أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - طارق مريود التل - وصفي التل والمقاومة الاردنية















المزيد.....


وصفي التل والمقاومة الاردنية


طارق مريود التل

الحوار المتمدن-العدد: 3196 - 2010 / 11 / 25 - 12:43
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


عندما تولى وصفي مصطفى وهبي التل، رئاسة الوزراء، كان قد كوّن خبرات عميقة في أربعة مجالات هي، بالترتيب، المقاومة المسلحة، الإستراتيجية، التنمية الوطنية و المستدامة، والإدارة العامة.
خبرته في المقاومة جاءت من إلتحاقه بالمقاومة اليوغسلافية في الحرب العالمية الثانية، و في القتال ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، في حرب 1948.
وخبرته في الإستراتيجية، نالها من خلال تجربته كعسكري، ومن ثم تتلمذه على نظرية التعرّض غير المباشر للإستراتيجي البريطاني الأشهر، ليدل هارت، وأخيرا من خلال تأملاته في تجربة حرب 1948.
وخبرته في التنمية الوطنية والمستدامة، تحصّل عليها من خلال عمله في "المكتب العربي" في الضفة الغربية ، وبصورة خاصة من إنتمائه إلى مدرسة حمد الفرحان التي وضعت أسس الإقتصاد الوطني الدولتي خلال الخمسينات، إبان قيادتها لوزارة الإقتصاد الأردنية، أنذاك،
وخبرته في الإدارة العامة جاءت من عمله في مواقع حكومية حساسة في الخمسينات.
وهكذا، عندما عندما دفعت المعادلة الاجتماعية ـ السياسية الداخلية نحو تسليم الحكم لممثل لأبناء الحراثين، كان جاهزا ببرنامج شامل، تناول المجالات الأربعة السابقة. لكن موضوع هذه الورقة محصور في بعدين، المقاومة والإستراتيجية، على رغم كون منهجية التل، لا تفصل بينهما وبين البعدين الآخرين، التنموي والإداري. فالبنسبة إليه، كان الحكم القوي النزيه العادل ضرورة لإدارة التنمية ـ بوصفها أداة للبناء الوطني والعدالة الاجتماعية ـ وكان كلاهما ضرورة مقاومة، لكن المقاومة، عنده، هي فعل إستراتيجي بالدرجة الأولى.
نظرية العدو المركزي
انطلق التل من تقدير إستراتيجي أساسي يرى في "إسرائيل"، العدو المركزي للعرب. وهذه نظرية تختلف عن نظرية القضية المركزية. ففي الأولى، تخضع القضية الفلسطينية والشأن الفلسطيني كله ـ كما الأردني ـ لاعتبارات الصراع غير القابل للتسوية مع الكيان الصهيوني، أما في الثانية، فينفتح باب الأوهام بإمكانية تسوية ذلك الصراع في حل ما ـ المرجو أن يكون"عادلا" للقضية الفلسطينية.
من هنا، رفض وصفي التل حتى اسشهاده، ما أسماه دائما " أوهام الحل السلمي". لكن ما يميز هذه النظرة عن مواقف الديموغوجيين، هو أن رفض الحل السلمي لا يعني،بالضرورة، شن الحرب أو القتال في ظروف غير ملائمة إستراتيجيا. من هنا، رفض التل، العام 1966، الإنجرار للفخ الإسرائيلي إثر عدوان السموع الغاشم الذي كان هدفه الجوهري جر الأردن الى حرب تمكن إسرائيل من إحتلال الضفة الغربية، كما وقف ضد مشاركة الأردن في حرب 1967، لأنه كان متيقنا، بالحسابات الإستراتيجية، أن مآل تلك الحرب هو هزيمة حتمية، سوف تقود العرب إلى الإعتراف بالكيان الصهيوني وفتح أبواب أوهام الحل السلمي على مصراعيها، ووقف النزعة المعادية للكيان الصهيوني، وفقدان الثقة بالذات، وإمكانية الإستعداد للمواجهة الحتمية.

الضفة الغربية عبء إستراتيجي على الأردن

قبل نشوء الكيان الصهيوني كان التل مؤمنا بضرورة القتال لإعاقة نشوئه، وخاض الحرب كلها في صفوف جيش الإنقاذ، وظل يدفع، في الفترة اللاحقة، نحو استمرار القتال العربي في فلسطين، حتى أنه خطط للإنتقال مع كتيبته من الجولان إلى الضفة الغربية لإشعال مقاومة جديدة، في أواخر 1948، وهي خطة إنكشفت وأدت بصاحبها إلى سجن المزة بدمشق بقرار من الإنقلابي حسني الزعيم الذي كان يفاوض على سلام مبني على توطين اللاجئين الفلسطينيين في منطقة الجزيرة في سورية.
إن توقف الأعمال العسكرية واختتام الحرب بالهدنة، وترسيخها، خلقا واقعا جديدا يتمثل في أن الأردن حاز عبئا إستراتيجيا هو الضفة الغربية التي لا قبل للقدرات الأردنية بالدفاع عنها. وكان هذا التقدير قد استقر لديه، إبان حكومة الشهيد هزّاع المجالي الذي كان مهموما بالضفة الغربية كعبء فوق طاقة الأردن. ولذلك، كان رأى الدخول في حلف بغداد لحمايتها أو، بعد سقوط المشروع، الإعتراف بكيان فلسطيني في الضفة بما ينقل العبء إلى العرب. وقد دفع المجالي حياته ثمنا على هذا المذبح بالذات.
تحقق وصفي التل من أن مصر الناصرية التي كانت تقود النظام العربي، أرادت كيانا فلسطينيا سياسيا في القاهرة، ولكنها لم ترد تحمل عبء الضفة على الأرض، في حين أن هذا العبء الإستراتيجي مرغوب، بكل مخاطره، من قبل الهاشميين الذين رأوا في القدس أحد أعمدة شرعيتهم الأساسية.
رأى التل ، على خلفية عدم وجود حل عربي أو دولي لمشكلة الضفة الغربية، أن الإستراتيجية الفعّالة للدفاع عنها تكمن في عمل دؤوب مبرمج لتحشيد الطاقات والموارد الأساسية، وتحويل الأردن، بضفتيه،إلى القطب الأساسي ومركز الثقل في جبهة المواجهة العربية المسلحة مع إسرائيل،ووضع التل تصوره هذا في كتاب أبيض سطّره رفقة أكرم زعيتر، واعتبره ميثاقا لعمل حكوماته 1962و1965 و1970، أما المقاربة العسكرية التي اقترحها على أساس إستراتيجية التعرض غير المباشر فقد تضمنتها خطة طارق الشهيرة التي كانت ترمي، في حالة عدوان إسرائيلي، إلى الإنسحاب المنظم من الضفة لصالح التمركز الهجومي ـ الدفاعي في القدس ـ بما فيها الأراضي التي يمكن كسبها من القدس الغربية ـ على رأس خط عسكري متصل بالضفة الشرقية للتزويد والإمداد، والمقاومة والصمود حتى يتسنى تدخل دولي يعيد القوات إلى مواقعها السابقة.
في الداخل، كانت خطة التل، إعادة بناء الدولة على أساس ضرب الفساد والفئات الطبقية المسيطرة، وتطوير الإدارة، والشروع في تنمية وطنية ـ وهي غير النمو ـ على اساس الدور القيادي للقطاع العام، والتنمية الريفية التي ترسخ الارتباط بالأرض في صفوف الفئات الشعبية، وفي ظل إستراتيجية دفاعية تعيد تأهيل المجتمع كله ك" مجتمع إسبارطي" قادر على مواجهة أعباء المقاومة. وعماد هذا التصوّر كان إطلاق طاقات الفئات الاجتماعية الريفية. إن تجربة وصفي التل المريرة في حرب 1948، هي التي دفعته نحو نزعة تنفر من الفئات المثرية والأعيان والأفندية، أولئك الذين تخلوا عن الوطن في محنته، بينما قاتل الفلاحون بشجاعة في القرى الفلسطينية، كما أن ظاهرة الهجرة الجماعية حفزته للتفكير في وسائل اقتصادية واجتماعية تربط الفلاحين المنظمين بأرضهم، بصورة وثيقة تدفعهم للبقاء فيها تحت أقسى الظروف.

مفارقة : تحسّن الوضع الإستراتيجي الأردني بعد 67

قبل حرب 1967 ، كانت فئات الحكم الرجعية والبرجوازية والانتهازية، تستغل الفرصة للحصول على مكاسب سياسية في أجواء هستيريا حرب كانت معروفة النتائج. ولا نريد، هنا، الدخول في الدهاليز لاكتشاف مؤامرة ما خلف حماس تلك الفئات للحرب، لكن نلاحظ ما هو علني وواضح من انزياح تلك الفئات 180 درجة من خطاب الحرب إلى خطاب الحل السلمي!
بالعكس تماما، وقف التل ـ الذي رفض الحرب قبل وقوعها لأسباب إستراتيجية ـ مع ضرورة وأولوية المقاومة بعد 1967، في ضوء هدف عاجل هو منع توطد الإحتلال، مقدمة لإنهاكه وطرده. وكان يعتبر أن هذه مهمة أردنية أولا وأخيرا. ليس فقط لأن الضفة الغربية وديعة لدى الأردن ، وهو، بالتالي، ملتزم وطنيا وأخلاقيا باستعادتها، وإنما، أيضا، لأن التخلي عن هذا الإلتزام يعرّض الأردن إلى مشكلة هيكلية تمس وجوده. فالتخلي عن الضفة يحول وحدة الأرض إلى توطين في الضفة الشرقية، وبدلا من اتحاد قطرين، سوف يحدث انشقاق داخل القطر الأردني نفسه. وهو ما طرح فورا قضية القرار في المقاومة. فهذا القرار يجب أن يكون معبرا عن دولة الوحدة لا عن منظمات إنفصالية.
إستعادة الضفة الغربية بالمقاومة وتحت سيادة عمان، كانا ، عند التل، شرطين أساسيين للحفاظ على وحدة البلد الداخلية. وبالمقابل، اعتبر أن أي حل لقضية الضفة في إطار تسوية مع إسرائيل في إطار موازين القوى القائم بعد الهزيمة، سيؤدي إلى التنازل عن حق العودة وتحويل الأردن إلى وطن بديل، إضافة إلى أنه سيفرض على البلد الخضوع لمنطق التوسع السياسي والأمني الإسرائيلي. وهو ما حدث فعلا في اتفاقيتي أوسلو 93 ووادي عربة 94، مع تعديل جديد، هو أن مخاطر التسوية تحققت من دون أن استعادة الضفة لا للأردن ولا لمنظمة التحرير الفلسطينية.
كانت الضفة الغربية هي نقطة الضعف الدفاعية للأردن بين عامي 48 و67، وبسقوطها، حدثت مفارقة يراها الإستراتيجي بوضوح وهي تحسن الوضع الدفاعي الإستراتيجي الأردني. فالأردن يتكون من سلسلة جبلية تشهق عن فلسطين، وتهبط على الأغوار ووادي عربة في إنزلاق جروف حادة. وهو ما يعطي لقوة الجيش الأردني والمقاومة الشعبية، قدرة على تلافي فوارق التسليح مع جيش العدو الذي لا يستطيع إرتقاء جروف إخدود الأردن بالآليات الثقيلة والدبابات، في مواجهة مقاومة ذات أسلحة أدنى ولكن مصممة ومنظمة. بالمقابل، تستطيع القوات الأردنية المتحصنة بالجبال ، تلافي تفوق الطيران المعادي وقصف أي موقع في فلسطين بالمدفعية. وهكذا، أصبحت الحرب ممكنة، ورفع وصفي شعار" عمان هانوي العرب"، ودعا منذ الهزيمة إلى رفض الإستسلام وأوهام الحل السلمي ووضع " كل ذرة جهد في خدمة المعركة"

ميليشيات سلطوية .. لا مقاومة

بذل وصفي التل جهودا جبّارة من أجل تنفيذ إستراتيجية المقاومة ، سواء مع أركان الدولة أو مع أركان المنظمات الفلسطينية والحزبية، ولا سيما البعثية. ولكنه فشل. فشل لأن تحالفا عجيبا ـ ولكنه أصبح اليوم مفهوما ـ حدث بين الفئات الطبقية المسيطرة على الدولة الأردنية من العناصر البرجوازية والكمبرادوية والبيروقراطية الفاسدة وبين قيادة فتح التي هيمنت على قرار المنظمات الفلسطينية والحزبية.
وقد تقاطع طرفي التحالف في شبكة مصالح طبقية وسلطوية:
(أ‌) هدف الطرف الأول إلى ترسيخ نفوذه في الدولة وتمرير الحلول السلمية التي حازت على الدعم المبهم من مصر الناصرية رغم لاءات الخرطوم، وهو الطريق الذي أوصل الأردن إلى معاهدة وادي عربة
(ب‌) بينما هدف الطرف الثاني إلى السيطرة على الإيقاع السياسي في البلاد، بما يساعده، في النهاية، على فك شق وحدة الشعبين والإنفراد بالقرار في الشأن الفلسطيني، ومن ثم المساومة. وهو الطريق الذي اوصل القيادة الفلسطينية إلى اتفاقيات أوسلو 1993

أفضل عرض لنظرية وصفي التل في المقاومة الناجعة، جسّدها، بعد استشهاده، بعقدين، حزب الله في لبنان. وهو الذي بنى جيشا منظما كالجيوش الحديثة بهيكليتها وصرامتها التنظيمية وقدراتها الاستخبارية والتزامها بأوامر القيادة السياسية الخ ، ولكنه، أي هذا الجيش، يستخدم وسائل الحرب اللامتكافئة مدعوما بمحيط شعبي منظم ومجيّش يشكل حاضنة اجتماعية للنضال المسلح. وهذه، بالضبط، كانت خطة وصفي التل، بعد 1967، إقترح نسقا من الدفاع العسكري والجيش الشعبي المنضبط في خط دفاعي داخل الضفة الشرقية، بينما تقوم فصائل فدائيين مسلحة بالعمل داخل الأراضي المحتلة. وهذه الإستراتيجية هدفها إنهاك المحتلين بحرب عصابات لا يستطيعون تدمير قواعدها الخلفية أو احتلالها ، بما يفضي في النهاية إلى انسحابهم من طرف واحد، من دون إعتراف أو صلح أو مفاوضات.
وكان الجيش العربي الذي أعاد تنظيم نفسه، من دون أي سلاح جديد، قد قدّم مثلا بطوليا في معركة الكرامة 1968 للإمكانات الخصبة لهذه الاستراتيجية. ولم تلتفت كل التحليلات التي ناقشت هذه المعركة إلى هذا البعد ، إذ كانت هزيمة الغزاة حتمية فيها، بسبب إضطرارها إلى خوضها في الشريط الغوري مع إستحالة التقدم الآلي صوب المرتفعات، مما جعل العدوان الإسرائيلي بلا معنى إستراتيجي، وقد إنهزم أمام قوات منظمة استخدمت وسائل المقاومة، وخصوصا اصطياد الدبابات بالقاذفات المحمولة على الكتف، مدعومة بغطاء من المدفعية المحصنة في المرتفعات.
إن الدرس التي استقاه العدو الصهيوني من معركة الكرامة 1968 هو ضرورة التوصل إلى صيغة سلام واقعي مع الأردن بما يبدّد تفوّق طوبغرافية الأرض و يضعف إرادة المقاومة، ويهدم التوازن الاستراتيجي مع الجيش الإسرائيلي.
وقد وضعت الولايات المتحدة، بعد رحيل التل، ثقلها وراء مشاريع " إنمائية" مصممة لتجريد الأردن من تفوّق طوبغرافية الأرض، وذلك في مجالات كان الشهيد وصفي يرفضها لأسباب إستراتيجية، ونشير، خصوصا، إلى الإستثمارات المكثفة في الأغوار وشق الأتوسترادات العريضة التي تربط المناطق الغورية بالمرتفعات الجبلية ، وتسمح، بالتالي، للآليات الإسرائيلية، باقتحام الهضاب الأردنية، وتضعف فرص مقاومتها بالحرب الشعبية.
إستثمارات الأغوار والبحر الميت ووادي عربة والعقبة و"أوتسترادات السلام" نُفذت في خطط متلاحقة في السبعينات والثمانينات، أي قبل معاهدة وادي عربة المشؤومة للعام 1994. وبهذا المعنى، لم تكن المعاهدة بداية وإنما تتويجا لعملية السلام على الأرض التي لا تعدو كونها تجريد الأردن، باستثمارات غير تنموية ومصممة لأهداف إسرائيلية، على مدار عقدين.
إن الزراعة المكثفة في الأغوار لا قيمة تنموية لها، لأنها تستهلك معظم المياه الأردنية من مصادرها الجبلية، وتصبها في منطقة حارة عالية التبخر، ولإنتاج خضروات ومنتجات تصديرية بأيدي عاملة وافدة ولمصلحة الفئات الكمبرادورية والتجار. ومن هذه الناحية، فإن البنى التحتية، المائية وسواها، في الأغوار وأوتسترادات السلام الخ وكلها لها بدائل أكثر نجاعة من وجهة نظر الإقتصاد الوطني والضرورة الدفاعية معا. وكان الأفضل، الإبقاء على الغور كمنطقة زراعية ـ رعوية تقليدية، تقوم على العدالة الاجتماعية ودعم السكان المحليين بالخدمات اللازمة والملاجيء المحصنة ووسائل الحفاظ على أمنهم واستقرارهم تحت أقسى الظروف. وهو ما شاهدناه لاحقا في جنوب لبنان.

1970

بعد 1968، والسرقة الإعلامية ـ السياسية لنصر الكرامة من قبل فتح، انتقلت قوى الحكم من الفئات البرجوازية والكمبرادورية والبيروقراطية الفاسدة، إلى أحضان فتح التي كانت اخترقت معظم أجهزة الدولة، بما فيها دائرة المخابرات العامة. ولا تريد هذه الورقة التي تركّز على الفكر الإستراتيجي المقاوم للشهيد وصفي التل، أن تفضح الأسماء، ولكن أية مراجعة لحقبة 68 ـ 70 ستضع الحقائق على الطاولة، فالذين قادوا مرحلة السلام الواقعي لعقدي السبعينات والثمانينات هم أنفسهم الذين تحالفوا مع قيادة فتح بين 68 ـ 70 وهم أنفسهم الذين سمحوا باختراق جهاز الدولة من قبلها في تلك الفترة ، وهم أنفسهم الذين هربوا من مواجهة الاستحقاقات، حين واجهها وصفي التل الذي حمله أبناء الحراثين في الجيش والريف، مرة أخرى، إلى سدة الحكم في السبعين.
وكان مشروع وصفي التل في السبعين ، يقوم على ثلاثة مراحل، المرحلة الأولى وقف الفوضى وضبط الأمن في المدن والقرى وإعادة بناء الجبهة الاجتماعية والسياسية الداخلية عن طريق حزب تنتخب قياداته شعبيا هو " الاتحاد الوطني التعاوني" وتنظيم الطاقات مع جيش يعاد تنظيمه الى وحدات صغيرة متنقلة مدربة على أساليب الحرب اللامتكافئة ، وتستند إلى مقاومة شعبية تكون نواتها من المتقاعدين العسكريين،المرحلة الثانية، التفاهم مع قيادات المنظمات على صيغة للعمل الفدائي في إطار إستراتيجية دفاعية وطنية، المرحلة الثالثة ، الشروع في المواجهة مع العدو.
وقد بذل التل جهودا إستثنائية للتفاهم مع قيادات المنظمات دون جدوى، كذلك طُعن من ظهره في محادثات جدة وفي عملية جرش الانتقامية ضد الفدائيين، غير انه لم يكل. فعشية إستشهاده كان رتّب للقاء مع قيادي فلسطيني في القاهرة للبحث في صيغة مقاومة تستعيد الفدائيين إلى قواعد قتالية في الأردن في إطار استراتيجيته الدفاعية، وحمل معه إلى مؤتمر وزراء الدفاع العرب، خطة لفتح جبهة جديدة في داخل الأرض المحتلة. لكن، في مواجهة مشروع المقاومة، كانت قوى متنافرة قد تحالفت ورأت في إبعاد التل عن المشهد الأردني والفلسطيني والعربي، ضرورة أساسية. فالفئات المسيطرة في الأردن كانت تريد إبعاده لاستبعاد مشروعه الاجتماعي وتدعيم فرصها وثرواتها في مشاريع السلام ، وقيادات فتح كانت تريد إبعاده لأنها لا تريد العودة على الوحدة الأردنية ـ الفلسطينية، وواشنطن لا تريد للرجل الذي استعاد تماسك وقوة الدولة الأردنية، أن يفرض عليها السير في مركب معاد لمشاريعها في المنطقة، بينما نظام السادات يود تصفية رجل يريد إستعادة المبادرة في الشأن الفلسطيني من الأيدي المصرية إلى عمان. وهكذا، قتلت الرصاصات الآثمة، الرجل، ودفنت الحكومات المتعاقبة، بعده، الرؤية والمشروع، ولكن على حين...

محاولات ولكن

أبرز محاولات تجديد خط المقاومة بعد وصفي التل حدثت في 1973، حين طالب ضباط أردنيون كبارا ومسؤولون من خط التل الساسي، فتح الجبهة الأردنية مع العدو، في سياق تقدير إستراتيجي صحيح يريد الإستفادة من الضغط المصري والسوري على قوات العدو في جبهتين للولوج إلى الضفة وتحرير أية أجزاء من أرضها، قبل إعلان وقف النار. وقد كان الضغط من داخل القوات المسلحة الأردنية وراء هذه الخطة قويا إلى درجة اتخاذ قرار باستيعاب الموجة من خلال إرسال القوات الأردنية للمشاركة في الحرب على الجبهة السورية. وقد كانت هذه الجهود العسكرية نفسها كفيلة بإحداث اختراق في الضفة، وتخفيف الضغط عن السوريين في الوقت نفسه. لكن، لم يكن ممكنا اختراق تفاهمات السلام الواقعي غير المعلنة على الحدود الأردنية مع فلسطين، ولم يكن مسموحا بتجديد ثقافة المقاومة في البلاد.
هل كان هنالك خطر على الأردن ؟ عسكريو الجيش الأردني المحترفون كانوا يعتقدون بأن الدفاعات الأردنية على المرتفعات وطوبغرافية الأرض، سوف تمنع العدو من التقدم في حالة فشل الجيش الأردني في تحقيق نجاحات في الضفة، او إنكفائه. ولعل تجربة الجنوب اللبناني في العام 2006 تبين محدودية سلاح الطيران الإسرائيلي في إحداث تغييرات ميدانية أمام قوات مصممة تتحرك في خطة محكمة واستراتيجية واضحة الأهداف.

بعد 1973
التطورات السياسية العربية المعروفة بعد 1973، وخصوصا لجهة انسحاب مصر من المواجهة والتجميد الإضطراري للجبهة السورية والدعم العراقي، واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ومعاهدة كامب ديفيد ، وغنكفاء الوضع العربي، لصالح هيمنة البترودولار، غيرت الموازين في المنطقة كلها، وتتالت بعدها الهزائم والنكبات وتوسعت الفئات البرجوازية الكمبرادورية واتسع نفوذها، بحيث أصبح مشروع تحرير الضفة الغربية بالسلاح خارج البحث، وتجربة المقاومة أو متعثرة أو جزئية، حتى جاءت تجربة حزب الله في لبنان، لتعطي لكتابات وصفي التل حول المقاومة، صدقيتها العملية.

2010

تحت ضغط تعمق الأزمة الإقتصادية ـ الاجتماعية ، وبعد عقد كامل من سيطرة النموذج النيوليبرالي الذي ادى إلى إفقار وتهميش الأغلبية الأردنية لصالح طبقة كمبرادورية جديدة، بدأت الفئات الشعبية الأردنية تحتج وتتمرد وتتجه صوب الراديكالية، إلا أن ما يجعل إتجاه الحراك الاجتماعي وطنيا هو الخطر الصهيوني المتصاعد على الكيان الأردني. وهو خطر يبدّد "أوهام السلام"، ويطرح ، مرة أخرى، على الشعب الأردني، المهمة التي لا مناص منها، وهي التصدي للعدوان الصهيوني، بينما أكد المستنقع الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، صحة نظرية العدو المركزي، بكل ابعادها الإقتصادية والاجتماعية والسياسية والوحدوية. إن استمرار سيطرة مركزية القضية ـ وبالتالي استمرار التعاطي مع أوهام الحل السلمي سوف يضع الفلسطينيين في مواجهة الأردنيين وبالعكس، حيث لا مفر أمام الشعبين من الاتحاد في مواجهة قدر المقاومة التي تساوي الوجود. غير أن الاتحاد المطلوب هو اتحاد نضالي وليس احادا في الخضوع لمتطلبات التوسع الإسرائيلي.

المقاومة الأردنية هي اليوم العنوان الرئيسي لمستقبل التحرر والتقدم الأردنيين، لكنها اليوم أكثر تعقيدا بما لايقاس مما كانت عليه حتى 1970.
للأسف الشديد، فإن استثمارات السلام في الأغوار وأوتستراداته، تكللت العام 1994 بمعاهدة وادي عربة السيئة الصيت والتي أجبرت الأردن على تخفيض قواته المقاتلة وتفكيك دفاعاته الجبلية، مما جعل التفوق الإستراتيجي الإسرائيلي كبيرا جدا، لكن إحداث التوازن ليس مستحيلا، في سياق إستراتيجية دفاعية، تركز على الشبكات الصاروخية وإعادة هيكلة القوات على اساليب المقاومة.

إن الإستراتيجية الدفاعية لا تبنى إلا بإحداث تغيير سياسي نوعي يقوم على العودة إلى دستور 1952 نصا وروحا، وضرب الفئات الكمبرادورية، وتفكيك النموذج النيوليبرالي برمته، وبناء نموذج تنموي وطني وشعبي ينطلق من الميزات التفضيلية الوطنية، ويؤمن إطلاق قوة العمل الأردنية ، وتشغيلها وزيادة إنتاجيتها، وهو ما يندرج تحت عنوان عريض هو التقدم الاجتماعي كعملية تاريخية نضالية لبناء الوطن والإنسان في سياق تنموي لمصلحة الأغلبية الشعبية، بدلا عن نموذج النمو الزائف لمصلحة شبكات المصالح الكمبرادورية.
وفي إطار الإستراتيجية الدفاعية الأردنية المطلوبة، لا بد من إعادة هيكلة منطقة الأغوار في خطط زراعية بديلة تأخذ بالإعتبار الاعتبارات الاجتماعية والبيئية والدفاعية معا.
ومن الناحية السياسية ما تزال الضفة الغربية، رغم قرار فك الارتباط لعام 88، ورغم قيام كيان فلسطيني فيها تحت الاحتلال، تشكل عبئا لا يحتمله الأمن الوطني الأردني، لجهة اتجاهات التهجير والتوطين أو لجهة فرض المشاريع الكونفدرالية مع ضفة محتلة تديرها سلطة متعاونة مع المحتلين. ولأن الارتباط مع الضفة غدا اليوم ارتباطا مع مشروع أميركي إسرائيلي، لا مع مشروع مقاومة، فإن مناعة الوضع الاستراتيجي الأردني في ظروف 2010، تتطلب دسترة قرار فك الارتباط للعام 1988 مع الضفة، وقوننة تعليمات فك الارتباط بالنسبة لتداخل المواطنة ، هما إجراءان لا بد منهما في إطار إستراتيجية دفاعية.
ودون الإضرار بحقوق المواطنة المشروعة، ينبغي أن تنصب الجهود السياسية الأردنية، على أولوية حق العودة، وليس حل الدولتين الذي هو ، بحد ذاته، يشكّل الغاء لحقوق اللاجئين مما يمس بالأمن الوطني الأردني.
ولا يحتاج الأمر إلى تأكيد إلى أن نهج المقاومة يبدأ من رفض التطبيع بأي صورة من الصور وينبذ المطبعين، ويعمل لإيجاد الظروف الملائمة لاسقاط معاهدة وادي عربة، وإلى أن تسقط، فمن الواجب محاصرتها وشلّها بمحاصرة مفاعيلها.
إن إسهام القوى الشعبية في المقاومة يتم من خلال نضالها لبناء شروط قيام مقاومة مركزية تقودها دولة قوية وديموقراطية وعادلة تسهر على صون الاستقلال والتقدم الاجتماعي.
وإذا كانت تغيرات كثيرة وعميقة قد حدثت منذ اسشهاد وصفي التل حتى اليوم، فإن الحقيقة التي لامسها وأعلنها الشهيد والقائلة إن الحل السلمي مجرد وهم، تبقى ماثلة، وأن المواجهة مع الصهيونية هو قدر الشعب الأردني، وعلى الشعوب أن تواجه اقدارها إذا ما ارادت الحياة بكرامة والتقدم والإزدهار.
إن المزيد والمزيد من الأردنيين يتطلعون اليوم إلى ذكرى وصفي التل ومعناه كبديل عن التردي الوطني الحاصل، إلا أن الانتساب إلى خط وصفي التل له متطلبات جوهرية على رأسها العمل من اجل انطلاق المقاومة الاردنية . إن الأردني الذي لا يأخذ بمركزية العداء لإسرائيل، والذي لا يوظف كل ذرة جهد في اتجاه المعركة معها، ليس وريثا لنهج وصفي التل.

2010 عمان في 28 تشرين الثاني
طارق مريود التل ـ التيار الوطني التقدمي الأردني



#طارق_مريود_التل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...
- السعودية.. فيديو لشخصين يعتديان على سائق سيارة.. والداخلية ت ...
- سليل عائلة نابليون يحذر من خطر الانزلاق إلى نزاع مع روسيا
- عملية احتيال أوروبية
- الولايات المتحدة تنفي شن ضربات على قاعدة عسكرية في العراق
- -بلومبرغ-: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائ ...
- مسؤولون أمريكيون: الولايات المتحدة وافقت على سحب قواتها من ا ...
- عدد من الضحايا بقصف على قاعدة عسكرية في العراق
- إسرائيل- إيران.. المواجهة المباشرة علقت، فهل تستعر حرب الوكا ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - طارق مريود التل - وصفي التل والمقاومة الاردنية