أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بقوح - الأرصفة ( 3 )














المزيد.....

الأرصفة ( 3 )


محمد بقوح

الحوار المتمدن-العدد: 3189 - 2010 / 11 / 18 - 23:46
المحور: الادب والفن
    


الكل هنا يقدس الدماء و الآلام ، التي أصبحت عادة يومية يستمتع بها أهالي المدينة . غريب أمر هذا الكائن الحي . جسده ينزف من جميع الأطراف ، و رغم ذلك لا يزال يبتسم في وجهي و كأنه المنتصر . لكن من يكون العدو في هذه المدينة .؟ و ما هوية الفاعل المسئول عن كل هذه الجرائم ، التي أراها في شوارع مكان وجدت نفسي أزوره عنوة و بلا موعد و لا تفكير مسبق مني ؟ و هل لهذه الأسئلة معنى ما في ظل غياب الوضوح و سيادة الاغتراب ، بهيمنة واقع دموي يكشف للزائر عن هويته الملطخة و اللصيقة بجسده في أول وهلة . الدم هنا هو البطل و عنوان الشهامة . هل يمكن أن أقول أن هذه المدينة عرفت قبل قدومي إليها بقليل حربا تعتبر من أشرس الحروب ، التي عرفها تاريخ العائلة البشرية ؟ إن طرح السؤال تأكدت من أنه لا يشفي عطشي لفهم حقيقة ما يجري ، و ما ذا جرى في هذا المكان المعزول عن العالم . لهذا فكرت في الوقوف ، ثم شعرت بجسدي يستقيم و بقدمي الصلبتين تحملانني محاذاة مع رصيف الشارع . أدخنة كثيفة تتطاير في فراغ فضاء المدينة . الجو حار و الشمس لم أراها منذ وصول إلى هنا . إذن ما مصدر هذه الحرارة ؟ اقترب إليّ جسد رجل بلا أطرافه السفلى . يبدو لي أنه يزحف تجاهي . لكن كنت مخطئا . كان يتقدم نحوي بطريقة التموج .. و بشكل كما لو كان يلهو في سرك بهلواني أمام جماهير تصفق له . توقفت لحظة ، ثم أبصرته يقدم لي تحية السلام بطريقته . في البداية ، اعتقدت أنه يصلي ، لأنه وضع رأسه على الأرض و كأنه يسجد لي . أعود بالله . لكن لم يستغرق وضعه ذاك سوى هنيهة قصيرة ، فرفع رأسه قائلا لي بصوت كله عذوبة و صفاء يصعب علي الآن وصفه : " مازلتَ في مدينتنا تصول و تجول كما تشاء . هل أنت حر في اكتشافك لحياتنا معكم دون أن تشعروا بنا ؟ " . قلت له على الفور : " من أنتم ؟ و من أين أتيتم ؟ " . رد بسرعة فائقة " نحن مثلكم أحياء في هذا العالم و لا فرق بيننا ؟ " . في الواقع كنت دوما في الحاجة إلى لحظات من الوقت لأفكر في كلامه . و كنت أحاول أن أتظاهر بتواصلي و استيعابي لكلماته الرنانة مع العلم حقيقة أنني لم أكن أفهم الكثير مما يقول . قلت له : " هل سبق لكم سيدي أن زرتم عالمي البشري الذي جئتُ منه ؟ " . رد ببساطة هادئة جدا : " لا تقل لي أنكم بشر مثلنا ؟ نحن البشر و لستم أنتم " . أدهشني بكلماته الواضحة و الدقيقة و الحاسمة في نفس الوقت . يتكلم معي بثقة كبيرة في ذاته . هذا إن كان يملك ذاتا .. لكن لست أدري لمَ يقول عن جنسه بكونهم بشر .. و ينفي عنا نحن صفة البشر ؟. مع العلم أننا من نفس الكائن الحي ، و نتفاهم بعين اللغة و بنفس الإشارات أحيانا ، رغم الاختلافات الموجودة بيننا من الناحية الجسدية . أردت أن أسأله عن هذه الاختلافات أو بتعبير أصح عن هذه التشوهات الجسدية الموجودة في قامات أجسامهم المختلفة الأحجام و الأشكال ، رغم أنها جميعها تتشابه من حيث تميزها بحضور عنصر الدم و البتر . تذكرت ما قاله لي صاحبي قبل أن يختفي داخل زقاق منير ، عندما سألته عن تلك الظاهرة الني تبدو لي غريبة لكنها طبيعية بالنسبة لهم . هذا ما أكده لي الرجل المبتور نصفه . أضاف قائلا " بل أكثر من ذلك ، بقدر ما بترت أجزاءٌ من جسدك بقدر ما نلت الحظ الوافر لدى حاكم المدينة و قومه ، ثم كانت مرتبتك عند جماعتي أعلى و أحسن و أرقى و أنفع " . و لما سألته عن ولادتهم الأولى كيف هي .. يعني " هل تولدون بأجسام بشرية كاملة الأعضاء ؟ " كان رده كخرير المياه في ساقية : " ولادتنا الأصلية كانت مع ولادة الزمن الطبيعي . قومي ولد مع وجود الكلمة . كلمة الآن و صيرورة الوقت و القوة في الحياة . أطرافنا التي تظهر لك مبتورة من مكانها ليست كذلك في حقيقتها عندنا . لأنها أطراف تم زرعها في أمكنة أخرى فينا . هي حروف كلما سقطت عنا استقوى المعنى فينا . لهذا لا تهتم يا سيدي بمسألة الولادة و لا النهاية .. فتلك أمور تخص حياتكم بني البشر العاديين . هناك في عالمكم .. أمور كبلتم بها قدرات الطبيعة فيكم ، و أصبحتم عاجزين حتى على الفهم و التواصل مع الذين يوجدون حتى في جواركم . أنظروا جيدا ، إن كنتم تنظرون ، إلى الأمام ستجدوننا كلون الأفق بالقرب منكم . عليكم أن تعترفوا بنا .. لكن بعد أن تعملوا على اكتشافنا فيكم ". برمشة عين ، تحول نصف الجسد الكائن أمامي إلى حكيم بارع في اقتناص معاني الكلمات . في الواقع ، كنت أستمع إليه مشدود الانتباه ، دون أن أقدر على فك كل ألغاز تراكيب معانيه .. لهذا أخبرني حين سألته ، و هو يستعد للمغادرة المفاجئة ، عن حاكم هذه المدينة العجيبة ، لأشكو عند جلالته الموقرة حالي و أحوالي .. أن كينونة هذا الحاكم بكاملها ، عبارة عن رأس بلا بقية الجسد .. رأس كبيرة و يتيمة ، تتوسطها عين مثلثة الشكل ، موضوعة كالكرة الأرضية على كرسي عرش المدينة . رأس ليست كباقي رؤوس الأجساد الدائرة هنا .. لا آذان لها سوى ثقوب ، تشبه فتحات بيت اليعسوب ، تنبعث منها روائح كريهة . وجه كمسطح قبيح المنظر و مخيف إلى أقصى حد ، و بأنف داخلي يستشعر به قدوم الأخطار مع اندلاع الحرائق .. لم يثرني وصفه له بتلك الطريقة ، رغم أنه واقع حي لكائن يحب الحياة . فقررت الذهاب إليه بجسد قوي هو جسدي لكن بفكر كله يقظان .. لعل هذا التعب الكلي و المشهد المدمي .. الذي تبدو عليه مملكة الأجساد في هذا المكان البئيس ، يعود إلى الأشياء التي حملتها معي إلى هذه المدينة في رأسي .. فقط دون شيء آخر ... على الأقل هذا ما فكرت فيه و بعمق .. و أنا في الطريق أمشي إلى الحاكم الغريب .



#محمد_بقوح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأرصفة ( 2 )
- علاقة المقهى بثقافة الإنسان العربي
- الأرصفة ( 1 )
- إشكالية التعليم .. و قيم العلم بالمغرب
- علاقة الثقافي بالسياسي في التجربة العربية - وجهة نظر نقدية
- عودة الأنوار - قصة قصيرة
- الحوار المتمدن كمعلمة عقلانية للفكر الحر
- حجارة السماء
- جدلية الفكر و قيم الإنحطاط
- الخفاش الأنيق - قصة قصيرة
- تيمة الجنون في رواية مدن الملح - نص التيه نموذجا - ( بحث )
- الكرسي الأعرج
- قصيدة يسكنها بحر
- هذا المساء ينقب عن وجهه في الشمس
- صهيل السبت الأسود
- غربة الفلسفة من منظور جيل دولوز
- بهاء شذرات نيتشوية
- حديث حول البحر
- قصة قصيرة الميزان العجيب
- نص المدينة و أبوابها الأربعة


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بقوح - الأرصفة ( 3 )