أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - فصل من كتاب (2-3)















المزيد.....



فصل من كتاب (2-3)


يحيى علوان

الحوار المتمدن-العدد: 3189 - 2010 / 11 / 18 - 18:56
المحور: الادب والفن
    


يتيم

( فصل من كتاب مُطارَدٌ بين الله والحدود )
( 2 من 3 )


" تُرى أَينَ تذهبُ طيوفُ الليلِ الغريبةِ لَمَّا نصحو ونَنفِضُ الرأس ، كما الغبارَ عن سترةٍ ؟ هل تَذوبُ في بحورِ
اليقظةِ ملحاً ؟ أَمْ تَظَلَُّ عالقةً في خُزانةٍ بسردابِ الذكرى ؟! " تُفكِّرُ مع نفسِكَ ..

رُحتَ تَرتشفُ كاساتِ الشاي ، وتشفِطُ مع جرعاته ما بقيَ من ليلٍ ، تستعجلُ قدومَ الصباح ..
مُتأَخِّراً لكنه جاء .. كانَ القمرُ نظيفاً .. نظيفاً ، مثلَ صبيَّةٍ خرجَتْ من الحمّام توّاً .. نامَ الليلُ بحضن الفجر ، وسيغمَزُ الأخيرُ للصبحِ أَنْ يَطلعَ ، فتَسقُطُ النجومُ في حِجرِ النهار .. يَستفيقُ ربُّ هنودِ الكَجْوَا(3)، مثلما
يفعلُ كُلَّ يوم ...
...........................

شعرتَ بحاجةٍ تلِحُّ عليكَ أَنْ تتوجَّه إلى جدولٍ صغيرٍ يمرُّ خلف طُوْفَة(4) الدار عند الزريبة .. حَمَلتَ ظمأكَ ،
وجَمرةُ روحكَ تَرتشِفُ دمكَ .... إتكأتَ على عصاكَ تُغالِبُ غدرَ الزمن والصدفة .. تتسمَّعُ لديكٍ يُثَرثِرُ
..............................
... دونَ " إنذارٍ مسبَقٍ " تضيء المكانَ أنوارٌ كشّافةٌ ، وتسمعُ وقعَ أقدامٍ كثيرة تتراكضُ وتتقافزُ كالأباليس في كلِّ الإتجاهات ، تَلَتها رَشقاتُ رشّاشاتٍ .. ترمي بحالكَ على الأرض ، دون الحاجة إلى تفكير ، وتزحف ناحية الزريبة . تدفعُ البابَ المواربِ وتنسلُّ بين قوائم البَقَر ، الذي سَيستُرُكَ بدونِ ثُغاءٍ قد يَفضحُكَ ... تَندفعُ بهدوءٍ زاحفاً حتى آخر الزريبة ، فيفسحُ البقرُ الوديعُ لكَ في المكان المُظلم ، الذي لا يصله حتى خيطُ ضوء .. تكادُ تشعرُ بالإختناق ، يَنهمر دمعُكَ وتغالبُ شعوراً بالغثيان يجتاحكَ من روث البقر، فتُسائلُ نفسكَ لماذا لايصلُ الهواء العذري في هذه المنطقة إلى هنا ؟ .. مَنْ سَرَقَهُ ؟ .. أيكون "حراس الثورة" أم مُهرِّبو المخدرات ؟!!
تَتذكّرُ سوناتا لشكسبير ، يصفُ فيها حانةً تغرقُ في سُحبٍ كثيفةٍ من دخانِ رُوّادِها ،كأنها( السُحُب) قطعةُ جلاتينَ متماسكة يمكنكَ قَطعُها بالسكين ..!
فجأةً يندفِعُ بابُ الزريبةِ بعنفٍ وتمتدُّ ماسورتا رشّاشيْنِ ومصباحٌ يَدَويٌّ وشبحان ... كأنَّ البقرَ الكريم " شَعَرَ "
بخطورةِ الموقف وأرادَ أَنْ ينتصرَ لشخصٍ مطاردٍ بين الله والحدودِ .. فراحَ يثغي ويدورُ على نفسه
بحركاتٍ عنيفةٍ حفَّزَها الضياءُ الحاد ... وضع الشخصان المناديل على وجهيهما إتقاءاً من الروائح الكريهة
، التي إختزنتها الزريبة .. وغادرا المكان ... بقيتَ مُحتضناً ركبتيكَ ، مُسنداً الظهرَ للحائط ، تُسائلُ نفسكَ أَيُّ شقاءٍ ، هذا الذي عرَّضتَ روحَكَ له ..؟!
...........................

وصلتكَ مِزَقٌ من أَذانِ الفجر آتياً من بعيد ، على نحوٍ نشازٍ ، لا يشبه تطريبَ ما تَبُثَّه الإذاعاتُ من أَذان.
مَعتوهان .. إمامٌ لا يئمُّ إلاّ نفسه ، فيروحُ من الوحشةِ يجعَرُ بأذانٍ نشازٍ ، في مسجدٍ خلا من المصلين ، فلا يترحَّمُ أحدٌ على موتاه ، وديكٌ يثرثرُ أَنَّ الصُبحَ أَفاقَ تحيَّةً له ..!
صوتُ دراجةٍ بخارية خَرَّبَ السكينةَ ، التي حلّتْ بعدما رحل "حرّاسُ الثورة "...
إذاً ، عادَ إيهاب . وقد يحملُ معه خبراً عن العبور ..
يَقرُصُكَ الفضولُ لمعرفة ما يحمله لكَ من أخبار ، أكثرَ مما تفعله معكَ سُحُبُ البعوضِ وذبابُ الدواب ..
مَرَّ الزمنُ بطيئاً ، أوهكذا تراءى لكَ ..

.....................................

إيهابُ لم يأتِ إليكَ .. لا يمكن أَنْ يكونَ نسيكَ ، فالأمر يتعلَّقُ بمبلغٍ مُغرٍ يتوقفُ صَرفُه على توقيعٍ منكَ
إذا عَبَرتَ سالماً إلى "جنةِ " أفغانستان .. !
أيكونُ الآنَ خَلَعَ رجله الخشبَ وإنكفأَ عليها ..؟!
أتُراه الآن يتهجّى رائحةً غريبةً في جسد سعيدة ، مثلما يتشمّمُ الذئبُ رائحةَ الطريدة ..؟!

ستحاوِلُ العَومَ في بحرِ النومِ ، وسيظلُّ الليلُ ساهراً ...
ففي الظُلمةِ تنامُ حتى الألوان .. ولا يبقى ساهراً غيرَ شبحٍ لضوءِ رَجراجٍ ، يَنفُثهُ الفانوس ...
من الضَجَر تروحُ تُقَطِّعُ القَمَرَ أَهِلَّةً منقوعةً بخمرِ الوحشَةِ ، تُذريها للفضاء .. فَقَدْ دَنّسَتْ أَقدامُ الناسِ وجهَهُ..، لذلِكَ إستقالَ ، هارباً من صَحائفِ الكنايةِ والمَجاز .. ونَسيَ ، في عُجالته ، أَنْ يُغلِقَ بابَ "بيتِه "
فوقَ " تِلالِ فيروز "..

ما غَمَضَتْ لكَ عينٌ ، غَدَوتَ جنِّياً (جدَّتكَ كانتْ تقولُ أَنَّ الجِنِّيَّ لاينام !) حتى إنشَقَّ جدارُ الليل فَوُلِدَ الصبحُ ... مَحَا سِرَّ الليل ، وأنتَ مركونٌ في زاويةِ الزريبة تَتَقَلَّبُ على بساطٍ من جمرِ الفضول ، تتطلَّعُ
لمعرفةِ شيءٍ ممّا دارَ ويدورُ خارجَ الزريبة ..
لَمْ يمضِ وقتٌ طويلٌ ، حتى إِدلَهَمَّ الصبحُ الوَليدُ . أَتلَفَتِ الغيومُ الداكنةُ غُرَّةَ النهار .. فَتَحَتْ مَزاريبَها ، فجَنَّنَتْ شياطينَ رغَباتٍ مكبوتةٍ ، ظلّتْ عالقةً كصخرةٍ في عُنُقِكَ .. أَما مِنْ أَحَدٍ يَلجِمُ هذا الغيمَ الأرعَنَ والمَطر ..؟!
زَمجَرتَ مع نفسكَ وصَفَقْتَ فَخذَكَ بيدِكَ ، كي لا يَبردَ الماردُ ، الذي أَنهَكَكَ إستحضارُه ، فتنامَ ..
رُحتَ تَهُشُّ جِنِّياتٍ جَلَسنَ قُدّامَكَ يَسخرنَ منكَ ومن أحلامِكَ ...
.............................

تاهَ المطرُ ، قَادَه العَمى حتى دَقَّتْ حوافرُه سطحَ الزريبةِ الواطيء ، تسلَّلَ منها قَطْراً مُتقطَّعاً ، حتى صارَ خيوطاً متصلةً متناثرةً ، أَربَكَتْ سَكَنَةَ المكانِ ، إذْ راحوا يَدورونَ بحثاً عن بقعةٍ آمنةٍ .. علا الثُغاء وأخذَوا يتزاحمونَ بإتجاه الباب ويترافَسُون ..
صاحَ إيهاب ، فصَعَدَتْ سعيدة تسحبُ الحادِلة َ لِتُسَوّي سطحَ الزريبة كي لا يَخرَبَ .. أنقطعتْ خيوطُ المطرِ .
مرَّت مُتَهاديَةً أمام بابِ الزريبة ... نَطَّتْ جَوْزَةُ عُنُقِكَ، فلم تستطعْ بَلْعَ ريقكَ ... كان المطرُ قد ألصَقَ إزارَها وما تحته ، تماماً على جسدها ، مما عَرقَلَ مشيتها قليلاً ، فبانَتْ أجملَ وأكثرَ إغراءاً وإثارَةً ..
أَطلَّ إيهاب برجله الخشبْ ، وأَصدَرَ أصواتاً ، إنسَلَّتِ البقراتُ إِثْرَها مثل طابور عسكرٍ منضبطٍ ..
سارَتْ بإتجاه الجدوَلِ .. وقفَ إيهاب في عرض الباب ، حَجبَ الضوءَ المُنسرِبَ وأشارَ لكَ أَنْ إنتظر ..
....................................

بَعدَها عادَ وأشارَ لكَ بالخروج ، قَفَزتَ نحو بابِ الزريبةِ تُريدُ أَنْ تَعُبَّ كلَّ الهواء ، عاجَلَكَ بإلقاء بقيِّةٍ من
بطانيّةٍ على رأسِكَ تَحميكَ من المطرِ ... تسَمَّرتَ عند الباب لتشفِطَ ما يتسنى من هواء نقيٍّ مَمزوجٍ برائحة
الأرض ، فأحسَستَ برئتيكَ ترقصان داخلَ صدرِكَ كرفيفِ أَجنحةِ عصفورٍ مَسَّه البَلَلُ .. رَبَتَ على كَتِفِكَ
بأَنْ تمضي ولا تتوقّف في الباحة المكشوفةِ لخارجِ "الدار" .
كانت سعيدة قد هيأت الفطورَ في المَمَرّ عند باب الغرفة . حَمَلَتْ صينيةً فيها أرغفةٌ ساخنةٌ من الخُبز تفوحُ منها رائحةٌ تُذكِّركَ برغيفِ أُمكَ ، فتَحبِسُ دمعةً كادتْ تَنْزَلِقُ ، لولا أَنَّ إيهاب قَطَعَ عليكَ أفكارَكَ :" بَفَرمو ، أُغايِ أَبو فلاه ! "( تفضل ، يا سيد أبو فَلاَح ) .
شَرِبتَ قدَحاً مُنعشاً من اللبن اللذيذ وتناولتَ رغيفاً ساخناً قَضَمتَه ، قبلَ أَنْ تَمَسَّ صحناً من البيضِ المقلي ، يطفو على "بحيرةٍ" من السَمن ، لكنَّكَ تستدرِكُ أَنها علامةٌ على إكرام الضيف أَنْ يُقَدَّمَ له بيضٌ بهذه الطريقة .
بعدَ أَنْ أَدَّتْ الغيومُ واجبَها ، أَخلَتْ الفضاءَ لِرَبِّ الزَرادَشتْ ، أَطَلَّ من عليائه باسماً ، مُطَمِّناً أَنه سينفُثُ من روحه ، ويُرَتِّبُ ما خَرَّبه الغيم .. شَرَعَ إيهاب يَحُكُّ قَحفَهُ مُبتَهِجاً .." طالِعٌ حَسِنٌ ، علينا أَنْ نستَغِلَّه قبلَ أَنْ يُغَيِّرَ الطقسُ رَأيَهُ ..!"
وَشْوَشَ في أُذنِ سعيدة ، وأشارَ لكَ أَنْ تَتْبَعَهُ ، فأَطعْتَ مُنضَبِطاً دونَ نقاشٍ !!
حَمَلْتَ صُرَّتَكَ تَتَوَكأُ على عصاكَ ، وعندما تأَكّدتَ أَنَّ "صاحبَكَ " تخَطَّى بابَ الدارِ ، إستَدَرتَ إلى الوراء ،
أَومَأتْ سعيدة مُوَدِّعَةً ، وأصدَرَتْ من خلفِ إزارِها ، غَطَّى وجههَا ، " خُدا حافيز " ( في حِفظِ الله ) .. جَرْجَرتَ روحَكَ مُسرِعاً ، حتّى لا تَرتكِبَ حماقَةً ، قد تُودِي بكَ ، وأَنتَ على شَفا عُبُورٍ إلى ما تَظُنُه نَجَاةً ..!

بعدَ أَنْ شَدَّ حولَ وَسطِهِ قماشاً وَفيراً ، يشبه حزام الكرد (البشتين) ، أَشارَ لكَ إيهاب أَنْ تصعَدَ خلفَه على الدراجة البخارية وتَحتظنَه بقوة ، فالطريق وعرةٌ جداً ، قد تُطَوَّحُ بكَ . ولَمّا أَطَعتَ ، أَزكَمَتْ أنفَكَ رائحةٌ نَتنةٌ مُنَفِّرِةٌ ، صَدَرَت عن جسمه . جالَ بخاطِرِكَ أَنَّ هذه الرائحة وحدَها تكفي سبباً ، دون سواه ، لأمرأة كسعيدة أَنْ تُزيغَ بنظرها نحو "آخر".. !
حَشَرَ عِكّازَه بخاصرة الدراجةِ وإنطلقَ بسرعةٍ جنونيةٍ ، لاتتَناسب مع أرضٍ زراعيةٍ محروثةٌ حديثاً ، مَلأى
بالمَطَبّات والحُفَرِ... وراح يُدَندِنُ بأُغنيةٍ ، فيما تَختضُّ أَنتَ كَشِكْوَةِ اللبَنِ ... ! جَرَفَتْكَ رائحةُ الأرضِ ،
بَعثرَتْ مشاعِرَكَ ... رائحةُ أَرضٍ تُذَكِّرُكَ بوطنٍ يزدحمُ بالجنودِ والعَسَسِ ، بالشعراء والبنائين ، بالقَتَلَةِ والسمسارين ، بالقوادين والشرفاء ... لكن في نفس الآن يأتيكَ صوتُ نصفكَ الآخر :" هذه ليست أرضكَ
وليست وطنُك ،فلا تَسرَح بعيداً في الخيال !!"

كنتَ ، أَنتَ الأَعشى ، قد هيأتَ نفسَكَ لعبورٍ لابُدَّ سيَتِمُّ تحتَ عباءةِ الليل ، ولم تحتسبَ أبداً لعبورٍ سرّيٍ مُتَهَتِّكٍ في رابعة النهار !
هاكَ بقيّةَ الخيطِ ، فقد أَتعبَني السَردُ ..
........................
ـ " صحراءُ مِنْ فَرطِ وحشتها ، غَدَتْ حَقودةً .. أشعَلَتْ نَصلَ الماءِ ، فهربَ مرعوباً ، صارَ سحاباً ..
صحراءُ لا تملُّ المفاخَرَةَ . مَنْ ينصتُ للريح جيداً ، ويعرِف لغةَ الرملِ قد يَسمعُ أصواتاً ويتعرّف على ممرات
نجهلها نحن أبناءُ المدن ... هي ليستْ كبقية الأمكنةِ ، وليست مُجرَّدَ صحراء .. إنها المتاهةُ القصوى ، متاهةٌ
مُحكَمَةُ الإنفتاح ، بِخَرَسٍ فَصيح ..
لها رائحةٌ شديدةُ الغموضِ ، ولونٌ خارجَ قاموس الألوان ، يُزكِمُ الكيانَ كلِّه ، فَيَستدرِجُ خطوَكَ نحو مزيدٍ من التِيه ، لا نحوَ أَزِقَّةٍ أو ِشوارِعَ ... إنها جَلطةٌ في دماغ الجغرافيا ، تَتَلاعبُ بأعصاب التأريخ .. دَعْها تَدَّعي . فلا تَستغرِبَنَّ إنْ هيَ تمادَتْ وأَخبرَتكَ بأَنَّ الإسكندرَ المقدوني مرَّ من هنا بعدَ أَنْ هَزَمَ داريوس وجيوشه ، وتوغَّلَ نحو الهند !
هي ، إنْ شئتَ ، بحرٌ مُرعبٌ من الرملِ يعيشُ خارِجَ معاطِفِ الأزمنة .. فلا يبلُغَنَّ بكَ الفُضولُ حَدَّ البحثِ عن آثارٍ تَتَعَقّبُها فتنتظرَ أَنْ تُخلِصَ لخَطوِكَ .. قَدْ تُهلِكُكَ في متاهاتها المفتوحةِ ،
هيَ سجادةٌ مخيفَةٌ بِعُقَدٍ لانهائيةٍ من مُفتَرَقاتِ طُرُقٍ مُخاتلةٍ ، واضحةٍ كالغموض ، حدَّ الإلتباس ..
صحراءُ لا تُشبَه ما نَعرِفُه ... فَبَدوُها لا يحملونَ التمرَ والملحَ ، إنما "الأخضَرَ والأبيضَ "!!

................................

قَرْقَرَ مُحَرِّكُ الدراجة كأنه على وشك الإختناق . لَكزَه إيهاب برجله الخشب ، فيما يُشبه لَكزَ دابةٍ لِحثِّها على
السعيِ ..
كنا إبتعدنا عن قرية "السلامات" مسافةً فارهةً ، إتخذَ فيها إيهاب قوساً كبيراً ناحيةَ اليسار، حتى وصلنا نهاية الحقول عند فم الصحراء ، فإنعَطَفَ بنا في قوسٍ آخر جهةَ اليمين ، وأشار إليَّ أَنْ أَضَعَ خِماراً على وجهيَ.

مَضتْ قرابةُ نِصفُ ساعةٍ ونحنُ نَدورُ في قوسٍ كبيرٍ .. خَرَجنا من الأرض الزراعية ودَخَلنا في دنيا من الغبار المائلِ للحُمرَةِ ، إحتَبَسَتْ وراءه شمس الضحى ، فَعَزَّ الهواء ، وإِختفى أَيُّ أَثرٍ لمبنىً ، هو آخر نقطةٍ إيرانيةٍ على الحدودِ مع أفغانستان ، يشبه في شكله الخارجي القِلاعَ ، التي بناها العثمانيونَ في العراق .
دونَ مُقَدِّماتٍ ، أَطفَأَ إيهاب مُحرِّكَ الدراجة ، وتركها تسير بصمتٍ ، حتى رُحنا نَتراقصُ فوقها عندما أوشكَتْ على التوقُّفِ . أشارَ لي أَنْ أقفِزَ إلى باطنِ ساقيةٍ جافّةٍ وأَنْ أَبقى منبطحاً حتى يأتي . قَفَزتُ بعصايَ وكيسٍ ، حَمَلتُ به ما خَفَّ من مَتاعٍ .. قنينةُ ماءٍ ، رغيفان من الخبز وأربعُ بيضاتٍ مسلوقةٍ وقليلاً من الطماطِمِ ، جهَّزَتها سعيدة . إلى جانبِ صُرَّةٍ ، قيلَ لي في مَشْهَدْ ، أنْ لا أَزيدَ عليها .. قميصٌ للغيار ، طقما غيارٍ من الملابس الداخلية وزوجان من الجوارب ... فرشاةُ أسنانٍ ولوازم حلاقة .. " لأنَّ العبورَ سيكونُ سهلاًً ..
وستكونُ عمّا قريبٍ في أَحضانِ الرفاقِ الأفغان ! سيتكَفَّلونَ بإحتياجاتك ويوصلونك إلى كابُل ومنها تطيرُ
إلى عائلتِكَ وتَتلقّى العلاج الذي تحتاج ... ! "
قَمَعتُ رغبةًً في إيضاح الأمر ، وقَرَصتُ لساني.. إحتراماً لحماسةِ الرفيق الشاب ، الذي لاشَكَّ في إخلاصه
وجهاديته . ذلكَ أَنَّ أَيَّ مُتابعٍ للأخبار ، يعرِفُ أَنَّ الأوضاعَ في أفغانستان ليست على النحو ، الذي نَقَله
هذا الرفيق ... فمنْ أَينَ أتى بتِلكَ الصورة ؟!

................................

مَرَّ دهرٌ والشمسُ تَقصِفُنا بمنجنيقِ لَظَاها ، مُتَهَتِّكَةً ، ضاحكةً تَتَفَرّجُ علينا ، وتَتَلَذَّذُ بما تُسَبِّبُه لنا من عذابٍ وعَطَشٍ .. تَسفَحُ عَرَقَنا على جمرِ الرملِ ، فَتسقينا جفافاً زُلالاً .. تُبقينا مُكَوَّمينَ على بُطوننا في ساقيةٍ تَفَطّرَ باطِنُها شَوقَاً لِبَلَلٍ .
نحنُ ، الذين لَمْ نعرف من هندَسَة القيظِ ، بعد أَنْ فَقَدنا أَجهزَةَ القياسِ ، إلاّ أَنْ نَنْزِِفَ عَرَقاً ، تحتَ الجِلدِ ، فوقَ الجِلدِ .. حتى يَصيرُ دَبَقَاً ، يَحُكُّ ما تحتَ الأحزمَةِ والسراويل .. " !
+ ولكن ماذا بعد ، يا " هُدهُدُ سليمان "..؟!

ـ " حلَّ إيهاب حزامه القماش (بشتين الكرد) ليكون ستاراً يقينا لَهَبَ تنّورِ الله ، تمَدّدتُ وقرَّرتُ الإسترخاءَ ، عسايَ أَنسى العطَشَ والجوع ، رغم أَنفِ الشمس ، فقد دخَلتُ معها في لُعبَةِ للتحدّي !
شاءتْ الظروفُ أَنْ أَمُرَّ بأوقاتٍ عصيبةٍ ، إضطرَرتُ ،كغيري ، للنومِ في أماكنَ مكشوفةً للبردِ والزواحف والأشباح .. فتعَلَّمتُ التكَيُّفَ مع ما حولنا من متاعِبَ ..
الآنَ ، سأُلَملِمُ أرادتي وكلَّ ما قرأته وسمعته عن اليوغا .. سأفَكَِكُ جسدي عضواً بعدَ آخر ، عَلّي أحظى
بشيء من الإسترخاء وأبتعدُ عن التفكير بالعطش ... بدا لـيَ الأمرُ ممكنَ التحقيق . غيرَ أَنَّ هتافاً خافتاً من إيهاب ، أَفْلَتَ من يدي قَبضَةَ أعصابٍ أَمسكتُ بها تواً ، فطارَتْ اليوغا وما كان ممكناً أَنْ تَستجلِبه من سَكِينَةٍ وإرتخاء :
,, هل في قنّينَتِكَ اللعينة ، شُربَةُ ماء ؟!,,
أُصبتُ بنكسةٍ ، كنتُ على وشكِ أنْ أنهره ، لكنني تَصابَرتُ !
ملأتُ غطاءَ القنينةِ ، ناولتُه وقلتُ : ,, خُذ ، يا كَسيحَ البَينْ ! بَفَرمو! ,,
كانت " ذخيرتي " من الماء تَشِحُّ بأضطرادٍ ، لذلكَ كنتُ أحرُصُ على كلِّ قطرة .. هكذا عَلّمَتنا المسيراتُ
الأنصارية الإقتصادَ بالماء في الأماكن ، التي لانعرِفُ أين ومتى سنتزوّد بماء جديد . لكن إيهاب إستهانَ بما
ناولته إياه ، تغَرغَر به ثم بَصَقهُ مع حفنَةٍ من الشتائم البذيئة .. مَدَّ يده وتناول القنينة بحركة عدوانية ، صَكَّ عليها ،وأتى دفعةً واحدة ، على ما فيها ا.. رمى القنينة الفارغة ، وإتكأ على مِرفقه ، إرتَسَمَتْ على وجهه إبتسامةُ سخريةٍ في تَحدٍ ظاهرٍ ... !
إحساسٌ جنونيٌّ ينتابني ، يمكنُ للمرءِ أن يُضرِبَ عن الطعام والشراب ما شاءَ وما إستطاع ! لكن الأمر ليس
كذلكَ عندما لاتجدُ ما تشربه في هذه الرمضاء ..! أنتَ الآن كأَعزَلٍ مُحاصرٍ يظلَّ يتراجع ، حتى يرتطم ظهره
بحائط .. وعندما يدركُ أَنْ لامسافةَ للتراجع بعد ، يصيبه جنونٌ ، لايدري متى يشدُّ الآخرُ على الزناد فيرسلُ إليه الرصاصةَ إِيّاها !!
...........................
..........................
يُطيلُ إيهاب رَقَبَتَهُ إلى مستوى الساتِرِ الرملي للساقيةِ ويراقبُ ، بين آونةٍ وأُخرى ، من خلالِ ناظورٍ مُقَرِّبٍ صغير ، ناحية َ نقطة الحدود ( القلعة ) ثم يُنَقِّلُ نظره بين ساعته اليدوية والناظور ... يتَأفّفُ ضجراً فيصدرُ رشقَةً من كلامٍ ، ربما تكونُ لَعَناتٍ وشتائمَ بذيئةً ، دون أَنْ يشي لي بشيء ...
مرةً ، عندما كرَّرَ الرصدَ ، زَحَفْتُ ورفَعتُ رأسي إلى الساترِ لأرى مايجري خارجَ الساقية ، لَمْ أَتَبَيَّنَ غيرَ خيطينِ
من التراب في البعيد ، يتّجهانِ ناحيةَ اليسار من القلعة .... إنحَلّتْ عقدَةُ لسانه . أَخبرَني أَنَّ خيطي التراب هما
في الجانبِ الأفغاني ، مُجاهدونَ بدرّاجاتهم البخارية ، لكنهم يتقاضونَ سلاحاً ومالاً من حكومة نجيبُ الله لحماية الحدود ... هنا قَلَّصّ إيهاب عيناً ماكرةً ، قَوَّسَ حاجِبَه وهزَّ بكفِّه مُفرَقَةَ الأصابع ، فيما يشيرُ إلى الشك ..! وزاد في التوضيح أَنه ينتظرُ إشارةً من "صديقٍ " له في القلعة كي نعبر .. لكن هذا غيرُ موجودٍ حتى الآن ! "الحمد لله مايزال لديناكفايةٌ من الوقتِ " !
قَطعَ كلامه وجالَ بنظره ، مثلَ حيوانٍ كاسِرٍ وقعَ في شَرَكٍ ، جَحُظَتْ عيناه .. بانَتْ عليه إماراتٌ من الفَزَعِ ،
راح يُردِّدُ معها " آبْ ، آبْ " (ماء، ماء!)
أَشَرتُ إلى القنينة الفارغة ، مُلقاةً على غيرِ مَبعَدةٍ مِنّا ....
شَرَعَ إيهاب يُصلِّي ، فَحَسِبتُه يؤدي صلاةَ الإستسقاء ! نظَرَ إلى الشمس في بَطنِ السماء ، كَنَسَتْ ظِلَّنا ، ثم إليَّ .. فأشرتُ له أَنّي مسيحيٌ ،كي أَهرَبَ من نقاشٍ لا أُجيده ، وهو بالتالي مَضيَعَةٌ للجهد ، في وقتٍ ماتَ فيه الظِلُّ ، ورُحتُ أُجاهِدُ أَلاّ أَفتَحَ فمي فيتسرَّبَ ما بقيَ من رطوبةٍ في الحَلْقِ ! فَمن شِدَّةِ الإعياء يفقد المرء الشهية والقدرةَ على النقاشِ والجَدَل أو حتى الحديث ..

" غَزاني شَوقٌ لرملٍ نَديٍّ كرملِ الشاطيء ، في جانب الكاظميَّة ، مُقابل قصرِ بَلاسِم الياسين في الأعظمية ، أَوْ عندكورنيش أَبي نؤاس .... مَهموماً ، أَطرَقَ النهارُ رأسَه في منتصفِ رحلته... سَرَى بي حريقٌ ، ورُحتُ أُتابعُ العَزفَ المُنفَرِدَ على أوتارِ قلبِي .. في فَلاةٍ من اللّظى ، حيثُ تَتَسَكّعُ الأمنياتُ وتَتَلوّى في شُواظٍ نَسِيَهُ القَطْرُ مُنذُ دَهْرٍ ... تَشَهّيتُ أَنْ أَتَكىءَ على حبالِ مَطَرٍ ، وأَستَسلِمَ لِدَغدَغَةِ أحلامٍ ، حتى وإِنْ إنتهَتْ مدةُ صلاحيتها... !
...........................

شُربَةُ ماءٍ ، يا سعيدة ، فأَفتديكِ بكلِِّ الأبجديَّةِ وخمائلِ الخيال ..! ولتأخُذِ البروقُ ما تُريد ، لقاءَ كَفٍّ من
دمعِ السَحَاب ..!
.............................
أَتوقُ لبردٍ ... لقَطرٍ ،
لعصفورٍ بليلٍ ، يرتجفُ بحثاً عن دفءِ كفّي ،
تعالي سعيدة ، ولو كِسرَةُ غيمٍ ، إهطلي قَطراً ،
وإنْ لَمْ ... رضابُكِ يكفيني ..
فهذا زَمَنُ العَطَشِ والأنين ..
والحنين ...
تعاليْ ، بيديكَ فوقَ الرأسِ ، شُدّي إزارَكِ وإركضي ..
ستصيرينَ غيمةً .. حُطِّي فوقَنا ،
مثل صبايا الجيرانِ ، كُنَّ يَستُرنَنَا فوقَ السُطوحِ ، من عيون الشمسِ ،

......................................

سَتَتَراقَصُ صُوَرٌ قديمةٌ في أَزِقَّةٍ ودروبٍ .. لَمْ تَعُدْ موجودةً ...
مَنْ يُعيدني لطفولتي ؟! جَرِّبتُ لُعبَةَ الشيخوخةِ وما قَبلَها ، فَلَمْ تُعجبني ... فالكبارُ ، وإنْ لَعِبوا ، فإنَّ لَعِبهم خطيرٌ
لا يعرِفُ المزاح ..!! بي شوقٌ حَرّاقٌ أَنْ أَرجِعَ لتلكَ الدروبِ .. فما شَبِعتُ لَعِباً ، ولا بُدَّ أَنَّ صَحبيَ ينتظرونَ
عودَتي ..."

+ سَتَتَشهى أَنْ تكونَ حاوياً (ساحراً) لا يُخرِجُ من قبَّعةِ السلندر ، أرانبَ وحَمَائمَ .. بلْ عواصمَ وشطآنْ ..
أَعمِدَةَ ضوءٍ لليلِ الكورنيش ... تكونُ مُتّكأً لطيورٍ ضَيَّعَتْ أَعشاشَها .. ولسُكارى يواصلون ما إنقطَعَ من
"حوارٍ" مع المناضِدِ والكراسي ، وَدَّعَتِ الزبائنَ ، فَلَمْ يبقَ منْ يُنصِتُ لهمْ .. !
.......................

مُخاتِلٌ سرابُ هذه الرمضاء .. لنْ يُجديكَ أَنْ تَتْبَعهُ ، مهما نَفَرتَ من ظِلِّكَ في وحشَةِ الكُثبانْ ، تَتَواطؤ على
أسرارِكَ ، هي كلُّ ما تملِكُ .. فَتَتكِأُ على جُرحِكَ ، مثلَ بوذيٍّ فقير ..
مَنْ لَكَ يا هذا في ساعاتٍ قاحلةٍ مسكونةٍ بصمتِ الفلاة ..؟!
لاشبابيكَ عند شُرُفاتها الحمامُ ينوح .. أَجْرَبَ الوحشَةِ أَنتَ ، على قارعة الهامشِ ..
تَخَفّفْ من أحمالِكَ وأَثقالِكَ ..وإرمِ تلكَ الـ" لَوْ " ، فما نَفعُكَ بها مُتَأخَّراً ؟! لِنَفترِضْ أنكَ زَرَعتَها هنا
وإخضَوضَرَتْ ..، بعدَ أَنْ ذرَفتَ أَحلى سنيِّ عمرِكَ ، وأَحرَقتَ كلَّ سَفائنِ المستقبل ، فلن تُفلِحَ (لَوْ) في أنْ
تكونَ إلاّ عاقولاً في هذه الصحراء ..!
...................................
...................................

ـ مِدَىً في الخواصِرِ نامَتْ ، ذَرَفنا معها سِنيَ العمرِ الأَحلى ، وضَيّعنا أحلامَ مستقبلٍ كان يحبو .. نواطيرَ السرابِ كنَّا ، فيما كان البعضُ ينسجُ أذرعاً للمَكيدة والوقيعة .... بنفسه ، وبالآخر !!
كُنَّا رُعاةً ، ومن فَرطِ طيبتِنا/ سذاجتنا ، سَرَحَتْ بنا الأغنام !! فَصِرنا صيداً يقيناً .. حتى لـ"أحفاد"ِ آوى !
كنتُ فريسةً لتَكَسُّرِ زجاجِ اليقينِ .. شيءٌ ما تَفَتَّتَ بداخلي ، فأجتاحتني رُزمَةُ أَحزانٍ ، لستُ أدري منْ
أَيِّ مخبأ إندَلَقِتْ ..!

......................................

تُرى متى يترَجَّلُ الدمعُ عن جَمَلِ الكبرياءِ الأَدرَصِ .. ؟ فقد غَدَروا بنا .. حَبَلنا منهم بأحلامٍ كاذبةٍ ، وَلَدْنا فُقاعاتٍ ورمادٍ ، ورُحنا نتعثَّرُ بقلوبنا في ما يُشبِه كرنفالاتٍ لِغَسلِ الذاكرة ... فحذارِ من الذاكرةِ مرةً ، ومن النسيانِ ألفَ مرَّة !

... طوبى لذاكرةٍ عَنيدةٍ مثلَ حِمـارٍ !!

+ سيبتلِعُ الرملُ الفَلاةَ ، ويظلُّ يرقبُ الإيقاعَ الرخوَ لسيرة النسيان .. هوَ إبنُ الشمسِ يحمِلُ ذاكِرَتَها ..
هذا بحرٌ ، إِنْ شِئتَ فلتِشرَبِ المدى كلِّه ، فقدْ خَلا الأُفقُ من شراعَ .. لَزِجٌ قَطرُكَ .. ظَمَأٌ يُجرجِرُكَ أَن تعتَرِفَ حتى بما لَمْ تَقتَرِفْ .. فهذه أَرضٌ نَسيَتْ القَطرَ والعُشبَ ، وأَطبَقَتْ جوانِحُها على العَوسَجِ والعاقولِ ، حسَبْ !
صحراءُ عاريةٌ إلاّ من شَظى الجحيمِ ، فَأَينَ المهرَبُ ..؟ لا أَبنيةَ ولا أشجارَ ولا نباتاً ... قَفْرٌ أَقرَعٌ .. ! صَمتٌ مُحَيِّرٌ يستدعي أُمَّ الشَكِّ ، حواءَ .... لكنَّ ما أَجمَلَ ، الشَكَّ بينَ الغَفوِ والصَحوِ ...
الآن فقط ، ستعرِفُ ، عيانياً لارمزياً ، ماذا تعني الباديةُ والبداوة ... ولماذا لا تصهرهما المُدُنُ ، التي يزحفونَ عليها .. " فاتحينَ "! ناقمينَ ... يثأرونَ لقحط الطبيعة وبُخلها ، كأنَّ المدينةَ وأهلها سبَبُ بَلواهم ...!
.. أنتَ الآنَ في هذه الرمضاء طائرٌ مكسورُ الجناحِ ، يلتَحِفُ الريح .. لَمْ يعدْ لدَيكَ وطنٌ يُعلِّقُكَ على حبلِ المهانةِ والذلّ ، تُريدُ أَن تَخترعَ لكَ ماضياً جميلاً ، خالياً من التناقضات ، تَغفِرُ فيه للأقدارِ ما أَلحَقََتْه بِكُم ، عَلَّها تُكَفِّرُ عن جزءٍ من سَوءاتِها تجاهكم ..

سَتَحلَمُ بشمسٍ تشِعُّ بَرداً ، يَقرُصُكَ في غيرِ موضعٍ ..،
سِتَتَشهّى مَطَراً يَغسِلُ كآبتكَ بالفَرَحِ ، فلا يرى أحدٌ دمعةً عَصِيَّةَ الإخفاء !
وستطهو العَطَشَ بما يضمره السحاب ..
...................................

خلالَ ذلكَ زَحَفَ إيهاب بإتجاه دراجته البخارية ، وأشارَ لكَ أنْ تَنتَظرَ ريثما يعود .. ساعتَها غَدَوتَ نهباً لأصواتٍ وصورٍ لا تملِكُ أَنْ تَصُدَّها ، الجَبَلُ ، غاباتُه ، فَيؤُهُ ، وينابيعُه التي تفتقدها الآن في هذه الرمضاء ..
* ما الذي جاءَ بكَ يا مُغَفَّلُ إلى هنا ؟ كُنتَ تُريدُ الثورةَ دونَ قَتْلٍ ، دونَ دمٍ .. والطوفانَ دونَ غَرقى .. يا لَكَ
من ساذجٍ !!
فيجيبكَ الآخرُ من داخِلِكَ " مهمةُ الإبداعِ أَنْ يخلُقَ الثورةَ ، لا أَنْ يمارسها ..."
صوتٌ آخر :" أَما سمعتَ أَنَّ الثورةَ تأكلُ أبناءَها .. ، ولا تَشربُ إلاّ أحلامَ صباياها ؟!"

تتناسلُ الأسئلةُ ، وتتعالى بداخلكَ أصواتٌ تصطخبُ نقاشاً ...


ـ " أَنا ما حَفِظَتْه رؤوسُ الشهداء .. لستُ مُطمئناً ، ولا مُتطامناً بأنَّ ,, هذا لن يحدثْ ,,!
ما أَنا إلاّ أَنا ، وما يُفتَرَضُ بي أَنْ أكونْ !!


.. لَمْ أَشي بأَحدٍ ، وصَدّقتُ ما قيلَ لي .. فَرُحتُ أَقولُ ما يُعجِبُ الصَحْبَ ..
فما بَقِيَ لِيْ غيرَ شيزوفرينيا .. وقليلٍ من الحواسِّ ، روحٌ لائبٌ ، يَنُطُّ من المرآةِ يَحْسِبُ كَمْ كِسرَةٍ في الرغيف
... وأَسئلَةٍ تَشهَقُ حيرةً في قِفار العوسَجِ ومُروجِ عَطَشٍ لا يُهادِنُ .. مذهولاً من تآخي "الأضدادِ " بالأحظان !!

.................................

في فَلَكِ أَوهامي ، ُتَدور رُؤَايَ عَطشى ، وتَحلَمُ مثلي حينما أَغفو ... تُوقِظُني لَمّا تَرتَطِمُ بأَبوابٍ مُغلقاتٍ ،
فأَمُدُّ لها خيوطاً من سَرابٍ ، تَصِلُ بها منتَصَفَ الهاويَةِ .. تَشرَبُها ، فَتَقَعُ لِمُستَقَرِّها .... لستُ أدري كيفَ
أَجُرُّها ، ما العمَلْ ؟!"

+ يُداهمكَ شعورٌ " أَنْ هذه هي الحرب ، وهذا جزء من فاتورتها ، يتَعَيَّنُ عليكَ دَفْعُها ... رغم أَنَّكَ لَمْ تُشعِلْها وما ساهمتَ بها ..."
يقولُ لكَ واحدٌ " صحيحٌ أَنّكَ لَمْ تكن مُقاتلاً ، ولم تُطلِق رصاصةً واحدةً على أَحدٍ ، لكنَّ سطوركَ كانت تَلهَجُ
وتُحرِّضُ على الثورةِ والتغيير، كي تُزالَ البثور القبيحة عن وجه وطنٍ جميل وتَحِلَّ فيه الفرحة والحرية "

تَرُدُّ عليه " كنتُ ولا أزال منحازاً للنور والفَرَح والحرية .. منحازاً للجمال ، وبالسلاح الوحيد ، الذي أملكه ..
الكتابة .... فلا حيادَ في مجتمعٍ بلا عدالة ، بلا حرية !"
* آخر : " لكن الأكثرية صامتةٌ "..
فتقولُ له " الأغلبيةُ الغبية .. هذا هو دَيْدَنُ الدَهماء دوماً ! ولا يشهدُ التأريخُ بغيرِ ذلك .. إنها ترى القَهرَ ، تعانيه ، لكنها تُفَضِّلُ السلامةَ الرخيصةَ على نُبلِ الموقف .. ذَنبُها صَمتُها ، لأنها تتوهَّمُ العيشَ بسلامٍ ، وهو ما يُغري الظالِمَ بالتمادي في غَيِّه ضد المظلوم ، وتثيرُ فيه غريزةَ الشرِّ ... لكنْ إذا ما نَجَحَتِ الثورة تراهم في مقدمة
الصفوف ..!! ولن يُغيَّرَ هذا من حقيقةِ أَنَّ التطامن مع الشر ، عمليةُ إنتحارٍ ، وهي جريمةٌ في آخر المطاف ..
بَوّاقونَ وبَوّاسو لِحىً يتَسَلّمونَ الدَفَّـ"ة" ... نُوتيّونَ يَحمِلونَ بمشاحيفِهم ، عَطاياً لآلهةٍ كَمَنَتْ لَهم كَيداً ، بينَ القَصَبِ والبَردِيِّ .. عَساها تَلجِمُ غيظَها ، فلا تُجَفِّفُ أَضرُعَ الجاموسِ ، وتَحمي عظامَهم ، خَمَّرَتها المذابحُ
الرحيمَةُ وجوعُ الباديَةِ .. !!"
ـــــــــــــــــــ
(3) قبائلُ هنود الكَجوا(سكان أمريكا الأصليون) كانوا يعبدون الشمس .. مرةً حاولَ قِسُّ أسباني التبشير بالمسيحية ، راحَ يُحدث زعيم القبيلة أملاً
في كسبه وإقناعه بالرب وجناته .. لكن الزعيم سألَ القس كم هو عمر ربكم .. إرتبك القس وقال أن الله قديمٌ جداً.. ضحك
زعيم قبيلة الكجوا وقالَ له "لسنا بحاجة لربكم العجوز ... فَربُّنا يولدُ كلَّ يوم من جديد ..يرسلُ لنا الدفءَ ويُنضِّجُ الزرع .."
(4) الطُوْفَةْ : جُدارٌ من طينٍ فقط ، لا تَدخلُ الحجارة ولا الطابوقُ في بنائه .



#يحيى_علوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يتيم
- سَجَرتُ تَنّورَ الذكرى
- كتاب - حوارات المنفيين -
- كتاب - أَيها القناع الصغير، أَعرِفُكَ جيداً -
- كتاب - همس - الجثة لاتسبح ضد التيار
- مونولوج لابنِ الجبابرة *
- لِلعَتمَةِ ذُبالَتي !
- حَسَدْ
- شمعةُ أُمي ، دَمعةُ أَبي
- يوغا
- هاجِرْ
- مَنْ نحنُ ؟!
- نُثار (5)
- شبَّاك
- سلاماً أيُها الأَرَقُ
- نُثار ( 4 )
- أَسئلةٌ حَيْرى
- نُثار ( 3 )
- نُثار ( 2 )
- نُثار ( 1 )


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - فصل من كتاب (2-3)