أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 10: الجوار المُتأجّج















المزيد.....

الأمكنة الكمائنُ 10: الجوار المُتأجّج


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3159 - 2010 / 10 / 19 - 18:19
المحور: الادب والفن
    



سَفرٌ في الرّوح، المُتغرّبَة، أودى بي إلى مَفازة المَجهول.
ضيقُ ذات يَد الأبّ، وربّما تفكيره أيضاً، أجاز له التدخلَ في مَسار حياتي. وكما كانت عروقُ أخي، الكبير، تستثارُ على وَقع اسم " علي "، كذلكَ الأمر بالنسبة لعروقي مع اسم " أحمد ": الأوّل، هوَ ابن " علكيْ "، الفتى المُهذب، المُطيع والشغيل؛ المُفترض به أن يكونَ، بعُرْف أبينا، مَثلاً لأخينا " جينكو " المُنحرف، المُتمرّد والمُتسكّع. أما صاحب الاسم الثاني، فلم يكن سوى ابن زميل والدنا في العمل؛ في مُراقبة الحديقة العامّة، الكائنة في الجادّة التحتانيّة. هذا الابن، كانَ على ما يبدو قد نجحَ في دراسته، الصناعيّة، فصار أستاذاً لحِرْفة الكهرباء، فضلاً عن افتتاحه لمَحلّ تصليح أجهزة الكترونيّة.
وإذ نفضَ والدنا يَدَه من " جينكو "، المُفوّز رويداً في مَتاهة الجنون، فإنّ الأملَ كانَ مَعقوداً على الابن الآخر؛ المُهذب والمُطيع. الثانويّة الصناعيّة، التي دَفعني الوالدُ إليها رغماً عن إرادتي، كانت تقومُ خارج سور المَدينة؛ من ناحيَة " باب شرقي ". أحياناً، كنتُ أجدُني مُستغن ٍ عن ركوب الحافلة، المُتجهة من " باب توما " إلى مَكان دراستي. إذاك، يكونُ داخلي مَشوباً بالشغف لحرفة التسكّع، القديمَة والرّاسِخة. في نهايَة الفصل الأوّل، مُنعت من التقدّم للامتحان بسبب فاتورَة غيابي؛ التي تجاوزت مدّة الشهر. إلا أنّ صهري، مُعلّم حرفة النجارة في الثانويّة، كانَ لي وساطة خير ناجعة.
بالرغم من جهود صاحبه، المَبذولة طوال العام غياباً وتكاسلاً، إذا باسمي يَظهر في قائمَة الناجحين إلى الثاني، الثانوي. عندئذٍ، لم يكُ قدّامي من وَسيلة أخرى، سوى تجاهل المُعسكر التدريبي، الصيفيّ. آن أوانُ يقظتي المُبكرَة، اليوميّة، فكنتُ أنهضُ واغتسلُ وأتناول فطوري، ثمّ أتوجّه إلى مَوقف الحافلة مَسبوقا بدعاء الأمّ، المُبارك. أسبوعان، على الأثر، وإذا والدي يلتقي صدفة ً مع صديقه القديم، " أحمد راتب ملا ". هذا الضابط، كانَ رئيس قسم التدريب في الثانوية. فما أن لمَحَ صديقه على طريق الجادّة، حتى هتفَ فيه: " لماذا لم يَحضر أبنكَ إلى المُعسكر الطلابي؛ ألا يَعرف أنّ ذلك سيؤدي لرسوبه؟ "
" كيف، بالله عليك؟ إنه ينهضُ صباحاً كلّ يوم، ثمّ يرتدي ملابسَ التدريب ويَذهب إلى المُعسكر.. "
" وأيّ وَسيلة نقل يَستخدمُ أبنكَ، يومياً؛ طالما أنّ جهة المُعسكر هيَ مَدينة اللاذقيّة؟ ". كانَ هذا سؤالاً وَجيهاً، ولا شكّ. لأنّ المَسافة بين الشام وتلك المدينة، الساحليّة، كانت الحافلة تقطعها وقتذاك بستّ ساعات على الأقلّ.

مُحرَجاً من مُلاقاة الأبّ وَجهاً لوَجه، رأيتني خلال الصّيف أقيمُ خارجَ المَنزل، غالباً.
كنتُ أبيتُ عادَة ً في بيت العمّ، الحاج، بما أنّ أصحابه يَقضون العطلة في بلدة " بسّيمَة ". فما أنّ تحلّ الظهيرة، المُوافقة لخروج أبي إلى عمَله، حتى أتوجّه لبيتنا. ثمّة، في الحَديقة المُزدهرَة، الأثيرَة، كنتُ أقضي جلّ وَقتي. تمتعي بمَناظر المَكان الساحر، الخلابَة، كانَ يُوافق مُتعة مُطالعاتي الأدبيّة، الأكثر إيثاراً وسِحْراً. في إحدى المرّات، وفيما كنتُ مضطجعاً على الأريكة، في مَنظرة الحَديقة، طرقَ سَمعي بجَلبَة أصوات نسائيّة، قريبة.
" أرجو ألا يكونَ حُضورنا، المُتطفل، يُعيق دراستكَ..؟ "، خاطبتني بنبرَة ودّيَة الفتاة التي كانت زميلة صغرى شقيقاتي، ثمة في مَشغل الخياطة. إنّ " هاديَة " هيَ في عُمر شقيقتي الأخرى، التي تكبرني مُباشرَة ً. على ذلك، لا غرو أن أدُهش لمُرافقتها للبنت المَوْصومة في أسرتنا بالخبَل والبلادَة. الضيفة، كانَ ما تفتأ تتبسّمُ لي، حينما بادرتُ إلى النهوض من مَكاني مُغمغماً تحيّة المُجاملة. وفيما كانَ وَجهي قد عادَ على الاندساس في مألوف مُتعته، فإنّ بَصَري كانَ ينسلّ كلّ وَهلة، سانحَة، إلى مَكمن الفتنة، الفادحَة، المُترائيَ له عن قرب: مَثلُ الحُسْن، كانَ يُضرب على لسان أهلينا مَنعوتاً دائماً بـ " بنات الحلبيّة ".
إنها " أمّ رضا "، الحلبيّة الأصل؛ مَن كانَ على داليَة جَمالها، المُعجز، أن تمنح حقلَ زقاقنا مَوْسماً إثر موسم ثمارها الألقة، المُونقة. بين شقيقاته، العَديدات، كان عنقودُ " هاديَة "، البكر، هوَ الأكثر نضجاً ولا رَيْب: شعرٌ فاحمٌ، زنجيّ الخصل، يَنسكبُ على خصال إفرنجيّةٍ لسَحنة مُتناسقة، غايَة في النصاعة. بيْدَ أنّ مَوضعَ الإعجاز، في نظري على الأقل، هوَ البَدَن الأهيف؛ برشاقة الخصر والأطراف واكتناز الصَدر والأوراك.
" أنظرْ؛ إنها تهزّ أستها كرمالكَ.. "، قال لي " آدم " ذات يوم بنبرَة مُستهترَة وعاليَة الإيقاع، مُشيعاً ابنة " الحلبيّة " المُغادرَة للتوّ مَكان عملها. هذا القولُ، كنتُ أستعيده إذاً في ذلك اليوم الصيفيّ، الحار، الشاهد على إطلالة زميلة شقيقتي على حديقة دارنا. جاز لي ذلك، طالما أنّ الفتاة، الفاتنة، تناهضتْ من مَجلسها على الأريكة، لتتعقب خطواتي المُراوحَة أمامَ أحد أحواض الحديقة. عندئذ، اهتبلتْ هيَ غيابَ زميلتها في المَطبخ، مُتناهيَة الخطى بدَورها إلى مَوقفي المُحتفي بمَسكبَة الورد الجوري، الضاجَة بألوان مُختلفة: " عفواً.. مُمكن تقطف لي تلك الوَردة، الجَميلة؟ ".

" إنكِ أنتِ، الجَميلة.. "
أجبتها إذاك بنبرَة عابثة، مَرحَة. إثرَ وَهلة تأمّل في عينيّ ، قالت لي الضيفة بنفس النبرَة: " أكيد..؟ ". وكانت ابتسامتها، الوَضاءة، مُتفتحَة بالأريج العَبق مثل تلك الوردة سواءً بسواء. في اليوم التالي، وعلى ساعة الظهيرَة أيضاً، كانت الجميلة على عتبَة باب المَشغل، المُقابل لباب بيتنا. رأيتها مُتألقة ببلوزة حَمراء، فوق بنطال من القطن الخفيف، الأسوَد اللون. رَمقتني بتحيّة من عينيْها السّود، المؤطرَتيْن بالحَوَر الفتاك، ثمّ ما لبثتْ أن توجّهتْ نحوي بحركة خطاها المُثيرَة، الشبيهة برقصة السامبا: " أختكَ، في البيت؟ "
" نعم.. "
" أكيد..؟ "، عادَتْ لتكرّرَ هذه المُفردَة بلحن صوتها، الصادح، المُضافر إثارَة الرقصة تلك، المَوْسومة. وعليّ كانَ، في هذه المرّة، أن أقتحمَ بنفسي خلوَة الصديقتيْن؛ هناك، في مَنظرة الحديقة. كانَ قد مَضى هنيهة، مُبتسرَة، على وجودهما ثمّة عندما شئتُ نزولَ دَرَج الجنينة، الضيّق، وفي يَدي إحدى روايات " نجيب مَحفوظ ". شهرَة الكاتب هذا، المُفضل لديّ آنذاك، كانت ذات طابع فريد، شعبيّ؛ بالنظر لاحتفاء الكثير من الأفلام المصرية باسمه. ما كانَ غريباً، إذاً، أن تطلبَ مني " هاديَة " استعارَة الكتاب. كان ذاكَ هوَ روايَة " السّراب "، دونما شكّ ـ كما أذكرُ من ردّة فعل البنت، الجميلة، حينما أعادتها إليّ.
حينما سألتها، ما إذا كانت الروايَة مُمتعة، فإنها أجابتني بابتسامَة، غامضة: " أجل، ولقد سبق أن رأيتها مُمثلة على الشاشة ". ليسَ في ذلك الوَقت، بل فيما بعد ولا غرو، استعدّتُ تلك الابتسامَة المُلغزة مُحيلاً إياها إلى شخصيّة بَطل الروايَة: إنه شابّ وَسيم، كانَ نائياً بنفسه عن صُحبَة الجنس الآخر؛ بما أنّ أمّه نمّتْ في داخله " عقدَة أوديب ". وكانَ أن أكتشف هذا عَجزَهُ، الجنسيّ، لدى اقترانه بأوّل فتاة تعرّف عليها.
وبغضّ الطرْف عما إذا كانَ دقيقا تأويلي لحادثة الظهيرَة تلك، الصيفيّة؛ فإنني كنتُ، في حينه، أخشى الظهورَ في عينيّ فاتنة الزقاق، الآسرَتيْن، كقرين لبطل الروايَة تلك. وعلى أيّ حال، فما طمأنني نوعاً هوَ أنّ مُتعة الاحتكاك السَطحيّ، البديلة لمُتعة الوصال الحقيقيّ، ما أسرَعَ أن شهدَتْ تطوّراً، مُستطيراً.

" ألا يوجدُ لديكَ، هنا، مجلات فنيّة.. الشبكة، مثلاً، أو المَوعد؟ "
سألتني " هاديَة " ذات يوم، فيما كانت مُنحنيَة على المَكتبَة، المَركونة في حجرَتي. مُذ بعض الوَقت، كنتُ بدَوري مُنحنياً وراء الفتاة، تماماً. بتلك الحرَكة الترادفيّة، المَوْصوفة، كنتُ أزعمُ تقديمَ العون. ولكنّ غوصي في لجّة العَجْز المُكتنز، الجَهير الإثارَة، كانَ من الطيْش أنّ صاحبَتهً أبدَتْ من ثمّ شيئاً من التململ. لحُسْن الفأل، لم يكُ طبْعي لجوجاً أو صفيقاً. فما عتمتُ أن حُدّتُ عن حَدّ اللعب إلى حَدّ الجدّ: " ربما ما يزال ثمّة أعدادٌ، قديمَة، من مَجلة ألف ليلة.. "، أجبتها وليسَ دونما ارتباك. كانت هذه المجلة، اللبنانيّة، علاوة على شقيقتها البريطانيّة، " بلاي بوي "، من المَنشورات الإيروتيكيّة التي تباع عادَة ً على أرصفة المَدينة، السرّية. تشديدي على المُفردَة الأخيرَة، هوَ كون المجلات تلك مَمنوعة من التداول علناً. إنّ " آدم "، صاحب المزاج الرائق، هوَ من كانَ يُعيرني أحياناً هكذا مَمنوعات.
" سأعيدها بسرعة، لا تشغل بالكَ "، قالتها " هاديَة " بلهجة مرحَة . كانت قد ألقتْ نظرات عابرَة، ولكن مُتمعّنة، على أغلفة بعض الأعداد، عندما حضرَت زميلتها حاملة ً قدَحاً من الشراب. في مساء يوم تال، غرَّتْ الأختُ بعلبَة الشراب عيْنه، حينما كانَ لديّ في حجرَتي اجتماعٌ تنظيميّ. إذ لم تدر هيَ عندئذٍ بأنّ العلبَة قد فرَغتْ من المادّة المُكثفة، التي يُحَضّر منها ذلك الشراب بإضافة الماء إليه. علاماتُ الامتعاض على وجوه الأصدقاء، كان عليها أن توجّه خطايَ ودونما إبطاء إلى المَطبخ. ثمّة، إذا بأميّ تتجادَلُ مع ابنتها المسكينة. فما عتمَتْ أن ألتفتتْ إليّ: " أعِدْ الأقداح، فوراً؛ لأنها مليئة بالخلّ لا بالشراب "، خاطبتني والدتنا مُتضاحكة.
وهيَ ذي الأختُ، في ظهيرَة يوم آخر، تظهرُ على عتبَة منزل العمّ، الحاج. إنّ الأمّ، على ما فهمتُ من هذه، طلبتْ منها غسل الأطباق الكثيرَة، المُتخلفة عن سهرَة الأمس: كانَ العمّ، المُتفرغ للعمل في البستان، يؤوب وَحيداً من " بسيمة " كلّ يوميْن أو ثلاثة. على ذلك، فإنه اعتادَ مساءً على اصطحاب الأصدقاء إلى المنزل؛ وخصوصاً أولئك المُزارعين، الصوالحَة، الضمّانين لأرضه.
من جهتي، كنتُ آنئذٍ ما أفتأ أعبّ من شراب آخر. إنه البراندي، المَمزوج بالبيبسي، من عليه كانَ أن يُصبّر القلب على القادم من الشدائد. فما أن أنهيتُ جَرع ثمالة القدَح الثالث، حتى عَرَتني رَعشة من أثر الصوت الصادح، المُنتظر، الصادر من البيت التحتاني. على الأثر، انتقلتُ نحوَ النافذة الأخرى، المُطلة على تلك الناحيَة. وكنتُ اشرئبّ برأسي خلل صفق النافذة، المُشرع، لكي يُتاح لها أن تلمَحني تلكَ الضيفة، الفاتنة.

" سأعيدُ بعضَ المجلات لأخيكِ.. "
سمعتُ " هاديَة " تقولُ للأخرى، فيما كانت نظراتها تتناهى إلى مَوقفي، الفوقيّ. ولكنّ قلبي، المَلول، أخذ يَقرع نواقيسَهُ اللعينة، المَشئومة، المُنذرَة بالخيانة. مُتبسّماً بذبول، ما عتمتُ أن رَددّتُ تحيّة الوَردَة الناضرَة، البهيّة الهيئة، والمُقتحمَة للتوّ خلوَتي. إذاك، كانت هيَ في بنطالها القطنيّ، المُثير، المَشدود بقوّة على رَدفها الفاتن، ومن الانطلاق أن رَمَتْ جانباً بإيشارب رأسها. وإذاً، كانت سوَيعة الغداء في مُبتدئها، وليسَ ثمّة حاجَة للعجَلة أو القلق : يبدو أنّ الضيفة مثلي، سواءً بسواء، تعرفُ طبعَ الأخت؛ المَهووس بهمّة إنهاء ما في اليَد من أطباق الجَلي.
نظراً للحرّ المُنغص، كنتُ مُتمدّداً على أرضيّة الحجرَة، العاريَة، والمُكتسيّة بالمُقابل ببلاط أبيضَ. برهة أخرى، وشاءتْ " هاديَة " مُجاراتي في التمتع برطوبَة الاستلقاء، العذبَة. كنا قد تبادلنا عباراتٍ قليلة، مُقتضبَة، عندما حلّ السكونُ على العالم جميعاً: من علوّها السّحيق، فإنّ آلهة المَجْمَع، السماويّ، ربما أجازتْ لبلاغة البَدَن الفاتن، الداني، أن تنطقَ بلسان الشهوَة والغلمَة والشبَق؛ حينما أضحى هوَ على مُنقلبٍ آخر. من جهتي، وبالرغم من تعويق المَشهد، المُستطير، لحيويّة ذهني؛ فإني أحَلتُ حرَكة الفتاة إلى ما بيَدها من مَجلات الإباحَة. ففي إحداها، كانت المُمثلة الفرنسيّة، " بريجيت باردو "، تضطجعُ على بطنها، عاريَة تماماً، في مَشهدٍ من فيلم يَجمعها بالمُمثل " لينو فينتورا "؛ الإيطاليّ الأصل.
" لديّ قليلٌ من شراب، إذا رَغبتِ.. "، ندّتْ عني كالهمس. هذا الاقتراحُ، جدّ بعدما كنتُ قد ألقيتُ كفي للمرّة العَشر في شقّ ردف الفتاة ـ كما لو أنّ ذلكَ أمرٌ عارض، عفويّ. بيْدَ أنني لستُ أمامَ " سوزان "؛ قريبتي الشقراء، النائيَة. فإنّ " هاديَة "، بالمُقابل، كانت من بيئة أخرى، شيمَتها المُحافظة والتزمّت. على ذلك، فإنها أجابتني بشيء من الضيق: " لم أذق الخمرَ في عُمْري قط؛ لأنها حرامٌ ". ولا رَيب أنني كنتُ سأسألها، مُتفكّهاً، لو أنها عادَتْ الآنَ وتمدّدتْ بالقرب مني: " وهل الخمر هوَ وَحده الحرامُ، حَسْب..؟ ".
أما في تلكَ الظهيرَة، البعيدَة، فكانَ على سؤال الأمّ، المُتصاعد على غرّة، أن يَقطعَ خلوَتي بالضيفة: " يا فلان، ألا تريد أن تتناولَ الغداءَ "، خاطبتني من وراء الحائط الفاصل بينَ البيتيْن. ثمّ كرّرتْ الأمّ نفسَ النداء، مُسمّيَة ً ابنتها، هذه المرّة. عندئذٍ، ما كانَ من " هاديَة " إلى النهوض ببطءٍ، مُتضجّر، قائلة ً أنّ عليها أيضاً التوجّه لِحِماها.

" هل علمتَ بهذا الخبَر؛ وهوَ أنّ هاديَة، ما غيرها، أصبَحَتْ خطيبة ابن خالكَ..؟ "
سألني قريبي، " قربينة "، بنبرَة فيها ما فيها من غلّ وشماتة. إنه الشابّ الأخرَق، المُتبطل إلا عن مُراقبَة الناس. من مَوْقفه، المَألوف، عند ناصيَة الدَخلة المَنعوتة باسم خال والدتي، كانَ الأخرق قد لحظ ولا شكّ كثرَة ترداد ابنة " الحلبيّة " على منزلنا. وبكلّ الأحوال، فإنّ الخبرَ أذهلني وأثارَ حيرتي؛ أنا من كانَ عائداً قبلَ حين من " بسيمة "، إثر قضائي ثمّة قرابَة الأسبوعيْن. صلتي بالفتاة تلك، المَعنيّة، لم تكُ بعدُ قد تجاوَزتْ التلميحات والمُلامسات. إلا أنّ ما سَوّغ هيئتي المُحبَطة، التراجيديّة، هوَ شعوري المُرهف والمُحال لسنّ المُراهقة. ويَبدو أنّ القريبَ، من جهته، أخذه شعورُ الشفقة وأرادَ من ثمّ التخفيفَ من وَقع الخبَر: " إنها من أسرَة، مَشبوهة السيرَة. والمثل يقول، أنّ البنتَ سرّ أمّها "، قالها وهوَ يهزّ بيده سلسلة حاملة المفاتيح.
إنه يُحيل إلى سيرَة أمّ " هاديَة "؛ المرأة البدينة، المُتأثلة في ملامحها بعدُ حُسنها الفريد. قديماً، حينما كانت في مدينة " حلب "، اقترنتْ بشابّ شاميّ، من " الصالحيّة "، كانَ يَعملُ هناك. وكانَ بكرها، " رضا "، جنيناً في بطنها ما يفتأ، عندما قرّرَت الهربَ مع جدّه. إنه حَموها، إذاً، من عليها كانَ أن تتزوّجه هنا، في الحارَة، إثر طلاقها من أبنه. وكثيرون يَجزمون، تخرّصاً على الأرجح، أنّ الزوج الأوّل كانَ عنيناً؛ وبالتالي، أنّ " رضا " نفسه هوَ ثمرَة للعلاقة الجسديّة، المُحرّمة.
في الفترة تلك، كانَ " قربينة " على صلةٍ بالكائن نفسه، البائن، المُعيّر من لدُنه بسوء السيرَة. بدءاً، بدا الأمرُ مُجرّدَ أقاويل بلا تصريف على أرض المَوجود. فإنّ شبهة علاقة الأخرَق بامرأة شقيقه، الأكبَر، كانت مُستبعدَة لأكثر من سبب. إنّ هذه المرأة الحسناء، التي كانت أمها فلسطينيّة، كانت متزوّجة أولاً بقريبٍ لها. طلاقها، الأسرع من الصوت، كانَ على ذمّة الأقاويل، المُعتادة، لأنها مَشبوبَة البدَن ولا تستطيع الحياة مع رجل عنين.
بغض النظر عن المُحرّمات، كانت " خلود " على هوىً مألوفٍ، مَشهودٍ بالمَيل إلى الوسيم من الشبّان. كانت دائبَة التواجد في منزل أبن خالتنا، " فيروزا "؛ وربما لكون امرأته فلسطينيّة الأصل. حتى جاءَ ذلكَ اليوم، الذي وَضعَ اليقينَ بمحلّ الظنّ. إنّ " قربينة "، وبحضور أبن الخال، أرادَ بذل المَزيد من المصداقيّة على تشكيكه بالخطيبَة الجميلة. عندئذٍ، ما كانَ منه إلا التوجّه لشقيقي الكبير مُتسائلاً بحَماس: " ألم تأتِ هاديَة من مؤخرتها؛ ثمة، في خرابَة منزلهم وجنباً لجنب مع رضا، أخيها..؟ "
" لقد أتيناها معاً، امرأة أخيكَ؛ هناك، في منزل خالتي "، أجابَه " جينكو " مُقهقهاً. كنا إذاك في مَنظرَة الحديقة، في ظهيرَة مُعتدلة من مُستهلّ الخريف. وإذ امتقعتْ سِحنة الآخر، فإنه تكلّفَ المَرَح والدعابَة بنهوضه إلى لكم الشاهد، المَزعوم. حالة شقيقي الكبير، المرَضيّة، ما كانت في تلك الآونة قد خطتْ إلى مَرحلة الخطر. حالات صفاء ذهنه، كانت تبدو لنا مُدهشة أحياناً؛ كما في لعبَة النرد، مثلاً؛ التي كانَ له السبق فيها حتى على المُعروفين بحرفيتهم ومهارتهم. وعلى أيّ حال، كانَ تأثر أبن الخال بتلك المَزاعم، جليّة ً. شهرٌ، على الأثر، واختفى خاتمُ الخطبَة من خنصر حسناء الزقاق. من جهتها، فإنّ الأمّ كانت من التأثر أن هتفت ذات مرّة، على مَسمَع من الأقارب: " إنها جميلة وعلى خلق رفيع، أيضاً. ولو كانَ أبني في سنّ الزواج، لما تردّدتُ عن جعلها كنة لي ". عن ذلك، ألتفت الحاضرون نحوي، مُتبسّمين. وكانت بَسْمَة " خلود "، المُتألقة، مَشفوعة إذاك بغمز إحدى عينيْها الآسرَتيْن.





#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمكنة الكمائنُ 9: المَحفل المُزدوَج
- الأمكنة الكمائنُ 8: أسطحُ الأصحاب
- الأمكنة الكمائنُ 7: خرائبُ الرّغبة
- الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة
- الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع
- الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
- الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
- الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
- الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
- الأوانس والجَواري 5
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4
- المُتسكعون والمَجانين 3
- المُتسكعون والمَجانين 2
- ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
- القبلة ، القلب 5
- القبلة ، القلب 4


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 10: الجوار المُتأجّج