أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - تيسير محيسن - علاقة المسرح بالمجتمع المدني في الضفة الغربية وقطاع غزة















المزيد.....


علاقة المسرح بالمجتمع المدني في الضفة الغربية وقطاع غزة


تيسير محيسن

الحوار المتمدن-العدد: 960 - 2004 / 9 / 18 - 13:24
المحور: القضية الفلسطينية
    


أثناء الإعداد لهذه الورقة واجهت إشكاليتين منهجيتين: الأولى تتمثل في غياب تعريف واضح ومحدد ومتفق عليه لمقولتي "المجتمع المدني" و"المسرح" والثانية تتعلق بصعوبة الحصول على مراجع ووثائق تؤرخ لنشأة وتطور الحركة المسرحية ولعلاقتها المفترضة مع مؤسسات المجتمع المدني في الضفة الغربية وقطاع غزة في العقود الثلاثة الأخيرة. تنطلق هذه الورقة من الفرضية التالية: على المستوى النظري والتاريخي يمكن رصد ثلاثة لحظات بدت فيها بعض أشكال المسرح تعكس جدلياً طبيعة المجتمع المدني ووظيفته أو وظائفه في سياق اجتماعي اقتصادي معين، أما في الحالة الفلسطينية، وبغض النظر عن الاجتهادات النظرية المتباينة حول مفهوم المجتمع المدني والظاهرة المسرحية في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد عام 1967، فثمة تزامن في نشأة مختلف الحركات الاجتماعية والثقافية وصعودها، وثمة توافق في الوظيفة الاجتماعية والسياسية لها، ولكن سرعان ما اختفى هذا التوافق عبر مسارات تطور منفصلة وبتأثير عوامل مختلفة، كالتمويل الخارجي، ونشأة السلطة الفلسطينية، واحتدام الصراع الاجتماعي والسياسي.
في مفهوم المجتمع المدني
ليس ثمة تعريف عالمي ودقيق لمفهوم المجتمع المدني، وبالتالي يظل أي تعريف قاصراً ما لم تتم العودة إلى نشأة المفهوم وصيرورته التاريخية ببعديه المعرفي والعملي، أي من حيث طبيعته التاريخية من تمفصلات وتطورات واستخدامات في ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية متميزة، ومن حيث الطبيعة المعرفية البحتة بوصفه جزءاً من منظومة مفاهيمية كاملة في سياق النظرية السياسية الغربية. لقد ظل مفهوم المجتمع المدني، منذ البدايات الأولى، ينطوي على طابع إشكالي باعتباره تجريداً نظرياً لواقع اجتماعي شديد التعقيد والتباين، يزخر بالتناقضات ولا يتوقف عن التغيير.
في مفهوم المسرح
المسرح، بالمعنى الواسع للكلمة، بمثابة شكل من أشكال التعبير عن المشاعر والأحاسيس البشرية التي تلجأ في التعبير عن نفسها إلى فن الكلام وفن الحركة، مع الاستعانة ببعض المؤثرات الأخرى. المسرح يشتمل على جملة عناصر جمالية، واجتماعية، وفلسفية، وأخلاقية، وإنسانية تبحث في علم الإنسان وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته. وهو مثلما يصفه رولان بارت "يشبه إلى حد كبير آلة علمية تعمل على توجيه وإرسال عدة أخبار ورسائل إلى عنوان بيتك (…) بنشاط ووفقاً لإيقاعات مختلفة بحيث تستلم وأنت في مكانك في وقت واحد أكثر من ست أو سبع معلومات مصدرها: الديكور، الملابس، الإنارة، مكان الممثلين وحركاتهم، البانتوميم الذي يقومون به والحوارات التي يطلقونها".
وبالرغم من أن التاريخ الرسمي لنشأة المسرح يعود إلى حوالي سنة 490 ق.م. أي إلى تاريخ أقدم نص مسرحي عثر عليه، إلا أنه وباستخدام مقولة "الفعالية المسرحية" يمكن تتبع تاريخ آخر للظاهرة المسرحية قبل تاريخها المدون، أي منذ وجد الإنسان وعندما قام بمحاكاة الطبيعة، والفعالية مثلما يقول ارنست فيشر (هي أقدم من البحث عن غاية، وبالأحرى اليد، لا الدماغ هي التي توغلت في عالم الاكتشاف) ولقد أثبتت الدراسات الأثرية من خلال النقوش التي حفرت على جدران الكهوف، أن الإنسان بدأ يحاكي الحيوانات ويتقمص أشكالها ويؤدي حركاتها في محاولة منه لاقتناصها. كان التقمص وسيلة من وسائل تحقيق التجانس المظهري معها، وفرض السيطرة عليها، ولقد تميزت طقوس القنص واقتربت من فن التمثيل بدرجة كبيرة. إن الإنسان البدائي قد أفرز أشكالا إيمائية وحركية من خلال لغة الجسد كردود فعل لتحديات الطبيعة، وهذا يعتبر بحد ذاته خطوة أولى في مضمار الرقص. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ثمة مشابهات ومقاربات كثيرة تجمع الحياة الاجتماعية بالممارسة المسرحية، تجمع ما بين الفعاليات وفن التمثيل الدرامي. والعثور على هذا النوع من المقاربات والهيئات ليس صعباً، خصوصاً، عندما نلقي نظرة على حياة مجتمعات ما قبل التاريخ التي كانت تستمد قناعتها بوجودها من هذا النوع التمثيلي شبه الخرافي. لقد اعتادت هذه الجماعات على محاكاة قصة خلق العالم وتكوينه بالرقص والغناء وفن الحكاية وبعض الممارسات البهلوانية التي يمتزج فيها الواقع بالخيال، الاجتماعي بالمسرحي فتعطي جملة رموز وإشارات تشخيصية تعبر عن انصهار الفرد بالجماعة والجماعة بالفرد. إن قرب هذه الفعالية من المسرحية الصميمية يعود في الحقيقة إلى قربها من التعريف الذي يقدمه أرسطو في كتابه "فن الشعر" لفنون التقليد الثلاثة: الملحمة، المأساة والرواية الهزلية. إن هذه الفنون الثلاثة لا تقدم شخصياتها إلا في حالة الفعل مثلما لو أنها تعمل، ومن هنا نشأت الدراما وذلك لأنها تقلد شخصيات تعمل ولكنه تقليد بالمعنى المجازي للكلمة. (المأساة لا تقلد الناس بل تقلد الفعل والحياة)
المسرح والمجتمع المدني: 3 لحظات فارقة
كما سبقت الإشارة، فالورقة تفترض علاقة جدلية بين المسرح والمجتمع المدني شهدت 3 لحظات هامة جديرة بالتوقف عندها في إطار الصيرورة التاريخية لتطور مفهوم المجتمع المدني:
اللحظة الأولى: وتمتد زمنياً منذ ما قبل عام 1820 وحتى عام 1920، حيث صعدت أوروبا الصناعية الرأسمالية، بفلسفاتها وحراكها الاجتماعي الإصلاحي المتدرج أو الثوري التغييري، وحيث برزت الدولة القومية واحتدم الصراع الطبقي، وحيث جرى تدعيم الديمقراطية الليبرالية في عدد متزايد من المجتمعات الأوروبية. بدا المجتمع المدني بوصفه كل تجمع بشري يخرج من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على التعاقد، ليأخذ مع الفكر الكلاسيكي الألماني طابعاً مغايراً، فلا هو مجتمع الوئام الملتئم بالدولة، ولا هو مجتمع التوازن الذاتي المستقل عن الدولة، المجتمع المدني هو المجتمع البرجوازي، أي مجتمع السوق، حيث التناقضات والصراع الطبقي. في هذه الفترة خرجت كلمة الثقافة, وهي تشتمل على مختلف أنواع الفنون، من جذورها الأصلية الممتدة في تربة العمل الريفي لتعني في البداية شيئاً قريباً من معنى "الكياسة"، لتغدو في القرن الثامن عشر مرادفاً لكلمة "الحضارة" بالمعنى الذي يشير إلى سيرورة عامة من التقدم الفكري والروحي والمادي. في منقلب القرن التاسع عشر اعترت فكرة الثقافة أشياء ثلاثة: (1) الثقافة كنقد طوباوي. حيث الحضارة برجوازية بشكل عام بينما الثقافة أرستقراطية وشعبية في آن. (2) الثقافة كنمط حياة متميز. حيث تستطيع أن تصف نظاماً اجتماعياً بدائياً، وفي نفس الآن تستطيع أن تجد طريقة لإضفاء طابع مثالي على نظامك الاجتماعي الخاص. (3) الثقافة بوصفها خلقاً فنياً، أي الفن من أجل الفن، أو الثقافة بوصفهاً ترياقاً مضاداً للسياسة.
يمكن القول أن المسرح الأرسطي هو النموذج الذي ساد في هذه اللحظة، أي النموذج الغربي/البرجوازي بمدلولاته القمعية، الذي يستحيل على الدوام إلى أداة للقهر بفعل تفويضه للسلطة في العرض إلى الممثلين، الأمر الذي يصبح معه الجمهور مذعناً وسلبياً بنحو تام. هذا النموذج يقوم على المفهوم الأرسطي للتراجيديا والتطهير باعتباره وسيلة لتجريد الجمهور من السلوكيات غير المقبولة اجتماعياً وإضفاء صبغة أخلاقية على هذا اللون من القهر وكبح نزعة التغيير في المجتمع. يرفض بريخت فكرة التطهير ويستبدلها بالتحريض، ويصف قواعد الدراما التي صاغها أرسطو بأنها محاولة "لجعل النظام السياسي والفكري السائد في عصره قيمة مطلقة لا تخضع للنقد، ولا ترتبط بأية ظروف أو متغيرات تاريخية".
اللحظة الثانية: وتمتد زمنياً منذ عام 1920 وحتى ثمانينيات القرن العشرين، ففي سياق البحث عن استراتيجية ملائمة للاستيلاء على السلطة في المجتمعات الغربية، طرح المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي مفهوماً جديداً للمجتمع المدني بوصفه فضاءً للتنافس الأيديولوجي، حيث المجتمع السياسي يمثل السيطرة، بينما يعبر المجتمع المدني عن الهيمنة الأيديولوجية، والهيمنة وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية تمارس بوسائل التنظيمات التي تدعي الاستقلالية كالنقابات والكنائس والمدارس، ويستخلص غرامشي أنه للسيطرة على المجتمع السياسي يجب أولاً إحكام الهيمنة الأيديولوجية والدور الاستراتيجي في ذلك يعود للمثقف العضوي باعتباره منظماً ومؤهلاً للهيمنة.
وإذا كان الفن عند أرسطو هو التطهير في الحياة، وبالتالي فالمسرح يقوم على التطهير والاندماج والإغراق في الإيهام، فإن بديله، وخاصة في المسرح السياسي، يقوم على كسر الإيهام المسرحي وإعادة بناء الكتابة الدرامية وفق أيديولوجية مادية جدلية تجعل من المسرح أداة للتغيير وليس أداة للمحافظة على الكائن والمسيطر دون البحث عن الحتمي. يعود تاريخ نموذج المسرح السياسي بوصفه انعكاساً جدلياً لطبيعة العلاقة بين المسرحيين والسلطة إلى ذلك الزمن الذي بدأت فيه السلطة بالتدخل في العرض المسرحي، ونشوء حالة الوعي المضاد لنمطها المسرحي، وتصبح بذلك العروض التي تسللت إليها أيديولوجيا السلطة والأخرى التي تنفذها جهة سياسية مضادة أمثلة على المسرح السياسي، تندرج ضمنها تجارب مسرح العمال والمسرح الملحمي، الجريدة الحية. ويطرح آخرون تصوراً آخرا لصلة السياسة بالمسرح، لا ينحصر في نطاق الانعكاسات السياسية المباشرة وغير المباشرة وإنما يذهب إلى القول باختصاص السياسة بوجود حتمي ضمن بنية المسرح على اعتبار أن كل دراما "هي حدث سياسي، لا تخلو من تحريض، أو تشريح لسلوك أو فكرة ما" وكل أنماط السلوك بحسب مارتن اسلن فيها مضامين اجتماعية وبالتالي سياسية. أما المسرح السياسي ذي الطابع الراديكالي فهو المسرح الذي يسعى لدعم التغيير الجوهري للأيدولوجيا المسيطرة، ويتكأ على رفض فكرة التطهير واستبدالها بالتحريض السياسي.
اللحظة الثالثة: وهي اللحظة التي يؤرخ لها بإفلاس النظم الاستبدادية والديكتاتوريات العسكرية في دول العالم الثالث، وبتعرض المجتمعات الغربية إلى هزات اجتماعية، وبانهيار المنظومة الاشتراكية. برز المجتمع المدني بوصفه تارة محاولة لإعادة التوازن المختل بين الدولة الشمولية والمجتمع، وتارة بوصفه محاولة لخلق حيز عام خارج آليات سيطرة الدولة وخارج هيمنة آليات السوق، وتارة ثالثة باعتباره محاولة لتعزيز الديمقراطية المباشرة بعد إفلاس الديمقراطية التمثيلية. في هذه الفترة شاعت مفاهيم وقيم التعدد والاختلاف وإعادة الاعتبار للإنسان الفرد كمواطن مكفول الحقوق، وظهرت نظريات التنمية المستدامة التي تقوم على فكرة توسيع خيارات البشر وبناء قدراتهم ومشاركتهم في التحكم في زمام أمورهم بحرية طبقاً لحاجاتهم وأولوياتهم وطبقاً لكل ما يشكل لهم قيمة أو معنى. وأصبح شعار "الناس أولاً" رائجاً وكثير التداول في السياسة كما في التنمية وفي الثقافة.
انطلقت تجربة مسرح المقهورين في منتصف الستينيات من القرن الفائت مع المخرج البرازيلي اوغستو بول المبتكر لتقنياته ومنهجياته، مدفوعة بتداعيات الوضع السياسي في أمريكا الجنوبية وامتلاك الديكتاتورية العسكرية لزمام الأمور وممارستها لأشكال القمع السياسي فيها. جاءت تجربة بول متكئة على وعيه بالنظرية الماركسية وفيها راهن على جدلية التناقضات التي تعيشها الطبقة الكادحة لإفراز وعي سياسي لدى المتفرج وحمله على ممارسة الفعل الاجتماعي. وقد انشغل بول بتصعيد الحالة الحوارية بين العرض والجمهور كأمر مهم للخلاص من القهر، الذي يتلمس وجوده في اللاحوار حسب باولو فرايري في "تعليم المقهورين". ظهرت مساحة تأثير هذا الأخير على أفكار بول بنحو واسع، حيث أفاد من نظرية الحوار الثوري والتعليم الحواري وسعى إلى تطبيقها في عمله مع الفلاحين للتحرر من قهر الإقطاعيين من ملاك الأراضي. بهذا الميل الفلسفي، سعى بول إلى تفعيل الجمهور السلبي عبر تقنيات أدائية تجهد لجعلهم جمعاً من المتفرجين الممثلين في ذات الوقت، يشاركون في تحويل واقعهم الشخصي والاجتماعي إلى وعي وفعل سياسي، لا يكتفي فيها بطبيعة العلاقة التحريضية التي صاغها بريخت في مسرحه الملحمي، بل يمضي إلى شراكة حقيقة بين الجمهور والممثلين في تأسيس الفعل المسرحي، وتوجيه أحداث العرض.
قدم بول بدائل أكثر راديكالية لعملية التغريب التي تبناها بريخت، أمعنت في اقترابها من الفئات المضطهدة، ملامسة مشاكلها الإنسانية، بقصد الارتقاء بسوية الوعي بقضاياها وإمكانيات تجاوزها والتحرر من سطوتها، وفيها ينخرط الجمهور في عملية استكشاف لحقائقهم الاجتماعية، يدعون فيها لتحليل مشاكلهم التي يختارونها بحرية والبحث عن خياراتهم الخاصة للتغيير.
ومن خلال عدد من التقنيات الأدائية والألعاب المسرحية تمكن بول من أن يحول فلسفته السياسية إلى جدل جمالي نعرفه الآن باسم "مسرح المقهورين"، في سياق مسرحي يعتمد على امتلاك القدرة على التلقائية والارتجال وحق التعبير الذاتي كضرورات منهجية لإيجاد صياغة جماعية للعرض.
إن ما يجعل من علاقة المسرح بالمجتمع المدني مسألة مؤكدة هو أن المسرح في نهاية المطاف فعل جماعي وظاهرة حضارية، هو تعبير حر عن إنسان حر في وطن حر. بينما المجتمع المدني يمثل الشرط التاريخي على حد قول عزمي بشارة لتوسط عناصر الوحدة الاجتماعية السياسية فرد/مجتمع/دولة وتنظيم العلاقة بينها. إن استخدام العمل المسرحي كأداة تطهيرية أو كأداة تعبوية وتحريضية غير عنيفة أو كأداة لتعزيز تفاعل الجمهور ومشاركته ولضمان فعل الاختيار والاختلاف والكشف عن جوانية الإنسان، يشكل استراتيجية هامة يمكن لمنظمات المجتمع المدني توظيفها في تحقيق الغايات التي تسعى من أجلها.
الحركة المسرحية في الضفة الغربية وقطاع غزة
ربما ليس من الصعب ملاحظة تزامن صعود الحركة المسرحية، وبشكل أعم الحركة الثقافية والفنية، أواخر سبعينيات القرن الفائت مع صعود الحركات النسوية والتطوعية والطلابية والنقابية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي جاءت كتعبير عن إرادة شعبنا في تحدي الاحتلال والرد على محاولات إسرائيل قمع تعبيرات الوطنية الفلسطينية وتدمير بنية المجتمع. لقد بدت هذه الحركات كروافد للحركة الوطنية الفلسطينية وكآليات للدفاع عن النفس والحفاظ على الذات في مواجهة آلة الاحتلال العسكري والاستيطاني، وكقنوات للتعبئة الاجتماعية وإعادة تنظيم المجتمع الفلسطيني على أساس من العلاقات القصدية والطوعية. ومن المؤكد أن الأمر لا يقتصر على تزامن الصعود ولا على التوافق في الأسباب والغايات، وإنما أيضاً في التوظيف المتبادل لعناصر كل من هذه الحركات في خدمة الأخرى، وأسطع مثال على ذلك المهرجان التطوعي السنوي في الناصرة واشتماله على عناصر وفعاليات ثقافية وفنية بما في ذلك العروض المسرحية. في عام 1974 عرضت مسرحية "بياع الصبر" من تأليف الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة في نابلس تزامنت مع الظهور العلني لتعبيرات الوطنية الفلسطينية ممثلة في الحركات الطلابية والنقابية، وفي رام الله تأسست فرقة بلالين ومن ثم فرقة دبابيس، ومع تصاعد إضراب عمال وموظفي شركة كهرباء القدس عام 1979قدمت مسرحية "حفلة ارتجال من أجل العمال" استهدفت الدفاع عن الشركة وعمالها كرمز للوجود الفلسطيني في مدينة القدس. شكلت تجربة مسرح الحكواتي في أواسط الثمانينيات نقلة نوعية في الحركة المسرحية على أيدي خريجين من معاهد عليا في المسرح ومع توفر امكانات لوجستية أكبر، وبانفتاح أوسع على التجربة الإنسانية من خلال ترجمة وتقديم نصوص عالمية، وقد تزامنت تجربة الحكواتي مع صعود الأغنية الوطنية وشيوع أغاني الشيخ إمام ومرسيل خليفة. في أوائل التسعينيات تأسس مسرح عشتار وقد امتاز بالتجريب المسرحي وبامتلاك تقنيات عالية وبجرأة كبيرة في تناول الموضوعات المختلفة، وفي نفس الفترة تقريباً بادر الشاعر الفلسطيني المرحوم عبد اللطيف عقل بتحويل دار سينما إلى مسرح "السراج" وكرَّس له حياته، وبعد توقف تحول إلى مسرح القصبة على يد جورج إبراهيم، وهو اليوم بمثابة مركز ثقافي متعدد النشاطات في مختلف حقول الثقافة والفن. مع نشأة السلطة الفلسطينية وعودة عدد من المسرحيين والفنانين الفلسطينيين برزت محاولات جادة لتطوير الحركة المسرحية ومأسستها، وتوظيف المسرح في العمل السياسي والتنموي، اصطدمت هذه المحاولات بمعيقات جمة، كان أخرها اندلاع الانتفاضة الثانية ونشوء وضع انعكس سلباً على مسيرة الحركة المسرحية، علماً أنها بدأت في الآونة الأخيرة تستعيد زخمها وتسهم في إثراء الحالة الثقافية والفكرية الفلسطينية في ظل التطورات السياسية العاصفة التي نشهدها.
في قطاع غزة نشطت فرق مسرحية من هواة ومتطوعين منذ منتصف تسعينيات القرن الفائت، استطاعت خلال وقت قصير نسبياً أن تخلق حضوراً ملموساً إلى حد ما، بعض هذه الفرق تحول إلى مؤسسات، وبعض المسرحيين انخرط في إطار العمل الوظيفي في مؤسسات السلطة الفلسطينية. منذ بدايات تشكل هذه الفرق تفاعلت مع مؤسسات المجتمع المدني عبر تقديم عروض مسرحية هادفة لأغراض ترفيهية وتربوية وتوعوية لكنها لم ترق بعد إلى أن تصبح استراتيجية متبعة من استراتيجيات التدخل المجتمعي لإحداث التغيير المطلوب.

في نهاية هذا العرض السريع لتطور الحركة المسرحية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ضوء العلاقة الجدلية المؤكدة بين المسرح بأشكاله المختلفة ووظائفه المتعددة، وبين المجتمع المدني بمؤسساته وتدخلاته من أجل إحداث التغيير المنشود، أود أن أطرح بعض الملاحظات والاستنتاجات العامة:
1- بالإضافة إلى غياب مدرسة فلسطينية في المسرح، تعرضت الحركة المسرحية إلى عمليات قطع وقمع اجتماعي وسياسي، كما عانت طويلاً، وخاصة قبل نشوء السلطة الفلسطينية، من انعزالها عن التجربة العربية والعالمية في مجال المسرح.
2- الظاهرة المسرحية باعتبارها تقوم على حرية القول والفعل والمغايرة والاختلاف ليس لها تاريخ حقيقي في مجتمع يتسم بالمحافظة وهيمنة أشكال أخرى في التعبير، هذا إلى جانب التأثير السلبي للمسرح التجاري المصري، ودراما التلفزيون، وبرامج الفضائيات وخاصة في تشويه الذائقة الفنية والوعي بدور الفن عموماً في معالجة قضايا وهموم الناس.
3- عدم إدراك العلاقة بين المسرح والمجتمع المدني كحيز عام للفعل والتواصل والحوار من أجل إحداث التغيير نحو مجتمع أكثر عدالة وإنصافاً وخاصة للفئات الأكثر اضطهاداً وحرماناً، جعل أطر التعاون والتنسيق بين مؤسسات المجتمع المدني وبين الفرق والمراكز المسرحية عائمة ومزاجية ونادرة.
4- الميل لدى غالبية مؤسسات المجتمع المدني لاستخدام أدوات واستراتيجيات سهلة في الوصول إلى الفئات كالتدريب والمحاضرات وتقديم الخدمات والمساعدات العينية مباشرة، إما لأن ذلك يتفق مع توجهات الممول، وإما لعدم إدراك جدوى المسرح بوصفه وسيلة لخلق حوار جماعي مع الفئات المستهدفة لتفهم حاجاتها وتحليلها بمشاركتها وتفاعلها في إطار لحظة تتسم بالإثارة والمغايرة والإمتاع.
5- قلة الإمكانات المادية ونقص الخبرات، ذلك أن المسرح في غزة لازال يقوم على التطوع الإبداعي أكثر مما يرتكز إلى سياسة واستراتيجية ورؤية ورعاية مؤسسية جادة تخصص له الموارد المطلوبة.

إن التحدي الذي يواجه المسرح في قطاع غزة، وفي فلسطين عموماً، يتمثل في إعطاء هوية لذاته ولصوته ولجمهوره، حتى تصير هذه الذات وهذا الصوت وهذا الجمهور منتمياً بالمسرح إلى الظاهرة الحضارية الحيوية التي تؤكد حيوية الإنسان الفلسطيني بالرغم من عوامل القهر والظلم ومحاولات الإبادة التي يتعرض لها بالمعني الفعلي والرمزي لهذه الكلمة. التحدي الثاني يتمثل في التخفيف من حدة غرابة وتناقض الظاهرة المسرحية مع موروث مجتمع لم يتحرر من التبعية وتحريم الخوض في قضايا الجنس والسياسة والدين، أي كل ما يجعل من المسرح هامشياً. وعلى المسرحيين أن يدركوا كنه المسرح كفلسفة وكعلم وكفن وكرؤية للعالم، وأن موقف المجتمع من المسرح يتحدد بموقفه من حرية القول والفعل والمغايرة والاختلاف. وهي القضايا ذاتها التي يكافح المجتمع المدني من أجل إرساءها بعيداً عن علاقات القهر والربح والقرابة. وقبل ذلك كله، ثمة دور ومسؤولية للمؤسسات الرسمية كوزارة الثقافة والمؤسسات غير الرسمية كمنظمات المجتمع المدني في تعزيز نهضة الحركة المسرحية وتأمين مقوماتها، وإذا كانت بعض مؤسسات المجتمع المدني قد نجحت في استغلال وسائل الإعلام في عملها وتوظيف الإعلام في خدمة قضايا التنمية والتغيير والتأثير حتى أصبح لدينا اليوم ما يمكن تسميته بالإعلام التنموي، فإنها مدعوة اليوم لدمج الظاهرة المسرحية والبناء على الخبرات المتراكمة في هذا المجال، حتى يصبح لدينا مسرح تنموي ينحاز لقضايا التغيير وتعزيز الحوار العقلاني وتفعيل المشاركة الجماهيرية وتطوير حس المواطنة المدنية.


المراجع
1- الراعي، د.على المسرح في الوطن العربي، الطبعة الثانية (الكويت: عالم المعرفة، 1999)، العدد 248
2- الوظيفة الاجتماعية للتجريب المسرحي، حوار مع ألفونس ساستري، مجلة القاهرة (أكتوبر 1995)، العدد 155
3- دور الفن في التنمية البشرية، نهلة تاوضروس، بحث مقدم في جامعة حلوان، كلية التربية الفنية، 1999
4- حوار مع الناقد المسرحي عبد الرحمن بن زيدان، الانترنت
5- إبراهيم، سعد الدين، سلسلة مقالات حول المجتمع المدني، جريدة القدس، ابريل 2001



#تيسير_محيسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مواجهة خطة شارون: استحقاقات فلسطينية عاجلة وآجلة
- في العمل مع الشباب: التنشيط الاجتماعي والثقافي


المزيد.....




- لم يسعفها صراخها وبكاؤها.. شاهد لحظة اختطاف رجل لفتاة من أما ...
- الملك عبدالله الثاني يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي أر ...
- مصر: خلاف تجاري يتسبب في نقص لبن الأطفال.. ومسؤولان يكشفان ل ...
- مأساة تهز إيطاليا.. رضيع عمره سنة يلقى حتفه على يد كلبين بين ...
- تعويضات بالملايين لرياضيات ضحايا اعتداء جنسي بأمريكا
- البيت الأبيض: تطورات الأوضاع الميدانية ليست لصالح أوكرانيا
- مدفيديف: مواجهة العدوان الخارجي أولوية لروسيا
- أولى من نوعها.. مدمن يشكو تاجر مخدرات أمام الشرطة الكويتية
- أوكرانيا: مساعدة واشنطن وتأهب موسكو
- مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على حزمة من مشاريع القوانين لتقدي ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - تيسير محيسن - علاقة المسرح بالمجتمع المدني في الضفة الغربية وقطاع غزة