أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد الحسب - تجليات مسرح الصورة عند القصب















المزيد.....



تجليات مسرح الصورة عند القصب


جواد الحسب

الحوار المتمدن-العدد: 3201 - 2010 / 11 / 30 - 03:20
المحور: الادب والفن
    


أوجد مسرحاً للصورة على مستوى النظرية والتطبيق، ولقد أكد في معظم أعماله التي خرج فيها منعتقاً من إطر الواقعية والطبيعية، حيث كان متطرفاً على الدوام في نهجه وأشتغاله في منطقة التجريب والأكتشاف، فراح يبحث في ثنايا الفلسفة والتشكيل ما يعمق مقولته ونهجه في إرساء دعائم مسرح (الصورة). فقرأ (ليبنتز)* بشكل عميق حتى أستعار منه (المونادا)**، ليطوعها كمفردة أصطلاحية فلسفية في بنية تكوين فلسفة الصورة في العرض المسرحي. طاقته الإبداعية والتخييلية المتميزة جعلته يهدف في بناء ذات واعية في ضبط إيقاع الصورة، بأستخدامه عناصر التشكيل والتكوين السينوغرافية. فالعرض رسالة عند (القصب) تحمل مضامينها الفكرية والجمالية، وتسفر عن أسئلتها الكونية والوجودية المقلقة، والتي تتطلب من (المتلقي) أن يكون على وعي بمأساوية العالم، وآثارها غير المنتهية حيث يكتسب الإنسان فيها وجوداً مستمراً، ذلك هو الوجود المعرفي الذي يحيط به.
ينطلق (القصب) من روح النص، ليصل إلى الترميز الفكري ويؤسس أسلوبه على فكرة الهدم والبناء المستمر، حيث يقوم بتفكيك الترابط المنطقي للأحداث، ويقطع سلسلة تواصلها. ولا يتقيد بخارطة النص، بل يشكل منها خطاباً بصرياً آخر، فيه التركيب القائم على حيثيات الصورة، بكل الأختلافات والتناقضات وصولاً إلى الدلالات الفكرية والفلسفية والجمالية، المتمثلة بعناصر السينوغرافيا التي تشكل نسيجاً من الضوء واللون والمنظر والأزياء والماكياج، ليخلق منها أنساقاً متعددة من الرؤى والسياقات المتحركة التي تضم إليها الخيال والحلم والواقع ضمن مجموعة من الدلالات التي تفتقد التطابق بين المعنى والتعبير، إذ لا تعتمد في بناءها الترتيب، بل تتداخل مع بعضها البعض بتركيبات صورية يكتنفها الغموض أحياناً لكنها لا تفتقد للمعنى. ومن خلال هذا يحقق الصدمة والدهشة (للمتلقي) على مستوى إدراكاته المتنوعة.
يعتمد (القصب) في رؤيته على المفردات الصورية أكثر منه على المضمون، لهذا فالصورة تشكل في مفهوم مسرح (القصب) العلامة الرمزية التي تعبر عن شكلها وأستقلاليتها. وقد حقق في توليد الصورة تنوعات واختلافات تجمع بين البساطة
والتعقيد في آن. لهذا الدمج التركيبي معاني وأحتمالات فكرية تنصب في القراءة التأويلية للعرض. وهذه الخلطة تساهم في دعم مرتكزات الصورة وتهمل الجانب المضموني الذي يحدد الأتجاه ولا ينحو إلى التحرر الشكلي. مما جعل من عروض (القصب) علامات في التجديد والتجريب، والعمل على إزالة الاشكال الواقعية واسقاطاتها المحلية وقراءاتها المباشرة. يتخذ من مجمل عروضه منابعاً للتأسيس والرؤى المتغيرة التي تزيح عنها كل ما هو تقليدي ومستساغ. لهذا أخذت أعماله تنحو جمالياً وفلسفياً في ديمومة العروض وتواصلها، مضمناً فيها الأمكانيات المتعددة التي تحقق أشتغالاتها على الخيال، الحلم، الصراع، الحياة، الموت، السكون، التي شكلت فضاءاتها على نظرية (الصورة). متخذاً من الأساليب والوسائل المسرحية دعامة لرؤيته الخلاقة وأستخداماتها للسينوغرافيا في فضاءات العروض. في الأعمال الشكسبيرية والتشيخوفية على وجه الخصوص عندما يشرع (القصب) في العمل عليها، يأخذ على عاتقه البحث عن الفضاءات البكر، وإيجاد الأمكنة الجديدة. ففي عرض (هاملت) الذي قدمه عام 1982. مزج مابين القصر والقبر وهي بالرغم من إنها صورة متناقضة، إلا إنها تحقق فلسفتها ومقولتها في سمو الإنسان وانحطاطه، قد يسمو بالقصر لحين من الدهر، إلا أنه في النهاية يتنازل عن سموه رغماً عنه ويغوص في الأسفل حيث يأخذه الموت عنوة. (القصب) يجعل من (هاملت) حفاراً للقبور، حينما يلقي بحوار (الكينونة) من داخل القبر، ويزيح عن جوف القبر مجموعة من الجماجم، الذي تفاعل معها وهو يلقي حواره. فالمضمون الشكلي للصورة فجر فيه التأويلات والمعاني المخبوءة خلف كل كلمة يلقيها (هاملت). فكانت الإضاءة مؤثرة في دلالاتها التعبيرية عندما عمقت من الجو البدائي للمكان، وتجردت عن وظيفتها التقليدية، بالرغم من التقشف في أستخدامه للعناصر السينوغرافية، إلا أنه يمنح (المتلقي) عرضاً متكاملاً.
وفي عرض (الشقيقات الثلاث) الذي قدمه عام 1997.
أستند في هذا العرض على مقولة (أولغا) في تأسيس المكان عندما تصرح قائلة:
- البيت موحش كالصحراء أو المقبرة..
فملأ المكان بالرمل، وهي علامة للصحراء التي نعرفها نحن العرب بشكل عام، ربما تختلف عن الصحراء الروسية، وقد تشير في روسيا إلى الأماكن التي تكثر فيها الثلوج لا الرمال. وأيضاً كلمة المقبرة التي ترد على لسان (أولغا) حيث وزع في المكان مستطيلات مرمرية كشواهد للقبور، وهذه الشواهد أستمد صورتها من مقبرة قريبة إلى مكان العرض، وهي مقبرة أنكليزية تأسست في عشرينيات القرن المنصرم. كذلك أوجد حوض الغسيل الأبيض، فهذه العلامات الإيقونية هي التي شكلت البيئة المكانية لعرض (الشقيقات الثلاث) في المسرح الدائري في قسم المسرح. كلية الفنون الجميلة، بغداد.
يتناول (القصب) مفردة معينة تحاكي أحدى المقولات في النص، ويقوم بأستخدامها بتفسير جديد منطلقاً من النص إلى العرض في تجربة جديدة لم تتشابه مع سابقتها أطلاقاً، وبروح المغامرة، والتي يعني بها الأكتشاف.
فالصورة تقترب من الشكلي والجمالي، كي يحقق للعرض جو من السحر. وهو يبتعد عن الأتجاهات التي تشكل من الهندسة بعداً لها، مؤسساً على الأنساق والوعي الجمالي أشتراطات الصورة وهيمنتها في فضاء العرض.
يقوم (القصب) ببحثه الدائم عما هو جديد، أبتداءاً من المكان وأنتهاءاً بالمفردات والأفكار. يبدأ أولاً في تحليل النص وفق قراءته الخاصة لأفكار المؤلف، بعدها يبدأ في رسم الصور في المخيلة، ومن ثم يشكل العرض وفق الوحدات (المونادا) والتي تحمل شحنتها وأستقلاليتها، لكنها فاعلة ومؤثرة، حتى تتفجر فكراً وإبداعاً نحو تأسيس العرض عبر الدلالات والمعاني. فالمخرج والسينوغراف اللذان يجدان في عمل عناصر السينوغرافيا لغة مشتركة مع العنصر الأساس وهو الممثل. تأسيساً على ذلك فأن (القصب) يهدم النص وينتهك قدسيته ويبني على أنقاضه نصاً آخر يغاير فيه حرفية الأول، حيث يكون للعرض لا للقراءة لأنه لايفهم منه شيء، إلا أن يحال إلى صورة متعددة الرؤى قابلة للتأويل في جعل فضاء العرض يتفاعل مع الخيالي والطقسي والحلم،

(ماكبث أنموذجا)***
قدم (القصب) عرضاً معاصراً ومعالجة متميزة لمسرحية (ماكبث) فقد أستطاع أن يمنح الحدث فضاءاً مفتوحاً ملائماً، ويحقق عبر صيرورة الأحداث بعداً جمالياً وقراءة تأويلية للصورة المستوحاة من تلاطم العديد من الأسئلة التي تثيرها المدونة الشكسبيرية (ماكبث) عبر تجلياتها الشعرية والتي تتمحور حول البؤر التعبيرية والتي تثير (المخرج) لكي ينتج الصورة عبر (الممثل) و(السينوغرافيا). فالحركات الجسدية للممثل مع عمل العناصر السينوغرافية خلق (لغة) بصرية قريبة من الواقع، وذلك بتسليط الضوء على شريحة من المجتمع بشكل مختزل ومكثف بتقديمها للمتلقي بطريقة إيهامية، حتى تتحقق المشاركة الوجدانية في تتابع مجريات الأحداث للعرض المسرحي. فحينما يقدم العرض في ساحة تعتبر مكان بكر لمثل هكذا عرض، من هنا ينطلق (القصب) في معالجاته الجديدة الذي سعى لإيجاد أشكالاً تغاير توقعات (المتلقي) وتهمل كل ما هو مألوف وتقليدي في شكل العرض. فالتركيبة الجديدة جاءت من خلال معمله التجريبي، والذي بحث من خلاله على مفهوم (المحاكاة) والتي لايعني بها التقليد الساذج، وإنما في فلسفة الصورة، وهي دون شك عملية إبداعية تكشف حقيقة الإنسان في ضئالته كنقطة صغيرة وسط هذا الكون العظيم المخيف، والصورة التي ينشدها (القصب) هي أن يعيد من خلالها تصوير الحياة وفق محاكاة الفن الذي يكشف مساربها من الأعماق ليراها (المتلقي) عرياً كاملاً.
- أبح هو الغراب الذي ينعق (1)
علي بك ايتها الارواح التي ترعى خطط الدمار والقتل،
أنزعي جنسي عني هما.
وأملأيني بأعتى القسوة من رأسي حتى القدم
فأطفح بها .. أغلظي دمي، سدي المسرب والممر على كل رحمة.
فلا يزورني من الطبيعة وازع من شفقة يزحزح مأربي الرهيب،
أو يقيم سلماً بينه وبين تحقيقه، تعالي إلى ثديي المرأة مني
وأبدلي حليبهما بعلقم، يا وصيفات القتل، حيثما أنتن. بكياناتك التي لا ترى
ترعين كل أنتهاك للطبيعة، تعال أيها الليل الكثيف وتسربل أحلك ما في جهنم
من دخان، لكي لاترى مديتي الماضية الجرح من طعنتها ولا تنفذ السماء بعينها
غطاء الظلام ، فتصرخ ، كفى .. كفى .
من خلال الحوار (المونودرامي) تتحدد عدة انطباعات هامة تتمركز حول التعديل الشخصي والسلوكي لـ(الليدي ماكبث) والتي تصل به إلى رسم هذه الملامح الجديدة على هيئتها عبر الدلالات اللغوية التي عملت على شحن الحدث بالقسوة وتناميه بإيقاع راح يتوزع في مد وجزر وأنتشار وتردد وتقطع بحيث أستحال إلى واقع ضاغط تمظهر عن تجسيد (الممثلة) (عواطف نعيم) مع (السينوغرافيا) في منطقة القراءة البصرية حيث يجري تلقيها والتفاعل معها على هذا المنوال. للجسد شفرات وهو يخوض غمار الفعل الدرامي، والجسد يتشكل عبر الممارسة والتجسيد و(الممثل) يصيغ نصه ويشارك (المؤلف) في كتابة النص الأصلي، عبر عملية التجسيد للشخصية الدرامية، وذلك بتغييب الأنا عنده وإحضار الذات المبدعة الذي يقيم عليها فعله التمثيلي ومساحة إبداعه. لعل (القصب) يعمل بكد إبداعي حينما يقارب بين المسرح والفن التشكيلي وما يتمخض من هذا التقارب عناصر مختلفة تصب في بوتقة واحدة هي العرض المسرحي. لقد عالج (القصب) موضوع (ماكبث) تبعاً للمعاناة الإنسانية، والتي أحالها إلى معاناة درامية تنتمي للفن أكثر من من الحياة، بشكل مؤسلب وممسرح، ولقد أهتدى بذلك إلى حقيقتها عبر خياله وحدسه الذي ينحو إلى الإبداع وصورة العرض، فالصورة وحقيقتها في تمازج ليصبحا أداة واحدة. فرؤية (المخرج) تستمد مرتكزاتها من خلال المراقبة والتأمل في تمازج الصورة بحقيقتها حيث يتم تعريتها وكشف ملابساتها وخطوبها. حتى لتجده وهو منهمك في إرساء دعائم العرض. من خلال البحث والتصور الجمالي الذي لا يستمده من النص وإنما من خلال العوامل التي تؤدي إلى بناء الصورة. وفي أحيان كثيرة يتطرف (القصب) في بناء تلك العوامل التي تأتي من خلال خياله وفكره الشعري. أنه من خلال العرض لا يعطي تفسيراً جديداً للنص، ولا يبني على تسلسل الأحداث أشتغالات العرض، وإنما يفكك النص، ثم يعيد بناءه وفق ما يمليه عليه خياله، وفلسفة الصورة، وإبداعه الخلاق. لذا فأن إبراز العوامل الجمالية والفكرية يأتي بالدرجة الأولى، ومن ثم تأتي الحركة ودلالاتها والتي تحقق الصورة الانتقائية للعرض بالدرجة الثانية. لذا فإن الصورة المسرحية تلعب الدور الأساس في تأكيد جمالية الشكل وما يثيره هذا الشكل في نفس المتفرج. فالصورة تدرك بالمفهوم البصري، وهو الانطباع الذي تكونت من خلاله معالمها داخل النفس وترسخت فيها، إن في فن المسرح كل شيء فيه يدعو إلى التكثيف الصورة المشهدية بمجملها من حركة الممثل وعناصر السينوغرافيا. فالممثل عند (القصب) لا يعود للنص كمرجع يستعين به، بل يعمل على تعبيرية الأداء الذي يقع عليه العبء الكبير حينما يكون منتج لغة، دون لغة الكلام، حيث أن لغة الكلام في مسرح الصورة لا تسفر عن أهمية، فالممثل هنا يعمل بأسلوبين: الأسلوب (التعبيري)، والأسلوب (التشكيلي). بالرغم من أن (الممثل) ليس أداة مجردة تخلو من الشعور والأحاسيس، على الرغم من أنه عمل وفق رؤية (المخرج) وأحتواها كخطاب بصري، إلا أنه بقي محتفظاً بأفكاره، حيث لا يمكن أن يكون آلة صماء لاتعي ما تقول، أو دمية تحسن التحرك واللعب. وليس نسخة وفية للشخصيات الدرامية التي يجسدها، لكنه يجسدها وفق جماليات الرؤية الأدائية والفلسفية.
في مسرحية (ماكبث) ترجمة (جبرا إبراهيم جبرا) هناك من يصف هذه المسرحية بإنها "تمثل أعمق رؤية للشر وأنضجها عند شكسبير."(1)
فهذه المسرحية تمثل النموذج المتكامل للشر بكل ألوانه وأشكاله وهي من النصوص التاريخية التي كتبها (شكسبير) عام 1606.
إن (ماكبث) لم يرتكن إلى يقين فعلي، لقد ظل قلقاً طوال زمن العرض، لكنه لم يهزم، أنه لا يعرف الهزيمة، لكنه يريد أن يعرف ما يضمره الغد عله يجد في نبوءة (الساحرات) ما يريح نفسه المضطربة، ويدرك الحقيقة حتى لو كانت سيئة، فحالة التشويش التي تلتبسه هي التي جعلته يريد الخلاص إلى حالة الأطمئنان حتى لو يأتي هذا الأطمئنان على حساب خسارة أشياء عزيزة إلى نفسه، ذلك أن نزوحه إلى معرفة المزيد من النبوءات، أنه يريد أن يستشف الغيب عبر النبوءة ومعرفة الحقيقة التي ظلت غائبة عنه إلى حد وصوله مشارف النهاية ومنازلته (مكدف). أنه يريد أن لا يكرر وقوعه في الخطأ رغم أنه سقط فيه مرات عديدة. أبتعد (القصب) عن الأمكنة التقليدية وخصوصاً العلبة الإيطالية وأقام عرضه في مكان بكر هي باحة قسم المسرح، كلية الفنون الجميلة/ بغداد. فهو المكان المفتوح الذي يمكن أن يقرأ من أوجه متعددة، ويحفز على التأويل بما تنتجه الصورة حيث عمل (المخرج) بأسلوب المونتاج السينمائي لقصة العرض وليس النص. فأوجد في العرض أدوات فاعلة معاصرة جادت في تحقيق رؤيته ومقولته الفكرية والجمالية منها: السيارات والدراجة النارية والبراميل المطلية باللون الأحمر لدلالاتها التعبيرية كأداة قاتلة حينما تحيل (المتلقي) إلى دلالتها الأصلية إذ هي (براميل نفط) عندما تصبح ثروة بيد السلطة فتكون أداة قمعية قاتلة ومخيفة. والمقصلة ووجود الأشجار في الباحة حقق معالم الغابة وهي في النص (غابة برنام) التي شكلت نقطة أنطلاقة الأحداث، وأيضاً كخلفية واقعية في دلالاتها الجمالية. إن لجوء (القصب) إلى أستخدام الحديقة لتمثل الغابة وكخلفية للتعبير عن المنظر وصولاً إلى تكوين الصورة التي تربط جميع العناصر السينوغرافية في زمن واحد، هو زمن المشهد المباشر مع زمن الجمهور لحظة بلحظة. مسرحية (ماكبث) أنها بمثابة كابوس ملون بالدم.
ماكبث – لقد خطوت في الدم .
ثمة نزيف مستمر من البداية حتى النهاية، لم يتوقف لحظة واحدة. (ماكبث) يريق الدم بأستمرار، يقتل الآخرين بالريبة والشك ، بدءاً من الأصدقاء والأتباع وكل من يراه عقبة في طريق التاج، ولهذا وجد الكل ضمن منظاره هم عقبات في طريق طموحه. ربما يريد أن يوقف عجلة القتل، لكن الحتمية القدرية تبرز له من يقف في طريقه كأنه يريد أن ينتزع التاج منه، لهذا ينقض عليه بسرعة ويزيله عن طريقه، فقد أصبح القتل حالة طبيعية عنده، في بادئ الأمر كان (ماكبث) متردد عن أقترافه للجريمة، لكن (الليدي ماكبث) هي التي كانت بمثابة المحرك نحو الفعل وقد شحنته
وعبدت الطريق نحو الجريمة. في بداية المسرحية يظهر واحد من الضباط جريحاً يعثر عليه الملك (دنكن).
دنكن – أيُّ رجل ٍنازف ذاك ؟
فهذه هي النقطة الأولى التي ينبثق فيها الدم تعبر عن النزيف الأول. قبل هذا كانت معركة يحصد فيها سيف (ماكبث) الرقاب، وصولاً إلى قتل الملك، وتلطخ أيادي (ماكبث) و(الليدي ماكبث) بالدم .. بعد ذلك بقعة الدم التي لا تزول أبداً حتى مع غسل الأيادي. ثم الدم في قدور (الساحرات) وهن يضعن كبوداً وقلوباً ودماء وخنزيراً أفترس ثمانية من أبنائه والأبخرة الوهمية. بعد ذلك تأتي الرؤيا ويليها طفل دام. فرؤية الدم هي الصورة الراسخة في مرجعياتنا للمسرحية ذاتها والتي تحمل سلطة من نوع آخر، قد تكون في ظاهرها مجرد وسيط، ولكن هي في الأساس قوة تتعدى كونها مجرد وسيط لتتملك المشاهد وتستحوذ على مدركاته وحواسه. فمسرحية (ماكبث) لم ينقطع فيها الدم، عبر الحرب ونزيف جنودها جرحى وقتلى، ثم الرؤى والكوابيس المرعبة وبقعة الدم. فنفس (ماكبث) تزين له فعل القتل وتحثه إليه بمزيد من إراقة الدم. اللون الأحمر وزوايا المعتمة والظلال لا تغادر هذا العرض وهي تعمق الفعل، فهذا التباين بين الضوء والظل يكون أكثر أنسجاماً، حينما يتعزز الظل بزيادة الظلام، وفي زيادة الضوء يصبح أكثر إبهاراً، ومن خلالهما تتشكل الصورة، فتصبح مؤثرة وتمتاز بالحيوية، خصوصاً يحتاج هذا الأنسجام إلى تباين عال في نسب الإضاءة والتدرج اللوني. فاللون الأحمر يحقق غرض (المخرج) حينما يبعد عن ساحة الأحداث عملية القتل التقليدية والإبقاء عليه بطغيانه عبر تسلسل الأحداث بما يريد أن يعزز مقولته عن القتل والدم.
عناصر السينوغرافيا كلها تنحو نحو الغاية والهدف، وهي تنتج من كل هذا المعنى من خلال بلورة اللغة الصورية التي ترتبط بقوة المخيلة وبالواقع في نفس الوقت، وأشتغالات السينوغرافيا هي بالأساس في تأمين فضاء الممثل، وهي تحقق تأثيراتها على المتلقي. فعمل العناصر بشكل متوازن ودقيق يجعل مفردات الصورة تنتج لغة بصرية. فمجمل أعمال (القصب) يكتنفها الغموض واللاوضوح حيث يمثل هذا نوع من التعبيرية التي تنحو بتقطيع المشاهد وتفكك الأحداث ويصبح الحوار تلغرافي وفق رؤية (القصب) ومن هنا تكمن الخطورة إذ كيف يفهم العرض بصيغته الجديدة للمتلقي. بدءاً كان الإنسان يفهم العالم بالمعرفة الصورية وليس بالكتابة، أدرك العالم وكل ما يحيط به عيانياً، فالتاريخ بشكل عام هو مجموعة صور لأحداث مرت على ذلك الإنسان، نستخلص من هذا أن المسرح هو أيضاً صورة خلقت للعين بأمتياز. تتكون الصورة في المسرح من نسق التأويل وتنفتح عبر عملية الرؤيا وهي الرابط بين المتلقي وبين ما يراه وهي تنتقل من الشيء إلى العلامة حيث توليد المعاني المختلفة عند (المتلقي). ومن المعلوم أن الصورة لا تقرأ بأتجاه واحد، وإنما بعدة أتجاهات ذلك يأتي من خلال المقاربات النفسية والظاهراتية والاجتماعية. ومن هنا تظهر أهمية الصور التي تتدفق عبر تعاقب المشاهد بمختلف أحداثها ومكوناتها السينوغرافية وبتقنياتها الجمالية مع أداء الممثل بحركاته وإيماءاته وأشاراته التعبيرية التي تتشكل وفق القيمة الفلسفية وتساؤلاتها الكونية، فالفن هو ما بعد اللغة، وما بعد الوعي، الذي يشكل الحيرة والمنطلق نحو بناء مسرحاً متسيداً بقوة في فضاءات الجمال المطلق. مسرح الصورة يبني خطابه البصري والفني من خلال فضاءات جمالية، وأسطورية، وسحرية، وطقوسية وما ورائية. هو المسرح المتحرر من سطوة المؤلف وسطوة المعجم اللغوي الذي يتأسس من خلاله النص، فما عاد هناك مجالاً ليكون المتلقي سامعاً بل مبصراً، فالمسرح للرؤيا وليس للسمع، تجارب الصورة شكلت بأهميتها ذروة الإبداع الذي يتحقق اليوم في العالم، وهذه التجارب تساعد على تحرر الرؤية والمخيلة إلى مديات رحبة عند (المخرج). فالعملية (الإخراجية) هي في حد ذاتها عملية أنتشال الإنسان من التقنين والأرتقاء به إلى الذائقة الكونية.
ففي حوار (الليدي ماكبث) الذي ينفتح على المعنى العام، ويرسم التصورات لفكرة العرض، تقول:
- أنت ياشريف (جلاميس) وشريف (كودور)، وستكون
ما ذكرت المتنبآت. غير أني لا آمن عليك طبعك .
فإن فيه من لين الشفقة، ما يردك عن طلب غايتك،
من أقوم طريق تنتمي إلى العلياء وفيك مطمع.
غير أنك فاقد المكر الذي يوصلك إلى العلياء..
(الليدي ماكبث) تذكر (ماكبث) بالألقاب وتحفزه على اللقب الجديد (الملك)، لكن تحذره من الشفقة، لأنها أي الشفقة ستكون العقبة أمام صعوده للعلياء. من هذه النقطة تكتظ مقولة (القصب) وتكتنز بمعطياته الذي يسعى إلى مسرحتها وتثوير فاعليتها الدرامية، ولا شك في أن اللجوء إلى التعبير بالرموز يؤدي إلى بلورة الخطاب البصري في جعله مشحوناً بالأنفعال والحيوية والنشاط والحركة عبر تموجاتها، فمن طبيعة هذا العرض أن يكتنفه الغموض والشفافية والإيحاء وإذا تلاقى ذلك بالرمز تفتح فيه ذهن (المتلقي) على دلالات متعددة، حيث أصبح العرض ثرياً بمحموله وتأويلاته، فاللامباشرة في التعبير هي من أهم خصائص العرض وتمنح شخوصه ثراءاً دلالياً. بل تجعل شخوص العرض لا ينتمون إلى النص الشكسبيري كشخصيات درامية، وإنما يمثلون على الأعم الجانب الفكري والفلسفي. فـ(ماكبث) و(الليدي ماكبث) و(الساحرات) جميعهم أفكار لا سلوكيات، ولهذا نجدهم لا يتوغلون في منطقة التقمص والإيهام، وماينطوي عليه من إشاعة الروح الدرامية، ولا إلى جلب الخارج المكاني إلى الداخل النصي، والأبتعاد عن حالة التماهي والأندماج، ومن هنا جاء تعيين الشخصيات على أساس الفكرة ذات الصلة بمفهوم العرض المسرحي وليس النص. تبدأ المشاهد في تشكيلاتها الصورية بالتدفق تباعاً وهي تتعرض لمجمل السياقات الحديثة المكونة للعرض، إذ ينكشف الفعل الدرامي من خلال الصوت الجمعي المنطلق بإيقاع مترادف وقوي، يرسم صورة فضائية وإيقاعية للمناخ الذي يجعل (المتلقي) يتورط فيه مباشرة بسلبية التلقي في أحتواءه معرفية (المأساة) التي تعرض أمامه. فالدوال المشكلة لمسار حركة (الممثل) وفاعليته مع عناصر السينوغرافيا تمنح الفعل العام إضاءة كاشفة حيث تحيل الرؤية وفضاءاتها وسياقاتها إلى الهيمنة المطلقة التي تحققها الصورة وطبيعة الإخراج على المستوى الفكري والعاطفي، باحثاً (المتلقي) في خضمها عن حلول وتفسيرات وإجابات عن أسئلة مقلقة كونية. فالسينوغرافيا هي البناء التشكيلي للصورة في العرض، بتفاعلها وحركتها وسكونها ولا يحدها قانون معين، وإنما هي تعمل في منطقة التجريب والوصول بها إلى المحاولات الخلاقة والقراءات المتعددة وصولاً إلى أنتاج لغة تأويلية للعرض. و(السينوغرافيا) منظومة علاماتية تتجانس مع العلامة الكبرى (الممثل)، لهذا فـ(الممثلة) (عواطف نعيم) قد كان تفاعلها مع السينوغرافيا أكثر من تفاعلها مع شخصية (الليدي ماكبث) التي لم تتقمصها بالمرة، لكن هناك حالة المطابقة التي يرسمها (المتلقي) بتصوراته الفكرية على (عواطف نعيم) ويرى فيها (الليدي ماكبث) دون أن تتبنى أفعالها السلوكية وتحاكي طبيعة حركاتها الجسدية وإيماءاتها وأشاراتها، وإنما تدير ظهرها لكل هذا ويكون أدائها مرتبطاً بفاعلية العرض ككل من الناحية الجمالية والفكرية. لهذا فقد كان القاءها للحوار يفتقر للحس الداخلي كان غريباً بشيء من الحيادية الباردة، وكأنها حين تلقيه تصبح كواحدة من ساحرات ماكبث.
تتوقف السيارة وسط زوابع دخانية ينزل (ماكبث) من السيارة وكذلك (الليدي ماكبث) وهما يرتديان العباءة الحمراء التي تغطي الرأس والجسد، أنهما جاهزان بتنفيذ الجريمة وقتل الملك (دنكن)، وحينما تتم عملية القتل ويموت الملك، تبدأ حركة المجاميع وهي تضيء مصابيح يدوية مركزة على وجوهها، وقد أوحت بأن هذه الوجوه أقنعة شبحية لعالم من الموتى، وقد أرتدت هذه المجاميع أو الأشباح الأكفان. طرأ التغيير في شخصية (الليدي ماكبث) عبر تمظهرها بحالة الشعور بالندم، هذا المشهد يرسم صورة مأساوية عميقة التأثير والتدليل، ويمنطق الأجابة ويفلسفها حين ينأى عن المجال السردي والحصول على صورة الحدث عبر العرض في إيقاع سريع يستهدف ترويض الفكرة وتشضيها في مشاهده عبر فعل الممثل والسينوغرافيا، لهذا بات من الممكن معرفة المصير التي آلت إليه (الليدي ماكبث) والشخوص الذين يحيطون بها، ولقد أستنبط (المخرج) الأسئلة المصيرية من المدونات الشكسبيرية وزجها في هذا العرض لتعكس حرارة التجربة للذات المتموجة وهي تتمظهر تمظهراً إنسانياً جمعياً، يكثف الأحساس عند (المتلقي) وهو يرى شخوص العرض تبحث عن ملاذات لها تقيها من براثن اللعنة التي تلاحقها والجنون الحتمي، يتفجر صوت الممثلة (عواطف نعيم) أو(الليدي ماكبث) متضامناً ومحّرضاً على مزيد من التمرد على الحال الدرامية، لتعيد المقولة الفكرية وبعثها في الصورة في ظل معادلة منطقية تشتغل على فضاء مفتوح وإيقاع مضطرب حتى يصل إلى ذروة المأساة.
تبدأ (الليدي ماكبث) بغسل السيارة المحملة بالأشباح المكفنة، وهم جميعاً ضحايا (ماكبث) قضى عليهم بأبشع القتل، أبتداءاً من الملك (دنكن) وصديقه (بانكو) حتى آخر الضحايا، تقوم بغسل الأشباح كنوع من التطهير مما علق بها من دم.
هذا المشهد ينفتح على أفق دلالي تتكشف من خلاله صيغ تعبيرية عديدة، ويتحول المشهد على أفق دلالي آخر، عبر مزيد من تجليات التطهير كنوع من الخلاص من براثن الجرم الفادح، فأداء الممثلة (عواطف نعيم) حرك الفضاء وسوغت حركته أن تغذي الأسئلة بمزيد من الأشكال والتشابك في سبيل تعميق الصورة والأداء في التعاطي والفهم على الأصعدة السياسية والاجتماعية والأخلاقية. أداء (الممثلة) حرض على تبني تأويلات خضعت لفترة زمنية عاشها (مجتمع) بأكمله ومازال يعانيها، بمعنى أن هذه اللحظة الراهنة هي جوهر العرض وبؤرته الباطنية العميقة. فالممثل بجسده وصوته حلقة مهمة من حلقات التجلي للعرض المسرحي على صعيد الرؤية الفضائية وتحولاتها، وفي مشاركة أكيدة مع عناصر السينوغرافيا.
فالعرض ينطوي على الظهور والبروز والتبين ليشكل صورة ماثلة أمام أعيننا عبر النظر والسمع، بأعتبارهما أدوات تعبيرية تتضمن تفعيل طاقات متعددة ومتنوعة ظاهرة وباطنة متجلية وخافية تلتئم في سياق واحد لتشكل طبيعة العرض.
يطارد ضوء الليزر الأحمر بحركته المتعرجة (الليدي ماكبث) ويلتصق بجسدها، وهي تحاول جاهدة من إزالته عنها بحركات يدها المضطربة، وهي تردد:
- زولي أيتها البقعة اللعينة ..
لم يكن إطلاق أداء (الممثل) في فضاء العرض من أجل غايات شكلية، وإطلاق الحوار بشكل أستعراضي أو دعائي، وإنما كان الأداء معبراً نحو الحضور ومتحرراً، يشير ويعلن عن حقيقة ما يقول، وبالتالي فهو يؤدي وظيفة رمزية وسيميائية وتشكيلية على النحو الذي يجعله أداءاً متميزاً، لكسر كل ما هو مغلق، وفك الشفرات وتحويلها إلى ظهور عيني. فكلمة زولي التي تكررها (الليدي ماكبث)، إنما تشير إلى زوالها هي، فبقعة الدم بقيت شاخصة في اللاوعي، لن تزول حتى مع الغسل، فالدم كدال لا يمكن إزالته، بمعنى أن الجريمة والقتل لن يختفيا من وجه الحياة، إنما الذي يزول هم الأشخاص، وها هي (الليدي ماكبث) تزول مثل نهاية الشمعة، هكذا يصفها (ماكبث) حينما جاءه خبر وفاتها حيث يقول:
- أنطفئ أنطفئ أيها النور المستعار هنيهة.
ما الحياة ؟ إن هي إلا اقصوصة يقصها أبله بصيحة عظيمة،
وكلمات ضخمة، على حين أنها خالية من كل معنى.
بهذا التعبير الفلسفي يختزل (شكسبير) الحياة بهذه الكلمات التي تأتي على لسان (ماكبث). ففي موت (الليدي ماكبث) لن تنتهي الجريمة، حيث تبقى لـ(ماكبث) القادم، الذي يستلم من (ماكبث) الأول خنجر الجريمة، وبدوره هذا يسلمه للآخر، عبر سلسلة من الماكبثيين الذين عاشوا في كل العصور، حتى زماننا هذا.
لغة الحوار والكلمات ليس لها من الأهمية بقدر أهمية العناصر الأخرى، جسد الممثل والسينوغرافيا هذان هما ما يعتمد عليهما (القصب) في عرض (ماكبث). فجسد (الممثل) لا يمكن تحديده بأتجاه معين، بل من خلال حضوره يملأ كل الأتجاهات، وبهذا يجعل المكان يتسع للتعبير، لأن (الممثل) يمتلك فاعلية ونشاط وطاقة على الأبتكار دون التقمص، وعلى الإبداع دون الأستعراض، وعلى الخلق دون التصنع، لهذا بات من الواضح أن تمظهر جسد (الممثل) على النحو الذي يحتاج فيه (المتلقي) إلى تحريك آلته التأويلية لإدراك الأشياء وتمثلها والقدرة على تلقيّها وأستنطاقها، ويتضافر صوت (الممثل) وفعله في سياق العرض، وهو معني بطرح الأسئلة التي يثيرها النص والعرض اللذان يعكسان حرارة التجربة للذات المتحركة وهي تتمظهر تمظهراً إنسانياً جمعياً، يكثف الأحساس بمحتويات العرض من أجل بحث حالم بالخلاص. (لقد أستوحى (القصب) الخلفيات والمرجعيات الفلسفية والأرث الحضاري العميق وعكسه في مجمل تجاربه وعروضه ليبني خطاباً جمالياً يمثل رؤية إنسان هذا العصر الفلسفية – إعادة بتعبير آخر) لهذا جعل من (ماكبث) متشظياً إلى ماكبث وهواجسه واطماعه اللامشروعة ..الخ.
بعد ذلك يتوحد (ماكبث) مع فعل الجريمة ومخلفاتها، يأتي التوحد إلا بعد التشظي المريع للنفس. ولقد عمل (القصب) على إثراء الفضاء بأنفتاحه على (ساحة) أستطاعت أن تستوعب حركة السيارة والدراجة وحركة المجاميع، فالمكان يتسع لبناء وتوظيف السينوغرافيا التي تؤكد على تحولاتها الدلالية المستمرة، إضافة لوظيفتها الإيقونية. لكن لم يتحول العرض إلى عرض شكلاني، بالرغم من أن مسرح الصورة ينتمي إلى الشكل أكثر منه للمضمون المخبوء في المدونة الشكسبيرية. حيث تتجاوز الصورة الخطاب المكتوب في تأثيرها وهيمنتها، فطبيعة النص وعلاماته يباشر بهيمنته بأسم من يمتلكه، بينما تباشر الصورة هيمنتها وتأثيرها بفعل نفوذها وهي تستند إلى الواقع، وتنفتح في مجال المشاهدة على العلاقة الجمالية التي يقيمها المتلقي مع ما يشاهده على الخشبة وفي الفضاء المفتوح. تأسيساً على ذلك أن الصورة تنفتح بأتجاه التحرر من الكمون والثبات لتنحو بمجمل الحدث نحو مسارات متعددة ومتنوعة تكسر جمود التقوقع داخل بنية تشكيل محدودة، لتنفتح على فضاء أكثف توسّع من حجم التأويل، وتقود الأحداث إلى مكاشفها وقراءتها بالتأويل. فالأزياء كعنصر سينوغرافي لعبت دوراً مهماً في صياغة دائرة العلاقات للشخصيات الدرامية، والمعنى من أشتغالاتها حينما تلبس من قبل (الممثل) فقد حققت الملابس وظيفتها على المستوى الجمالي والفكري، حيث أنبثقت من خلال الوانها وملمسها غايات ومعاني عديدة، فاتسمت عند كل من (ماكبث – الليدي ماكبث – بانكو) بطابع العصر الحديث وباللاهوية أيضاً، حيث كانت داعمة لعمل تلك الشخصيات وأفعالها، كذلك دعمت لغة العرض بشكل عام. وهي بأشكالها والوانها تمثل (رسالة البصرية)، لم تشر إلى تحديد أو أتجاه معين، وإنما تبقى مجهولة الأنتماء تجمع بين العصر الكلاسيكي إلى الواقعي واللاواقعي، لذا فهي بغرائبيتها تنتمي إلى حقل الصورة، والمنبثقة من عالم المخيلة، وقد أتسمت بطابعها الطقسي، وحققت من خلال لونها الأسود جلالة الأداء والتعبير والغموض، بينما أتسمت الملابس في شخصية (مكدف) بالمعاصرة، وكذلك كانت ملابس (المجاميع) التي أتسمت بطابع المعاصرة أيضاً، لقد وظف (القصب) اللقطات السينمائية في العرض، وهذا الأسلوب التجريبي الحديث الذي يجمع إلى فن المسرح فنون عديدة منها الأفلام السينمائية التي يجمع إلى معيته فنون عديدة يستثمرها العرض المسرحي. فقد كان هناك أكثر من تكوين بصري القريب، المتوسط ، البعيد داخل فضاء العرض المفتوح، وكان هناك تشظي للفعل الأساس داخل أفعال أخرى متناثرة في فضاء العرض. لهذا راح الممثلون يتحركون بمساحات مفتوحة تدخل ضمن أشتراطات الرؤية الفنية والجمالية. بينما عكست ملابس راكب الدراجة زمن المستقبل المنسجم مع شكل الدراجة بكل ما تحدثه من زمجرة وما تبثه من دلالات ورموز توحي بالزمن الآلي. أما ملابس الضحايا فشملها زي أبيض موحد ليعطي صورة الشمول الإنساني لجميع الأزمنة، في الوقت الذي ظهر فيه (غاسلو السيارات) نصف عراة حالقي الرؤوس كدلالة تعبيرية على دخولهم الطارئ للأزمان الثلاثة، ولاسيما أن مهمتهم إقتصرت في محاولة غسل أدران تلك العوالم الثلاثة. إن علامات الهيأة اشتغلت بصيغة متداخلة مع العلامات الصوتية، والحركية تحقيقاً لفكرة الشمول بكل مكوناتها المتضادة لتنسج بالتالي وحدة متوافقة مع هدف المنجز، وشكل وطبيعة العرض المسرحي.) (لقد ركز فعل القراءة الجمالي على مفردة الصورة والرسم الحركي بحيث عمد المخرج إلى دمج أكبر قدر ممكن من التقنيات والخامات والفنون الأخرى، ، لذا كان الممثلون يتحركون في أكثر من مستوى وفي أحيان كثيرة تتداخل المشاهد البصرية مع بعضها في حين تظل المشاهد البصرية الأمامية متحركة والمشهد البصري الخلفي ثابت في حالة تأمل ثم ينفلت إلى حالة حركة، لعبت حركات الجسد التعبيرية دوراً كبيراً في إغناء الفعل وتقديم المسكوت عنه داخل العرض، كما كان للإشارة والإيماءة دورهما في أستنطاق ما وراء الكلمات التي حملها النص الأدبي الشكسبيري وغادرها المخرج إلى التشكيل الصوري والعبارات المنطوقة المحددة في أشتراطات الرؤية الفنية والجمالية، لقد عزز المخرج الفعل الدموي لماكبث والليدي ماكبث ومعهما بانكو، فكان ان توزع هذا الفعل على مستويات ثلاث، الخلفية حيث أشتغلت فيها المجاميع في البحث عن الجريمة ومحاولة إخفاءها، وعلى المنصة الحديدية (البرج) وقد وقف أحد الأشخاص منادياً ومخبراً المتلقين بوقوع أمر جلل دون أن يصغي إليه أحد، وآلة التقطيع (المقصلة) وقد تم قتل ذكرى الحياة عبر تقطيع الأشرطة السينمائية وبساطيل الحنود، أما الدراجة النارية والتي جلل سائقها السواد، فكانت بمثابة الأفعى المتحركة في ذات ماكبث والليدي ماكبث والمحفزة لكلاهما للفعل والمفعلة لهما على عملية القتل المتواصل للحفاظ على عرش السلطة.)
الهوامش
* هو الفيلسوف: جوتفريد فيلهلم ليبنتز، (1646 – 1716)، ولد بليبزج لأب قانوني وأستاذ للأخلاق بجامعة المدينة. ومنذ حداثته أخذ يقرأ في مكتبة أبيه، والتحق بالجامعة فدرس الفلسفة القديمة، ودرس الرياضيات، والقانون، كذلك كتب الكيميائيين، وقد حصل على الدكتوراه في القانون.
** المونادا أو الجوهر الواحد، واللفظ يوناني معناه الوحدة وهي قوة متجهة إلى الفعل، حاصلة على التلقائية، فلا تفعل بتحريك محرك مغاير، كما انها ليست أجزاء، وهذه القوة وسط بين القوة والفعل، وهي فعل كامن، وجهد مستمر يتجه إلى الفعل التام . فحالاتها كلها باطنة ، يتولد بعضها من بعض بحيث يكون حاضرها حافظاً لماضيها مثقلاً بمستقبلها، وهي خالدة وتتدرج في الكمال والسعادة إلى غير نهاية، وهي غير متناهية العدد من حيث إن هناك درجات لا متناهية في التصور المتميز ، ويدل على أن عدد المونادات لا متناه.
*** مسرحية (ماكبث) تأليف: وليم شكسبير - إخراج: صلاح القصب ، (تمثيل: عواطف نعيم – صاحب نعمة – باسل شبيب – وآخرون من طلبة قسم المسرح، في كلية الفنون الجميلة / بغداد ) - مكان العرض: الساحة الرئيسية لقسم المسرح - تاريخ العرض: بغداد/ 1999.
(1) وليم، شكسبير، ماكبث، تر/ جبرا ابراهيم جبرا، وزارة الثقافة والاعلام الكويتية، سلسلة المسرح العالمي، 1980 ، ص30.
(1) وليم شكسبير: ماكبث، تر/جبرا ابراهيم جبرا، مصدر سابق، ص30.



#جواد_الحسب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد الحسب - تجليات مسرح الصورة عند القصب