أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا طه - عود قصب !















المزيد.....


عود قصب !


هويدا طه

الحوار المتمدن-العدد: 3161 - 2010 / 10 / 21 - 17:27
المحور: الادب والفن
    


يروى أن رجلا يحمل جوالا مملوءا بالتراب دخل قرية ذات مساء، سكن بيتا مات صاحبه للتو، وفي الصباح أطل من شرفة تكشف كل القرية، جال ببصره فإذا بالزرع ذابلا والبهائم هزيلة والناس تترنح كأنما لكمات عديدة وجهت إليهم على مر السنين، يسكن الخوف بين الجفون ويتبدى الجوع على وجنات خاوية من الشحم وترسم الحيرة طريق الخطوات.. فلا أحد يدري إلى أين يسير ومن يسيره، جلس صاحب جوال التراب يرتشف قهوته في الشرفة يفكر.. كان أهل القرية يكرهون هذا البيت.. فكل من سكنه أذى محصولهم وبهائمهم واستعبد أولادهم في أرضه وسجن المتمردين منهم في زريبة كبيرة ملحقة بالبيت، الساكن الجديد كان يعرف ما يحسه الناس.. في المساء توجه إلى مجلس القرية مرتديا جلبابا يشبه جلاليبهم.. كان الحاضرون يتحدثون بيأس وقلة حيلة.. كيف نروي حقولنا ونغذي بهائمنا ونعلم أولادنا ونهدم زريبة البيت الكبير في أطراف القرية حتى لا يضيع في ظلامها أبناؤنا.. حدثهم الساكن الجديد بعد أن فكر طويلا في شرفة سكنه الجديد.. في البدء لم يلتفت إليه الحاضرون قالوا لن يختلف عمن سبقه فهذا البيت المحصن الذي لا قبل لنا بهدمه لم يأت لنا منه إلا كل عدوان، ثم انتبهوا حين قال إنه يعرف ما في دواخلهم من خوف وإنه يقسم أمامهم أنهم إذا تعاونوا معه فسوف تظل يده طاهرة من دمائهم ومحاصيلهم وأرضهم وبهائمهم.. سحرتهم أحلام طهارة اليد فنسوا مرارات العدوان من هذا البيت، لكنه رأى بعضهم متشككين.. فأخذهم معه إلى الزريبة وأمر خدمه بهدم مقدمة الجدار وأخرج القابعين في ظلامها قائلا اذهبوا فأنتم الطلقاء، فرح الناس فرحا شديدا وقالوا لعلنا في عهد جديد.. قال لهم املك جوالا إن نثرت ما فيه على الأرض يزهر الزرع وتمتلئ الضروع وتشبع البطون.. ويختفي الخوف فتقولون كل شيء في صدوركم أما هذه الزريبة فلن يدخلها أحد بعد اليوم.. بدأ الناس يتكلمون بتحفظ في البداية فلم يؤذهم.. فصدقه الكثيرون وراحوا يوبخون المتشككين.. تردد بين الناس أن في جعبته جوالا به تراب موصوف.. ساعدوه في نثر ترابه على الأرض.. راحت تزهر بعض بقاع الأرض بينما بقيتها يموت فيها الزرع الذابل أصلا.. اشتكوا.. قال اصبروا ستنعم كل أراضيكم بالزهر بعد حين.. أنا مهموم بأن تزهر أراضيكم.. مهموم بأن يأكل كل السكان وتتعلم كل الأولاد.. اصبروا فصبروا.. علا قليلا صوت المتشككين.. راحوا يقولون للناس إن ترابه مسموم.. وإن البقاع المزهرة محرمة عليكم فهي لرجاله فقط.. الذين يأخذون الأرض لأنفسهم ويتركونكم بلا مورد تأكلون منه.. وإن الزريبة بنيت فيها سراديب إضافية لا ترونها.. وإن رجاله يسرقون محاصيليكم وإن لهذا الرجل خططا وضعها منذ سكن البيت وأنتم لا تدرون.. صدق بعض البسطاء المترنحين خوفا وجوعا ما يقول المتشككون لكن لسان حالهم يقول: نصدقكم لكننا عاجزون.. فاذهبوا أنتم وقاتلوا إنا ها هنا قاعدون، يأس بعض المتشككين وغضبوا من عجز الناس لكن بعضهم استمر في الصراخ.. وكل يوم يزيد صراخهم وتحذيرهم من السيد ورجاله.. يشجعهم أنه لا يأخذهم إلى الزريبة بجريرة الصراخ، يخرج رجال ساكن البيت الذين زاد عددهم مع الأيام إلى مجلس القرية في أجمل زينة.. يقولون لو أن سيد البيت شرير حقا لما ترك هؤلاء المتشككين يتصارخون.. أنظروا ها هم يثيرون البلبلة ويعطلون مسيرة تزهير الأرض لكنهم بسبب سعة قلب السيد الكبير يتمتعون بالحرية ولم يصل أي منهم إلى الزريبة، احمدوا الله فلو أن سيدا آخر سكن البيت لقطع أيديهم وأرجلهم عقابا لما يقولونه في حق السيد واسع القلب.. الناس تسمع رجال السيد وتحسدهم على إزهار أرضهم دون باقي الأراضي.. لكنهم مازالوا يأملون أن تنمو محاصيلهم التي راحت تتناقص حتى العدم.. فلعل الدور يصيبهم كما أصاب رجاله المنعمين.. يسكتون فلعل التراب الموصوف يكون لهم فيه نصيب.. يتململون لكنهم مازالوا ينتظرون.. وراحوا ينتظرون.. ثم بدأوا يفقدون الأمل فالأرض تموت والمحاصيل تنعدم والأولاد لا تتعلم والأمراض تنهش أجسادهم واللصوص الصغار يزيدون وجرائم السطو والقتل تزيد والمعارك تدور على المتبقي من الأرغفة.. والسيد ساكن البيت القائم في أطراف القرية يعدهم أن ترابه سيصل إلى أراضيهم.. وتمر الأيام والأشهر والسنون وهم ينتظرون.. يخرج إليهم وقد بدأ يطعن في السن فيقول.. ألا ترون أن الأرض أزهرت والمحاصيل زادت.. يرد بعض المتشككين لكنها أرض رجالك فقط إنما باقي الناس جوعى يا سيدنا، يكتم غضبه ولا يرد عليهم ويهزأ بهم.. ثم يعود إلى شرفته في البيت ويفكر.. يقول له رجاله إن هؤلاء المشككين يوترون الناس ويثيرون إزعاجا فلماذا تتركهم.. يضحك قائلا: هل يفعلون شيئا أكثر من الصراخ؟ فيجيبونه لا لكنهم ينشرون الحقد والتوتر ويثيرون الانتباه إلى محاصيلنا، يرد عليهم بضحكة شيخ عجوز.. هل تأذى محصولكم من هذا الصراخ؟ يقولون لا.. يقول إذن دعوهم يصرخون طوال النهار وفي المساء تباهوا عليهم في مجلس القرية بأنهم.. أحرار.. أحرار كما لم يكونوا أبدا، يدخل ابن السيد إلى الشرفة حيث الحديث يدور.. يغضب برعونة قائلا.. هؤلاء الكلاب أخذهم الغرور فصدقوا أن سكوتنا عنهم سيمكنهم من مشاركتنا ثروتنا.. يضحك العجوز.. دعهم يصرخون وإلق ببعض فتات.. من يأتي منهم إلى فتاتك سيكون لك عونا كبيرا في قادم الأيام.. حين أغيب.. فقد كبرت وطعنت في السن فحافظ على ثروتنا التي جمعنا.. يرد الإبن قليل الحنكة.. ولماذا نتركهم يصرخون بينما نقدر في ساعة واحدة أن نلقي بهم جميعا في سراديب الزريبة ونخلص من صداعهم فيخرس باقي سكان القرية.. فلدي يا أبي مزيد من المشاريع والشركاء القادمين من خارج القرية ويمكن أن نضاعف ثروتنا فنصنع في عام ما صنعته في عقود ولا أريد أي شوشرة تكدر مسيرتي.. يقول الأب المحنك.. دعني أمهد الطريق لك ولشركاءك الجدد بما يتناسب مع ظروف القرية.. فسكانها زادوا وجاعوا وتقلصت محاصيلهم وهناك خطر يابني من الجوعى أنت لا تقدره حق قدره برعونتك تلك.. دعني أقولها لك.. أنا لعبت بالنار حين تركت لهم مجلس القرية يصرخون فيه.. لكنني تحكمت في هذا الصراخ.. دعني أرشدك إلى وصفتي السحرية.. تراقبهم وهم يصرخون وتتركهم يصدقون أنهم أحرار وجريئون وأبطال.. وتتركهم طالما شعرت أن الناس (تكتفي) بصراخهم كل مساء في مجلس السمر.. تحرك فقط حين تشعر أن الناس لم تعد تكتفي بمجرد الصراخ.. حين تشعر أنهم اقتربوا منك بأكثر مما يسمح به أمنك واستمرارك.. حينئذ إلق إليهم ببعض فتات.. للناس الجوعى جزء ولهؤلاء المشككين جزء.. فيتراجع تقدمهم الخطير نحوك إلى خط الأمان.. فإذا استمر تقدمهم اتخذ اجراء تظهر به قوتك.. تهديد مباشر لأحدهم.. واختر الأكثر شعبية منهم.. بسجنه أو حرمانه من محصوله الهزيل أو حتى طرده من القرية.. وإذا تصاعد غضبه وغضب محبيه عد فاعف عنه.. هذا يمدك ببضع سنوات أخر من الأمان.. بينما يتعلم هذا المشاكس الدرس وغالبا لن يعود إلى الصراخ.. فإذا استمر وشاكس جهز له فخا كبيرا يعينك فيه بعض رجالك دون أن تظهر أنت في الصورة.. هكذا تسيطر على القرية، وليس بتلك الرعونة التي شجعتك فيها أمك حين أرسلت من يضرب أحدهم ويعريه في الطرقات.. تعلم يا بني.. ونصيحتي الأهم.. دعهم يصرخون.. وانظر لما سأفعله غدا.. فهو سيكون لصالحك لكن هؤلاء الأغبياء ومن يتبعهم من الجوعى سيصدقه..
في الصباح ذهب العجوز إلى مجلس القرية قال لهم بود كبير إنه يعلم أن تزهير الأرض كان صعبا طوال تلك السنين وأنهم سأموا الانتظار لكنه لا ييأس.. وسوف يخدمهم حتى آخر نفس له في هذا العالم.. وإنه يريد إشراكهم معه في عملية تزهير الأرض، أعلن في هذا المساء أنه سيتيح فرصة المنافسة في إدارة القرية وإنه سيترك للناس الاختيار.. تهلل الحاضرون.. قالوا بذهول هل حقا يريد الرجل أن يشركنا معه؟ هذا شيء عظيم.. لم يفعلها معنا أبدا أي ساكن لهذا البيت منذ تأسست قريتنا.. لكن المشككين كعادتهم راحوا يصرخون في الناس.. لا تصدقوه إنه يريد أن يترك الغنيمة لولده بلا منغصات وصرخات.. وولده أشد ضراوة منه، إذا كان محصولكم اليوم لا يكفيكم فغدا لن تجدوه أصلا وسـتاكلون لحم بعضكم البعض.. انفضت الناس عن المشككين بعض الوقت مأخوذين بفرحة وعد الشراكة.. سيحق لهم أخيرا أن ينالوا بعضا من ثروات البيت الكبير.. غضب المشككون وقالوا للناس في مجلس القرية أنتم بإذعانكم وسكوتكم تتواطئون مع الشيخ وابنه.. لن تنالوا إلا مزيدا من الجوع.. صدقهم بعض الناس لكنهم ما زالوا ينشدون نشيدهم الأزلي: إذهبوا وقاتلوا إنا ها هنا قاعدون.. يئس بعض المشككين.. بينما استمر بعضهم.. أحدهم كان مشاكسا إلى درجة أثارت غضب الابن الأرعن.. كان يكتب على جدران مجلس القرية كل يوم مشككا في مخطط الأب لمنح كل محصول القرية عن بكرة أبيها لولده.. كتب إنه يخطط ورجاله منذ سنين وقلت لكم وقال غيري وما زلت أقول.. هذا الولد يريد أن يرث البقية الباقية من دمائكم.. ها هو الآن- الذي كان حتى وقت قريب لا يجيد الكلام- يتحدث كل يوم في المجلس بذات الحديث عن ذات التراب الموصوف.. كيف تصدقونه.. كيف تتواطئون على أنفسكم إلى هذا الحد، مع قسوة الجوع على أهل القرية زادت شعبية صراخ المشككين وزادت شعبية هذا المشاكس.. وبينما كان ساكن البيت يعاني من آلام أمراض الشيخوخة ويستعد لدقائق ما قبل الرحيل.. جلس في الشرفة بدلا عنه هذه المرة الإبن الأرعن.. صبره على الصراخ ليس بمثل صبر أبيه.. جلس حوله رجاله يتشاورون.. نحن في الدقائق الأخيرة من حياة مؤسس شركتنا لا نريد شوشرة.. قال رجاله.. لا تصدق أن الجوعى يمكن أن يؤذوننا نحن واثقون من هذا.. فهم لا يعرفون شيئا ولا يقدرون على فعل شيء وإن تحركوا فسوف يأكلون بعضهم البعض ولن يطالوننا أبدا.. الخوف هو من هؤلاء المشككين السخفاء الذين لم يصونوا لنا جميل تركهم يصرخون ويولولون في مجلس القرية وفي الطرقات.. هؤلاء قد - وإن كنا نشك في ذلك لكن ربما- قد يشحنون الغوغاء في القرية فيثيرون فوضى قد تضر بنا، دعنا من أسلوب والدك العتيق.. هؤلاء يحتاجون منا إلى قدر من العزم.. خاصة في تلك الدقائق الأخيرة.. اقترح أحدهم أن يغري هذا المشاكس بالعمل في مؤسسته.. هكذا سينعم ببعض بحبوحة في العيش يفكر ألف مرة قبل أن يقول شيئا يطيحها من يده.. وافق الجميع، توجه صاحب الفكرة بإذن من الإبن الأرعن إلى الفتى المشاكس.. وعرض عليه مالا وفيرا وصكا يضمن له الانضمام إلى زمرة رجال الإبن أصحاب الأراضي الشاسعة.. ظن الفتى في البداية أن العرض لن يمنعه من الكتابة على جدران مجلس القرية.. وافق وعمل في شركة الرجل ثم لم يمض وقت طويل حتى اكتشف أن ثمن بحبوحة العيش هو الصمت.. هو الكف عن الكتابة على الجدران.. فصرخ مرة أخرى وألقى الصك تحت أقدامهم.. وثار اللغط في القرية بين مؤنب للفتى على قبوله منذ البدء التعامل مع رجال الإبن.. وبين محيٍ له على إفاقته في الوقت المناسب كي لا يفقد قدرته على الصراخ بحرية.. وبين ساخر منه منبها أنه منذ البدء يقول إن الصراخ ليس حرية وإن الحرية ليست حقيقية إذا كانت مرهونة بسعة قلب مانحها الخبيث.. دار النقاش واسعا بين المشككين في ركنهم الصغير في مجلس القرية.. قال أحدهم هذا الولد الأرعن يطالنا واحدا بعد الآخر والوقت يمر وهو يقترب من امتلاك القرية عن بكرة أبيها.. ولديه شركاء نهمون من خارج القرية ينتظرنا على يده وأيديهم مزيد من الجوع والقسوة فماذا نفعل.. قال آخر يائسا لكن معظم الناس لا تسمعنا.. فقدوا الإحساس والسمع والقدرة ولا يستطيعون التحرك بسبب وطأة الجوع فماذا يمكننا أن نفعل ونحن قلة .. قال آخر لعله خطؤنا أننا كنا نكتب على الجدران دون أن نتحدث إليهم واحدا واحدا.. فرد أحدهم لكننا لا طاقة لنا بالتوجه إلى هؤلاء الجوعى هذا كل ما نقدر عليه دون أن نجد أنفسنا بين ليلة وضحاها في الزريبة.. فهناك أنباء أن الابن ورجاله يزيدون سعة الزريبة ونحن قريبون جدا في هذه اللحظة الحرجة أن نجد أنفسنا جميعا في ظلام سراديبها.. فما العمل.. قال أحدهم وهو يطوي أوراقا كان يعدها للتعليق على الجدران.. لعلها فرصة للتفكير في طريقة أخرى.. غير الصراخ..
وبينما يتناقش المشككون في مجلس القرية القريب من الحقول.. كان هناك فتى يجلس تحت شجرة قريبة يستمع بانتباه إلى كل ما يقول المشككون في اجتماعهم.. وفي يده عود قصب ذابل يحاول عبثا أن يمتص منه رشفة تبقيه حيا.. ظل الفتى لسنوات يختزن ما يكتبه المشاكسون على جدران مجلس القرية في عقله الحائر.. بينه وبينهم مسافة.. يعرفهم ولا يعرفونه.. يرى ما يكتبون ولا يرونه.. الفتى الذابل القابع في زاوية الحقل البعيد.. لا يلتفت إليه أحد ولا ينتظر منه شيئا.. جاء صديق عمره الذي كان ممن يكتبون على جدران مجلس القرية.. ثم تملكه السأم فقرر العمل بصمت.. في الحقول، جلس بجوار الفتى صامتا مستندا إلى جذع الشجرة العجوز القائمة هنا منذ زمن طويل.. بعد صمت ساد بينهما قال الصديق: لا أمل في كل هذا الصراخ.. يصرخون وحين يسكتهم الأسياد يتباكون على مستقبل الصراخ حتى يعيد إليهم السيد المتلاعب بهم حق الصراخ فيعاودون النحيب.. وكأنه عقد يجددونه بعد كل خناقة فيما بينهم.. قال الفتى ساخرا محملقا في أفق الحقل: يصرخون نيابة عنا لكنهم لا يجوعون نيابة عنا.. ماذا حدث كنا قرية لا تموت جوعا مهما ألمت بها المحن.. ومع ذلك يا صديقي صراخهم يشعرني أن أحدا يعرف أنني هنا.. ألست منهم؟ ضحك صديقه وانتفض ليقف في مواجهة الفتى ثم قال: إذا فقدت الأمل تماما في الحصول على رغيف في هذه القرية ماذا تفعل.. أجابه سأحاول مرارا وتكرارا وبكل الطرق أن أحصل على رغيف.. قال وإذا فشلت.. أجابه حينئذ لن يعود للحياة معنى سأنتحر.. جلس صديقه على صخرة وقال: يعني تموت؟ أجابه بيأس أقتل نفسي قبل أن يقتلني الجوع.. نظر إليه ثم قال لكن ماذا سيخسر بانتحارك من منعوا عنك الرغيف؟ صمت الفتى وقال بعد برهة.. لاشيء لن يشعروا حتى أن الجوع قتلني.. اعتدل الصديق وقال: ميت ميت لماذا تموت مهزوما.. دعك ممن يصرخون.. هؤلاء جزء من لعبة كبيرة لا تعرف الجوع الذي نعرف.. يكتبون على الجدران كل صباح أننا الجائعون لا نفهم ولا نريد أن نفهم ولا نستمع إلى صراخهم ولا نقوى على فعل شيء.. يسخرون هم منا ويحتقرنا أسياد البيت ولا يلتفت إلينا القادمون من خارج القرية.. قاطعه.. السنا كذلك حقا؟! نزل إلى الأرض صامتا وركن ظهره إلى الشجرة.. تناول عود القصب من يد الفتى وراح يقشره صانعا رأسا مدببا للعود وهو يقول: نعم.. نحن عاجزون.. قال الفتى.. كل ما احتاجه هو بضعة أرغفة لماذا أصبح الرغيف عزيز المنال.. ثم اعتدل في جلسته وقال ضاحكا: أصبحت مثل شاعرك هذا الذي قال بسبب الجوع (أخال الرغيف في البعد بدرا وأظن اللحوم صيدا حراما).. ضحك كلاهما ثم استطرد الفتى: أنا حقا لا أريد أن أموت.. أريد الحياة ولو ببضع أرغفة.. هذا ما يجعلني أؤجل الانتحار يوما بعد يوم .. كل يوم أقول لعلها محنة تزول.. استمر صديقه يقشر رأس عود القصب الجاف وقال.. حسنا إلى متى؟ قال الفتى لا أدري.. لعلها محنة ستزول، التفت كلاهما نحو ركن المشككين حين علا صوتهم فجأة.. كانوا مازالوا يتناقشون ماذا يمكنهم أن يفعلوا لاستعادة حق الصراخ من ذلك الإبن الأرعن.. قام الصبيان من مجلسهما تحت الشجرة وتمشيا في الحقل.. ظهر البيت الكبير في مرمى بصرهما.. أطرق الثاني وهو يناول الفتى عود القصب.. قال ماذا لو خلصنا ذات يوم من ذلك الابن الأرعن.. حينها سيرتعد رجاله ويهربون من القرية فنجتمع نحن في مجلسها ونتفق مع كبارنا والخبراء من أهلها لنعيد توزيع الأرض والمحصول بالعدل و.. لم يكمل.. صاح الفتى قائلا: ماذا تعني بالخلاص منه؟ لا لا.. دعنا نكلمه فهو شاب مثلنا وقد يسمعنا إذا تحدثنا إليه بالعقل.. وقلنا له ماذا سيستفيد من إدارة قرية يهدد الجوع سكانها ويهدد جياعها أسيادها.. نظر إليه صديقه نظرة اخترقته وتعدته إلى البيت الكبير في نهاية الحقل.. صمت قليلا ثم قال.. حسنا.. حاول.. تركه ومضى إلى شجرة قرب بوابة البيت الكبير.. ومكث عندها.. يرقب من بعيد
قرب غياب الشمس توجه الفتى الجائع نحو البيت الكبير وانتظر.. ظل يرسم برأس عود القصب المسنون سنابل قمح على الأرض الجافة.. حتى خرج الإبن محاطا برجاله وحراسه.. نادى الفتى الابن قائلا: يا سيدنا أنت شاب مثلنا اسمعني.. اقترب منه فبادر الحراس بمنعه لكن الابن أشار لهم بيده أن اتركوه.. فتشه الحراس فلم يجدوا معه سكينا أو أي أداة حادة.. فتركوه يقترب من الإبن وهو يرسم بعوده على الأرض أرغفة مستديرة.. قال الفتى وهو ينظر إلى الابن.. بالعقل يا سيدنا.. رجالك يقضمون أرضنا قطعة بعد أخرى حتى لم يعد لدينا شيئا نأكله.. أطفالنا يموتون جوعا والأيام أثبتت أن تراب والدك خرب القرية لكن عندنا أمل أن.. قاطعه أحد رجال الابن زاعقا: ياناكرو الجميل يا جرابيع.. احمدوا الله أننا نشغلكم عندنا، أنتم لا تستحقون أصلا ما تأخذوه منا ومن جهدنا في تزهير الأرض، أيها الكسالى تنجبون كل يوم صغارا ثم تطلبون منا اطعامهم.. أفيقوا واحمدوا الله يا همج.. تماسك الفتى وكتم الإهانة في جوفه بعد أن شرخت صدره الهزيل.. توجه نحو الإبن الذي كان يضحك وهو يراقب أوداج رجله الزاعق المنتفخة.. قال: بالعقل يا سيدنا أرضك وأرض رجالك لن تجد من يحصدها إذا بدأ شباب القرية يتساقط جوعا.. الشباب غاضبون فلماذا لا تمد يدك إليهم، التفت أحد رجال الإبن إلى آخر يسير إلى جواره قائلا وهو يبتسم: يالغباءهم! يطلبون منه هو أن يدمر ما صنعه، يالغباءهم! هم حقا يستحقونه، أجابه زميله.. دعهم.. فطالما يطالبونه ويترجونه فنحن في أمان.. المهم أن يفهم هو كيف يمد أجل أملهم فيه.. ولا يتصرف بأسلوب أخرق يضيع ما جنيناه، لكن الابن الذي كان يسير بينما يهرول الفتى وراءه توقف ليواجه الفتى قائلا: لا فائدة منكم أيها الكسالى لا أسمع منكم إلا الشكوى ومن قبلي أبي.. كنتم تشتكون ومازلتم وسوف تظلون تشتكون.. لأنكم لا تريدون أبدا أن تفهموا أن تلك الأرض هي لنا وذلك المحصول هو ثمرة جهدنا.. ليس لكم عندي حق فقد كانت تلك الأرض ذابلة حين بدأ أبي يزهرها.. صبر عليكم فطمعتم، أما أنا فلن أصبر عليكم يا متسولين يا.. تراجع الفتى إلى الخلف شاهقا مشروخا بالإهانة.. وبدأت دموع ساخنة تجري على عظام وجنتيه الذابلتين.. أزاحه الحراس بعيدا ومضى الابن ورجاله أمامه، نظر بعيدا من خلف ظهر الأبن ومن فوق كتفيه.. فرأى صديقه يستند إلى الشجرة القريبة من البيت.. أطل في عينيه عن بعد.. لاحت له نفس النظرة التي رآها صباح ذلك اليوم،.. شعر أنه يتهاوى إلى الأرض ذلا وجوعا فجاهد وجاهد ليقف.. حاول البحث عن شيء يستند إليه.. فلم يجد شيئا يسند الشرخ في صدره سوى.. عود القصب ذو الرأس المسنون..



#هويدا_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد عبد الناصر في ذكرى رحيله: نهضة بدون حرية.. فشل، ناصر يا ...
- نواب التصوير لن يأتوا بالتغيير
- البرادعي وفضائيات رجال الأعمال
- موقفان عربيان من اليسار: مصر وعُمان
- البرادعي وعواجيز المعارضة ومحبطي النخبة وقوة الشباب
- خواطر مواطنة مصرية استقبلت البرادعي في المطار
- فلندعم البرادعي مثل حسن شحاتة
- كيف يدعم المصريون البرادعي
- أعداء مصر ثلاثة.. الجزائر ليست منهم
- خواطر حول الطبقة الوسطى المصرية (1)
- هل يكون البرادعي رئيس مصر القادم؟
- نقاش حول المسألة المصرية العربية
- ما هكذا تورد الإبل.. ياعرب
- على هامش الاضراب: مصر هرمة ترحل.. مصر شابة تولد
- توريث السلطة في مصر: الملف الكامل
- طبعا كله إلا السمعة
- قاض نزيه وقضاء مشلول
- نحلم بسينما متمردة
- مستقبلنا؟! هل لنا مستقبل؟!
- سينما بلا هواجس


المزيد.....




- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا طه - عود قصب !