأيوبيين في حال دخول نور الدين مصر لكنه وجدها فقيرة فأرسله إلى اليمن فأخضعها لنفس السبب . و يقول ابن الأثير أن صلاح الدين استخدم الصليبيين في فلسطين في تلك الفترة كحاجز بينه و بين نور الدين في الشام . تكرر نفس المشهد عند الكرك عام 1173 م عندما بدأ صلاح الدين حصار الكرك و سرعان ما انسحب عندما علم أن نور الدين قادم تجاهه . هذه المرة فاض الكيل بالسلطان نور الدين و أصر على مهاجمة مصر لكنه مات فجأة في مايو أيار 1174 و هو يستعد للحرب . و بموت نور الدين لم يعد صلاح الدين السلطان المطلق لمصر بل إنه استغل أيضا الخلافات بين ورثة نور الدين التي حدت ببعضهم الاستنجاد بصلاح الدين ضد بعضهم الآخر فجاء من مصر على رأس 700 فارس فقط دون أن يلاقي الصليبيين في الطريق لحسن حظه و دخل دمشق في نوفمبر تشرين الثاني 1174 و أعلن هناك أنه مملوك الصالح اسماعيل ابن السلطان الراحل نور الدين و تقدم ليفتح باسم سيده الجديد حمص و حماة و امتنعت حلب في وجهه ثم انتصر على الزنكيين الطامحين لاستعادة ملكهم قرب حمص , و في نفس الوقت عقد صلحا مع الصليبيين عام 1176 , و الحقيقة أن صلاح الدين لم يشتبك جديا مع الصليبيين قبل عام 1186 . و كانت مملكة القدس الصليبية آنذاك قد بلغت درجة شديدة من الضعف و كان عرش تلك المملكة تحت وصاية جاي جنان بعد موت بلدوين الرابع . جرت المعركة الكبرى بين الطرفين بعد أن خرق أرناط صاحب حصن الكرك المنيع آخر هدنة بين صلاح الدين و الصليبيين في 1185 م ( مدتها 4 سنوات ) بمهاجمته قافلة للمسلمين عام 1187 , رد صلاح الدين بأن أرسل إلى أرناط طالبا منه رد الأسرى و الغنائم , لكنه رفض , و رفض أرناط أيضا طلب جنان الوصي على عرش مملكة القدس نفسه لإعادة الأسرى و الغنائم فكانت معركة حطين المشهورة التي يعود الفضل فيها عمليا لتعنت أرناط و صلفه . بعد انهيار جيش مملكة القدس الصليبية في حطين استولى صلاح الدين بسهولة على أغلب القلاع و المدن التي كانت تحت سيطرة الصليبيين بما في ذلك القدس , ثم واجه الحملة الصليبية الثالثة عام 1191 التي هبت لنجدة الصليبيين بعد تلك الهزائم حتى عقد صلح الرملة في سبتمبر أيلول 1192 حيث اعترف بسيطرة الصليبيين على الساحل من صور إلى يافا على أن تبقى القدس بيد المسلمين . و مات بعد ذلك بوقت قصير عام 1193 . ما أن مات صلاح الدين حتى دب النزاع بين أولاده و إخوته الذين أعادوا تقسيم البلاد التي وحدها صلاح الدين عبر مسيرة طويلة من المعارك مع ملوكها و سلاطينها السابقين . كان أول ملك أيوبي يعرض إعادة القدس للصليبيين هو الملك الكامل ابن الملك العادل أخ صلاح الدين و عرض معها إعادة كامل مملكة القدس القديمة تماما إلى وضعها قبل معركة حطين عام 1218 مقابل جلاء الحملة الصليبية الخامسة عن مصر , لكن هزيمة الصليبيين فيما بعد منعت من إتمام الصفقة بعد أن قطع المصريون النيل بالسدود و هو مليء بماء الفيضان فأغرق معسكر الصليبيين . و عاد الكامل في خضم النزاعات مع إخوته إلى الاستنجاد بإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة فريدريك الثاني مقابل إعطائه القدس و الساحل , كان فريدريك هذا محروما كنسيا من قبل بابا الكنيسة الكاثوليكية غريغوري التاسع في إطار الصراع المحتدم يومها بين البابوية و الإمبراطورية و كان قد نشأ في صقلية بين بقايا العرب الذين سكنوها لعدة قرون حيث أصبح محبا لحضارة العرب المسلمين و كان معروفا بتسامحه الديني الشديد . بالمقابل قام بابا الفاتيكان خصم الإمبراطور فريدريك سرا بمراسلة الملوك الأيوبيين محرضا إياهم على عدم إعادة القدس للإمبراطور , و عندما وصل فريدريك بالفعل كان مصدر التهديد ضد الملك الكامل , و هو أخوه الملك المعظم صاحب دمشق قد مات , و لذلك وجد أن الكامل قد غير رأيه , قبل أن يفي بوعده أخيرا بعد مفاوضات غريبة مع الإمبراطور , حتى قيل أن الإمبراطور قد بكى متذللا للكامل أثناء تلك المفاوضات , يضاف إلى ذلك ما نقله المقريزي من خوف الكامل من تقوي الإمبراطور بصليبيي المشرق أو بحملة صليبية جديدة ( السلوك , ج 1 , ص 230 ) , و بالفعل سلمت القدس للصليبيين عام 1229 . لكنها بقيت غير محصنة و لم توجد فيها حامية مهمة و لا حتى قيادة عسكرية حقيقية , هذا عدا عن تراجع أعداد الصليبيين و قوتهم في المشرق , مع ذلك بقيت القدس بيد الصليبيين بسبب انشغال الأيوبيين بالتنافس على الأراضي و الإقطاعات , فقط في عام 1239 استعادها الأيوبيون بعد نزول إمدادات صليبية في عكا اعتبروها خرقا للمعاهدة السابقة , لكن السلاطين الأيوبيين سرعان ما تعهدوا بإعادتها مع طبرية و عسقلان و عدد من قلاع الشام إذا حصلوا على دعم الصليبيين في منازعاتهم فيم بينهم . و سلموا القدس و بقية المدن و القلاع بالفعل و اتفق الصليبيون مع السلطان الصالح اسماعيل على مهاجمة مصر سوية واعدا إياهم بإعطائهم جزءا منها إذا ملكوها . لكن هذا الغزو المشترك فشل . أما من استرد القدس هذه المرة فكانت قوات الخوارزمية المرتزقة التي عاثت في البلاد بعد مصرع ملكهم جلال الدين و هي تعرض خدماتها على من يدفع , تمكن هؤلاء الجنود المرتزقة الخبيرين بالقتال من الاستيلاء عليها بسهولة عام 1244 و اعتدوا على الصليبيين و هو يغادرونها بعد وساطة أحد الملوك الأيوبيين . و في نفس العام ستتواجه قوات الملوك الأيوبيين , من جهة الصالح أيوب صاحب مصر و معه الخوارزمية المرتزقة و من جهة الصليبيين و معهم المنصور إبراهيم صاحب حمص و كانت معه قوات صاحب دمشق و جاءهم المدد أثناء المعركة من الناصر داود صاحب الكرك , و كان انتصار الصالح أيوب علامة على قرب انتهاء الوجود و النفوذ الصليبي في المشرق . بعد المعركة سيتمرد الخوارزمية لأنهم توقعوا من الصالح أيوب أن يجزل لهم العطاء فحاربهم و انتصر عليهم و أعمل فيهم القتل و لم تقم لهم قائمة بعد ذلك . الصالح أيوب هذا هو من سيواجه آخر الحملات الصليبية على مصر و سيموت في خضم المعركة لتستلم القيادة زوجته شجرة الدر قبل أن يصل ابنه توران شاه آخر الملوك الأيوبيين .

في مواجهة النزاعات بين أفراد البيت الزنكي ثم الأيوبي حرص كل حاكم , و كل فرد من الأسرتين , على تكوين عصبة لنفسه من المماليك فاشتروا أعدادا كبيرة منهم و دربوهم ليكونوا حماة لهم . كان الصالح أيوب هو من شكل فرقة المماليك البحرية ليواجه بها سائر فرق الجنود المرتزقة , يذكر المقريزي في حوادث 648 هجرية "و فيها كثر ضرر المماليك البحرية بمصر و مالوا على الناس و قتلوا و نهبوا الأموال و سبوا الحريم و بالغوا في الفساد حتى لو ملك الفرنج ما فعلوا فعلهم" . السلوك , ج 1 , ص 380 . و بعد معركة عين جالوت التي قاد فيها قطز المماليك سيقوم بيبرس و عدد من أمراء المماليك البحرية بقتل قطز بعد أن أخلف وعده له بإعطائه ولاية حلب , و ذلك قبل أن يدخل القاهرة التي كانت قد تزينت لاستقبال الملك المظفر قطز فإذا بالمنادي يطوف في شوارع القاهرة و هو يصيح : ترحموا على الملك المظفر , و ادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس .

هنا توجد واحدة من مصادفات التاريخ الغريبة , بدأ حكم أسرة صلاح الدين بأن واجه صلاح الدين نفسه عدة ثورات في مصر نفسها بعد أن قضى على الخلافة الفاطمية , منها ثورة الخصيان السودان الذين بلغ عددهم 50 ألف ( العدد وحده مثير للاستغراب في حاجة مصر إلى هذا العدد من المخصيين الذين كانوا عادة يخدمون في قصور الخلفاء و السلاطين و علية القوم فقط ) , و ليخمد ثورتهم أشعل صلاح الدين النار في محلتهم ثم بعد أن طلبوا الأمان أرسل إليهم أخاه توران شاه في طائفة من العسكر "فأبادهم بالسيف" ( ابن واصل , مفرج الكروب , ج 1 , ص 177 ) , و كذلك فعل صلاح الدين بحراس الخليفة الفاطمي الأرمن إذ أشعل النار في ثكناتهم و عمل بهم كالخصيان السودان . آخر ملوك سلالة صلاح الدين و هو توران شاه رأى في المماليك البحرية الذين ساهموا في هزيمة آخر الحملات الصليبية على مصر خطرا على ملكه كما أراد أن يتخلص من زوجة أبيه شجرة الدر فتآمرت على قتله مع المماليك , هاجمه أولا بيبرس البندقداري بالسيف فطارت أصابع يده فهرب إلى برج خشبي نصب له و هو يسأل عمن اعتدى عليه فيقولون له "الحشيشية" فيرد أنهم البحرية و توعدهم , فقالوا لبعضهم البعض أن يجهزوا عليه و إلا أبادهم فأضرم البحرية النار في البرج فرمى بنفسه في النيل و البحرية تلاحقه بالسهام حتى قضى جريحا حريقا غريقا " ابن واصل ¸, مفرج الكروب , ج 2 , ص 371 ) .



#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وعي النخبة السياسية الفصامي
- كلمة للفقراء في جنوب السودان
- الأخلاق و السياسة , دفاعا عن اللا سياسة
- يجب لأا يمر ما جرى في كنيسة النجاة
- حروب في الظلام
- الأفكار المادية عند المعتزلة
- ملاحظات عن الجدال الاقتصادي الدائر اليوم في سوريا
- رؤية في وعي الواقع
- جدال حول التغيير
- أناركي روسي يكتب عن جهود الحركة الأناركية الروسية لمقاومة ال ...
- أناركي أمريكي يكتب عن الدين و الثورة
- لأسباب خاصة بالدولة , لميخائيل باكونين
- هل يمكن لملايين السوريين الفقراء أن يرسموا سياسة اقتصادية أف ...
- هناك طريقتان لفهم أو قراءة التاريخ
- لكن هذا سخف أيها الشيخ !
- نحو سلطة العمال لموريس برينتون
- الشبه بين النظام الستاليني و السوري : دروس الماضي و المستقبل
- كلمات في غياب مراقب الإخوان المسلمين السوريين السابق
- النقاب في سوريا
- عقد على خطاب القسم الأول للرئيس بشار الأسد


المزيد.....




- بيومي فؤاد يبكي بسبب محمد سلام: -ده اللي كنت مستنيه منك-
- جنرال أمريكي يرد على مخاوف نواب بالكونغرس بشأن حماية الجنود ...
- مسجد باريس يتدخل بعد تداعيات حادثة المدير الذي تشاجر مع طالب ...
- دورتموند يسعي لإنهاء سلسلة نتائج سلبية أمام بايرن ميونيخ
- الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو يطلب إذن المحكمة لتلبية دع ...
- الأردن يرحب بقرار العدل الدولية إصدار تدابير احترازية مؤقتة ...
- جهاز أمن الدولة اللبناني ينفذ عملية مشتركة داخل الأراضي السو ...
- بعد 7 أشهر.. أحد قادة كتيبة جنين كان أعلن الجيش الإسرائيلي ق ...
- إعلام أوكراني: دوي عدة انفجارات في مقاطعة كييف
- الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض هدف جوي فوق الأراضي اللبنانية


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مازن كم الماز - من التاريخ , عن صلاح الدين الأيوبي