أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 2- الدرب الطويل/ 2















المزيد.....


2- الدرب الطويل/ 2


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3181 - 2010 / 11 / 10 - 19:07
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)
مدرستي
حين يحل المرء وسطاً يجد فيه هدوء البال والانسجام، حتى ولو كان من فيه ليسو الأحبة الذين يرتبط بهم ارتباط نسب، أو مودة أو مُثل يعتنقها. فانه في هذه الحال لا يؤثر التحول عنه دون داع، فلكل طعم مذاق ولذة. حين اتفقت مع أبي وأخي على الانتقال إلى النجف لأساكنهم، قدمت طلباً رسمياً إلى مديرية معارف الحلة، وحين علمت إن ملاك المدارس الابتدائية يوشك على الصدور، توجهت إلى المديرية أتنسم الأخبار من موظفي الذاتية الذين أعرف بعضهم. وعرفت من بعضهم انه لم يدرج أسمي في قوائم النقل.
كان أحد الذين حضروا -عشاء الكوفة مع الوالد- صديقنا قاضي شرع الحلة. وقد وعد انه سيأخذ الأمر على عاتقه، يبدو انه لم يبرّ بوعده. فصممت على مواجهة مدير المعارف "حسن الصباغ" وهو شخصية محترمة وإداري حازم. الغريب أن الرجل مجرد دخولي وإلقاء السلام، قطع حديثه مع بعض الطلبة في بعض شؤونهم، ووجه كلامه إلي بشيئ من العصبية:
- ماذا تريد أنا لن أنقلك!؟
- أستاذ لي الحق بالطلب الذي قدمته. فقد قضيت في الكوفة أربع سنين.
- في المعلمين من هو في "شفاثة" أكثر من أربع سنين.
- ذاك له، وهو مسؤول إن شاء العمل على الانتقال أو قنع بما هو فيه. وأرجو أن تتذكر يا أستاذ، إني أستطيع الانتقال دون طلب شرعي، ولكني احتراما لك، أعرضت عن تكليف واسطة محترمة، لأن معنى هذا طعن في شخصيتك التي اُجِلّها.
وخرجت مباشرة إلى دائرة البريد واتصلت بـ "محمد حسين الشبيبي"، فتعجل صاحبي الاتصال به، بعد أن طمأنني أن نقلي سيتم إلى حيث أريد.
وحين زارنا "المدير" إلى المدرسة التي اخترتها، وقفت احتراما أصافحه، وأقول: وأخيراً التقينا.
مدير مدرستي من خيرة المعلمين، وهو المرحوم محمد رؤوف الجواهري، والحديث عن عام 1941/1942. إنه يشغل الإدارة منذ كنت أنا تلميذاً في الابتدائية. عرف عنه الانسجام مع معلمي مدرسته، يعتمد عليهم، ولا يشعرهم بشيء يعليه عليهم، وإذا لاحظ عن أحدهم تقصيراً أو مخالفة لا يشعر الآخرين بأنه ألفت نظر زميلهم إلى ما بدا والى تلافي النقص.
وزملائي اثنان منهم ألتحق بالركب، وثالث مؤيد، بينما آخرون منهم لهم سلوك خاص. منهم من لا يعرف في حياته غير بيته وواجبه الوظيفي، ومنهم البسيط الفج. ومنهم واحد، وهو أكبر الجميع سناً، لا يعرف في حياته غير جمع المال وحب التملك.
فوجئت إن المدير يستدعيني، ولأول مرة لاحظت ملامح وجهه ليست منبسطة كالعادة. وفتح الحديث بصوت يتهدج، وكأن أمراً هاماً سيتعرض بالحديث عنه.
صحيح إنه لم يكن من أولئك المعلمين العصريين في توجههم الثقافي. لقد أنحدر مثلي من وسط المعممين من أجل العيش وليس غير. ولا يعرف من التغير، بالنسبة للسلك الذي تحول إليه، سوى لعب النرد، ربما لا تهفو نفسه لمطالعة الجرائد إلا عند نشرها ما يهمه كمعلم، كقضايا الملاكات في حينها أو الترقيات وما أشبه. أما أن تحسسه يثير الخوف عنده إلى هذا الحد، لمجرد إنه عرف إني أعطيت طلبة الصف السادس قطعة شعرية بعنوان "أيها الأغنياء" للشاعر إليا أبي ماضي. فهذا ما لم أكن أتوقعه. ومن أبيات القصيدة:
كلوا وأشــربوا أيهـــا الأغنياء وإن ملأ السكك الجائعـــــون
وهذي السـجــون لمن شـيـدت إذا لم تزجوهم في السجـــون
وهذي العصي لتلك الــرؤوس وهذي الحـراب لتلك البطـون
قلت:
- يا أستاذ. أنت ممن يستمع إلى رجال المنبر الحسيني وهم يتعرضون في مواعظهم للأغنياء بأكثر مما في هذه الأبيات. وأنت تقرأ القرآن، وجاء في سورة التوبة آية 34 ".... والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" والآية 35 "يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"، فما رأيك؟
- هذه تسمى سياسة، وسياسة محرمة، لأنها تربط بين الأغنياء والدولة!
- وليكن. أنا مسؤول عن كل احتمال. ألمهم إنك تقر إني أنا المسؤول، وهذا يكفي.
مع هذا أنا متأكد إن الرجل خير من يدرك -بين المدراء الآخرين- مدى أهمية الانسجام مع معلمي المدرسة، عن طريق احترام شعورهم وتقديرهم لمهماتهم.
أنا أُوثر البقاء في هذه المدرسة رغم إني صرت، منذ انتقلت عن بيت والدي، أعاني تعباً. فالبيت الذي أسكنه الآن يقع في حي "غازي" بينما تقع هذه المدرسة في محلة العمارة مجاورة "وادي السلام". الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير.
ومهما يكن فأنا مرتاح لهذه المجموعة من الزملاء. والى هؤلاء الطلبة وفيهم من جعلني أهتم به كثيراً لما لمسته فيه من شعور وطني متوقد.
زملائي المعلمون أبرز ما فيهم المرح وحب النكتة، وقد تكون أحياناً موجعة وقاسية. زميلي وصديقي الاسكافي، فنان يجيد الرسم، كنا عصر يوم من أيام امتحانات نصف السنة، نستريح ونتبادل النكات فتوجه إلى سبورة كانت في الممر وراح يرسم. لم ننتبه إليه. لكن أحد الزملاء، وكان يبدو وكأنه أحد الأقزام بالنسبة للزملاء الآخرين، خرَقَ اندماجنا في حديث كله ضحك من نكات الزميل "هادي". صاح بزميلنا: "يعني أنت مثلهم؟!. يقصد به مثل الطلبة، فقد أطلقوا على بعض المعلمين أسماء، أحدهم طاق كسرى لكونه محني الظهر بسبب مرض، والثور المجنح لضخامة جسمه، وبانية حيث عرف بهذا من طفولته ودولكه لقصره وامتلائه، وجعب كورة كون بشرته أقرب للسواد. وجعب الكورة أي الحجارة التي تبقى في فرن الطابوق تحت كل الطابوق فتتحجر وتسود أكثر.
انتبهنا صوب اتجاهه فوجدناها لوحة فنية رائعة. لقد صور الزميل المعلمين حسب الأسماء التي أطلقها الطلبة على معلمي صفوفهم. رسم "طاق كسرى" ووجه زميل محترم في جبهة الطاق، و"الثور المجنح" قد انتصب تحت الطاق يمثل أكبر الزملاء، ورباط رقبته "عود بامياء" يعني به زميلاً ثالثاً، وأمامه إناء ماء "دولكة" يرمز لرابع وضع على حجر أسود يرمز لخامس.
عمّ الضحك الجميع، وتبادلوا التعليقات الرائعة، لكن زميلنا "الدولكة" و "البانية" بلغ بهما التأثر والانفعال مبلغه. لم ينته الأمر عند هذا الحد. فحين ينتهي الدوام، نستمر في مرحنا لنقضي على السأم في الطريق الطويل. فوجئنا بأسراب من الطالبات يسرعن بالمشي وبمرح شديد، قالت أحداهن تخاطبنا مشيرة إلى واحدة منهن كانت أطول من زميلنا "البانية" وقالت: أحنَه عدنه مثلكم "بانيه"! آه ما أجمل أن يعيش المرء مرحاً لا يعرف العبوس، ودوداً لا يحمل الكراهية لأحد.

المدير النطّاح/ 1
يقولون في الأمثال "سوء الظن من حسن الفطن" ربما. فالآية الكريمة تقول "إن بعض الظن أثم". أترى ما حدث كان من عواقب انفعال مدير مدرستي بعد حديثه معي. لم صرت البديل للمعلم "عبد الأمير" أنا دون غيري؟ الواقع إني انفعلت رغم إن المدرسة الجديدة توفر عليّ ما كنت أعانيه من قطع مسافة ليست بالقليلة من الجنوب إلى الشمال. المدرسة الجديدة قريبة إلى بيتي. ولكني منفعل ومنزعج أيضاً. فالمدرسة التي نقلت إليها بإدارة إنسان أعرف عنه الغرور وعدم اللياقة، وضعف الخبرة، ورداءة الماضي. أما غروره فآت عن علاقة والده بالوزير صالح جبر!. ولأن النقل تم على أثر ما دار بيني وبين مدير مدرستي السابق بسبب قصيدة "أيها الأغنياء"، وربما كان بطلب منه، فهو يخشى أن أوجه التلاميذ وجهة لا يرضاها، إنه يكره الوعي اجتماعيا وسياسياً. إن أحسنت الظن به فأقول: إنه لا يريد أن أصاب بأذى وأنا بمدرسته. الحكم القائم، لا يريد إلا أن تكون الدراسة تأليها للحاكمين لا تنبيهاً للنائمين والغافلين. وقد تم النقل على أثر التصادم بين المدير والمعلم عبد الأمير. هذا الأخير يستند على "دنگة" أي عَمَد، وهو اصطلاح شعبي معروف عندنا ويعني الواسطة القوية. أيضاً يبدو إن الصدام كان عنيفاً، فقد حضر بسببه مدير المعارف "محمد حسن سلمان". وكان الحل أن كتب تذكرة صغيرة، لم تزد على هذه العبارة "ينقل كل من المعلمين علي محمد الشبيبي وعبد الأمير مهدي أحدهما بمحل الآخر".
لي في المدرسة الجديدة من المعلمين أخوة أعتز بهم. إنهم يحبونني وأحبهم. وأحدهم شقيقي حسين. ولست أخشى شر هذا المدير ما دمت أعتمد على سلوكي. إني لن أتحرك خلافاً لنظم المدرسة. دائماً أسارع لدخول الصف، ربما قبل أغلب المعلمين. لم أضِع الوقت في الدروس الهامة، ربما أضيف إليه من الفرصة التي هي من حقي الاستمتاع بها.
ولاحظت أسلوب المدير في جلوسه وراء منضدة الإدارة في لهجته بمخاطبة المعلمين، في العبارات التي تدل على الميوعة والدلال، في عدم الاهتمام بما خص نفسه من دروس في بعض الصفوف. وانه يهمل الدخول إليها في كثير من الأحيان، فيلهو مع المعلم ذي الفراغ، أو مع من ينشغل في حديقة المدرسة. وربما غادر المدرسة، بعد إعلام أحد المعلمين المقربين إليه. لقد عيّن نفر قليل قبل أكمال مدة الدراسة بدار المعلمين الابتدائية، بحجة الحاجة إلى معلمين، والواقع الذي نعرفه كبر سنهم وتأخرهم لضعف مستواهم، وعلاقة ذويهم بذوي النفوذ.
إني أعترف. فقد أخذت الأهبة لاعتقادي انه لابد أن يتصادم معي أيضاً. هو لا يستريح لوجود هذين الأخوين "أنا وشقيقي حسين" سوية. فصرت أسجل في مفكرتي كل مخالفاته. ومخالفات الآخرين المقربين إليه.
المعلمون ليس له منهم غير أثنين، أحدهما ليس له إلا هذا السلوك مماشاة أي مدير، بل والتملق له، وبذا يكسب وده، ويحظى بعنايته دائماً بغض النظر عن مخالفاته. أما الثاني، فهو قدير بما يخص واجباته، لكن له القدرة أيضاً في السيطرة عليه عن طريق كشف أخطائه، ثم مساعدته وتوجيهه في كثير من الأعمال. واثنان ممن أسميهم -نعم،بلي- هذان يؤديان الواجب كما هو في الكتاب والمنهج، ولا يهمهم غير هذا. ولا يشغل بالهما غير السوق وأسعار البضائع التي يمارسان البيع والشراء بها. أما غيرهم فبينهم واعون ذوو شخصية طموحة، اثنان منهم يصران على ترك التعليم والدراسة في كلية الحقوق، واثنان مع هذين يتجاوبان مع أخي في الاتجاه السياسي في الحال الحاضر، وصار يزودهم بما يجلب.
أنا واثق إن الاثنين الطموحين لن يستمرا في الاتجاه، فطموحهما ينطوي على مصالح شخصية. لكن لا بأس. نحن الآن بحاجة إلى العدد في المجالات المحدودة. في مقارعة كثير من المعلمين وغير المعلمين، من ذوي الميول القومية الذين يعلنون تفاخرهم بانتصارات هتلر ويحاولون دائماً البرهنة "إن مبادئ هتلر، تقارب المبادئ الإسلامية، وخطط قادة جيشه تعتمد على خطط القائد العربي خالد بن الوليد". المعلم علي الجزائري لا تفوته إذاعة برلين العربية والتي يفتتحها يونس بحري بجملته المعروفة"حيّ العرب"، فإذا سمع ما يسميه نصر الجيوش النازية هتف بسخف "الآن كأني حصلت على دينار ونصف؟!" إنه يسمي سحق الشعوب الضعيفة والمغلوبة أمام بربرية جيوش هتلر الغازية نصراً؟ يا للمصيبة.
الغريب في هؤلاء إنهم على عمق علاقات آبائهم "من رجال الدين" برجال الدين "المراجع" من ذوي الأصول الفارسية، فإنهم يجاهرون بعدائهم للفرس ويصرح بعضهم "كما نعمل للتخلص من اليهود، يجب أن نتخلص من الفرس، بغض النظر عن الدين الذي يربطنا بهم!". وبناء على هذا كان بعضهم يدفع المخبول البغدادي للتهويش والتهريج. وقد أصدر هذا في السنين الأخيرة كراساً يدعو "باسم ثمانين مليوناً من العرب" أن يعمل الشباب والحكومة معاً على أخراج الفرس من العراق. ومن المضحك إن من يساعده على طبع كراريسه أخواله وهم ليسوا عرباً. فانه عند الجدل يصرح بشتم أخواله لهذا السبب!؟ والبغدادي يستهل مقدمة مطبوعاته بهذه العبارة "باسم ثمانين مليوناً من العرب". وقد أعارته الشرطة "الشعبة الخاصة" بعض الاهتمام فصارت تطارده، وجيء به من بغداد مرات عديدة مخفوراً. لكن أحد معاوني الشرطة في النجف وقد تأكد من أنه مخبول أطلق سراحه وأمر بعدم الاهتمام به. وفعلاً لم تقم له قائمة بعد هذا.
هذا الشاب "البغدادي" مصاب بجنون القومية، دون أن تكون له معلومات غير ما يلقنه له هؤلاء من مفاهيم، لا هم ولا هو يفهمونها بعمق وعلى النحو الصحيح. ولقد لعب دوراً كبيراً في إزعاج الشرطة، إذ يؤتى به من بغداد، كان لا يبالي أن يقف خطيباً من دون أية مناسبة في جامع الحيدرخانه وغيره مفتتحاً خطابه بكلمته المشهورة "أتكلم باسم ثمانين مليون من العرب؟!".
أحد المعلمين "علي الجزائري" المقربين إلى مدير المدرسة، كان دائما يجادل في وجوه الشبه بين النازية والإسلام فيما يخص تقديس الحرب على حد تعبيره "الجنة تحت ظلال السيوف" وإن هتلر نادى "إلى المطبخ يا بنات ألمانيا" تماماً كما يريد الإسلام للمرأة؟! أن تقر المرأة في البيت.
لم أجد نفسي يوماً من الأيام متنكراً لأصلي العربي، ولا للخلق العربي، ولكن ليس الجاهلية. الإسلام هو الذي أخرج العرب من الظلمات إلى النور، وأعلن المؤاخاة بين المسلمين عرباً وقوميات أخرى. وليس التشاحن والتفاخر في القيم القومية من الإسلام في شيئ. وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك إن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد.
ورجال الحكومات العربية اليوم، يتبجحون بأنهم يعملون لإعادة مجد العرب، ولكن بما تسخر له الصحافة، وربما يلقن به أطفال المدارس وجعجعة بلا طحين! أحد تلك الأناشيد "بالقنا والقضب شيد مجد العرب" الواقع إن مجد العرب شيد بالإسلام الذي يؤثر عنه "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". بينما يتنافسون في أرضاء المستعمر، لأنهم مدينون بتيجانهم ومراكزهم له. ولذا لن نسمع غير تلك الثرثرة، بينما تزداد الخلافات، وتشتد في ظروفنا هذه النعرات الطائفية، وهي من أشد المعوقات لما ينشده دعاة القومية من أهداف.
لن تتحقق الوحدة العربية إلا تحت لواء الاشتراكية التي تحشد طاقات الجماهير لإسقاط الأصنام "آلهة المال" فقد وجدنا السلام قد وحدهم بقيادة الرسول بعد أن حطم أصنام الجاهليين، والتي نصبها رجال العرب ليضللوا بها الفقراء، ويظلوا تحت سلطتهم. وما فقد الإسلام هيبته إلا بعد أن تحول الحكم إلى قيصرية. مما يروى عن النبي حين قام له بعض المسلمين إجلالاً إنه قال "لا تفعلوا بي ما يفعل الأعاجم بملوكهم". كما يروى عنه ما معناه إن من أمته من سيعيد الوضع إلى قيصرية وكسروية. فضاعت قيم المساواة الإسلامية، وانبعثت من جديد العنعنات القبلية. صحيح إن حضارة عربية نشأت وتطورت، وازدهر الأدب والعلوم، ولكن عاد البؤس والحرمان يلف الألوف. ويفصل الأمم التي انضوت تحت الإسلام بعضها عن بعض. وتفنن الخلفاء من بني أمية وبني العباس في تعذيب رجال الفكر، والأدباء الذين يشك في أمر ولائهم. واخترعوا كثيراً من التهم والشبه لتبرير إنزال العقوبات بهم. دفن المسلم لحد نصف جسمه وقطع يديه واستخراج لسانه من عليائه كما فُعل بحجر بن عدي. ثم ما كان يقوم به الخلفاء العباسيون من أنواع الشنق وسمل العيون، والحرق، كما إن المساواة التي نادى النبي بها "لا فضل لعربي على عجمي.." محيت بسبب تفتت مفاهيم الإسلام الحقيقية بسبب الصراع من أجل الخلافة. بدأ الصراع بين الخليفة عمر الذي رشح أبا بكر وبين الذين يرون إن بن عم النبي "علي" أولى بها. وهم يذكرون إن رأيهم هذا أراده محمد وأعلن عنه بالعودة من حجة الوداع. ثم أخذ الانحراف يزداد بسبب هذا الصراع خصوصاً حين عمل معاوية وأمثاله إلى احتقار الناس الذين يغزونهم فيحولون من يأسرونه حتى ولو أسلم إلى عبيد واستغلت هذه الناحية أيضاً من قبل من هم خارج الحكم وحين يأتون إلى الحكم يلتزمونها وإسلام محمد بريء منها. أليس من الحق أن نفكر كيف أقبل ناس من مختلف الأمم على الإسلام في أيام الخلفاء الراشدين؟ ولماذا أخذت بعد هذا تحاول التخلص فتثور تحت دعوات شتى. المانوية، المزدكية، البابكية، الحق إن المستضعفين الذين اندفعوا وراء قادة تلك الدعوات لم يدفعهم غير البؤس والفاقة والقهر والاستغلال الفظ والذل بعد أن عرفوا إن من أسلم من أقوامهم السالفة قد أعزهم الإسلام.
* * * *
على الرغم من إن ساحة المدرسة واسعة، فإنها لم تعد تتناسب وعدد الطلبة. فهي المدرسة الوحيدة في هذه المحلة. في العهد الملكي أطلق على هذه المدرسة أسم "مدرسة الأمير غازي" وفي العهد الجمهوري أطلق عليها اسم "النضال". والمعلمون؟ على أنهم أكثر الناس وعياً، ولكن وعيهم هذا بالنسبة إلى سواهم من الناس. وبنفس الوقت هم يحرصون بشدة أن يلزموا الصمت والسكوت. أليس "السكوت من ذهب" هذه الحكمة لدى أكثرهم أقوى من الحكمة القائلة "الساكت عن الحق شيطان أخرس" عند النقاش في مشاكلهم الخاصة، أو الوطنية، أو القومية، تسمع كثير من مأثور الحِكم والكلام، يجري على ألسنتهم قال الله "ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة" و "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ..." [سورة النساء آية 59]. فإن ضاق بالجدل ذرعاً، صاح "يا أخي. العلماء ، الوجهاء، كلهم لا يتدخلون، تريد أن أتدخل أنا فأموت بالنتيجة جوعاً؟!"
في كلامه شيء من الحق. إنه لو اندفع يموت جوعاً فعلاً. فهو ليس معلماً صاحب رسالة. إنه معلم دخل سلك التعليم ليعيش. ولكن مالنا ومن سماهم العلماء، والوجهاء. المثل الشعبي يشير إلى حقيقة هؤلاء "الشبعان ما يدري بالجوعان" ومن أطلق بعض الأمثلة الشعبية يدل أن لديه وعياً طبقياً خيراً من هؤلاء، حين يقول "يكد أبو كلاش وياكل أبو جزمة" علينا أن نتوجه إلى هؤلاء فنحسسهم بما يعانون من مشاكل، نشير إلى مصادرها ومسببيها. لكنا الآن لم نعوّل إلا على فئة المعلمين. حتى استطعنا أن نكسب عمالاً نكون قد أوجدنا الخميرة الحية، التي ستحمل راية النضال.
بعض المعلمين رغم كونه منحدراً من الطبقة الكادحة المسحوقة، فإنه لا يعبأ بكل ما يهم حياته كمعلم، أو مواطن مهدور الحقوق، لأنه أخذ يمارس البيع والشراء. إنه يعالج مشاكله في المدرسة عن طريق التوسلات وتملق المدير. ساعات الدروس كثيرة، إنها سبعة وعشرون ساعة في الأسبوع، لو أراد أن يقوم بها كما يجب لأحس بِعظَم الحِمل. ولكنه كما يقول المثل المأثور "الناس على دين ملوكهم" يهمل قدر ما يستطيع ويتهرب من الدروس التي تحتاج إلى حذق ومتابعة، وإذا كان ولابد، فهو لن يحيد عن الكتاب المقرر. ويتجلى جبنه وضعفه حين يزور المدرسة مفتش، عند هذا يغير كل سلوكه، ويتهيأ أحسن تهيئ. يعد وسائل الإيضاح، ويدبر أمر دفتر التحضير على خير ما يرام، وتختفي العصا، ويتحلى بالهدوء في مخاطبة التلاميذ.
حسناً يا أخي، والله إنك مظلوم. أنت مرهق، أنت تحمل عبئاً ثقيلاً، ولكنك تخشى حتى أن تطالب بتأسيس نقابة. في تلك الظروف كان للمعلمين جمعية في بغداد فقط، وليس لها فروع، وهيئتها الإدارية بالرغم من أنها تضم أعضاء نظيفين إلا إنهم لا يجرأون أبداً أن يعملوا لصالح المعلم أبداً. وبدأت جريدة الحزب الشيوعي السرية "الشرارة" تحث المعلم لتأسيس نقابة.
إن الحرب تشتد وجيوش الحلفاء تملأ بلادنا، وأسعار مواد العيش بدأت ترتفع وبعضها اختفى تماماً. وقد أخذ شقيقي حسين "صارم" ينشر في جريدة "الشرارة" عن وضع الحياة المعيشية ومشاركة الإداريين للتجار في أمور المواد المعيشية وأسباب شحتها، وبدأت الشبهة تحوم حوله. ويتكهن العارفون إنها ستقفز الأسعار قفزة عالية في الأيام القادمة. فما ندري بما سيكون وكل شيء يمكن أن يكون. ولأول مرة أشاهد رجل لبس "الغترة" البيضاء بدل اليشماع! وداهية أخرى بدت بوادرها، البرد أخذ يشتد قبل أوانه. لا بأس سيريح البؤساء من حياتهم التعسة.
يتبــــــــــــع
ألناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 2- الدرب الطويل/ 1
- خطأ في موقعي الشخصي
- 1- معلم في القرية/ 22
- 1-معلم في القرية/ 21
- 1- معلم في القرية/ 20
- 1- معلم في القرية/ 19
- الحوار المتمدن تميز وتطور مستمر
- معلم في القرية/ 18
- 1- معلم في القرية/ 15
- معلم في القرية/ 17
- 1- معلم في القرية/ 16
- استفسار واتهام حول القطع الأثرية
- معلم في القرية/ 14
- معلم في القرية/ 13
- معلم في القرية/ 12
- معلم في القرية/ 11
- معلم في القرية/ 10
- معلم في القرية/ 9
- معلم في القرية/ 8
- معلم في القرية /7


المزيد.....




- هكذا أنشأ رجل -أرض العجائب- سرًا في شقة مستأجرة ببريطانيا
- السعودية.. جماجم وعظام تكشف أدلة على الاستيطان البشري في كهف ...
- منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي محذرًا: الشرق الأوسط ...
- حزب المحافظين الحاكم يفوز في انتخابات كرواتيا ـ ولكن...
- ألمانيا - القبض على شخصين يشتبه في تجسسهما لصالح روسيا
- اكتشاف في الحبل الشوكي يقربنا من علاج تلف الجهاز العصبي
- الأمن الروسي يصادر أكثر من 300 ألف شريحة هاتفية أعدت لأغراض ...
- بوركينا فاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين بسبب -نشاطات تخري ...
- حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره ويستهدف مواقع للاحتلال
- العلاقات الإيرانية الإسرائيلية.. من التعاون أيام الشاه إلى ا ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 2- الدرب الطويل/ 2