جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3162 - 2010 / 10 / 22 - 19:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن من الخطأ حقا أن نسقط مفاهيم مرحلة على أخرى مختلفة تماما من حيث المعطيات, فالمرحلة الحالية وخاصة على صعيد العراق ومنطقته العربية والإقليمية هي مرحلة انتعاش وانتشار للأفكار الإسلاموسياسية. أما في العراق, الذي هو موضوع حديثنا هذا, فإن هذا الفكر انتقل إلى مستوى تصدر نظام الحكم والسلطة, وجعلته أخطاء وجرائم النظام السابق يظهر كبديل معقول لحكم بدى أن بإمكان أي نظام أن يتحول إلى بديل معقول له. وبهذا فإن النجاح المؤقت لهذا البديل لم يكن بالضرورة قد تأسس على عوامل قوته الذاتية وإنما على الفشل الذريع للنظام الذي سبقه.
وفي كل الأحوال فإن تصنيف ( النظام ) الحالي كونه نظاما طائفيا لا يأتي من باب التجني على أيديولوجية وسلوكية قواه المؤثرة, وإنما يأتي وصفا لحالة شاخصة ولواقع عيني لا نية حتى للنظام نفسه للتراجع أو التخلي عنه أو نكرانه, لأنه من وجهة نظرها لا يشكل عيبا أو مثلبة وإنما يأتي كحل تاريخي ضروري ومناسب لإشكالات الحالة العراقية.
إن الأحزاب الإسلامية على الجهتين هي أحزاب طوائف إن لم تكن أحزابا طائفية بالأساس. وليس من السهل على هذه الأحزاب أن تنفلت من أيديولوجيات التأسيس, لا بل أن طبيعة تقاسم السلطة وتوزيعها هو عامل حاسم بإتجاه مضاعفة سبل الإبقاء على الأيديولوجيات والأفكار الطائفية, وإن من حظ العراق السيء مع ديمقراطيته أن تكون هي ذاتها طريقا لتغذية الطائفية لا لتجاوزها, لذلك تبدو هذه الأحزاب بحاجة ماسة إلى شرعنة وجودها الطائفي وإمداد هذا الوجود بكل ما من شأنه أن يجعل منه بديلا مطلوبا لجميع الأنظمة العراقية السابقة وحلا مناسبا لإشكاليات الحالة العراقية الوطنية أو القومية المتراكمة.
وعلى أساس شحن المرحلة الطائفية الحالية بكل ما يجعلها بديلا معقولا للنظم السابقة فإن العودة إلى كتابة التاريخ السياسي والفكري لتاريخ العراق المعاصر, ومنذ تأسيس دولته الحديثة, سوف لن تكون بمنأى عن الرغبات والأهداف والتوظيفات الطائفية البحتة.
وبالإضافة إلى أدلجة التاريخ التي تجعله محكوما برؤى ورغبات أحادية التفكير والنزعات وتنزع عنه حيويته التفاعلية والمتمثلة في الأفكار والقوى التي تتجادل وتتصارع وتتقاتل على توجيهه وكتابته فإن مصلحة الدفاع عن أحقية البديل السلطوى الطائفي تجعل قواه تهرول دائما للبحث عن كل ما يمكن توظيفه طائفيا, من أحداث وصراعات سابقة, وذلك للتأكيد على مشروعية وجودها السياسي والعقائدي كرد فعل طائفي بديل, متناسية أن رد الفعل هو حالة مؤقتة تنتهي بانتهاء الأفعال التي أوجدته, وإن ما من تغيير مقدر له أن يستمر تاريخيا كبديل إيجابي إن لم تطغى صفات الفعل فيه على صفات رد الفعل.
بهذا الاتجاه الذاتي المصلحي السلطوي المؤدلج يجري التنقيب التاريخي في المراحل والعهود العراقية السابقة, ولن يكون غريبا إذا ما تم تعرية المشهد العراقي التاريخي من جميع ملابسه لغرض هندمته كاملا بلباس وقيافة أخرى من شأنها أن تتناسب ومقتضيات الدفاع عن مرحلة الإسلام الطائفي السياسي كبديل مهندم وأنيق.
لكن أخطاء كثيرة وكبيرة سيقع فيها الإسلام السياسي, التعروي والتجريدي والتبسيطي, حينما يضغط على التاريخ العراقي لكي يتحدث بلغة طائفية دون كل اللغات الأخرى. وستكون من أكثر هذه الأخطاء خطورة هي محاولة تصنيف النظام الملكي كنظام ( طائفي سني ) وذلك اعتمادا على قياسات ومقاييس هذه المرحلة وبشكل ميكانيكي رتيب هدفه تزكية طائفية النظام الحالي وشرعنته.
بداية تسلك هذه العودة طريقها الخاطئة من خلال تجاوز حقيقة إن العهد الملكي ومنذ تأسيسه وحتى إنهياره كان عهدا لدولة مدنية علمانية تبتعد كثيرا عن أحكام وشرائع وفقه الدولة الدينية, كما أن مؤسسي هذه الدولة لم يكن لهم علاقة بالدين والتدين بالشكل الذي يؤثر على طبيعة حكمهم وأحكامهم بشكل جوهري. ومع أن ذلك كله لن يصلح لنكران وجود التفكير والميول الشخصية وحتى الجمعية الطائفية لدى هذا الشخص أو تلك الجماعة فإن من الخطأ وحتى العيب القول أن تلك الميول هي التي كانت تتحكم بالمشهد السياسي العراقي الذي كانت تتجاذبه معطيات مرحلة لا علاقة لها مطلقا بالإسلام السياسي بشكله الحالي. كما أن من الحق القول, رغم الاعتراف بوجود تلك الميول وتأثيراتها بالمستويات المختلفة, أن الدولة المدنية العراقية العلمانية آنذاك كانت تركت للتطور الحضاري أن يأخذ مجراه بالاتجاه الذي يقزم تلك الميول ويحد من تأثيراتها بشكل معقول ومتوازن.
إن الاستشهاد بالجداول الرقمية التي كانت تحدد حجوم المشاركات الرسمية لهذه الطائفة أو تلك على مستوى البرلمان أو الوزارات أو بقية المؤسسات القيادية لن تكون محاولة موفقة لكتابة التاريخ, لأن التاريخ لا يقرأ أو يكتب بشكل رقمي ولا يقاس بالمساطر والفراجيل الحسابية, ولغة الأرقام قد تكون خادعة ما لم تقرأ كنتيجة لأسباب مركبة ومتفاعلة.
ولا يَفْترِض كل ما تقدم أن المجتمع العراقي آنذاك كان خاليا من الممارسات والأفكار الطائفية وإنه لا يمكن بالتالي الوقوف أمام حالات شاخصة من التفرقة والتمييز الطائفي, بل إن القول بعكسه سيخالف عندها لغة التاريخ وأحكامه, فالعراقيون هم الورثة الحقيقيون للصراعات الطائفية والمذهبية, وعلى أرضهم قد يتحرك التاريخ الطائفي بأشد مما يمكن أن يتحرك عليه في أي بلد عربي أو مسلم آخر لأسباب معروفة منها تركيبته المذهبية الثنائية, ولأنه كان الأرض الذي ولدت عليها أغلب المذاهب, والروضة التي تضم قبور اغلب الأئمة الأطهار, والساحة التي جرت عليها أغلب المعارك الدينوتاريخية, والساحة التي تتصارع عليها القوى الدولية والإقليمية وتُفَعِلُ وتضخم تناقضاته لمصلحتها, لذلك لم يكن سهلا الوصول بشكل عاجل وسريع إلى مجتمع خال تماما من الطائفية, كما وإن افتراض الوصول إلى ذلك المجتمع المثالي في المستقبل وبوجود كل الظروف المشجعة هو افتراض غير منطقي على الإطلاق.
واليوم فإن استفتاء عراقيا وخاصة في الجنوب العراقي, ذا النسبة الشيعية المطلقة, بإمكانه أن يؤكد على أن هؤلاء باتوا يفضلون العهد الملكي على كل العهود الذي تلته, كما هو شان العراقيين الآخرين. وبلا شك فإن هذه العودة التفضيلية كانت تأسست على مقارنة إيجابيات ذلك العهد بكوارث وأخطاء العهود التي تلته ومن ضمنها العهد الحالي. وإذا كان ذلك صحيحا, وهو كذلك, فإن الكتاب المتشيعين سوف يقومون بإهداء أفضل العهود العراقية للسنة. وقد يوحي ذلك بالنتيجة, أن هؤلاء كانوا الأفضل والأقدر على قيادة الدولة العراقية, وهو أمر لن يكون بالنتيجة من صالح هؤلاء الكتاب والسياسيين.
غير أن العهد الملكي لم يكن سنيا, وإن كان أغلب رجالاته من السنة, لأنهم رجال من الأرض ولم يأتوا من القمر لكي يكونوا بلا هوية مذهبية, وإن المستويات الرسمية والاجتماعية للسلوك الطائفي أثناءه لم تكن تكفي لبناء نظرية طائفية بإتجاه معاكس, ولهذا كانت الأغلبية المطلقة من الشيعة آنذاك موفقة في اختيارها لطرق تعديل وتطوير ذلك النظام ومركزة جهدها على تأسيس ومشاركة الأحزاب الوطنية والتقدمية غير الطائفية برامجها لبناء الدولة المدنية العراقية الحديثة.
وهذا ما يجب أن تعود إليه.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟