جميل عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 3203 - 2010 / 12 / 2 - 21:50
المحور:
القضية الفلسطينية
هناك حروب وسلام
في فترة سابقة قرأت رواية " كل شيء هادئ في الميدان الغربي" من تأليف الكاتب الألماني ماريا ريماركه كانت تتناول أحداث الحرب العالمية الأولى وتركز بوجه خاص على حرب الخنادق. وعند وصول النازي إلى الحكم قاموا بإحراق هذه الرواية التي تبين بأكبر قدر من الإبداع بشاعة الحرب ولا جدواها.صراحة أعجبتني الرواية وعشت مع أبطالها أحداثها لحظة بلحظة ومن الغريب أنه بعد تحويل الرواية إلى فيلم لم يكن له بالنسبة لي تأثير الرواية المقروءة. لم أكن أقرؤها بعيني فقط بل كانت درجة اندماجي فيها تجعلني أسمع في غرفتي دوى مدفعية الميدان التي كانت تفتك بالجنود من الطرفين.
يقول أحد أبطال الرواية والتي يحكيها المؤلف على لسانه: لو أن أبى كان في الخطوط المواجهة لأطلقت عليه النار على الفور.. العدو ليس بشرا.. بل هو الموت نفسه يرتدى خوذة!!هذه هي الحرب إذن, أن تقتل عدوك وأن يقتلك عدوك. وفى الخنادق عندما تكون الجبهة هادئة بين هجوم وآخر, كانت تجرى بين الجنود حوارات طويلة, أحد الجنود وكان فلاحا قبل الحرب سأل زملاءه: لماذا قامت الحرب بيننا وبين فرنسا؟ فأجاب أحد زملائه: لأن فرنسا اعتدت على ألمانيا. فعاد يسأل: هل تعنى أن نهرا في فرنسا اعتدى على نهر في ألمانيا؟ أم أن جبلا في ألمانيا اعتدى على جبل في فرنسا.. لا أعتقد أن البلاد تعتدي على بعضها البعض.. البشر هم من يفعلون ذلك!؟
وفى مايو 1967 اجتاحت إسرائيل في حرب مدمرة استمرت ساعات قطاع غزة وشبة جزيرة سيناء وهضبة الجولان في المرتفعات السورية , كانت هناك اتفاقية دفاع مشترك بين مصر وسوريا, وقيل أن هناك حشودا عسكرية إسرائيلية على الحدود السورية وهو ما نفاه السوفييت غير أن تصريحا من موشى ديان في عدة كلمات أفقد القيادة المصرية أعصابها وكانت بقيادة الرئيس " جمال عبد الناصر ", فقد هدد ديان سوريا وضرب دمشق إذا لم تمنع العمليات الفدائية ضد إسرائيل من حدودها ثم قال الجملة التي كان يعرف بالضبط رد الفعل المتوقع عليها, قال: ولن تهمنا اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا لأننا نعرف أنها ليست أكثر من قصاصة ورق!!
بعد ذلك وفي عام 1998زرت مصر الشقيقة أثناء فترة دراستي الأكاديمية في " سلاح الإشارة ", تلقينا إلى جوار التدريبات العسكرية, محاضرات نظرية عن فنون القتال, وفى إحدى المحاضرات شرح لنا الضابط المحاضر كيفية فتح ثغرة في حقل ألغام, هناك طرق عديدة, إحداها تعتمد على استخدام المشاة, يعنى أن تطلب من جنودك أن يتقدموا على الأرض في الحقل نفسه لتتفجر فيهم الألغام وبذلك تفتح ممرا آمنا ليمر منه باقي أفراد المشاة. بصراحة استبشعت هذه الطريقة وقلت ذلك للمحاضر فرد على: هذه هي الحرب.. الحرب ليست نزهة..أيها الفلسطيني في ظروف معينة من الممكن أن تعطى هذا الأمر لعدد من الأفراد لحماية بقية قواتك ولكي تتمكن من الهجوم على العدو.
أفزعتني الفكرة وفرحت أنني لست قائدا مسئولاعن جنود في أي حرب . ربما كنت قادرا على إعطاء الأمر بقتل الأعداء, غير أنه من المؤكد أنني عاجز عن إعطاء الأمر لجنودي بالتقدم في حقل ألغام لأي سبب من لأسباب.
في تلك اللحظة أدركت معنى الحرب فهي حرب إما الموت أو الانتصار!!, فعندما يصل الأمر إلى هذا النوع من العبث الثوري الاستعراضي فلابد أننا مقبلون على كارثة كبرى نفقد فيها عشرات الألوف من الشبان الفلسطينيين فأنا أعرف جيدا التدريبات الخاصة التي يجب أن يتلقاها فرد الاستطلاع في سلاح الإشارة , من المستحيل أن تستدعى من الاحتياط جنديا من الخدمات الطبية لكي تكلفه بعملية استطلاع في ميدان القتال !!
بعد تخرجي ب4 سنوات طويلة وحصولي على درجة العلوم العسكرية وحدة الإشارة قمت بزيارة إلى هناك, في صحراء سيناء كنت أنظر من نافذة السيارة وهي تسير من موقف " المرج " القاهر إلى "معبر رفح البري " مع الحدود الفلسطينية حيث انتقلت بين الضفتين " قناة السويس " عبر المعديات وأنا أشاهد أمامي ماتبقى من سور بارليف ذلك المانع العسكري الذي أقامته إسرائيل إبان احتلالها لشبة جزيرة سيناء والمواقع العسكرية المدمرة المتناثرة في الصحراء وأنا أسأل نفسي: هل هنا كان الجنود المصرين الأبطال.. أم في ذلك الموقع.. أم هنا.. ترى في ماذا كانوا يفكرون في تلك اللحظة.. هل فكروا في هذه المذبحة بغير استعداد أو هدف واضح؟ أم فكروا في أمهاتهم وإخوتهم.. أم فكروا في أصدقائهم ؟ لابد أنهم فكروا في كل شي لحظة مغادرتهم للحياة.
ومرت الساعات وأنا متوجة إلى الحدود مع قطاع غزة قبل أن أعرف أن الحرب بالتعريف هي" تدمير قوات العدو وعتاده من أجل فرض شروط السلام عليه" هذا هو الهدف من الحرب ولا شيء آخر. وحدث الإنجاز العظيم للعسكرية المصرية في حرب أكتوبر 1973 ثم قام السادات بصنع السلام الذي هو الهدف من أي حرب وكل حرب. هؤلاء الذين اكتووا بنيران الحرب أو عرفوها مثلى نظريا بتدريسها لي في المعاهد الحربية , يعرفون جيدا حجم المعجزة السياسية التي قام بها هذا الرجل.
ولسنوات طويلة قاومت تعبئة الناس بانفعالات الحرب وحاولت بكل ما أملك من قوة الدفاع عن السلام. لست نادما على شيء, ولست يائسا من شيء, ولست أشكو من شيء فليس مهما ما يدفعه الإنسان من أجل ما يؤمن به, الأكثر أهمية أن يكون قادرا على دفعه, وألان وأنا في قطاع غزة المحاصر وبعد الحرب الشرسة التي قامت بها إسرائيل عام2008 بدأت أسأل نفسي: يا إلهي..؟ من أين يأتي كل هذا العدد من البشر غير المسئولين..؟ من أين يأتي كل هذا العدد من الناس غير الجادين؟ وما هو سر هذا الإصرار العجيب على تدمير كل ما أنجزته فلسطين والفلسطينيون هنا؟... انتهى .
سلامتكم..
#جميل_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟