أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيري حمدان - البيت العتيق















المزيد.....

البيت العتيق


خيري حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3159 - 2010 / 10 / 19 - 09:09
المحور: الادب والفن
    



قدت العربة برهبة، كنت أعرف ما ينتظرني، كنت مصرًا للمضيّ حتى نهاية المشوار. أمضيت عامًا كاملاً أحضّر لهذه الرحلة. كانت الطريق أمامي طويلة ومشواري لا بدّ سيستمرّ ساعات طويلة قبل أن أصل غايتي. أعرف بأن خواءً قابعٌ هناك على بعد ساعة أو يزيد! أعرف بأنّني ذاهب إلى حيث فقد الزمن قيمته وثقله في سجل التاريخ، لكنّني ماضٍ لأسباب لا يعرفها ولا يفهمها إنسان سواي.

قالت لي زوجتي بأنّني مجنون ورحلتي دون معنى. رفضت الحضور معي، كانت على قناعة من أنّني سأعود بعد ساعات من وصولي إلى "هناك". لكنها وغيرها لم يدركوا بأن الموضوع مختلف تمامًا! هناك بركان ما في عمق الذاكرة انفجر وأطلق ملايين الأطنان من الذكريات التي تحتاج للمّها وترتيبها في خزائن الزمن، وسأندم إذا لم أفعل .. سأندم. لا يهمّني كثيرًا إذا كنتم تصدّقون أبجديتي، لقد بدأت منذ اللحظة في قراءة ألفي وقد لا أصل الياء أبدًا. هذا ليس مهمًا على أية حال! لديّ مشروع متداخل ومعقد ويبدو من جميع جوانبه غريب للغاية. كنت أبدو ضائعًا والعربة تجري على هدى .. هناك حيث الخراب والعدم وكأن بوصلة غير مرئية كانت تحرّك عجلاتها بدقّة متناهية. أيعقل أن أتوجه إلى العدم بمحض إرادتي تاركًا خلفي حياة مليئة بالصخب والعطاء. لا أسمع شيئًا سوى صدى دقّات قلبي الآن، قلبي يقودني دون دليل إلى بدايات ما. يا قلبُ هل يعقل أن تكون البدايات دائمًا عنواننا الذي لا يمكن أن نهرب منه مهما حاولنا ذلك؟

سئمت هنّاتك واندفاعك نحو مغامراتٍ لا تحمد عقباها. من يغنّي في هذه اللحظة وسط العتمة وفي هذا الطريق الثانوي الوعر؟ الغبار ينطلق سحابة من تحت دواليب العربة الخلفية وكلاب ضالة تركض ملهوفة تجاهي، تأمل بقطع من العظام أو ما تيّسر من سقط الطعام.

هل أعود؟
هنا لا شيء يدلّ على أيّ أثر للحياة سوى بقايا وآثار بيوت طينية انهار معظمها تحت وطء عجلة الزمن. يا فتى ماذا تريد وسط هذا التيه؟
أريد قصّة حبّي التي لم تكتمل، أريد قلبي .. أعده لي اللحظة، أنا لا أتخلى عن بداياتٍ خططتها في لحظة عابرة أبدًا! أنت تعرف مدى عنادي ولؤمي وإصراري حين أقرر إنجاز قضيّة ذات علاقة بعلقي. أين هو بيتي العتيق يا قلبُ أخبرني بربّك .. دعك الآن من النبض، دلّني على ضالتي قبل أن أفجّر جدرانك يا متسلّط!

أوقفت العربة بالقرب من المسجد الذي مالت جوانبه حتى كادت أن تسقط. هدأ المحرّك وخيّم صمتٌ أثيرٌ على قلبي، إنّه صمت الحياة ولن يفهم هذه الحالة النادرة سواي. اقترب منّي المسكين رعد، كان قد تقدّم الكلب في العمر كثيرًا، نبح بحرقة حين اقترب منّي، كنت أحمل له الكثير من الهدايا. لحم وعظام وبعض الحلوى الممنوعة لعدم قدرة هذه الحيوانات على إفراز الأنسولين، لكن لم يبقَ أمام رعد الكلب المطيع سوى القليل من الوقت، لهذا لن أمنع عنه بعض ما يشتهي رغمًا عن طبيعته وتركيبه الجينيّ. رعدُ جزءٌ من لوحة الذكريات التي تحتاج إلى الكثير من العمل لإعادة ترتيبها.

أحتاج للعودة إلى هذه الفوضى لأكون ولتستمرّ حياتي المرتبة حتى الملل.
أحتاج لممارسة طقوسي الخاصّة حتى وإن كانت الساحة المرشّحة لذلك عند آخر الدنيا وإذا كان المشاهد الوحيد هذا الكلب الذي شارف على الموت!
أحتاج للعودة وإعادة الروح لهذا المكان. هنا الصغار كانوا يركضون وكنت أنا أحدهم، كنّا نركض تجاه التلّ المرتفع بحياء في وجه الأفق لساعاتٍ طويلة دون أن نشعر بالتعب!
أحتاج الآن لمراجعة حساباتي كاملة .. كيف مات هذا المكان الذي عاش بدفق دمائنا عقود طويلة! أسئلتي ليست بريئة وأنا لست مهاجر عاد بعد خيانة.

* * *

سأبقى هنا طوال الليل وحيدًا في رحم الصحراء الممتدة أمام ناظريّ. في هذا الخراب الذي كان يومًا قرية أعجوبة. لا يبقَ بيت واحد يمتّ للحضارة أو للمدنية! أقصد تلك الحضارة التي ألفها الكثيرون منّا. هنا صمت عارم وبعد قليل سيحلّ ظلامٌ دامس .. أنا من يحتاج كلّ هذا التوحّد دون شريك، حتى الكلاب هنا تشعر بالوجل من ثقل اللحظة وهمس العدم ورهبة الذكرى وعواء الذئاب الشاردة ليس بعيدًا عن هنا!

كنت غير قادر على البقاء في بيت والديّ اللذين باتا جزءً من الحاضر البعيد. في هذه الغرفة كانت والدتي تقوم بعجن أقراص السبانخ المحبّبة لنفسي حتى الهوس. بالرغم من آلام ركبتيها وثقل السنين المتراكمة ككتل من التراب كانت تخبز السبانخ لتفوح رائحة الحياة حتى آخر بيت في النزل الممتدة، وكان الجار العاشر يحصل على شيء من هذا الشواء. قلبي منقبضٌ من هذا الحضور الطاغي المتسرب إلى أقصى تلافيف دماغي وحواسي وخلاياي العصبية. لهذا مضيت مبتعدًا لبيتها ..

كنّا نسترق اللحظات العابثة ونمسك بأطراف أصابعنا، كانت تخجل حين أقبّل يدها
- أنت يا شرقيّ كيف تقبّل يد الأنثى؟
- بل أقبّل أثر الحياة على يدك، أقبّل هبة الخالق وقدرته على دفق كلّ هذا الجمال في جسدك المتفجّر يا أنتِ!
- تزوجني ولنحرق الأفق بشبق الانعتاق من حواجز الجاذبية.
لن أبكي الليلة بل سأغرق في أمواج متلاطمة مشبعة بلحظات لن أسمح للزمن بالعفو عنها، سأستخدم طاقة جنوني لتحقيق ذلك.

يا أنتِ التي نسيت اسمك بعد أن طوى وحصد الطاعون كلّ هذا الوجود! كيف نجوت أنا، يا لي من أنانيّ مفرط في الوجودية!
علبة التلفاز القديمة الكبيرة ما تزال راقدة مطيعة فوق طاولة صغيرة زينتِها بمطرّز ملوّن. غزالٌ صغيرٌ لا يفتأ يحدّق بي من وجه الغطاء المغبرّ وتوقيعك الخجول. لن أبوح باسمك لأحد لأنك بقيت لي أنا رغمًا عن الطاعون الذي أودى بهذا الوجود المتدفق في شرايين الذكرى.

أوصلت تلفازك القديم ببطارية سيارتي وأدرت المفتاح. قناة تلفزيونية واحدة كانت قادرة على اختراق هذا الصمت المريع، اختفت الألوان الفاقعة لا شيء سوى الأبيض والأسود وسهرة حبّ فيروزية.
- إنها فيروز .. أتشرب الشاي يا شقيّ؟
- بل أشرب عينيك ..
ارتفع عواء الذئاب من البعيد، كنت أتمنى دعوتها لوليمة حتى أشبع جوعها الأبديّ، لكنّها خشيت الضوء المباغت والفوضى التي خلقتها في الحضور المغيّب لهذا المكان. كنت أعرف مسبقًا بأنّ المكان غير موجود على الخارطة، لا يمكن لمخلوق سواي أن يجد الطريق إلى هنا، لأن المكان بالنسبة للجميع كان ببساطة ودائمًا هناك.

فيروز في هذه اللحظة كانت متحررة من قوانين الحضارة، كانت تغنّي كما لم تفعل يومًا ما، لم تكن تنتظر موافقة أبنائها وأحفادها لتغنّي وكان المسرح كبيرًا يتّسع لطيور الجنّة ولجميع الذئاب التائهة منذ الخليقة. كنّا حشودًا غير مرئية نستمع لعصفورة أيلول! كنّا نراقب عبده الذي ما يزال على أهبة الاستعداد ليرمي بنفسه من فوق البلدية من أجل عيون لم يقرأ الحياة فيهما سوى عبده!

* * *
- لماذا عدت يا شقيّ؟ دعنا نمضي نحو الأبديّة .. أرجوك!
- طوال حياتي .. مسافر إلى مكانٍ ما .. لهذا أعود.
- نحن طوانا الطاعون يا شقيّ.
- لا بل هو غبار النسيان .. أحاول أن أنفضه عن هذه الديار يا أنتِ!
- هل نسيت اسمي؟
- بل أحتفظ به لوحدي، أنا دائمًا أنانيّ في الحبّ كما تعلمين، أتذكرين قبل أن يزحف الطاعون إلى دربنا كيف سرقنا من التاريخ لحظات خطّت حضورنا على امتداد صحراء الوجود؟ تاه طيفها في ثنايا الزمن وساد الصمت ثقيلاً كما الحياة في أوج انعتاقها، لم أستمع لإجابة وكان لديّ الكثير من الأسئلة!

أطلقت الذئاب عواءها الطويل، كانت مهووسة بالفراغ وجائعة. لم يبق من طعام سوى جسدي العاري من جمال التاريخ .. تعالي يا قبيلة الذئاب انهشي من لحم التاريخ ما تشائين .. لعلّي أقدر على حفظ صفحة أو صفحتين نكاية بالطاعون!



#خيري_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قهوة العصر وامرأة
- الفاشلون
- ليموناتي الثلاث
- الغرفة البيضاء
- ما قاله صديقي الميت
- أليست هذه الجميلة زوجتي القبيحة؟
- الحبّ وهموم أخرى
- أوقات وردية للقلب
- مهادنة السلطة وانتحار الثروة
- الرسم بالشفاه
- الأدب الهنغاري وقصيدة هنا وهناك
- حين يفتح الشاعر روحه، يدخلها كل شيء إلا فهو فيخرج
- لم تنهِ أغنيتك بعدُ يا ولدي فلا تقطع الوتر!
- هل سبق لك أن هاتفت الموت يومًا؟
- غابرييل غارسيا ماركيس يتحدث عن ارنست همنغواي
- حين يصبح الزواج مشروع اغتصاب
- غابرييل غارسيا ماركيس يتحدث عن نفسه
- غابرييل غارسيا ماركِز يتحدث عن خوليو كورتسار
- فقدت سنّا في الوقت الذي فقدت فيه عذريتك
- ما بين الحلم واليقظة


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيري حمدان - البيت العتيق