أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 13: الجدرانُ الأخرى















المزيد.....

الأمكنة الكمائنُ 13: الجدرانُ الأخرى


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3163 - 2010 / 10 / 23 - 23:36
المحور: الادب والفن
    





أسماؤنا، الغريبَة والمَألوفة سواءً بسواء، كُتبتْ على جدران الحارَة بأصباغ على الاختلاف نفسه.
كم كانَ سنّي، الطفل، عندما فاجأتني صفعة أبن عمّي، القاسيَة، بعدما ضبطتُ وأنا أكتبُ مُبتدأ جملة، مُشنعة، تسمّي ولدَه البكر؛ ثمة، على حائط منزل " حسّو شكر "..؟ وبأيّ عُمْر كانَ شقيقي، الكبير، لمّا خط على حائط منزل " الحلبيّة "، المُتهالك، هذه الجُملة المُقتضبَة: " كس أمّ رضا "..؟ وأخيراً، هلَ كانَ صديقي الأثير، " آدم "، في سنّ الوَعي، عندما ألصقَ ورقة نعي مَسيحيّة، مُوشاة في أعلاها برَسم الصليب، على جدار بيت " الشيخ الدّرع "؟
الجدرانُ تلكً، القائمَة بمَحض الاتفاق في أعلى ووَسط وأسفل الزقاق، ربما عليها كانَ أن تمّحَى من الوجود، علاوَة على شقيقاتها الأخرى، لكي تظلّ راسِخة في الذاكرة. كانَ على جدران منزل " الحاج حسين "، جدّ أجدادي، أن تبقى شاهداً على أطلال الحَضرَة، البرزخيّة، بعدما فقِدَ حضورُ مُعظم مُريديها: إنه لمَقدورٌ، ولا غرو، أن يَظلّ المنزلُ مَحفوظاً في أقاليم الله الفلكيّة بما يُشبه الإبدال؛ هوَ من كانَ أصلَ الحارَة وأساسَها، المَكين.
جدرانٌ أخرى، كانت تفصلنا أيضاً عن الزقاقيْن، المُجاورَيْن؛ " الكيكيّة " و" الآلرشيّة ". في هذا الأخير، كانَ ثمّة منزل جدّي لأمي، المُنيف، والمَفصول عنا بجدران منزل قريبنا، " قربينة "، الرّث. كلاهما، أضحى ذكرى حَسْب، بعدما نهضَ بمَكانه بناءٌ حديث من عدّة أدوار. أما الزقاق الأول، " الكيكيّة " ، فكانت جدرانه المُحاذيَة لمنزل جيراننا من آل " كرّيْ عَيْشة "، بمَثابة المَدَد لحقيقة حكايات حبّنا، المُراهقة. علاوة على كون جدران ذلك الزقاق، الأخرى، مَرتع المُشاحنات، الدّموية، بينَ العتاة من آلنا وآل " عنتر ". خالُ هؤلاء الأخيرين، " عدنان بُوْبو "، كانَ قد شيّع في جنازةٍ حاشدَة، يَتخللها التهليلُ والاطلاقات الناريّة، الكثيفة. قتله بائعٌ جَوال، عجوز، هناك على مَدخل الزقاق المُجاور وفي نفس الفترة تقريباً؛ التي رأيتني فيها عاملاً في خدمَة المكتب الهندسيّ، الكائن في قلب دمشق.

الخالُ الراحلُ لجيراننا أولئك، اللدودين، كانَ اسمُهُ على شهرَة داويَة في الحيّ.
هذه الشهرَة، تعززتْ إثرَ قيام الرّجل، مع صديقه " البيزكيْ "، بنبش قبر أحد المُقيمين، الدروز، ثمّة في تربَة " مولانا النقشبندي ". هؤلاء، كانوا عادة ً يَدفنون أمواتهم في مَوطنهم النائي؛ هناك، عند أطراف " جبل الشيخ ". إلا أنّ سوءَ فأل ذلك المُقيم، المَرحوم، ربما هوَ من كانَ وراء فكرة أهله؛ بأن يُدفنَ في تربَة الحَيّ، المُشرفة من أحد جوانبها على ما صارَ يُعرف بـ " حارَة الدروز ". وإذاً، حُملَ الجثمان وبالتناوب من لدُن الرّجليْن، الأخرَقيْن، وصولاً إلى منزل أهله القائم في تلك الحارَة، البائسَة، ثمّ ما لبَثَ أن تركَ ثمّة أمامَ عتبَة الباب.
ذكرى أبن " بوبو "، كانَ لها وَقعٌ لديّ، مُحالٌ لحكايَة أخرى، أحدَث عهداً بطبيعة الحال.
" آدم " صديقنا، كانَ مُتأثلاً طبعاً عابثا، مُستهتراً. كنت في صُحبَته، ذات ليلة مُتأخرة، قادمَيْن مَشياً من جهة مركز المَدينة. عند تناهي خطونا إلى مُنتصف شارع " الميسات "، الحديث، فإنه ما عتمَ أن أشارَ إلى جهة بناء مدرسَة للإناث، قيد الإنشاء، قائلاً بخفة: " أتسمَعْ..؟ إنها أصواتُ نباح كلاب الحراسَة ". برهة أخرى، على الأثر، وكنا مَعاً نركض بأقصى ما في عروقنا من عزم، فيما الكلابُ تلك تلاحقنا بعدما أثيرَتْ بحجارة العبث والاستهتار. ناجياً بنفسي، رأيتني من ثمّ في الدور الرابع من أحد الأبنيَة، القائمَة في طلعة مَوقف " المَفرق ". في يوم آخر، كنتُ مع صديقي في بناء آخر من الجادّة تلك، المُعتبرَة. خالة " آدم "، المُقترنة برجل فلسطينيّ الأصل، كانَت تقيمُ مع أولادها في أحد الأدوار العليا. فما أن غادرنا شقتهم بعيدَ مُنتصف الليل، حتى هُرع الصديقُ، العابثُ، إلى النزول بسرعة خلل الدّرج. مُستغرباً من حرَكته، غير المَفهومَة، تبعته بدَوري وعلى مَهل. هناك، في الدور الثاني، فهمتُ الأمرَ عندما فتِحَ البابُ الخارجيّ لشقة ما: " نعم، ماذا تبغي في هذه الساعة، المُتأخرَة..؟ "، سألني رجلٌ مُتوسّط العُمْر بنبرَة وَعيد وحنق.
إذ أفلتنا من المأزق ذاك، بيْدَ أنّ أخيه، المُعَقِب لاحقا، كادَ أن يَرمينا في أتون مَهلكة، وَخيمة. ذلكَ جدّ في أحد أيام الصيف، عندما كنا عائدَيْن من سهرَة لدى قريب " آدم "، المُقيم في مَنزل عائلته على الحدّ الفاصل بين زقاقيْ" التلّ " و" الكيكيّة ". باتجاه هذا الأخير، كانت أقدامنا تقتربُ هوناً من ناحيَة الأعالي. فما أن انعطفنا خلل الناصيَة المؤديَة إلى " خرابَة بوبو "، حتى لفتَ أنظارنا وَميضُ الضوء المُنبعث من عليّة عَتيّ ذلك الزقاق. عبَقُ العرَق، الحَرّيف، كانَ دليلاً إلى سَهرة المَجون، الحافلة، المُشتعلة ثمّة. على غرّة، وإذ حاذى " آدم " بابَ المنزل، المُحتفل، فإنه طرَقه بقوّة واندفعَ هارباً.

" مَن..؟ "، مُفرَدة ٌ واحدَة، حَسْب، مَشفوعة بإطلالة رأس صاحبها، المُرعب.
عبرَ حافة سطح منزله، إذاً، أطلّ الرّجلُ ليَنطق مفردة السؤال تلك؛ ومن كانَ عليها أن ترميني بأثر صديقي الأخرَق، الهارب من المَكان. في اللحظة التاليَة، وكنتُ أهمّ بالفرار، سَمِعتُ وَقعَ قدَمَيّ الجبّار على الدَرَج المُفضي من العليّة إلى الباب الخارجيّ. فلولُ الفارّيْن، كانت قد مَرّتْ مُرَوّعة ً خلال أعالي الزقاقيْن المُتجاورَيْن، الغافيَيْن، مُنحدرة ً من ثمّ إلى جهة بوابَة النجاة، المُشرَعة دوماً. جُرْمُ الرّجل الجَسيم، الثقيل، كانَ ولا غرو أعجزَ من أن يُباري بالركض جسْمَيْنا الفتيَيْن، الرّشيقيْن. ثمّة، على مَدخل مَنزل صديقي، تسنى لكلّ منا سانحَة إلقاء نظرَة نحوَ صَدْر الزقاق: شبحُ " عدنان بوبو "، كان إذاك يَترنحُ في العتمَة، مُجَسّماً ـ كشبَح مَلاك المَوت؛ الملاك نفسه، الذي سبقَ ورافق خطاهُ في الليلة الدرزيّة، ثمّ جَندله فيما بعد بمُسدس ٍ عجوز.
بالمُقابل، فإنّ أخي الكبير كانَ أكثر هدوءاً وثقة بالنفس؛ وهوَ يَذرعُ في فتوّته الدّرب الضيّقة، المُؤديَة إلى مَنازل آل " بوبو ". عندئذٍ، لم يكن يَسعى إلى تحدّ ما، مَرهون بدَم ابن خالتنا " فيروزا "، المُطالب بالثأر. ولكنّ دماً آخر، نسَوياً، هوَ من كانَ قد هُدرَ على نطع الشرف، الرّفيع. ثمّة، في صَدْر المَكان، كانَ يَركنُ بيتُ الإيجار؛ أين تقيمُ أسرَة صحفيّ، مَغمور ومَعروف في آن. كانَ يَعمَلُ مُحرّراً في مجلة لرجال الأعمال، يُقال أنها لسان حال الإمبراطوريّة المؤسّسَة حديثا من لدُن شقيق الرئيس، الأصغر، والمُتناميَة حثيثا. مَقرّ المجلة كانَ في قبرص، فيما إدارتها في الشام. إلا أنّ شهرَة الصحفي، في الحارَة على الأقل، إنما أتتْ لكون كوكبَة بناته ذوات فتنة، طاغيَة، يَغلب عليها لونُ شعره، الأحمَر.
امرأة الصحفي، الفلسطينيّة المَنبت، كانت صديقة حميمَة لإحدى بنات العمومَة. جدارٌ واحدٌ فقط، يَفصلُ بينَ بيتيْهما. قريبتنا الشابّة، السّمراء ذات الجاذبيّة، هيَ ذاتها المَشنوعة السيرَة في الحارَة، بوَصفها عشيقة زوج خالة " آدم "؛ الفلسطينيّ ـ الكرديّ الأصل. لقد لاحظتْ هيَ، وليسَ بدون قلق، تكرار مرور " جينكو " من قدّام باب بيتها. ذلاقة لسانها وكرَمُها، ما استطاعا أن يكونا سبيلاً لكسب ودّ ابن العمّ، المُستطير الصّيت: وكانت مُحقة في قلقها؛ طالما أنّ العمّ، الحاج، كانَ قد سلّم أبن أخيه مسدسا: " أقتلها فوراً، ما أن تضبطها مع عشيقها، المُفترَض "، شدّد عليه العمّ ـ كما خبرّت امرأته والدَتنا.

" سَلمَى "، ابنة الجارة الصّديقة، كانت إذاً واقفة بالقرب من ابنة عمّه، حينما مرّ أخونا ذات يوم.
ربما كانَ قد صَدَف، قبلاً، هذا الحُسْن النادر، أثناء مرّات مروره بالدّرب. بيْدَ أنّ الفتاة الحَسناء، ابنة الصحفي ذاك والوارثة عنه شعرها، الأرجوانيّ اللون، رَمَقته هذه المرّة بنظرَة مَليّة، مُتولّهة. من جهتي، اتفقَ لي يوماً أن رأيتُ الفتاة برفقة " جينكو "؛ ثمّة، في بستان العمّ. منزلٌ مُتواضع، ريفيّ المَظهر، من حجرَتيْن ولواحقهما، كانَ يَتبَع مُلكيّة البستان. وما أثارَ دَهشتي يومئذٍ، أنّ بعضَ أصدقاء أخي كانوا أيضاً بالمَعيّة. بضعة أعوام، عليها كانت أن تمضي، لكي ألتقي ثانيَة ً بابنة الصحفيّ، الفاتنة. إذاك، كانت برفقة شابّ عابس، قصير القامَة وشديد السمرة، يَحملُ بين يَديَه ما بدا أنه طفلهما الرّضيع. شقيق الصحفي، المُقيم في الجادّة التحتانيّة بالقرب من مَوقف " المقاوَمة "، كانت له علاقة عائليّة بأسرَة شقيق الرئيس ذاك. كانَ أولادهما، الصّغار، يَلعَبونَ معاً ثمّة، وربما في ذات الفترَة؛ التي كانَ فيها " جينكو " يَلعَبُ مع " سَلمَى "، الحَسناء.
إنّ " أبن فيروزا "، الذائع الصّيت في عالم الشبهة الأسفل، الدّمشقيّ، كانَ هوَ من عرّف " جينكو "، ابن خالته، على ملاهي المدينة. أبن الخالة، كانَ في ذلك الزمن يَقبض أتاوَة " حمايَة " بعض تلك الأماكن، المَنذورَة لمتع الجنس والخمر والمخدرات والقمار. مَلهى " الأوبرج "، كانَ في نفس امتداد المَباني، المُتربّع في إحداها مَكتبنا، الهندسيّ: هناك، على مَدخله الأرضيّ، جدّ فيما مَضى حادثُ ليليّ، عابرٌ، من تلك الحوادث المألوفة في هكذا أمكنة. إلا أنّ حقيقة تخليص أخي الكبير للرّجل العتيّ، " عدنان بوبو "، من أيدي سُكارى غاضبين كانوا يَضربونه بعنف؛ هذه الحقيقة، ما عَتمَ أن سَمِعَ بها كثيرون، مما ضافرَ من سُمْعَته ـ كعكَيد الحارَة، الحامي.
المَكتبُ الهندَسيّ، المُحتفي بُمراهقتي، كانَ يَقعُ في مَكان فريد. مَلاهي المَدينة، الأكثر شهرَة آنذاك، كانت من القرب؛ أنني كنتُ بدَوري أمرّ على مقرُبَة منها، مُنصتاً بشغف لموسيقاها الصادحة. أحياناً، كانَ يَتفق لبَصَري مُعايَنة الراقصة الشرقيّة، شبه العاريَة، حينما تظهرُ بلمحَة خلل نوافذ الدور العلويّ للملهى ذاك ( نسيتُ اسمه )، الكائن فوق مطعم " علي بابا "، الفخم.

ملهى " الشباب "، سيُضحي مَحجّا ليلياً لمُريد المُتعة، المُراهق، غبّ فراغه من الشغل.
كانَ يَقومُ في مُلحق الدور الأخير، من المَبنى نفسه؛ أينَ مكتبنا، الذي يَشغلُ جانباً من دوره الثاني. صباحاً، مع حضوري للعمل، مُرتقياً الدّرجَ العريض، فإنني كنتُ أشعر بالغثيان لمَرأى يقع البراز والقيء، المُتخلفة عن مُريدي المَلهى. الأسوأ، هوَ استعمالُ أولئك المُريدين وأضرابهم للمرحاض الكبير، العموميّ، الكائن إزاء الباب الخارجي لمَكتبنا. بيْدَ أنه، ولحسن الحظ، وافقَ شروعي بالعمل هناك ما كانَ من شكاوى تلكَ المكاتب، المُتضررة من الرائحَة الكريهة، المُنبعثة على مَدار الساعة من ذلك المَكان. شهرٌ، على الأثر، وسُدّ بابُ المرحاض بكتلة إسمنتيّة، صَمّاء. أمّا الملهى ذاك، فعليَ كانَ أن أرتاده بنفسي في يوم لاحق مُكتشفا مَغامضه.
" أصعدْ لفوق، واشتر لنا زجاجة نبيذ.. "، قالَ لي قريبنا " قربينة " ببساطة. قبل حين، كنتُ في المَكتب بانتظاره مع القريب الآخر، " حسّون "، لكي نتوجّه معاً لحضور إحدى المَسرحيات في صالة " الحمراء ". المكتبُ، كانَ قد خلى منذ برهة، بمُغادرَة المُهندس وشركائه وزبائنه. لدى خروجه، ألقى مُعلّمي نظرَة امتعاض، وربما ازدراء أيضاً، على هيئة " قربينة "، الغريبة والطريفة. إلا أنني، على أيّ حال، أخذتُ بنصيحة الضيف وتوجّهتُ إلى مَنبع نهر الخمر، المُعين. تناهيتُ إلى الدور العلويّ، المُزيّن باللوحات والأضواء والضاج بالموسيقى. ثمّة اعترض سيري شخصٌ أنيق الشارب، مُكتس ببذلة سوداء، كانَ مُتسمّراً أمامَ المَدخل. غيرَ أني وَلجتُ من ثمّ خلل الباب، طالما أنّ هذا الحارسَ رَشق حضوري بابتسامَة لطيفة.
" أيّ خدمَة، يا حلو..؟ "، خاطبتني في ردهة الملهى امرأة جالسَة خلف منضدة عريضة، عليها جهاز مُحاسبَة، ومُحاطة برجال خشني المَظهر. كانت من يبدو أنها، " المُعلّم "، امرأة جميلة في حدود الأربعين من العمر؛ ذات بدَن ناصع ، مُكتنز، يَطلّ عُري أطرافه بجسارَة خلل الفستان الحريريّ، الصارخ اللون. عندئذٍ فارقتُ تردّدي وارتباكي، مُفصحاً عن المُراد. وإذا بالمرأة، على دهشتي، تطلقُ ضحكة رنانة: " ولكن، يا حَبيبي، هذا مَلهى وليسَ محلّ بيع خمور "، قالتْ لي بنبرَة مَرحة. ثمّ ما لبثتْ أن أردَفت بنبرَة أخرى، جدّية، مُشفقة على ما يبدو على احمرار سحنتي " زجاجة النبيذ، تكلفكَ هنا كثيراً. أمّا إذا صمّمتَ على تشريفنا، فأهلاً وسهلاً بكَ ".

نهاراً، كانَ على حضور آخر، أنثويّ، أن يَشغلَ فكر الفتى المُراهق، الشّغيل.
" جانيت "، كانت فتاة في العشرين من عُمْرها، تعملُ سكرتيرة في مكتب التعهّدات، المُحاذي مُباشرَة ً لمَكتبنا. في المرّات الأولى، كنتُ ألقي سلاماً عابراً على هذه الفتاة المُتحفظة، ذات النظارات الطبيّة والشعر المَلموم بكتلة واحدَة. عند ظهيرة أحد الأيام، كنتُ وَحيداً مُتهيئاً للخروج في مُبتدأ ساعَتيْ الراحة. وإذا بأحدهم يَطرق باب المكتب، الخارجيّ. نظري المُشرئب إلى تلك الناحيَة، أشكِلَ عليه صفة الفتاة الواقفة هناك. ولكنه صوتُ " جانيت "، المُميّز، من جعلني أهرع إلى صاحبته مُرحّباً.
" لو سَمَحتَ، عيني. لدينا ضيفٌ والسكّر فقِدَ عندنا، فجأة.. "، قالتها بلهجَة جَذلة مومئة نحوي بعينيْن خضراوَيْن، مُجرّدَتيْن من عدستيْهما. ليسَ مَوضوع العيون حَسْب، من جَعلَ هيئة الفتاة جديدة عليّ؛ بل وأيضاً تسريحَة شعرها، الكستنائيّ، المُتيحة له التهدّل على كتفيْها في خصلاتٍ مُنمّقة ومُتموّجَة. في ظهيرَة اليوم التالي، ردّتْ لي الفتاة المَعروفَ وعلى طريقتها: " مُمكن، عيني، أن تشتري لنا نصف كيلو من الحلاوة النابلسيّة؟ "، توجّهَتْ نحوي هذه المرّة بصَدر ناهض، مكشوف حتى حفرَة الثديَيْن، الخمريَيْن. جَمْعُها الضمير المُتصل بالفعل، في جملتها، حمَلني على الاعتقاد بأنها تقصدُ مُعلّمها. ولكن، كم كنتُ مُحرَجاً، لدى إيابي من مَحلّ الحلويات، حينما دَعَتني الجَميلة إلى مَكتبها للمُشاركة في تناول " النابلسيّة "، اللذيذة.
ثمّة، عند مَوقف الحافلات العموميّة، المُتجهة إلى " ركن الدين "، فوجئتُ يوماً بوجود " جانيت ". خجلي، التقليديّ، جعلني مُتعام عن وجود الفتاة الجميلة. وكنتُ مُشيحاً بوَجهي إلى الناحيَة الأخرى، عندما شعرتُ بيَدٍ تلكز كتفي برفق: " هه، إلى البيت..؟ "، سألتني مُتبسّمة. هززتُ رأسي إيجاباً، ثمّ ما عتمتُ أن قلتُ لها مُلاحظاً: " حافلات القصاع، على ما أعتقدُ ، لا تتوَقف هنا.. "
" نعم، أعرفُ ذلك. ولكنني ذاهبَة إلى جَبل الأكراد "، أجابتني الجميلة. هكذا يُسمّى حيّنا، أحياناً، من لدُن أهالي الأحياء الشاميّة الأخرى، العَريقة. إلا أنني، بصفة تحفظي المَعلومَة، لم أعلّق بشيء. في الحافلة، جلسنا في نفس المَقعد. ويا لها من مُصادفة، غير سارّة بحال، أن يكونَ جابي التذاكر هوَ قريبي " قربينة "، ما غيره. لاحظ القريبُ، بطبيعة الحال، أنّ الجالسة في المقعد على صلة فيّ، طالما أنني مَدَدّتُ له يَدي بثمن التذاكر. فأنا، عادة ً، لا أدفعُ شيئاً عندما يتفقُ أن ألتقي معه في الحافلة.

" أهوَ قريبكَ، ذلكَ الرّجل..؟ "
سألتني الفتاة إثر ابتعاد الجابي، المُمتنع عن مدّ يَده لنا. جاز لها هذا السؤال، طالما أنّ " قربينة " كانَ في مَظهر يَجعله أكبر من سنه بكثير. ولكنّ حرَجَ جوابي، ما أسرَعَ أن أضحى مَنسياً مع أسئلة الجميلة، المُتتاليّة، المُعبّرَة عن اهتمامها بمَعرفة شخصي. سورَة الدّهشة، عليها كانَ تتنزلَ كاملة ً عليّ، عندما همَمتُ بالنزول. إذ رأيتُ " جانيت " تتطلعُ إلى لوحة المَوقف، لتقول بتشكك: " أهوَ موقف الكيكيّة، هذا؟ ". ما أن ترجلنا معاً، حتى عرفتُ أنها تتجه إلى مَشغل خياطة الزقاق، " أمّ راضي ".
كثيرات من زبائن خياطتنا، كنّ من أحياء المدينة الأخرى. مُعظمهنّ، كنّ عرائس ساعيات مع قريباتهنّ لتفصيل أثواب الفرح. بيْدَ أنني، في غمرَة حالتي البائسَة، سلوتُ تماماً هذه الحقيقة. إنّ رثاثة منظر جدران الزقاق، وخصوصاً جدران منازل الأعمام المُحدقة بباب منزلنا، جعلَ حرَجي أمراً لا مَناص منه. كنتُ آنذاك مُتحمّساً للفكر البروليتاري، مُنتظماً بأحد فصائله، المَعروفة. إلا أنّ ذلك، في آخر الأمر، ما كانَ يَمنعني من الشعور بالدونيّة إزاء فقر حال أسرتنا وحارَتنا سواءً بسواء.
" هناك فيلم رائع، مَعروض في سينما الكندي.. "، قالت لي " جانيت " في يوم تال وعلى حدّ ساعة القيلولة. ثمّ أضافتْ مُحدّقة بعينيّ " إذا أردتَ، أحجز لي تذكرَة معكَ.. ". عندما رفضتّ مدّ يَدي لاستلام النقود، فإنها لاحظت تردّدي: لم أكن أملكُ، في الواقع، ثمنَ تذكرتيْن. إنّ مُعلّمي، الشيوعيّ، كانَ يَستغلُ العاملَ، الوَحيد، الذي في خدمته. إذ كنتُ أتقاضى مائة ليرة لا غير، شهرياً. قريبي وصديقي، " حسّون "، كانَ يَحصل من عمله لدى الرأسماليين، المُستغلّين، على أكثر من عشرة أضعاف راتبي. كانَ يَعملُ في شركة للأسقف المُستعارَة، المَملوكة من قبل شركة ألمانيّة، غربيّة.
" أنتَ تدعوني باستمرار إلى الشاي، في مكتبكم.. وعليكَ الآنَ أن تقبل دَعوَتي "، قالتها وهيَ تعيد ثمنَ التذاكر إليّ. كانَ اليومُ خميسَ، ولم يكن حضوري إلى المكتب ضرورياً عند المساء. على ذلك، رأيتني أتسكّعُ مع " جانيت " في حديقة " السبكي " وجوانبها، لحين حلول الساعة الثالثة ظهراً. أمام سينما " الكِنديْ، تطلّع فيّ بنظرَة، مُتمعّنة، الرّجلُ الواقف بالباب. كانَ مُعتاداً على حضوري إلى الصالة، الأثيرَة؛ على حضوري، المُتوحّد، أو بصُحبَة مُذكّرة. جَلستُ إلى جانب الجميلة، في مَكان مُناسبٍ بإزاء عمود الحائط، الضخم.
الفيلم الفرنسيّ، كانَ عنوانه " المُنقذ "؛ عن فترَة المقاومَة ضد الاحتلال النازيّ. مَشهدٌ ايروتيكيّ، تظهرُ فيه البطلة، المُراهقة، على عري تام، مُدبرَة بظهرها للمُشاهِد؛ مشهدٌ مثيرٌ، جعلني بعد عام أكررُ حضور الفيلم، مُستعيداً ذكرى جليستي القديمَة، الجميلة. إذاك، كانت هيَ قد سبقتني لترك العمل في ذلك البناء، المُشرف على ملاهي المُتع، المُحرّمة: ثوبُ زفافها، إذاً، كانت تفاصيله قد اكتملتْ لدى خياطة الزقاق. علمتُ بخبر زواج " جانيت "، في حينه، وعن طريق الفتى الشغيل؛ الذي كانَ يَعملُ في مكتب التعهدات، المُجاور لمكتبنا.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمكنة الكمائنُ 12: السّفح المُتسكع
- الأمكنة الكمائنُ 11: المَخطر المَشبوه
- الأمكنة الكمائنُ 10: الجوار المُتأجّج
- الأمكنة الكمائنُ 9: المَحفل المُزدوَج
- الأمكنة الكمائنُ 8: أسطحُ الأصحاب
- الأمكنة الكمائنُ 7: خرائبُ الرّغبة
- الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة
- الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع
- الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
- الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
- الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
- الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
- الأوانس والجَواري 5
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4
- المُتسكعون والمَجانين 3
- المُتسكعون والمَجانين 2


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 13: الجدرانُ الأخرى