أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسر اسكيف - نسق من الجنود الصينيين















المزيد.....


نسق من الجنود الصينيين


ياسر اسكيف

الحوار المتمدن-العدد: 954 - 2004 / 9 / 12 - 10:40
المحور: الادب والفن
    


كأنما قد قرأت هذا من قبل . هو إحساس مبهم ينتابني كلما قرأت نصا شعريا جديدا . وفي البحث عن الباعث على إحساس كهذا تتعدد الأسئلة وتتوالد .
لقد توصّلت الدراسات الأدبية , التي تناولت الشعر , إلى شبه اتّفاق على تحديد الشعرية , وبالتالي مجموعة من المكوّنات التي تمييز بين نص شعري وآخر لا شعري, مع التحفّظ على أن الشعرية – في الحقيقة – لا تخصّ جنسا أدبيا بعينه , لكنّها في مرحلة من مراحل كينونتها تميّز الشعر وتؤكّده .
لقد قدّم ( رومان ياكبسون ) في كتابه ( قضايا الشعرية – ترجمة محمد الولي و مبارك حسون- دار توبقال 1988 ) و( كمال أبو ديب ) في كتابه ( في الشعرية – مؤسسة الأبحاث العربية 1987 ) صياغتين متقاربتين في محاولة منهما لتحديد مفهوم الشعرية , كمدخل للوصول إلى جماليات الشعر ومقاربة موقفه المتحرّك بين شاعر وقارىء . وبيّن كلاهما أيضا إن الشعر يتحدّد بالشعرية , ومنها يستمد هويته إذا ( بلغت في أهميتها درجة الهيمنة في أثر أدبي ) كما يرى ( ياكبسون ) أو حينما تجد ( الفجوة : مسافة التوتر ) تجسدها الطاغي في بنية النص اللغوي بالدرجة الأولى وتكون المميز الرئيسي لهذه البنية . كما يرى ( كمال أبو ديب ) .
والشعرية تتحقق في النص وتمنحه خصوصيته كشعر بوجود التعارض كشرط أول وأساس , حيث أن التعارض هذا التعارض حتمي ( إذ بدون تناقض لا وجود لمجموع منسّق من المفاهيم , ولا مجموع منسّق من الدلائل ) حسب ( ياكبسون ) .

إن الكلام السابق يؤكد مسألة من جملة مسائل يعنيها , وأهمها أن النص الشعري ليس مجرد لغة, بل هو في المقام الأول مجموع علاقات مركبة , كما أنه لا انقطاع حقيقي بين ( داخل نص )
و ( خارج نص ) والشعرية تنبع , كما يبدو , من التشابه والاختلاف الذي يحكم العلاقة ( داخل – خارج ) هذه العلاقة التي طالما أسيء فهمها , وانسحب سوء الفهم على الشعر ودوره في النشاط الإنساني .

لقد أثيرت في الماضي العلاقة التي تحكم ( خارج – داخل ) وبالتالي العلاقة بين مكوني الخطاب الأدبي ( رغم ما أراه من فرق واضح بين العلاقتين إذا درستا بتمعن ) . ولقد كانت الحدّة والاستفزاز أحد أهمّ ملامح تلك الإثارة , مع العلم أن هذه الملامح لم تكن وليدة الصراع الأدبي ( فنيا وجماليا ) بل سابقة عليه بما استندت إليه من مرجعيّة أيديولوجية . وفي مسار الصراع ذاك , خاض الأدب عموما والشعر خصوصا معركة ليست له بوصفه فنا , وسيق الأدب إلى تلك السوية من الصراع نتيجة الفهم الخاص المتباين والمقلوب للحداثة الذي جعل منها مهمة تاريخية لا خصيصة تاريخية .
وكرد فعل على مطالبة الشعر بالقول في وقت ما , يحاول البعض اليوم ابكام الشعر والترويج لشعر يكتفي باللغة هما وأداة , كأنّما الحديث يدور حول جمل مترّاصة لا أكثر ولا أقلّ . وهؤلاء جميعا حينما يقدّمون براهينهم , إنما يقدّمون محض تأكيد على التباس واقع بين لغة مغايرة تخصّ حساسيّة مغايرة , وردّ فعل عاجز عن تجاوز دوافعه .
أعتقد أن لنا الحق في سؤال أولئك عن الممكن واللاممكن في إنتاج النص والصورة الشعريّة وآليات استخدام اللغة , آخذين بعين الاعتبار أن موضوع الامكان لا يحدّده منطق خارجي بقدر ما يحدّده منطق النص والصورة ذاتها , أي المكوّنات والعلائق . ولنا أيضا , عبر الوسائل النقديّة المتاحة , أن نسأل منطق تلك النصوص عن مدى تماسكه وقدرته على إنتاج مبرراته .

يمكن القول إن الاتّجاه إلى كتابة ما يشبه سيرة ذاتية هو أحد الملامح الأساسية لتي يصدّرها النص الشعري الجديد , والذي يمايز بين سيرة وأخرى هو حصّتها من الزمان والمكان . ومن الملامح الأخرى إسقاط الكون الكلّي بحيث بات ظهوره جزئيّا وبالنيابة , عبر ردود الأفعال التي تحكم علاقة الجزء بالكلّ , وردود الأفعال هذه لا تملك , على الأغلب , وعيا بكونها تجربة شخصيّة , بل بكونها مخلوق شعري . وأما الوعي , إن وجد, فإنما يمليه عليها خالقها المحكوم بكلّ المقومات الحرفية وآليات تدوين الانفعال في حالته الهجسيّة . لذا فان البحث عن كيفيات تجلّي التجربة الإنسانية في الشعر العربي اليوم يفتح المجال لأسئلة تمتلك مبررات طرحها .
والذي يهمّنا بالدرجة الأولى في هذه الدراسة هو موضوع التشابه وسؤاله .
إن البحث في موضوعة التشابه يجعلنا نعيد قراءة الكثير من التجارب والنصوص بقدر أكبر من الاستغراق الحذِر متمسكين بسؤال المصداقيّة فيما يخصّ التجربة وموقعها ( أفقيا وعموديا ) من إعادة إنتاج تجربة الغير وأسئلته .

عموديا , ما تزال تجربتي ( أنسي الحاج – محمد الماغوط ) تلعبان دوراً هامّاً في التأثير على آليات العمل المستخدمة عند إنتاج النص , وقليلة هي التجارب التي استطاعت إحداث قطيعة فعليّة وإجتراح أدوات جديدة لنصّ جديد . وفي هذا المجال , ودون ميل إلى الحصر , يمكن ذكر التجارب الشعرية ل( سليم بركات – عبّاس بيضون – وديع سعادة – رياض الصالح الحسين – عادل محمود – منذر المصري – عبده وازن ...... ) ولكنّ تلك التجارب , باستثناء ( وديع سعادة – منذر المصري – إضافة إلى تجارب جديدة برزت لاحقاً ) توقفت عند حدود القطع مستنزفة طاقة الهجس , وبات امتيازها الخبرة والحرفنة بعيداً عن همّ التجاوز , كما بات عندها الانسجام بين الشعر كهجس وكتجربة مدوّنة عرضة للخلل والاضطراب . لقد أخمد التدوين كثيراً من نار التجربة حينما نحى في الكثير من الأحيان للإكتفاء بذاته ردّاً على محاولات احتوائه من قبل المراجع الأيديولوجيّة , وبالتالي طغت المناورات والألعاب اللفظيّة حتى باتت التجربة معاشة في اللغة , كمحض افتراض , لا في الحياة .

أفقياً , استطاع أولئك تأكيد تميّزهم واستمراره بإدراكهم لسرّ التدوين وإجادة استخدام مفاتيحه , لا إلى خطوات فعليّة في تجاوز التجربة كما ارتسمت معالمها الأولى .
والمشكلة ليست في هذه التجارب التي استطاعت مرّة أخرى أن تؤكد على اللامحدودية, في القدرة التعبيرية للنّص الشعري , كما في الأدوات المستخدمة في إنتاجه , وإنّما في السلالات التي جاءت فيما بعد وأقصد الشعراء الذين بدأوا بطرح نتاجهم الشعري في العقد الأخير من القرن الماضي أو قبله بقليل , فمعهم , باستثناءات معدودة , بات المشهد الشعري أقرب ما يكون إلى أرخبيل من الجزر المتناثرة أو نسق من الجنود الصينيين . وفي البحث عن أسباب التناسخ أو التماثل تحضر الآليات وتغيب التجربة ونؤكد على غياب الدور الرئيسي للتجربة في إحداث مثل هذا التماثل بإنتاج الأطياف المتباعدة حدّ التنافر لنصوص على درجة كبيرة من التشابه . الأمر الذي يدفعنا إلى الإستنتاج بأن الآليات قد تحوّلت إلى شيفرة سريّة , من امتلكها أصبح شاعراً .
وفي القول بالآليات يمكن استعراض مجموعة منها باتت تحكم النص الشعري وتمنحه إنتماءه الجنسي أدبياً :

1- الإنتقال بالمألوف من العلاقات بين الأشياء إلى سوية اللامألوف . وهنا يتحاور ويتصارع منطقان , منطق عام وآخر خاص , وباستخدام هذه الآليّة تبدو اللغة وكأنما قد ولدت من جديد . ولكن أية ولادة !
2- الشفوية , أو شعر الحياة اليومية كما اصطلح على تسميته , وتعتمد على استخدام العادي والمهمل من العلاقات والأشياء بعد إعادة إنتاج علاقتها بالشاعر , وفي إعادة الإنتاج هذه تتولد لدى القارىء صدمة ما تجعله , إلى هذه الدرجة أو تلك , يعدّل زاوية النظر إلى الحياة وأشيائها .
3- الومضة النثرية التي تقود الأشياء بمنطقها العام ثمّ تضعها فجأة أمام مصائر محكومة
بغير ذلك المنطق , بل بمنطق شديد الخصوصيّة , أو بشكل آخر مفاده النتائج لا ترتبط بالمقدّمات .
4- الألعاب والفذلكات اللفظيّة المفضوحة , والتي سرعان ما تحتضر عند أوّل قراءة جادّة .

أظنّها الآليات والأشكال الرئيسية , وليس الحصرية , الأكثر انتشاراً واستخداماً في إنتاج النص الشعري الذي نحن بصدده . والذي بات يؤكّد أن التلقائيّة قد ضمرت أمام الشغل والقصديّة في التدوين . وبما أن الإنتاج بات محكوماً بعدد شبه محدود من الآليات فقد بات التشابه والتماثل أمران كبيرا الإحتمال في الوقوع .
إن أشكال التشابه متعدّدة , وبالتالي فآليات إنتاجها متعدّدة ومتعذّر حصر مواقعها , لذا فإن هذه الدراسة لا تدّعي الإحاطة والشمول , بل التّعرض لبعض أشكال التشابه ومحاولة إعادتها إلى أسباب تراها , كما أنّها تجتهد , أو تحول الاجتهاد في إضاءة العلاقة بين هذه الأسباب وما وصل إليه نمط شعري محدّد من تخثر وابتذال .
إن أوّل أشكال التشابه التي تعرضها هذه الدراسة هو التشابه الواقع في إطار التجربة ذاتها , حيث يتمّ الإرتكاز على حركة أو صورة أو عدد من المفردات التي تتكررالى درجة أنّها تسم النص , وأحياناً التجربة ككل . إن استمرار الحالة , كما نعاين تجلياتها في النص , لا يمكن أن يحصل إلا حينما يكون إتّصال الكائن بالوجود عبر آلية وحيدة وخيطية , الشيء الذي لايمكن قبوله عندما يكون هذا الكائن هو الإنسان . وعليه يمكن القول أنّ الذي يحصل في حالة كهذه هو نوع من العبوديّة للصورة أو للكلمة , عبوديّة تحيل عناصر التجربة ومختبرها إلى اللغة لا إلى الحياة والعلاقات المركبّة للكائن .
وأقرب تمثيل للحالة التي نحن بصددها يمكن أن يتجسّد في تجربة الشاعر العراقي
( كريم عبد ) ولمزيد من الدّقة في مجموعتيه ( أطروحة الندى - دار النديم | الوعي- 1987 ) و( هدهد الشتاء والصيف – دار الكنوز الأدبية – 1994 ) .
في المجموعة الأولى نجد طغياناً ل ( الأزرار المفكوكة ) و (القميص المفتوح) لدرجة يمكننا معها أن نستبدل العنوان ب( أطروحة الأزرار المفكوكة ) أو ( أطروحة القميص المفتوح ) ذلك أن العبارتين السابقتين تردان بتحويرات بسيطة لاتغيّر في المدلول شيئاً ثمان مرّات :
أحبّك , أقصد أعبد قميصك – الياسمين يخفق تحت قميصها – دعي الفستق لي وأزرار القميص – هكذا أفتح أزرار قميصك – ذكرياتك أزرار قميصك – قطرة ندى على قميصك المفتوح – شكراً لقميصك – المحطّات غواية وقميصك ......
إن استعراض التكرارات السابقة بهدف اختبار الإبداع في إعادة إنتاج الدلالة يقودنا إلى أنّ مفردة ( قميص ) أو ( أزرار ) لم توفّر لنفسها قانوناً خاصّاً يتناسب مع اختلاف الموقع أو العلاقات , ولم تستطع تحقيق المطابقة واللا مطابقة في آن واحد بين الدليل والشيء كشرط من شروط تحقّق الشعرية . كما أنّه حتى في التعابير التي تمّ فيها تلاعب بالكلمة ونقلها من المحسوس إلى اللامحسوس لم نجد أنها قد خدمت سوى غرضاً واحداً ومحدّدا من تظاهرات الرغبة الجنسيّة .
وعند سويّة الابتكار التي يمكن أن تتوضع فيها التعابير السابقة نذكّر القارىء بما قاله أنسي الحاج في مجموعته ( ماذا صنعت بالذهب , ماذا صنعت بالوردة – دار النهار – 1970 ) : ما مضت علينا توطئة وها ينتهي الوقت | ما فتحت لك قميصاً .
وبما قاله فايز خضور : ألمح جثّة أرض تفكفك أزرار قمصانها عروة عروة .
وتستمرّ الآليات السابقة في ( هدهد الشتاء والصيف ) حيث تتكرر كلمات بعينها مرات و مرات : قطرة ندى 19 مرّه – الضحى 11 – رمّان 10 – خرزة 5 . بالإضافة إلى كلمات تتكرر أكثر من مرّة : رياحين – عصافير – صفصاف – لعثمة – جرّة – خوخ ... الخ .
إن بحثنا لا يهدف إلى تناول الأسباب غير القصدية لتكرار كلمة ما , فعلم النفس أجدر بذلك , إنّما الذي يهمّنا هو القصدية التي نشعرها كقرّاء جرّاء هذا التكرار , والتي تدفع إلى السؤال عن مدى الإغناء والإثراء اللذين يقدمهما التكرار للشعر والشعرية .
من الأشكال الأخرى للتكرار نطالعه عند الشاعر اللبناني ( وديع سعادة ) في مجموعته الشعرية ( بسبب غيمة على الأرجح ) ونلحظ أن الدافع إلى التكرار هو ذات الدافع السابق , ونقصد الإعجاب الصنمي بالمنجز ( ماركة مسجّله ) وتكراره لا إعادة إنتاجه :
( فمه مفتوح قليلاً | كأنّه يريد أن يغني – ص13 ) تصبح في مكان آخر ( رفع يده | كأنّه يريد أن يقول كلمة –ص30 ) ودون كبير عناء نلحظ الآلية ذاتها في صياغة الفعل , وبالتالي الومضة الشعرية . غير أننا نصاب بخيبة أمل كبيرة عند قراءة المقطع الثاني بعد أن نكون قد قرأنا المقطع الأوّل , ونتساءل هل في التكرار سوى تأبيد احتفالي بالآليات ؟
وفي المجال ذاته من التكرار والمشابهة سنتعرّض لنموذج يستحق الوقوف والتأمل , لا بذاته فحسب , بل بما يحيل إليه من ملامح لصنعة درجت في النص الشعري , وباتت تسم الغالبية العظمى من النصوص التي تظهر هنا وهناك , نقصد المهارة على حساب الإبداع وحرارة التجربة :
( يا فلفل الكلام | يا بيتا بين عشبتين | يا بستاناً | لا تلتفت إليه | الفصول )
المقطع السابق للشاعر ( صالح دياب ) نشر بصيغته هذه في مجلّة ( ألف ) عدد 11- 12 عام 1992 وورد المقطع التالي للشاعر ذاته ( يا فانيليا الكلام | يا بيتاً بين عشبتين | يا وقتاً | لا تقف عنده الساعات ) في العدد 19 – 20 عام 1993وفي المجلّة السابقة .
إن السؤال عن جدوى إعادة إنتاج الحركة ( الصورة ) وهل تعدت إعادة الإنتاج تلك مستوى الإبدال اللفظي , هو ما يمكن طرحه , خاصّة أنّ الأمر لا يتعلق بمسوّدات تخص الشاعر.
من ناحية ثانية , ألا يقدّم تكرار كهذا فهماً استعراضياً وسطحيّاً للتجربة الشعريّة , بمعزل عن القيمة الفنيّة للمقطع أو حتى للنص بكامله , ويؤكد زيفها بتأكيده على الفصل , عبر الممارسة , بينها وبين التدوين , وصولاً إلى نصّ تفتقر فيه الكلمة لخصوصيّة الموقع , والصورة إلى احتمالاتها الدلاليّة ؟
وكي لا يكون الأمر مجرّد هفوة أو زلّة قلم , حاولت الدراسة تصيّدها لتخدم غرضها , نعرض تكراراً آخر يمارسه الشاعر ذاته , مما يؤكد حضور الوعي والقصديّة في إعادة الإنتاج :
( حيث رجل | يذوب في مياه الوحشة | ولا يؤلّف دوائر ) – مجلّة الناقد ع 67 – 1994
كان هذا المقطع عند نشر النّص الذي يتضمّنه في مجلّة ( ألف ) ع 11-12 ت 1992 كالتالي :
( الساقط | في بركة الحيرة | لا يؤلّف دوائر )
وتأتي الشاعرة ( هنادي زرقة ) وبعد زمن طويل لتقول في أحد المقاطع , من مجموعتها الشعريّة ( على غفلة من يديك ) الصادرة عام 2001 :
( وقع صوتي في البئر | لم يؤلّف دوائر . ص42 ) أو لتقول ( قشّرت لقهوته الصباح . ص46 ) وقد قالها ( صالح دياب ) أو غيره , لا أذكر بالضبط : ( أقشّر الهواء لأنفك الصغير ) .

الشكل الثاني من التشابه , الذي سنحاول الاقتراب منه ومعاينته , هو التشابه الحاصل بين شاعرين , أي بين تجربتين . لقد نال هذا النوع من التشابه قسطاً وافراً من الدراسات قديماً وحديثاً . غير أنّ أغلب الدراسات التي تناولت التشابه توقفت عند المنجز
دون البحث في الأسباب التي تدعو إلى التشابه . في محاولتنا التالية سنستعرض بعض الأمثلة ونبحث في الأسباب التي جعلت بعضها يذكّر بالآخر ويحيل إليه :
1- ( لا بدّ من يديك كي تحدّدا | شهواتك القليلة التي تنحدر بغموض . ) المقطع للشاعر اللبناني ( عبده وازن ) من مجموعته ( سبب آخر لليل ) - 1986
2- ( يداك تبوحان بأوقاتك | ترفعينها فقط | كي تنبثق أسرارك الصغيرة ) المقطع للشاعر السوري ( عمر قدّور ) من مجموعته ( إيضاحات الخاسر ) – 1993
للوهلة الأولى يبدو أن أل(يد ) هي العنصر الوحيد للاشتراك والتشابه , وهذا أمر أقلّ من عادي . غير أنّ تحليل المقطعين ودراستهما بتمعّن يجعلنا نرى أنّ تشابهاً كبيراً يكمن في عمق المقطعين. وهذا التشابه يرتكز على إسناد الأفعال . حيث أن اليد تقوم , في كلا المقطعين , بذات الوظيفة حينما تتحرك .
مرّة لتحديد الشهوات القليلة وأخرى لإنبثاق الأسرار الصغيرة .
إن العفويّة المنسوبة إلى حركة اليدين ( الرفع ) في المقطع الثاني لا تخفي التأكيد ولإصرار اللذين يظهران صراحة في المقطع الأول , حيث أن عبارة ( لا بد ) مضمرة في المقطع الثاني ولا تبرح السياق , لأن الأسرار الصغيرة مشروط انبثاقها بارتفاع اليدين . عند هذه النقطة بالضبط نرى التطابق , لا التشابه هو من يحكم العلاقة بين المقطعين السابقين , خصوصاً عندما نشير إلى أن أسرار المرأة التي تنبثق بحركة من اليد , صغيرة كانت أم كبيرة , هي إفصاح بطريقة ما عن الشهوات . ولا بد هنا من الإشارة إلى أمر يخصّ المهارة في استخدام الأدوات , حيث نجد أن المقطع الأول ترك باب الإحتمال مفتوحاً أمام حركة اليد عندما لم يحدّد مسارها , فيما أقفله الثاني بتحديد شكل الحركة | الارتفاع | .
مثال آخر :
( أسهر على ضوء يديك | وحين يداك | فإنما على ضوء جسدك | يداك تختصران جسدي ) – عبده وازن – المصدر السابق –ص 16.
( وأنا المجنون | لي أن أشهق | من كلام يدك | فأصحو حتى آخر الرغبات . )- عمر قدّور – المصدر السابق – ص17 .
نجد في كلا المقطعين إعادة إنتاج لموضوع المقطعين السابقين اللذين صوّرا اليد العالقة التي تلخّص الكائن وأفعاله في لحظات الرغبة . فاليد في المقطع الأول مضيئة , وفي الثاني ناطقة . إنّه الإسناد السابق ذاته للأفعال ويمثّل إعادة إنتاج ظاهريّة وخادعة , ذلك أن شيئاً في العمق لم يتبدّل أو يتغيّر , وبقيت ثنائية ( اليد – الرغبة ) هي السائدة والمسيطرة رغم تبدّل الفعل المسند لليد , وبقي المنطق والدلالات السابقة دون مساس .
مثال آخر أيضاً :
( أنت العالية | قطرة ندى | على قميصك المفتوح قليلاً | عصافير تتناسل على كتفيك . ) – كريم عبد – أطروحة الندى .
( وأنّك ... | بعنقك العاري | وياقتك المائلة قليلا | المشغولة بالعصافير المرسومة على قميصك ) –عمر قدور – إيضاحات الخاسر .
يبدو للوهلة الأولى أن استدعاء كلا المقطعين للآخر هو الاشتراك بكلمتي ( العصافير – القميص ) ولكن تفكيكهما , ومعاينة مكوناتهما , يقودنا إلى أن الاستدعاء ناتج عن معالجة الصورة نفسها وبالأدوات نفسها . المقطع الأول يشير إلى عري العنق بالوساطة , فالقميص المفتوح يبرز بالضرورة عنقاً عارياً , وكلمة ( قليلاً ) تهدف إلى رفع سوية الإثارة – مفترضين أن الموصوف ليس صورة فوتوغرافيّة – وتناسب أيضاً ندرة الندى – قطرة واحدة - . وأما عن تناسل العصافير على الكتفين فنخضع كيفيته إلى احتمالات عدّة :
- كناية عن وداعة المرأة الموصوفة وهدوئها الصنمي , وهذا على ما نظن بعيد عن قصد الشاعر
- القميص الملوّن والشبيه بالحديقة يستدعي العصافير على قاعدة الصورة التي تكاد أن تنطق .
- العصافير مرسومة على القميص , حتى يخيّل للناظر أنّها تتناسل في منطقة الكتفين وتنحدر إلى بقيّة أجزاء القميص .
- إنّ أيّاً من الاحتمالات السابقة غير وارد , والشاعر يتخيّل ويفترض , وكفى الله القرّاء شرّ التأويل .
بالنسبة للمقطع الثاني , نجد الإشارة إلى العري مباشرة , ولأنّه لابدّ من ( قليلا ) فإن الياقة هي التي توصف بها , وأما العصافير التي كانت تتناسل على الكتفين , دون تحديد لماهيّة تلك العصافير , في المقطع الأوّل , تصبح هنا مرسومة على القميص والياقة هي المشغولة بها .

ومن أشكال التشابه , التي يشعرها القارىء دون أن يستطيع تحيد أسبابها , ما يظهره استخدام مبدأ النكتة الحمصيّة في صياغة المقطع الشعري . وهذه الآليّة شائعة الاستخدام عند أغلب شعراء قصيدة النثر العربية .
أخيراً , هل يمكن القول أنّ قصيدة النثر العربيّة قد أنجزت قوالب تصنيعها , ولم يعد يحتاج من يريد أن يصبح شاعرا سوى ( العدّة ) ؟ وهل استقرّت تلك القصيدة في مستوى التأليف سالكة درب غيرها من الخروجات الشعرية السابقة ؟
سؤال لا تعنيه الإجابة بقدر ما يعنيه البحث عنها . وفي غمار البحث نكتشف أنّ هناك تجارب ما زالت تؤكد أن الشعر حالة مختلفة تماماً



#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنوثة المعصية
- الحداثة والأزمنة الحديثة العربية(حكاية وهم وثمن باهظ
- الأب الضّال والفرد المؤسّس للجماعة الحرّه
- السلطة والتحديث


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسر اسكيف - نسق من الجنود الصينيين