أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف نكادي - الفيودالية و النظام الفيودالي في غرب أوربا















المزيد.....



الفيودالية و النظام الفيودالي في غرب أوربا


يوسف نكادي

الحوار المتمدن-العدد: 3155 - 2010 / 10 / 15 - 15:11
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    




مقدمة

شكلت ظاهرة الفيودالية أحد أخصب المواضيع التي استأثرت باهتمام الباحثين في مختلف أقطار المعمور منذ القرن الثامن عشر. و لازالت إلى يومنا هذا مثار جدال بين المختصين، سواء فيما يتعلق بحيثيات نشأتها أو فيما يتعلق بمجال انتشارها و مستويات تبلورها هنا و هناك.
و قد انعكست ديناميكية البحث و سيولة التأليف في مختلف جوانب الظاهرة بالإيجاب على المكتبة التاريخية عموما و مكتبة التاريخ الأوربي الوسيط بشكل خاص.حتى أنه أصبح من الصعب - و ربما من المستحيل – على القارئ العادي أو الباحث المختص الإحاطة بجميع ما تم انجازه فيها من أبحاث منغرافية أو دراسات ذات طابع تركيبي أو مقالات أو مداخلات ألقيت في إطار الندوات و الملتقيات العلمية؛ نظرا لكثرة هذه التآليف من جهة و نظرا لاختلاف اللغات التي كتبت بها من جهة أخرى.
و الملاحظ أن ظاهرة الفيودالية تكاد تكون ظاهرة كونية؛ انتشرت كليا أو جزئيا في مختلف أقاليم العالم القديم، و لذلك اهتم الباحثون الغربيون المحدثون و المعاصرون بدراسة مظاهرها في مجالات أوربية طبعا و في مجالات غير أوربية أيضا. و في هذا السياق انبرى عدد منهم لمعالجة بعض تجلياتها في المجال العربي-الإسلامي خلال العصر الوسيط أو خلال الحقبة السابقة على الاستعمار الأوربي. غير أن الباحثين العرب ظلوا، مع الأسف ، بمنأى عن هذه الحركية، باستثناء قلة قليلة منهم اقتحمت غمار هذا الموضوع. ومن ثم، فان ما كتب عن الفيودالية باللغة العربية ،أو ما تم تعريبه من مؤلفات أجنبية تناولتها،لا يمثل سوى نسبة هزيلة جدا. و يبدوهذا الأمرغير مفهوم إذا علما بأن التاريخ الأوربي الوسيط ، الذي تمثل الفيودالية إحدى أبرز قضاياه ،يندرج ضمن برامج ومقررات أقسام التاريخ بالجامعات العربية. و من هذا المنطلق كان من المفروض أن تحضى الفيودالية ( و تاريخ أوربا الوسيط ككل ) باهتمام الجامعيين بحثا و تأليفا.
و رغبة منا في سد جانب من الفراغ الحاصل، ارتأينا و ضع هذا المؤلف رهن إشارة الطلبة و
الباحثين و عموم القراء؛ آملين أن يحضى بالقبول و الله ولي التوفيق.


وجدة في 05 ذي القعدة 1431
الموافق 14 أكتوبر 2010







مدخل




1- خصائص العصر الوسيط ( عصر الفيودالية و النظام الفيودالي )


درج المؤرخون الأوربيون منذ عصر النهضة على تقسيم تاريخ أوربا إلى مجموعة عصور متعاقبة هي : العصر القديم بمرحلتيه اليونانية و الرومانية، و العصر الوسيط ثم العصر الحديث. واتخذوا من بعض الأحداث السياسية-العسكرية الكبرى مفاصل بين عصر و آخر.
و يجمعون في هدا الشأن بأن سنة 476 ميلادية، التي تم فيها وضع حد لسيادة الإمبراطورية الرومانية تمثل نهاية العصر القديم و بداية العصر الوسيط. بينما اعتبروا سنة 1453 ميلادية، تاريخ سيطرة الأتراك العثمانيين على القسطنطينية، نهاية العصر الوسيط و بداية العصر الحديث. ومن ثم، يكون العصر الوسيط قد استغرق حوالي ألف سنة. شهدت خلالها أوربا بوجه عام و مناطقها الغربية بوجه خاص أحداثا متميزة و تطورات متباينة، سواء من حيث الإيقاع أو من حيث المظاهر
تعود مقدمات تلك الأحداث و التطورات إلى الفترة الممتدة بين القرنين الثالث و الخامس. و هي فترة اصطلح على تسميتها بالعصر الإمبراطوري الأسفل. شهدت خلالها الإمبراطورية الرومانية أزمة متعددة المظاهر انتهت بسقوط روما سنة 476 م. على اثر موجة غزو أولى قامت بها شعوب قدمت من شمال أوربا عبر فترات، و استقرت على أطراف الإمبراطورية قبيل بداية الغزو.
و إذا كان ذلك الغزو قد أدى إلى نهاية وجود اﻹمبراطوربة الرومانية، فقد أدى من جهة ثانية إلى الإسراع بوتيرة تلك الأحداث و التطورات. إذ استطاعت تلك الشعوب، المعروفة بالشعوب الجرمانية، أن تسيطر على أقاليم غرب أوربا التي كانت ولايات تابعة للإمبراطورية. و أسست بها كيانات سياسية. فكان ذلك إيذانا ببداية مسلسل التجزئة السياسية و تدهور المؤسسات العمومية.و هو مسلسل استفحلت حلقاته خلال السنوات و القرون التي تلت عمليات الغزو، رغم بعض المحاولات التي رامت العودة بأوربا إلى عهود الوحدة. و قد تمت تلك المحاولات في نطاق محدود و آلت إلى الفشل. و بالتالي، وجب الانتظار حتى أواسط القرن الخامس عشر لتبدأ محاولات الوحدة و لتشرع المؤسسات في التبلور في اطارالدول المركزية الناشئة.
و واكبت مسلسل التجزئة السياسية سلسلة حروب شبه متواصلة داخل أوربا و خارجها (كانت الممالك الأوربية طرفا فيها ) استغرقت العصر الوسيط برمته. حدثت أولاها بين الممالك الجرمانية التي تأسست غداة الغزو. و تلتها حروب خاضها أكبر حكام هاته الممالك، كحروب شارلمان الملك-الإمبراطور في جرمانيا و ايطاليا و اسبانيا. ثم الحروب التي جرت فصولها بمناسبة الموجة الثانية من موجات الغزو التي قام بها هذه المرة السكندنافيون و الهنغاريون. و الحروب بين المسيحيين و المسلمين، و أبرزها الحروب الصليبية في المشرق و حرب الاسترداد في الأندلس. و انتهت سلسلة حروب العصر الوسيط بحرب المائة سنة بين فرنسا و انجلترا اللتان انضمت لهما ممالك أخرى.
و من المفيد أن نذكرفي هذا المقام بأن العصرالوسيط في أوربا هو عصر الفروسية و الفرسان. فقد شكل الفرسان الشريحة السفلى في الأرستقراطية.وكانوا موزعين على شكل فرق(مليشيات ). تعمل كل واحدة منها تحت إمرة أحد أفراد الشريحة العليا في الأرستقراطية .و تربط بين الطرفين روابط خاصة تعرف بالروابط الفيودو- فصلية liens féodo-vassaliques ) les). و قد مثلت هذه الروابط كنه ظاهرة الفيودالية.
و بما أن الحرب كانت اهتمام الفرسان الأول والأخير، فقد كانت الوقائع بين أفراد الأرستقراطيات المحلية أو الجهوية أمرا مألوفا. و قد بلغت الوقائع ذروتها سنة 1337 حين اندلعت حرب المائة سنة المشارإليها آنفا. وكانت تتخلل سلسلة الحروب و الوقائع، أو تسبقها أو تتلوها، حركات اجتماعية- دينية كان يقوم بها الفلاحون. و أبرزها حركات القرنين الحادي عشر و الرابع عشر.
و في جميع الأحوال كان هؤلاء الفلاحون، الذين شكلوا السواد الأعظم في مجتمع أوربا العصر الوسيط ، هم حصاد تلك الحركات و الحروب. كما كانوا في نفس الوقت هم الحطب المغذي للحروب بما يقدمونه من خدمات و ضرائب و مغارم و مكوس لفائدة الأرستقراطية العقارية التي سخر أفرادها كل الوسائل القانونية و العسكرية للاستفادة من فائض إنتاج عمل الفلاحين. الذين كان الواحد منهم ملزما بقضاء أكثر ساعات النهار في وضعية انحناء نحو الأرض التي غدت خلال العصر الوسيط مصدر الإنتاج الرئيسي ، بل مصدر حياة و وجود مجتمع بأكمله.
و الجدير بالذكر في هذا الصدد أن عملية إعادة تشكيل الخارطة السياسية في أوربا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية واكبتها عملية إعادة تشكيل مماثلة » للخارطة الاقتصادية « التي لم تعد مشكلة من أنشطة واضحة المعالم : نشاط فلاجي في الأرياف و مبادلات تجارية و أنشطة حرفية و خدماتية في الحواضر. بل اختزلت كثيرا ، حتى أنها لم تعد تشمل سوى النشاط الزراعي. في حين اختفت المبادلات التجارية و الأنشطة الحرفية و مختلف الخدمات ،بما فيها الأنشطة الفكرية التي اشتهرت بها مدن الإمبراطورية الرومانية. و لم تعرف هذه الأنشطة الانتعاش إلا بعد مطلع القرن الحادي عشر. حين أفضت النهضة الزراعية التي شهدتها الأرياف إلى حدوث تحولات هائلة شملت جميع مناحي الحياة.
بدأت تلك النهضة تسجل تراجعا ارتسمت معالمه الأولى حوالي 1316- 1317 .و أصبحت واضحة منذ حوالي 1320 ايذانا بحدوث انقلاب في الظرفية، سرعان ما تحول إلى أزمة اقتصادية و ديموغرافية و اجتماعية و سياسية و عسكرية و فكرية استغرقت القرنين الرابع عشر و الخامس عشر.
و انطلاقا مما تقدم نخلص إلى القول بأن مجمل أحداث و ظواهر و تطورات العصر الوسيط، بما فيها ظاهرة الفيودالية ،التي سنتناول جوانبها بتفصيل ،حدثت في الأرياف التي مثلت إطارها الرئيسي؛ على الأقل حتى مطلع القرن الحادي عشر. حيث ستشرع المدن الناشئة في الانضمام إلى الأرياف كفضاء لأحداث و تطورات ما بعد سنة 1000. و لذلك نؤكد مند البدء بأن تاريخ العصر الوسيط في أوربا هو عموما تاريخ أرياف.
فمنذ القرن الثالث للميلاد شهدت الإمبراطورية الرومانية مشاكل متعددة المظاهر، ازدادت تفاقما حتى سنة 476 تاريخ سقوط روما. و كان من بين مظاهر تلك المشاكل تدهور المدن. و تواصل هذا التدهور خلال القرون اللاحقة حتى أن العديد منها اختفى تماما .و إن المدن القليلة التي استمرت في الوجود تقلصت مساحتها و تراجع عدد سكانها. و بالتالي، أصبحت الأرياف هي إطار جميع الأنشطة السياسية والاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية حتى مطلع القرن الحادي عشر.حيث شهدت حركة التمدين بداية انتعاش سيتواصل خلال القرون الموالية. فشرعت المدن بموازاة تلك الحركة في استعادة جانب من وظائفها و جانب من الهيمنة التي كانت تمارسها على الأرياف قبل القرن الثالث.
و يجب التنبيه، بأن عملية الاستعادة تلك كانت محدودة نسبيا، حيث إن المبادلات التجارية التي تعتبر من أبرز الوظائف التي تحتضنها المدن ظلت مرتبطة بما كانت تقدمه الأرياف من منتجات زراعية ستشهد تراجعا منذ سنتي 1316-1317. و سيتأكد هذا التراجع بعد سنة 1320 و على امتداد قرنين من الزمان.
كما أن التشكيلة الاجتماعية التي تمنح المدن هوية مجتمعية تتطابق و تسميتها كمدن لم تأخذ في التبلور إلا بعد مطلع القرن الرابع عشر. لأن البورجوازية، التي كان يفترض أن تكون الطبقة السائدة في تلك المدن، كما سيحدث بعد مطلع القرن السادس عشر، ظلت هجينة بعد عودة حركة التمدين إلى الانتعاش.

مما لا شك فيه أن الفقرات السابقة تسلط بعض الضوء على خصائص العصر الوسيط ، و تساعد على فهم السياق العام الذي " نشأت " فيه و تطورت فيه الفيودالية في معناها الضيق كروابط و التزامات ذلت صلة بالفيف ( le fief ) أو في معناها الواسع كنظام اقتصادي و اجتماعي.



2- دلالات مفهومي " الفيودالية " و " النظام الفيودالي "


تعتبر كلمة " فيودالية " تعريبا للمصطلح الفرنسي " Féodalité " الذي شرع في استعماله بفرنسا ابتداء من مطلع القرن السابع عشر؛ في وقت أخذت تستعمل فيه بباقي أقطار أوربا مصطلحات مرادفة كمصطلح "Feudalismo " الذي استعمله الايطاليون و اﻹ سبانيون و مصطلح " Feudalism" الذي استعمله الأنجليزيون و مصطلح " Feudalismus " الذي استعمله الألمانيون. و يندرج هذا التعدد و التنوع في سياق تعدد و تنوع اللغات الناشئة في أقطار أوربا. حيث أصبح سكان كل قطر يستعملون لغة خاصة بهم ابتداء من هذه الفترة.
و قد تم اشتقاق جميع المصطلحات السالف ذكرها من الكلمة اللاتينية فيوداليس" Feodalis " أو من كلمة " Feodum" التي أصبحت الكلمة الأكثر تداولا في النصوص ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر ، و تعني الفيف " le fief ". و هو قطعة أرض كان شخص ( و قد يكون أيضا مؤسسة دينية ) يسمى " سنيورا " ( un seigneur ) يقدمها لشخص آخر. فيصبح المستفيد من قطعة الأرض تابعا للمانح و يسمى فصلا ( un vassal ). يلتزم بتقديم خدمات و التزامات معينة للسنيور. و تنشأ عن عملية تقديم الفيف و عن تلك الالتزامات روابط خاصة بين الطرفين.
و قد ظلت كلمة فيودوم " Feodum" تعني منذ هذا التاريخ و حتى مطلع القرن الثامن عشر الفيف و الالتزامات المترتبة على التابع المستفيد منه. و بعد مطلع القرن الثامن عشر أخذ مفكرو أقطار غرب أوربا يعطون للمصطلحات الحديثة المشتقة من كلمة فيودوم مضامين و دلالات متنوعة. و تجلى هذا التنوع بشكل أكبر في فرنسا عاصمة فكر الأنوار الذي ساد في أوربا خلال القرن الثامن عشر.
فقد ظل رجال القانون و المهتمون بتاريخ المؤسسات حريصين على استعمال مصطلح
" féodalité " بمعناه الضيق الأصلي، أي الفيف و ما يترتب عن الاستفادة منه من التزامات وروابط. أما أقطاب الفكرالسياسي، أمثال لويس مونتسكيو (Charles Louis Montesquieu ) ( 1689 - 1755) وهنري دي بولانفليي () ( Henri de Boulainvilliers 1658- 1722) الذين عاصروا مرحلة سيادة السلطة المركزية في كل من فرنسا و انجلترا، فقد استعملوه عند الحديث عن التجزئة السياسية التي شهدتها أوربا بعد القرن التاسع، و ما نشأ عنها من طرق و أساليب خاصة في تدبير السلطة؛ التي أصبح يمارسها أفراد الأرستقراطية. كل واحد منهم يمارسها في حدود رفعة ترابية ضيقة. في حين أعطى الفلاسفة و المنظرون، أمثال فرانسوا ماري أروية (François Marie Arouet ) المعروف بفولتير ( Voltaire) (1698-1778) للمصطلح دلالات أوسع. فاستعملوه بمعنى نسق من التطور (un processus d’évolution ). أو بمعنى نمط من أنماط الحياة ( un mode de vie) كانت تتبناه مجتمعات غرب أوربا خلال العصر الوسيط . و يمكن أن يتبناه أي مجتمع في أي مجال جغرافي . فالفيودالية من وجهة نظرهم ليست مجرد ظاهرة خاصة شهدتها مجتمعات أوريا في العصر الوسيط ،بل هي نسق من أنساق التطور أو نظام حياة حدث في العصر القديم . كما حدث في العصر الوسيط . و له امتدادات في العصر الحديث .
و على غرار الفلاسفة و المنظرين أعطى المفكرون الاقتصاديون ، و أبرزهم الانجليزي أدم سميث ( Adam Smith) (1723-1790)،لمصطلح فيودالية دلالات أوسع كذلك. فقد رأوا بأن الفيف الذي اشتق منه هو أولا و أخيرا عقار ( un bien-fonds) اكتسى أهمية بالغة بالنظر إلى سيادة النشاط الزراعي في العصر الوسيط .و قد شكل تبعا لذلك مصدر ثروة بالنسبة للسيد و التابع. ومن ثم، لا يمكن الحديث عنه و عن الالتزامات و الروابط المتصلة به بمعزل عن الحياة الاقتصادية. فانكبوا على دراسة بنية ذلك العقار و مكونات تلك الثروة و مجالات صرفها و ما إلى ذلك من قضايا ذات صلة بالأوضاع الاقتصادية التي شهدتها أقاليم غرب أوربا زمن سيادة الفيودالية.
و قد شكلت طروحات الفلاسفة و المنظرين و المفكرين الاقتصاديين نقطة انطلاق بالنسبة لماركس و انجلز و أتباعهما الذين ذهبوا بعيدا. فجعلوا من الفيودالية نمط إنتاج،أي نظاما سوسيو- اقتصاديا نشأ بعد نهاية النظام العبودي. و انتهى عندما بدأت تترسخ قواعد النظام الرأسمالي.أي أن النظام الفيودالي نشأ في أوربا عندما تراجع دور العبيد كقوى منتجة و لم تعد العلاقات الاجتماعية قائمة على العبودية. و بدأ في الانحلال عندما هيمنت المبادلات التجارية على الحياة الاقتصادية؛ و بدأت العلاقات الاجتماعية تأخذ منحى منسجما مع تطور قوى الإنتاج. و معنى ذلك أن فترة سيادة نمط الإنتاج الفيودالي حدث خلالها تطابق بين قوى الإنتاج التي بلغت مستوى معينا من التطور و العلاقات الاجتماعية التي حققت بدورها مستوى معينا من التطور.
و تبعا لانتشار الفكر الماركسي، فقد تبنى هذا الطرح العديد من المفكرين و الباحثين في أقطار أوربا و أمريكا و آسيا و إفريقيا. و أصبحوا يفضلون استعمال أحد المفهومين المركبين : " نمط الإنتاج الفيودالي" ( mode de production féodal ) أو " النظام الفيودالي " (système féodal) بدل مفهوم الفيودالية. لأن لهما دلالة شاملة تنطبق على جميع بنيات المجتمع السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. و يمكن استعمالهما عند البحث في بنيات مجتمعات أخرى غير المجتمعات الأوربية. فيمكن حينئذ الحديث عن نمط إنتاج فيودالي في
اليابان أو في الصين أو في أحد أقطار إفريقيا.
و انطلاقا مما تقدم، يتضح بأن المضامين و الدلالات التي أعطاها مفكرو أوربا لمصطلح فيودالية و للمصطلحات المرادفة له مضامين و دلالات مختلفة. و قد تحول الاختلاف إلى تباين حينما لجأ ثلة من المفكرين إلى استعمال مصطلحات مركبة هي نمط الإنتاج الفيودالي ( le mode de production féodal ) أو النظام الفيودالي le système féodal ) ). بحيث لم يعد ممكنا إحداث تقارب بين وجهات النظر.لأن المصطلحات ارتقت إلى مستوى المفاهيم، نظرا لصبغتها الإجرائية و الوظيفية و نظرا لما يعكسه استعمالها من مواقف و رؤى و مناهج في البحث. و لازال هذا التباين حتى اليوم أحد سمات الإنتاج اﻹسطريوغرافي المتصل بالموضوع.
و إجمالا يمكن التمييز في عموم الباحثين و المفكرين بين فئتين: فئة تتبنى و تستعمل مفهوم الفيودالية ( أو أحد المفاهيم المرادفة له حسب لغة المفكر أو الباحث ). و تلخص مضمونه في كونه الفيف و الالتزامات المرتبطة به و العلاقات القائمة بين الذي يقدمه و الذي يستفيد منه. و فئة تتبنى و تستعمل مفهوم نمط الإنتاج الفيودالي أو النظام الفيودالي بمعنى نسق من التطور شهده مجتمع غرب أوربا خلال مرحلة معينة من تاريخه تطابقت فيها قوى إنتاج، وصلت مستوى معينا من التطور، مع علاقات اجتماعية منسجمة معها.
ورغم المناظرات والملتقيات التي سعت بعض الجهات التي نظمتها إلى تقريب وجهات نظر الفئتين ، فإن التباين أصبح قدرا محتوما. بل إن هذا التباين أخذ في فرنسا طابع الجدل الحاد الذي أفضى منذ مطلع القرن العشرين إلى ظهور وشيوع استعمال مفهوم جديد في أوساط المفكرين و الباحثين المشبعين بفكر ماركس و انجلز و هو مفهوم " الفيوداليسم " ( (Féodalismeالمرادف لمفهومي نمط الإنتاج الفيودالي والنظام الفيودالي. و قد تبنت هذا المفهوم الأوساط العلمية. و دخل قاموس اللغة الفرنسية الذي يتميز بكونه القاموس الأوربي الوحيد الذي يتضمن مفهومين هما : " Féodalité " و" Féodalisme ".
و الحقيقة أن هذه الإضافة لم تعمل على إثراء رصيد لغة الباحثين الفرنسيين بقدر ما جعلت الهوة الفاصلة بين الذين يستعملون هذا المفهوم أو ذاك أكثر عمقا. و يخطأ البعض حين يعتبرون هذه الازدواجية مجرد اختلاف في اللغة أو المفاهيم المستعملة. بل على العكس من ذلك تماما تعكس ، في اعتقادنا، اختلافا في الرؤى و المناهج المتبعة كما سيتبين ذلك من خلال العناصر التي سيتم تناولها في هذا البحث.




3- مصادر دراسة الفيودالية و النظام الفيودالي


تفاديا لأي فهم خاطئ قد يوحي به هذا العنوان، نوضح بأن دراسة الفيودالية و النظام الفيودالي لا تتم انطلاقا من مصادر جد خاصة، بل على العكس من ذلك تستوجب الإحاطة بمختلف جوانبهما العودة إلى قاعدة معلومات و معطيات متنوعة لاستقاء المادة التاريخية. تتمثل هذه القاعدة في المصادرالأركيولوجية و المصادر الخطية.

أولا : المصادر الأركيولوجية.
يفرض هذا النوع من المصادر حضوره لاعتبار أساسي هو أن الفيودالية هي في كنهها ظاهرة حربية.إذ أن الوقائع العسكرية تصدرت أحداث الحقبة التي سادت فيها. و بما أن عملية خوض الحروب أصبحت تشغل بال أفراد الأرستقراطية منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية، ثم حدثت تحولات بعد مطلع القرن الحادي عشر جعلت الحروب تصبح من اهتماماتهم الرئيسية، فقد اقتضى الأمر بعد هذا التاريخ إقامة تحصينات؛ أبرزها القصور ( les châteaux) و القلاع ( les donjons ) و القصور المشيدة على تلال طبيعية أو اصطناعية ( les mottes castrales ). و قد أصبحت هذه المنشآت من أبرز معالم المشهد ألمآثري (paysage le monumental ) في أرياف أوربا. و غدت مراكز للقيادة وممارسة السلطة من قبل أفراد الأرستقراطية. و من ثم، فان البحث في ظاهرة الفيودالية و ما يتصل بها من مؤسسات اقتضى منذ عقود مضت القيام بعمليات مسح جوي و تنقيب ميداني لتحديد مواقع تلك المنشآت و الكشف عن بقايا ما اندرس منها. و قد أفضت مختلف العمليات التي بوشرت في مختلف أنحاء أوربا، و في فرنسا بوجه خاص، باعتبارها " مهد الفيودالية " كما يقال، إلى نتائج بالغة القيمة عززت رصيد قاعدة المعلومات و المعطيات التي كانت حتى بدايات القرن الماضي تستقى من النصوص في المقام الأول؛ الأمر الذي مكن من إعادة رسم خارطة الانتشار الجغرافي للفيودالية ، و من إعادة تحديد المجال الترابي الذي كانت تمارس فيه سلطة أفراد الأرستقراطية خلال فترة سيادة الفيودالية.
و قد تمت صياغة أهم نتائج عمليات الاستشعار الجوي (la détection aérienne ) و التنقيب الميداني في تقارير و عروض و دراسات أهمها على الإطلاق عروض و تقارير الملتقيات الدورية التي دأب على تنظيمها منذ سنة 1962 مركز الأبحاث الأركيولوجية القروسطوية le Centre de Recherches Archéologiques médiévales )) التابع لجامعة ( Caen ). و قد تم نشر سلسلة منها تتألف ( حتى حدود شهر يونيو 2009 ) من 23 مؤلفا تحت عنوان : Château Gaillard
و تأتي بعد هذه السلسلة أبحاث و دراسات لا تقل أهمية نورد عناوينها كما يلي :
1- AFFOLTER Eric ; PEGEOT Pierre ; VOISIN Jean-Claude, L’habitat médiéval fortifié dans le nord de la Franche-Comté : Vestiges de fortifications de terre et de maisons fortes, Montbéliard, Afram, 1986.
2- CHATEAU André, Châteaux forts et féodalité en Ile-de France du XIe au XIIIe siècle, Paris, Editions Créer, 1983.
2- COLLECTIF, Des châteaux et des sources. Archéologie et histoire dans la Normandie médiévale, Rouen, publications des Universités de Rouen et du Havre, 2008.
3- DEBORD André, Aristocratie et pouvoir, le rôle du château dans la France médiévale, Paris, Editions A. et J. Picard, 2000.
4- DURAND Philippe, Le château fort, Paris, Editions Jean-Paul Gisserot ,1999.
5- FIXOT Michel, Les fortifications de terre et les origines féodales dans le Cinglais, Caen, Centre de Recherches Archéologiques médiévales, 1968.
6- GONDOIN Stéphane-Wiliam, Les châteaux-forts, Paris, Chemine-
ments, 2005.
7- JALMIN Daniel, Archéologie aérienne en Ile-de France, Paris, Editions Technipp,1970.
8- LEFRANC Guy,Vestiges de mottes féodales en Flandre intérieure, Atlas archéologique No 1, Lille,Editions l’APAR ,1976.



ثانيا : المصادر الخطية.
تمثل المادة التاريخية التي تتضمنها المصادر الخطية الجانب الأكبر من قاعدة المعلومات و المعطيات الضرورية لدراسة الفيودالية و ما يتصل بها من مؤسسات، فضلا عن السياق التاريخي الذي نشأت و تطورت فيه. و يتألف هذا النوع من المصادر من مصنفات متنوعة و متفاوتة القيمة. يمكن أن نذكر من بينها كتب الإخباريات ( les Chroniques ) و كتب الحوليات ( les Annales) و الكتب التي تروي سير القديسين و القديسات و تتحدث عن كراماتهم ( les récits hagiographiques ) و نصوص الظهائر و المراسيم و القرارات الصادرة عن الملوك ( les Diplômes et les Edits royaux) و المتن الذي تكونه نصوص القوانين الجرمانية " الباربارية " ( les Lois Barbares) و وثائق العقود ( les Formulaires).
وعموما يمكن استعراض نماذج من أهم هذه المصنفات كما يلي :
أولا : كتب الإخباريات و الحوليات
أ ) الإخباريات
1- Abbon de Fleury (mort en 1040), Siège de Paris par les Normands, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires relatifs à l’histoire de France depuis la formation de la monarchie française jusqu’au 13e siècle, Paris, éd. J.L.J. Brière, vol. I, 1824.
2- Flodoard de Reims (mort en 966), Chronique, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires…
3- Hugues de Fleury (mort après 1122), Chronique, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires…
4- Raoul Glaber (mort en 1047), Chronique, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires…
5- Richer de Reims (mort en 998), Histoires, texte édité , traduit et annoté par Jean Guadet, Paris, éd. Jules Renouard, 1845, 2 vol.
ب) الحوليات
1- Anonyme, Annales de Saint- Bertin et de Metz, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires relatifs à l’histoire de France depuis la formation de la monarchie jusqu’au 13e siècle, Paris, éd. J.L.J. Brière, vol. I, 1824.
2- Annales de Saint- Bertin et de Saint-Vaast suivies de fragments d’une chronique inédite, éd. Abbé César Auguste Dehaisnes, Paris, éd. Jules
Renouard, 1871.
3- Eginhard (mort en 840), Annales des rois Pépin, Charlemagne et Louis-le Débonnaire, éd. et trad. François Guizot in Collection des mémoires…, vol. III, 1824.
ثانيا : سير القديسين و القديسات
1- Bernard d’Angers (mort vers 1050) et continuateurs, Les miracles de Sainte-Foy de Conques (morte en 303), éd., Auguste Bouillet, Paris, A. Picard, 1897.
2- Moine anonyme, Vie de Saint-Didier évéque de Cahors (630-655), éd. René Poupardin, Paris, A. Picard, 1900.
3- Saint Odon abbé de Cluny (mort en 942), Vie de Géraud d’Aurillac (mort en 909),
ثالثا : الظهائر و المراسيم الملكية
1- Eugène de Rozière, Recueil général des formules usitées dans l’Empire des Francs du Ve au Xe siècle, Paris, éd. Auguste Durand, 1859-1871, 3 vol.
2- Recueil des actes de Louis II le Bègue, Louis III et Carloman II rois des Francs (877-884), éd. Félix Grat, Jacques de Font-Reaulx, Georges Tessier et Robert-Henri Bautier, Paris, Imprimerie Nationale, 1978.
3- Recueil des actes de Robert I et Raoul rois de F rance (922-936), éd. Jean Dufour, Paris, Imprimerie Nationale, 1978.
4- Recueil des actes de Lothaire et de Louis V rois de France (954-987), éd. Louis Halphen et Ferdinand Lot, Paris, Imprimerie Nationale, 1908.
5- Recueil des actes de Philippe Ier roi de France (1059-1108), éd. Maurice Prou, Paris, Klincksieck, 1908.






























القسم الأول




الفيودالية بمعنى الفيف و روابط الفصالة




يجمع جل الباحثين الغربيين، عامة و الفرنسيين بوجه خاص، بأن نشأة الفيودالية تعود إلى مطلع القرن الحادي عشر. و يربطون تلك النشأة بالتحولات السياسية التي بدأت تشهدها أقاليم غرب أوربا ابتداء من سنة 1000. و هي تحولات تمثلت في استفحال تدهور السلطات المركزية و نهاية الدور الذي كانت تقوم به المؤسسات العمومية في تدبير شأن القمطيات. مما أدى إلى حدوث فراغ سياسي و انعدام الأمن و الاستقرار.فوجد أفراد الأرستقراطية أنفسهم مضطرين إلى إيجاد صيغ جديدة للتآزر فيما بينهم. فظهرت من جراء ذلك الفيودالية – أي الروابط المتمحورة حول الفيف – كصيغة من صيغ التآزر المنشود. و قد شارك في تفعيلها جميع أفراد الأرستقراطية. بحيث أن كبار الملاكين العقاريين كانوا يقدمون قطع أرض لمتوسطي الملاكين، و هؤلاء كانوا يقدمون بدورهم قطع ارض للفرسان. و كانت هذه العملية تباشر وفق طقوس خاصة و في مراسيم احتفالية تتم فيها تسمية مانح قطعة الأرض سنيورا و المستفيد منها فصلا. يؤدي يمين الولاء للمانح و يتعهد بأداء خدمات والتزامات ذات صبغة عسكرية في المقام الأول. كانت تقتضيها الظرفية التي " نشأت " فيها الفيودالية. و إذ اتخذت تلك الروابط منحى عموديا، فقد اتخذت أيضا شكل علاقات أفقية. لأن الفصل كان بإمكانه أن يكون تابعا لأكثر من سنيور. و تفاديا لأي انزلاقات أو مشاكل قد تترتب عن تعدد علاقات الفصل الواحد ،فقد تم إيجاد ضوابط ملزمة، هي جزء من الروابط التي كانت تنظم الروابط بين كل سنيور و الفصل التابع له كما سنرى لاحقا. و لهذا الاعتبار و لغيره اتخذت الفيودالية طابع نظام متكامل ( un régime).
و من هذا المنطلق يحق للمرء أن يتساءل كيف وصلت الفيودالية إلى هذا المستوى الأعلى من التطور و الاكتمال خلال هذه الفترة التاريخية، أي فترة ما بعد سنة 1000؟ ألم تسبقها أشكال و صيغ من الروابط هيأت لها إمكانية التطور؟ خاصة إذا علمنا بأن الفرد الأوربي ،سواء كان ينتمي لعامة المجتمع أو لخاصته، لم يكن يعيش منعزلا عن الأفراد الآخرين المنتمين لفئته أو لطبقته أو لطائفته .كما لم يكن منعزلا عن الأفراد المنتمين لغير فئته. و لا يختلف اثنان في القول بأن أفراد الأرستقراطية ، الذين يهمنا أمرهم في هذا المقام، كانت تربط بينهم منذ عهود قديمة روابط اقتضتها المصالح المشتركة.
و نحن إذ نطرح هذه التساؤلات و نقدم هذه المعطيات ،فللتذكير بأن عددا من المؤرخين، وخاصة منهم الفرنسيون ،الذين سيأتي ذكر أسماء بعضهم لاحقا، ينكرون أن تكون الفيودالية – أي الروابط الفيودو – فصلية - امتدادا للروابط التي كانت قائمة بين أفراد الأرستقراطية قبل سنة 1000، أو شكلا متطورا لتلك الروابط . و دعواهم في ذلك هو أن الفيف بوصفه حجر الزاوية في تلك الروابط لم يظهر و لم يصبح محور الفيودالية إلا ابتداءا من مطلع القرن الحادي عشر. كما أن كلمة فيودوم نفسها التي اشتق منها مصطلح فيودالية لم يبدأ تداولها في النصوص إلا بعد سنة 1000.
و خلافا لهذا الاعتقاد، سنحاول في هذا القسم تأكيد فكرة مفادها أن الفيودالية تضرب بجذور عميقة في تاريخ غرب أوربا تعود على الأقل إلى القرن الثالث للميلاد. و قد تطورت لتصل إلى مرحلة النضج ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر. و نميز في مسيرة الفيودالية الطويلة التي امتدت من القرن الثالث حتى نهاية العصر الوسيط بين ثلاثة مراحل كبرى : أولاها مرحلة علاقات الرفاقة ( le Compagnonnage ) التي كان يقيمها أفراد الأرستقراطية الجرمانية مع مجموعة شباب. كانوا يتخذونهم رفقاء و حراسا لهم في نفس الوقت. و تمثل هذه العلاقات في اعتقادنا أصول الفيودالية. و ثانيها مرحلة علاقات الفصالة (le vasselage ) التي أصبح يقيمها أفراد الأرستقراطية في الممالك التي تأسست بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية. و كانت هذه العلاقات قائمة بينهم و بين مجموعة أتباع ( محاربين في المقام الأول ). قامت في بادئ الأمر على عطاء غير الأرض يسمى بنفسيوم ( beneficium )؛ ثم أصبحت الأرض أساس هذه العلاقات منذ منتصف القرن التاسع. و قد استغرقت الفترة الزمنية الممتدة من القرن السادس حتى نهاية القرن العاشر.أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة نضج الفيودالية. و خلالها أصبحت علاقات الفصالة التي سادت خلال المرحلة السابقة قائمة على الفيف. و لذلك نسمي العلاقات التي سادت خلال المرحلة الثالثة باسم الروابط الفيودو- فصلية تميزا لها عن علاقات الفصالة.






الفصل الأول : أصول الفيودالية : علاقات الرفاقة عند الجرمان



لا يمكن البحث في جوانب تاريخ أوربا خلال العصر الوسيط دون استحضار الجرمان، باعتبارهم إحدى أبرز القوى التي أثرت بشكل فعال في مجربات أحداث هذه الحقبة التاريخية. و أثروا تبعا لذلك في نظم و حضارة الحقبة المذكورة. و يكفي أن نذكر مجددا بأنهم هم الذين أجهزوا على الإمبراطورية الرومانية سنة 476. فساهموا بذلك في إعادة تشكيل خارطة أوربا السياسية. و تجاوز فعلهم حدود البنيات السياسية ليشمل البنيات الاقتصادية و الاجتماعية و عناصر السكان. و لا زالت مظاهر تأثيرهم في تاريخ و حضارة غرب أوربا سارية المفعول إلى يومنا هذا. بل تجاوز تأثيرهم حدود القارة الأوربية ليشمل مناطق من إفريقيا بعد أن نجحت مجموعة قبلية من الجرمان، متمثلة في الو ندال، من إقامة مملكة ببعض أقاليم شمال إفريقيا.
و قد بات من المعروف اليوم بأن الشعوب الجرمانية تنحدر من أصول هندو- أوربية. كانت تقيم في المناطق المحيطة ببحر البلطيق ؛ و بالتحديد في الأقاليم التي تتشكل منها اليوم كل من السويد و الدانمارك و النرويج و الأقاليم المجاورة لها. و امتد مجال تواجدها في اتجاه بحر الشمال و مصبي كل من نهر الألب و نهر الويزر.ثم شرعت بعد سنة 900 قبل ميلاد المسيح في القيام بحركة نزوح نحو الجنوب حتى أصبحت مستقرة حوالي القرن الثالث للميلاد في الأقاليم الواقعة شمال جبال الألب و نهر الدانوب و شرق نهر الراين.
يعد مصنفا سايوس يوليوس قيصر( Caius Julius Caesar) (100 ق.م. – 44 ق.م. ) و بوبليوس كورنيليوس تاسيتوس (Publius Cornelius Tacitus ) ( 55 ق.م. – 120 م. ) أهم المصادر الخطية التي يعتمدها الباحثون في استقاء معلومات عن نمط حياة و تنظيمات الشعوب الجرمانية. فقد كان الأول قائدا عسكريا مارس السلطة و استكمل مشوار حياته المهنية كمدون للأحداث. خاض سلسلة حروب بين سنتي 58 ق.م. و 51 ق.م. لإخضاع غاليا (Gallia ) أو غالة ( la Gaule ). فوجد نفسه وجها لوجه أمام الجرمان الذين كانوا يشنون غارات على غاليا بين الفينة و الأخرى. فخاض ضدهم عدة وقائع. اضطر في إحداها إلى عبور نهر الراين لاستئصال شأفتهم في مواطنهم. و قد دون مذكراته عن تلك الحروب في مؤلف نشره سنة 51 ق.م. يتضمن مادة طيبة عن السلتيين ( les Celtes ) أو الغاليين، سكان غاليا. كما يتضمن معلومات قيمة – و إن كانت ضئيلة – عن تنظيمات الجرمان العسكرية. بينما كان الثاني مؤرخا محترفا تجول في بعض مواطن القبائل الجرمانية. و دون هو الآخر مشاهداته في مؤلف نشره سنة 98 م. يحفل بمعلومات غزيرة حولها تعد تكملة لما ورد في مذكرات يوليوس قيصر.
يتضح من المؤلفين بأن الشعوب الجرمانية كانت تتألف من عدة قبائل. يمكن التميز فيها بين ثلاث مجموعات كبرى تبعا لمجال استقرارها و هي : الجرمان الغربيون ، و يتألفون من قبائل الألمان والسويڨ و الماركومان و الفرنجة. و الجرمان الشرقيون ، و يتألفون من قبائل الو ندال و القوط و البورغنديين و اللا نڭوبارديين. و أخيرا الجرمان الشماليون، و يتألفون من جرمان جبال الألب و جرمان أقاليم بحر الشمال و جرمان العالم الاسكندناڨي.
كانت كل قبيلة، من مجموع القبائل، تتكون بدورها من مجموعة عشائر تمثل فيها العائلة ( بالمعنى الواسع للكلمة ) الخلية الأساسية. و قد كانت تعيش على الزراعة و تربية المواشي و القنص و الصيد و الحرب التي كانت من أبرز اهتمامات أفرادها من الذكور . فقد كان محاربو إحدى القبائل يشنون غارات على بعض المراكز الواقعة على الحدود مع الإمبراطورية الرومانية. وأحيانا كان مجموعة محاربين من إحدى القبائل يشنون غارات على قبيلة أخرى. فتقع بين أيديهم غنائم، وعدد من الأسرى يبيعونهم كعبيد في الأسواق الرومانية الواقعة بمحاذاة نهري الراين و الدانوب. و يحصلون على نقود يصرفونها في شراء سلع ترفيهية و مواد استهلاكية من تلك الأسواق.
و كان من الطبيعي أن تتزايد حاجياتهم باستمرار.فترتبت عن ذلك زيادة في غارات القبائل على بعضها البعض و ارتفاع في حدة الضغط الذي كانت تمارسه بعض تلك القبائل على أطراف الإمبراطورية الرومانية. فدفع هذا الضغط الأباطرة و كبار الموظفين الرومان إلى اللجوء إلى سياسة تقديم الهدايا العينية و النقدية لرؤساء تلك القبائل و أعيانها و كبار محاربيها بهدف استقطابهم و صرفهم عن شن غارات على الأقاليم الحدودية. و بذلك أخذت تتراكم في حوزة هؤلاء الرؤساء و الأعيان و كبار المحاربين ثروات عينية ونقدية. أضافوها إلى ما كانوا يحصلون عليه من هدايا و أعطيات من لدن اسر القبائل التي كانوا ينتمون إليها بحكم مكانتهم السياسية و الاجتماعية أو العسكرية. بوصف بعضهم رؤساء قبائل، و البعض الآخر أعضاء في مجالس القدماء ( أو الشيوخ )( les conseils des anciens) أو محاربون كبار. فأصبحوا متميزين عن باقي أفراد القبائل التي ينتمون إليها. و شكلوا طبقة أرستقراطية وراثية. كما كونوا مجلسا دائما ( un conseil permanent ) أصبح يمارس السلطة في القبيلة. و استطاع بعض أعضاء هذا المجلس الارتقاء إلى مصاف الملوك. نعرف من بينهم اليوم أسماء أولائك الذين قادوا الجرمان إلى اقتحام أقاليم غرب أوربا و شمال إفريقيا أمثال شلدريك الأول ( Childéric ) ملك الفرنجة و ألريك ( Alaric ) ملك القوط الغربيين و جنسريك ( Genséric ) ملك الو ندال.
و كان من تبعات تنامي ثروة أفراد الطبقة الأرستقراطية و تميزهم عن سائر الأفراد، أن لجأ عدد منهم الر استقطاب مجموعات من الشباب أصبحوا يشكلون حاشياتهم. فكانوا يحضرون اجتماعاتهم و مجالسهم. واتخذوهم في نفس الوقت حرسا خاصا لهم. يسهرون على حمايتهم و حماية ممتلكاتهم و مرافقتهم في تنقلاتهم. و قد كان كل ارستقراطي يحرص على انتقاء الشباب المكونين لحاشيته و حرسه. فيشترط أن تكون سمعة الواحد منهم طيبة. و أن يكون على دراية بفنون الحرب و القتال.
و قد تحدث تاسيتوس عن هذه المجموعات من الشباب باسم" الرفقاء "( les compagnons ) قائلا في نص تقتضي الضرورة إثباته رغم طوله :"(...) إن إحدى سمات النبالة هي أن يحضى بعض الأفراد برضى بعض الرؤساء.وهي رغبة بعض الأفراد من الشباب أيضا. إذ يسعون إلى الانضمام إلى بعض الأقوياء. و قد كان يتم التعبيرعن هذه الرغبة منذ قديم. و إن الفرد لا يخجل حين يجد نفسه من بين الرفقاء(...) بل إن الرفقاء يتنافسون ليكون الواحد منهم أكثر قربا من الرئيس. كما يتنافس الرؤساء ليكون للواحد منهم أكبر عدد من الرفقاء. انه المجد، إنها القوة أن يكون الواحد محاطا دائما بمجموعة كبيرة من أفراد شباب يمثلون الصفوة. فهم زينة أوقات السلم و حرس أوقات الحرب(...)إن الحرص عليهم شديد، ومن أجله تقدم لهم الأعطيات. وغالبا ما يكفي اسمهم لتحديد نتيجة الحروب..." . و يقول في موضع آخر "(...)إن الرؤساء يحاربون من أجل النصر، أما الرفقاء فيحاربون من أجل رئيسهم". و ينتصرون له ظالما أو مظلوما.
و مما لا شك فيه، أن النصوص التي يتضمنها مصنف تاسيتوس تأكد المنحى الحربي "العسكري" الذي أخذته علاقات الرفاقة بين الشباب المحاربين و الملوك و أعيان و رؤساء القبائل. و ينسجم هذا التطور، فيما يبدو، مع طبائع القبائل الجرمانية المعروفة بميلها إلى الحرب و القتال منذ أزمنة غابرة كما يوضح ذلك يوليوس قيصر في مذكراته . و استمرت كذلك زمن تاسيتوس؛ الذي يذكر بأن الواحد من أفراد تلك القبائل لم يكن يباشر أمرا خاصا أو عاما إلا وهو يحمل سلاحه . ومهما يكن من أمر،فإن تاسيتوس الذي خص مسألة الرفاقة بحديث مسهب في مصنفه لا يفصح عما إذا كانت تقدم للرفقاء الشباب قطع أرض أم لا؟ و الأكيد أن كل أرستقراطي كان يسهر على إيواء أفراد المجموعة التابعة له. و يقوم بتلبية حاجياتهم من ملبس و مأكل و مشرب. و يقدم لكل واحد منهم فرسا وقطع السلاح التي تتطلبها مهامه كمحارب.بالإضافة إلى بعض الهدايا و التحف أو أعداد من العبيد الذين يتم الحصول عليهم بعد كل غارة محلية على إحدى القبائل أوغارة على أحد المواقع الرومانية.و من هذا المنطلق نعتقد أنهم لم يكونوا يستلمون قطعا أرضية. لأنهم لم يكونوا في حاجة إلى مصدر عيش ،و لأن مهامهم كانت تقتضي بأن يظلوا بالقرب من سيدهم.
و يبدو أن هذه الروابط التي تعود إلى ما قبل القرن الثالث استمرت في الوجود و التطور خلال القرنين الرابع و الخامس رغم أنه من الصعب تتبع مسارها خلال هذه الفترة نظرا للغموض و الاضطراب الذي ميزها. فقد تردت الأوضاع في الإمبراطورية الرومانية بسبب الفوضى السياسية والعسكرية والمصاعب الاقتصادية و الاضطرابات الاجتماعية. و زادت من تفاقم تلك الأوضاع عمليات الغزو الجماعي الذي قامت به القبائل الجرمانية.و من المعطيات الدالة على استمرارها و تطورها هو أن بعض الكلمات التي تؤلف اليوم ما يسمى بقاموس الفصالة، مثل كلمة ڤاسو ( vasso ) و كلمة ڤاسوس ( vassus )، كانت مستعملة في اللغة اللاتينية المتداولة من قبل العامة قبل القرن السادس. وستدخل ضمن لغة المتن الذي تتألف منه القوانين " الباربارية " ( les lois barbares ) التي أصبحت تنظم المعاملات في الممالك الجرمانية بعد القرن السادس،و خاصة المجموعة المعروفة بالقانون الساليla loi Salique ) ) و المجموعة المعروفة بالقانون الضفي (la loi Ripuaire ) . ففي هذه القوانين أصبحت كل من كلمة ڤاسو و كلمة ڤاسوس تطلق على العبيد وكذلك على مجموع الأفراد المرتبطين عن طريق الولاء بأفراد آخرين ، أي أتباع. و يتضح من خلال القوانين المذكورة بأن هؤلاء الأتباع كانوا أفرادا متواضعين من الناحية الاجتماعية، و لكنهم كانوا،خلافا للعبيد، أحرارا من حيث الوضع القانوني. بدليل أن القانونان السالي و الضفي يوضحان بأنهم كانوا يحضرون الاجتماعات العمومية ( les plaids ). و من المعلوم أن حضور الاجتماعات خلال فترة سيادة الممالك الجرمانية الناشئة في أقاليم غرب أوربا، كان مقتصرا على الأفراد الأحرار،كيفما كان موقعهم في علاقة التبعية.

تسمح المعطيات التي أوردناها بتأكيد وجود روابط تبعية قبل القرن الثالث للميلاد. نشأت في أطراف أقاليم غرب أوربا. ثم انتقلت في مرحلة لاحقة، أي بعد سنة 476 ، إلى قلبها. فهل معنى ذلك أن الفيودالية ذات أصول جرمانية؟ هذا ما نميل إليه رغم أن قلة من الباحثين هم وحدهم الذين أثاروا هذه المسألة. ومن بينهم الفرنسي فرنسوا ﯕيزو ( Francois Guizot ) الذي يؤكد في كتاب صدر له سنة 1830 بأنه ليس من المعقول أن تصل الفيودالية إلى مرحلة الاكتمال دون أن تكون لها مقدمات . و إذ تفادى جعل تلك المقدمات ذات أصول جرمانية أو رومانية، فقد دعا إلى رصدها من خلال البحث في ثلاثة عناصر. أولاها طبيعة الملكية الترابية و ثانيها انصهار السيادة مع ملكية الأرض و ثالثها منظومة المؤسسات التشريعية و القانونية و العسكرية . أما الأنجليزي سير فرنسيس بالغريب ( Francis Palgrave ) فقد كان أكثر وضوحا حين ذهب إلى التأكيد بأن بعض عناصر الفيودالية ذات أصول جرمانية. حملها الجرمان معهم من أدغال جرمانيا. ومن بين تلك العناصر الولاء ( l’hommage ) الذي يتم التعبير عنه عمليا بانحناء شخص أمام شخص آخر و وقوفه على الركبتين و قولا بترديده لعبارة " أريد أن أصبح رجلك " . أما قطب المدرسة التاريخية الفرنسية المعاصرة مارك بلوك فقد نعت مسألة الأصول بكونها " معضلة " يصعب الحسم فيها. و اكتفى في موضوعها ببضعة أسطر. أبان فيها عن ميله إلى اعتبار أصول الفيودالية جرمانية- رومانية في نفس الوقت. امتزجت مع مرور الزمن. و على غراره ذهب روبير بوتريش ( Robert Boutruche ) إلى القول بثنائية الأصول حيت أكد بأن " الفصالة " نشأت من جراء قيام أفراد الأرستقراطية في مختلف الممالك الجرمانية الناشئة بإحياء علاقات الرفاقة ( الجرمانية( وعلاقات الإذعان و التضرع ( la recommandation ) التي كانت منتشرة في ربوع الإمبراطورية الرومانية خلال المرحلة المتأخرة من عمرها .
و تعقيبا على ما ذهب إليه بوتريش، نوضح بأن علاقات الإذعان و التضرع قامت بين بعض الأفراد الأثرياء من الأرستقراطية الرومانية و كبار الموظفين. و أخذت طابع الزبونية و تبادل المصالح. بينما كان أفراد آخرين من متوسطي الحال أو من الفقراء يضعون أنفسهم رهن إشارة أولائك الأثرياء و كبار الموظفين لخدمتهم و الانخراط في زمرتهم نظير الحصول منهم على ما يسد رمقهم. و لكنها لم تأخذ في كل الأحوال ذلك المنحى الحربي الذي أخذته علاقات الرفاقة. لأن الإمبراطورية الرومانية، حتى تاريخ سقوطها، ظلت " دولة مؤسسات " كانت فيها أمور حفظ الأمن الداخلي و خوض الحروب موكولة لمؤسسات وأجهزة رسمية، أبرزها الجيش النظامي. و بالتالي، فان أفراد الأرستقراطية الرومانية لم يكونوا في حاجة إلى تكوين " مليشيات عسكرية " مسخرة لحمايتهم. و لكن لا بأس من التنبيه في هذا المقام بأن العادة جرت في جميع ولايات الإمبراطورية بأن يحيط كل واحد من أفراد الأرستقراطية نفسه بحاشية من الأتباع و الأصدقاء و "الزبائن" و من ضمنهم بعض أفراد الحرس الخاص.و لا شك أن هذا الإجراء الأخير أخذ في الاستشراء بموازاة تفاقم الأوضاع الأمنية خلال المراحل المتأخرة من عمر الإمبراطورية.
و مهما يكن من أمر،فان روابط التبعية لم تكن قائمة على الفيف خلال هذه المرحلة الأولى من مسيرة الفيودالية حسب الإفادات التي تقدمها النصوص المتوفرة. كما أن تلك الروابط كانت تتم في نطاق محدود نسبيا، على اعتبارأن المعنيين بها كانوا نفرا من علية القوم و مجموعة شباب يسعون لتحسين أوضاعهم الاجتماعية. ويطمحون لتحقيق المجد من خلال استغلال شجاعتهم و مقدراتهم القتالية.
و لكن يجب التذكير في هذا المقام بمقولة " أول الغيث قطرة ". فهذه الروابط كانت في بداياتها. و بما أن حالة عدم استقرار الأوضاع الأمنية استمرت بعد سنة 476 على امتداد عدة قرون، فقد استدعى الأمر من أفراد الأرستقراطية البحث المتواصل عن سند حرصا على ذواتهم و على ممتلكاتهم. و كان من تبعات ذلك أن اتسع نطاق تلك الروابط كما سنرى لاحقا. و لا بأس من التذكير بأن علاقات التضرع و الإذعان استمرت هي الأخرى في خط موازي مع علاقات الرفاقة. فالأوضاع السياسية المتردية و الظرفية الاقتصادية الصعبة ظلت تدعو الأغنياء إلى البحث عن سند و الفقراء إلى البحث عمن يحميهم و يلبي حاجياتهم .





الفصل الثاني : من علاقات الرفاقة إلى علاقات الفصالة



تميزت الممالك الجرمانية بكونها لم تكن دول مؤسسات قوية ومتطورة كما كان الأمر خلال سيادة الإمبراطورية الرومانية. لأن السلطة فيها ظلت منذ عهد الملوك الأوائل، و على امتداد حوالي ثلاثة قرون، تختزل في شخص الملك الذي كان قائد حرب في المقام الأول. يعتبر، طبقا لتقليد جرى العمل به منذ عهود قديمة، الكيان الذي يخضع لسلطته بمثابة غنيمة تمت حيازتها بعد النصر. يتصرف فيها كيفما شاء، ثم يقسمها على أبنائه قبيل وفاته. و لذلك فان " الرجالات " الذين كانوا يساعدون الملك في إدارة و تدبير " الغنيمة " كانوا بمثابة خدام أكثر من كونهم موظفي دولة. لم يتعد فعلهم و تأثيرهم حدود دائرة ضيقة. و من ثم، ظلت الأقاليم البعيدة عن القصر، الذي يمثل المركز،بمنأى عن تأثير الملك و خدامه. وهذا ما يؤكده روبيرفوصيي( Robert Fossier ) حين يذكر بأن عدم فعالية المؤسسات و الأجهزة في مملكة الفرنجة بغالة، كما في مملكة القوط الغربيين باسبانيا أو في مملكة اللومبارديين بايطاليا دفع بعض كبار الملاكين العقاريين، بمن فيهم كبار رجال الدين، إلى الاستعانة بعدد من فرق العبيد الذين كانوا في ملكيتهم و بمجموعات من الشباب. إذ كانوا يسهرون على إيوائهم و إعالتهم و تزويدهم بالسلاح نظير القيام بحراسة ممتلكاتهم . و قد كانت مهام هؤلاء المسلحين تتجاوز حدود الحراسة إلى المشاركة في أي اشتباك قد يقع بين المالك العقاري الأرستقراطي و أحد جيرانه. و كذلك اﻹنخراط ، تحت إمرة سيدهم، في الحروب الدفاعية أو الهجومية التي تخوضها المملكة. و يكتسي هذا المعطى أهمية كبرى نظرا لما سيترتب عنه مستقبلا من نتائج فيما يخص علاقة " الدولة " بظاهرة الفيودالية، لذلك سنتوقف عنده قليلا.
فقد كانت الحروب من الثوابت التي رافقت تاريخ الممالك الجرمانية منذ مراحل تأسيسها. حتى إن إحدى الباحثات ذهبت إلى القول بأن فترات السلم خلال مرحلة سيادة الممالك الجرمانية كانت بمثابة الفاصل بين مشهدين في عرض مسرحي. و مع ذلك، فان ذلك الفاصل لم يكن مرغوبا فيه. و يبدو أن هذا القول ينطبق أيضا على الفترات التاريخية التي تلت مرحلة سيادة الممالك الجرمانية حسب خلاصة انتهت إليها باحثة أخرى. و دون استعراض كرونولوجية الحروب التي خاضتها هاته المملكة أو تلك، يمكن التمييز فيها بين ثلاثة أشكال : حروب توسعية، و حروب دفاعية، و حروب ناتجة عن نزاع بين أفراد إحدى الأسر المالكة أو بين الأسرة الحاكمة في مملكة من الممالك و بعض العناصر المتمردة على السلطة. باﻹضافة إلى شكل آخر أشرنا إليه سابقا، و إن لم يكن يعني القائمين على الأمرمباشرة، تمثل في الحروب الخاصة (les guerres privées ) بين بعض الأسر الأرستقراطية داخل المملكة الواحدة. و في جميع الأحوال كانت وقائع تلك الحروب كثيرة. و كانت تتطلب التوفر على موارد بشرية هائلة و متجددة باستمرار؛ و هو الأمر الذي لم يكن من السهولة بمكان لاعتبارات ديموغرافية و اقتصادية . و من ثمة، تتضح صحة ما ذهب إليه مارك بلوك منذ ثلاثينيات القرن الماضي حين أكد بأن التحدي الأكبرالذي كان على القائمين على الأمر رفعه لم يكن متصلا بمسألة تدبير شأن ممالكهم أوقات السلم، بقدر ما كان يتمثل في كيفية الحصول على العناصر البشرية اللازمة لخوض الحروب . لذلك كانوا يستنفرون عند كل وقعة كل الذكور الأحرار القادرين على حمل السلاح. كما كانوا يستعينون بخدمات أفراد الأرستقراطية الذين كانوا يعززون " جيوش الملوك " بما كان تحت إمرتهم من عناصر مسلحة. و سيزداد الأمر حدة في الممالك التي أصبحت محاذية لمراكز الوجود الإسلامي في أوربا بعد أن نجح المسلمون في فتح الأندلس سنة 711 و شرعوا في عبور جبال البرانس. و أهم الممالك التي نعنيها في هذا المقام مملكة غاليا ( أو غالة ) التي كان يحكمها شارل محافظ قصر أوسترازيا إبان فترة أوج الفتوحات الإسلامية في أوربا بعد سنة 711. فقد شرع في استنفار جميع من له قدرة على حمل السلاح. بل فكر جديا في استحداث فرق من المحاربين تمتطي صهوات الخيول بعد أن كان معظم محاربي المملكة من المشاة ؛ في حين كان المسلمون يعتمدون غي حروبهم على الفرسان إلى جانب المشاة. وفي هذا الصدد، يفيدنا أحد إخباريي القرن الثامن ، بأن شارل نجح بعد سنة 716 في تكوين فرق من الفرسان انضمت إلى صفوف خاصة محاربيه( حرسه الخاص ) الذين كانوا مرتبطين بقائدهم شارل بعلاقات تبعية و ولاء. و كان المحاربون العاملون تحت إمرة أفراد الأرستقراطية يعززون هذا الجيش؛ بالإضافة إلى كل من له قدرة على حمل السلاح. و قد حقق انتصارات كاسحة في جميع الوقائع التي خاضها ضد السكسونيين( les Saxons ) و الألمن ( les Alamans ) و الفريزيين ( les Frisons ). و تمكن من إيقاف المد الإسلامي في وقعة بواتيي ( Poitiers ) ( بلاط الشهداء ) سنة 732. ثم اتجه نحو الجنوب حيث استرد أقاليم أكيتانيا و بورغونديا و بروﭬانسيا. و استكمل بذلك وحدة غالة.
و أهم ما في الأمر،هو أن القائمين على الأمر في غالة بدوا ، منذ عهد شارل مارتل، أكثر اقتناعا من أي وقت مضى بمدى ثقل الأرستقراطية على المستويين العسكري و السياسي ، فارتأوا الاستمرار في تسخيرها لتحقيق مشاريعهم. و لذلك أخذوا يغضون الطرف عن إجراءات أفراد الأرستقراطية الذين ظلوا يدينون بالولاء للقائمين على الأمر و لممثليهم في مختلف القومطيات؛ و لكنهم لم ينفكوا في نفس الوقت يعملون على توسيع نطاق شبكة علاقات التبعية التي سبق أن أرسى قواعدها آباؤهم و أجدادهم منذ أمد بعيد. و كان من نتائج سياسة غض الطرف أن أصبحت لإجراءات أفراد الأرستقراطية شيئا فشيئا تداعيات في دائرة كل قرية تقع بها ممتلكات هذا الأرستقراطي أو ذاك. تجلت تلك التداعيات في كون عموم الفلاحين المقيمين في تلك القرى أصبحوا يخضعون أكثر للقوة التي يلمسون وقعها و ليس لتلك التي يشعرون بصداها. و هذا أمر طبيعي إذا علمنا بأن القوة اقترنت في جميع المجتمعات و منذ فجر التاريخ بالثروة. فالذي يملك
الثروة يملك القوة. فيتقرب له من هم أنداده أو الأقل منه ثروة و يذعن له المستضعفون .
و من ثم، فان تلك الإجراءات ذات الطابع الحربي،و ما استتبعها من علائق، أخذت تتبلور و تترسخ أكثر فأكثر في ربوع قرى غرب أوربا على حساب علاقات التضرع و الإذعان ( la recommandation ) التي ضاق نطاق استعمالها دون أن تختفي بصورة نهائية ، طالما أن نسبة كبيرة من أفراد مجتمع غرب أوربا كانت تعيش في حالة إملاق. و لذلك، فان عددا منهم ظلوا يضعون أنفسهم رهن إشارة متوسطي الحال و الأغنياء لخدمتهم ، أو فقط لاستجدائهم و الحصول منهم على ما يسد رمق أفراد أسرهم.
و يؤكد روبير بوتريش غلبة العلاقات ذات البعد الحربي (العسكري)، مستدركا في ذات الوقت
موقفه السابق بخصوص ثنائية أصل الفيودالية في قوله :" المحصلة النهائية هي أن الفصالة ،في معناها الحقيقي ،نشأت في أوساط المحاربين وفق مقتضيات ستتضح و ستتبلور أكثر مستقبلا. و ستفضي في ذات الوقت إلى إرساء التزامات أكثر تخصصا ستلقي بضلالها على علاقات التضرع و الإذعان" .
و يبدو أن موعد أجرأة مقتضيات الفصالة لم يتأخر كثيرا. فالملوك الجرمان الأوائل في غالة و في الممالك الأخرى كانوا يغضون الطرف عن مختلف أشكال علاقات التبعية. ولكن ملوك ما بعد العقد الثالث من القرن الثامن أصبحوا منخرطين في تفعيلها. و يعني هذا الانخراط في أعين بعض الباحثين نجاح الأرستقراطية في الهيمنة على " المؤسسة الملكية " في تلك الممالك.
و تمثل سنة 757 لحظة حاسمة في هذا الاتجاه. وقعت أحداث تلك اللحظة في غالة أكبر الممالك الجرمانية و " مهد الفيودالية ". و أورد اينهارد أو ايجنهارد ( Eginhard ) تفاصيلها في " حولياته " ضمن أحداث سنة 757 كما يلي :" كان الملك ببين (Pépin) يرأس جمعا ببلدة كومين ( Commynes ou Compiègne )]في أحد أيام تلك السنة[ فقدم تسلون ( Tassilon ) دوق (Duc) ﺑﭬاريا. و مثل بين يدي الملك و قدم له الولاء عن طريق لف اليدين. ثم وضع يده على الكتاب المقدس و أقسم اليمين بأن يصبح تابعا للملك و ابنيه السيد شارل و السيد كارلومان. و هذا ما يتوجب أن يقوم به بتفان و إخلاص كل فصل لسادته. و قام أعيان ﺑﭬاريا الذين قدموا مع تسلون بدورهم بتأدية فروض الطاعة والولاء " .
يكتسي النص من دون شك أهمية قصوى لكونه يتضمن معطيات ذات قيمة بالغة في تاريخ الفيودالية. و لذلك يستوجب إبداء الملاحظتين الآتيتين :
أولا : يسجل النص نقلة نوعية في طبيعة علاقات التبعية، و خاصة فيما يتعلق بأطرافها. فقد كانت علاقات الرفاقة تربط منذ ما قبل القرن الثالث بين مجموعة محاربين و أحد أعيان أو رؤساء القبائل الجرمانية أو أحد كبار محاربيها. و استمرت حتى سنة 476 تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية كما رأينا من قبل. ثم أصبحت تربط بين أحد أفراد الشريحة العليا في الأرستقراطية العقارية و مجموعة محاربين حتى سنة 757. و سيستمر هذا النوع من الروابط وفق مقتضيات جديدة. و لكن سنة 757 تسجل بداية دخول أطراف جديدة سامية في شبكة علاقات التبعية.و نعني بهذه الأطراف الملوك و كبار رجالات الممالك من أقماط و دوقات و غيرهم. كان لكل واحد منهم أتباع. و لكن بعد هذا التاريخ أصبح بعضهم تابعا للبعض الآخر. و كلهم أتباع للملك أو لمحافظي القصور الذين أصبحوا ملوكا دون أن تتم تسميتهم كذلك.
ثانيا : يقدم النص صورة عامة عن المراسيم التي أخذت تتم فيها علاقات الفصالة، و التي ستتم فيها الروابط الفيودو- فصلية بعد ذلك. كما يتحدث عن أهم المقومات التي سيرتكز عليها هذا النوع من الروابط خلال المرحلة الثالثة من مسيرة الفيودالية. و تتمثل هذه المقومات في الولاء الذي يقدمه الفصل، و عملية وضع يديه ملفوفتين بين يدي السنيور(la dation)،وعملية أداء القسم باستعمال أشياء أو بقايا مقدسة ( les Reliques ).
و انطلاقا من هاتين الملاحظتين تبدو التطورات التي يتحدث عنها النص مفاجئة و مثيرة للدهشة. إذ لا يعقل أن تأخذ علاقات الفصالة هذا الطابع الرسمي؛ و تتم مباشرتها في هذه الأجواء بدءا من سنة 757 دون مقدمات.
و توضيحا للأمر نذكر بمعطى أوردناه في مقدمة هذا المبحث و هو أن " رجالات الدولة " في الممالك الجرمانية كانوا بمثابة خدام للملوك. عدد منهم كانوا خداما " مدنيين " يؤلفون حاشية الملك و خاصة أقربائه. و عدد آخر كانوا خداما " عسكريين ". يتشكلون من الحرس و يمثلون صفوة حملة السيف. يقيم هؤلاء الحراس بجانب الملك. يسهرون على حمايته أوقات السلم و يخوضون إلى جانبه الوقائع أيام الحرب. يتمتعون بحظوة خاصة لدى الملك. تتضح إذا علمنا بأن أحد بنود القانون السالي المنظم للعلاقات و المعاملات في مملكة غالة الميروﭬنجية كان يقضي بأن يدفع قاتل أحد هؤلاء الحراس ذعيرة يفوق مبلغها ثلاث مرات مبلغ الذعيرة التي يدفعها الجاني إذا تعلق الأمر بمقتل " مواطن "؛حتى و إن كان هذا " المواطن " إفرنجيا ( un franc ) أو أحد البرابرة ( un barbare ) .
و الجدير بالذكر أن هؤلاء الحراس، الذين كانوا صفوة حملة السيف كما ذكرنا آنفا، كانوا يمثلون أيضا نخبة خدام الملك. كانت تربطهم به علاقات تبعية تقوم على الولاء ( la fidélité) والقسم الذي يؤديه الواحد منهم بعد أن يضع يديه ملفوفتين بين يدي الملك. و يجمع عدد من الباحثين بأن هذه العلاقات، بمختلف مقوماتها و الطقوس التي كانت ترافقها، ورثها ملوك القرنين السادس و السابع عن الأجداد و الأسلاف . و نفس علاقات التبعية هاته أصبحت تربط بين الملوك و خدامهم " المدنيين " كمحافظي القصور و الأقماط و الدوقات و كبار رجال الدين و كبار الملاكين العقاريين بعد تأسيس الممالك الجرمانية. كانت تقوم هي الأخرى على الولاء و القسم، و وضع الخادم (أي التابع) يديه ملفوفتين بين يدي الملك. و الجديد في الطقوس المصاحبة لهذه العلاقات هو أن القسم أصبح يعتمد في أدائه على الكتاب المقدس الذي يضع التابع يده عليه. و قد أدرج كعنصر جديد بعد أن تبنت الممالك الجرمانية المسيحية كديانة رسمية . و سيتواصل العمل بهذه الطقوس خلال القرون الموالية. و سينضاف عنصر جديد إلى العناصر المكونة لها بعد مطلع القرن الحادي عشر و هو عملية تقديم السنيور حفنة تراب أو غصن شجرة صغير مورق للفصل دليلا على تقديم الفيف.
و نذكر بأن غياب هذا العنصر بالنسبة للباحثين الذين ينكرون وجود فيودالية قبل مطلع القرن الحادي عشر، يعني غياب الفيف كعنصرمادي في علاقات التبعية وغيابه كمصطلح في نصوص ما قبل سنة 1000. و نحن إذ نقر بدورنا بما يذهبون إليه، نؤكد في المقابل بأن الأرض كانت حاضرة في علاقات الفصالة و لو على نطاق ضيق نسبيا. كيف ذلك ؟.
لقد كانت علاقات الرفاقة تقوم على عطاء كان يقدمه السيد للرفيق كما ذكرنا فيما مضى. تمثل في المأوى و المأكل والمشرب و السلاح و الحصان. و ظل نفس العطاء يمثل محور علاقات الفصالة خلال القرنين السادس و السابع و النصف الأول من القرن الثامن. ثم حدث أن دخل القائمون على الأمر و ممثلو السلطة " المركزية " كطرف في علاقات الفصالة، فضلا عن أطرافها القدامى ككبار رجال الدين و كبار الملاكين العقاريين. فأصبح بعضهم " سنايرة " (des seigneurs) و بعضهم أفصالا. حينها لم يعد من المعقول أن يظل العطاء على حاله. بمعنى أنه كان يجب أن يرقى إلى مستوى هذه الأطراف السامية. فكيف أصبحت طبيعته ؟.
كان حريا بالإخباري الذي نقل إلينا خبر اجتماع ببين القصير سنة 757 و مقدم دوق ﺒﭬاريا إلى بلدة كومين و تقديمه لفروض التبعية و الولاء للملك أن يخبرنا عن نوعية العطاء الذي قدمه الملك السنيور لفصله الدوق، و لكنه لم يفعل. و يبدو أن ثمة ما يبرر عدم بث الإخباري في الأمر،لأن تسلون كان في غنى عن ذلك العطاء الذي يقدم لمتوسطي و بسطاء الأفصال. كما لم يكن ينتظرأن تمنح له قطعة أرض و هو الدوق الذي يتصرف في أرض شاسعة المساحة؛ و هي دوقية ﺑﭬاريا التي كان يحكمها.و ربما كان العطاء هو الدوقية نفسها التي أقر ببين تسلون على حكمها.
و على كل، فان كتب الإخباريات و الحوليات تفيدنا بأن العطاء الذي كان معروفا منذ قرون ظل معمولا به في أوساط الفئات المتوسطة و الدنيا المعنية بعلاقات الفصالة. و لكن الأمر اختلف بالنسبة لخاصة المجتمع. فقد شرع شارل مارتل قبيل سنة 732 في تقديم قطع أرض تقع ضمن ممتلكات الأسرة الحاكمة لنفر من أتباعه من كبار أفراد الأرستقراطية عرفانا بما أسدوه من عون و مساندة. كما وزع قطعا أخرى على كبار أتباعه من حملة السيف. و بما أن الوقائع كانت كثيرة، و أعداد المحاربين كانت في تزايد مستمر،لم يكن ممكنا أن يستمر في تقديم قطع أرض من ممتلكاته أو من ممتلكات المملكة، لذلك لجأ إلى مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت في حوزة الكنائس. و كان من الطبيعي أن يثير هذا الإجراء حفيظة تلك المؤسسات. و في ذلك خسارة لشارل مارتل الذي كان في حاجة إلى سندها؛ خاصة وأنه كان لازال محفظ قصر يحكم " نيابة " عن ملك يحضى بالشرعية. و استدراكا للموقف دعي إلى إيجاد مخرج للمشكلة. فعقدت ثلاث مجامع دينية بين سنتي 742 و 744. انتهت إلى الإقرار بأن الأراضي التي صودرت من الكنائس و وزعت على أفصال (محاربين أو غير محاربين) تظل في ملكية تلك المؤسسات. و لا حق للأفصال فيها إلا حق الاستغلال الذي ينتقل إلى ورثة الفصل بعد وفاة هذا الأخير. و قد يتوقف مفعول حق الاستغلال إذا ارتأى الملك ذلك. و يلتزم الأفصال المستغلون لما في أيديهم من أراضي بتقديم ضريبة محددة. نص عليها عقد كان يبرمه كل فصل مع الكنيسة مالكة الأرض. بينما كان يبرم ذات الفصل عقدا آخر مع الملك باعتباره السنيور المانح لحق الاستغلال. و منذ هذا التاريخ وحتى مطلع القرن الحادي عشر بدأت ترتسم في الأفق معالم علاقات الفصالة المتمحورة حول قطعة أرض كعطاء يعرف في النصوص باسم " بنفسيوم " (beneficium) . و تترك نفس النصوص الانطباع بأن مجال استعمال هذا النوع من العطاء أخذ يتسع على حساب العطاء الذي كان معمولا به منذ ما قبل القرن الثالث للميلاد ( أي المأوى و المأكل و ما شاكل ذلك ). كما أن أعداد المعنيين بالعطاء " القديم " ظلت في تراجع رغم عدم وجود معطيات رقمية تثبت ذلك.
و يمثل عهد شارلمان (687 – 814) فترة حاسمة في اتساع نطاق استعمال قطع الأرض كعطاء في علاقات الفصالة. و قد استمر هذا الاتساع حتى نهاية حكم الأسرة الكارولنجية حسب الخلاصة التي انتهى إليها فردناند لوط ( Ferdinand Lot ) منذ عدة عقود . و قد كان محقا في ذلك. على اعتبار أن شارلمان خاض حروبا كثيرة في اسبانيا وايطاليا و جرمانيا أفضت إلى الحصول على مساحات شاسعة من الأرض. وزع قطعا كثيرة منها على عدد من أفراد الأرستقراطية الذين ارتبطوا به بعلاقات تبعية و ولاء. ولكنه حرص على ألا يكون لهم عليها سوى حق الانتفاع ،لكي يحرص كل مستفيد على التشبث بالولاء و يضع في حسبانه بأن قطعة الأرض قد تنتزع منه إذا لم يف بالتزاماته العسكرية المتمثلة في استنفار ما تحت إمرته من محاربين عند الضرورة. و على كل ، فقد أصبحت الأرض حجر الزاوية في علاقة الملوك الكارولنجيين بأفراد الأرستقراطية. و هذا ما يفهم من كلام الباحثان جون- بيير بولي(Jean- Pierre Poly) و اريك بورنزيل ( Eric Bournazel ) اللذان تناولا المسألة منذ بضع سنوات وأكدا بأن البنفسيوم غدا عنصرا أساسيا في علاقات الفصالة منذ منتصف القرن التاسع . و نعتقد من جانبنا بأن هذا التطور ينسجم مع مسارعلاقات الفصالة التي اتخذت منذعهد شارلمان طابعا رسميا. و أصبحت إحدى الأدوات المعتمدة في الحكم و التسيير.
و يبدو هذا التطور في علاقة الدولة بالفصالة غريبا إذا علمنا بأن شارلمان قام بعدة إصلاحات في مجال الإدارة و القضاء و نظام الحكم بهدف إرساء دعائم " دولة مركزية " ذات مؤسسات يخضع لسلطانها جميع سكان المملكة - الإمبراطورية. و كان من المفترض أن تفضي تلك الإصلاحات إلى تقليص مساحة شبكة علاقات التبعية و الحد من سطوة أفراد الأرستقراطية؛ خاصة وأن شارلمان قرر الإشراف شخصيا على تعيين الأقماط و الدوقات و كبار رجال الدين على رأس مختلف القمطيات. و حرص على أن يكونوا هم المسؤولين المباشرين على إقرار الأمن و على جباية الضرائب وهم المشرفين على أمور القضاء. و زاد بأن دعم هذا الإجراء بإقرار مبدإ الرقابة المستمرة بواسطة المبعوثين الملكيين ( les missi dominici )؛ الذين كانوا يتجولون عبر مختلف القمطيات و يرفعون له تقارير عن سير الأقماط و المؤسسات الدينية و عن سلوك أفراد الأرستقراطية. غيران هذه الإجراءات لم تحدث القطيعة المنتظرة مع علاقات الفصالة، لأن شارلمان كان يراعي في اختيارالأقماط و الدوقات و كبار رجال الدين أن يكونوا من أشد المخلصين للأسرة المالكة. تربطهم بشخص الملك علاقات تبعية و ولاء ، أي علاقات فصالة. على أن يغدوا في المقاطعات التي يشرفون على إدارتها " سنايرة " (des seigneurs ) يرتبط بهم بعلاقات فصالة مختلف رجال الدين و كبار الملاكين العقاريين. بينما تترك لعموم فلاحي المقاطعات و " المواطنين " الأحرار حرية اختيارالسنايرة الذين يرغبون في الارتباط بهم بعلاقات فصالة.
و بناء عليه يتضح بأن الإصلاحات التي قام بها شارلمان في مجال نظام الحكم و إدارة القمطيات لم تكن تهدف استئصال علاقات الفصالة بقدر ما كانت تروم " ترويضها " أو بعبارة أصح تقنينها . لأن عملية استئصالها كانت صعبة ،حتى لا نقول مستحيلة، لاعتبارات يمكن إيجاز أهمها فيما يلي :
أولا : رسوخ علاقات الفصالة في المجتمع عامة، وفي أوساط الطبقة الأرستقراطية التي تبنتها كتقليد منذ قرون. و لم يكن بإمكان شارلمان المضي قدما في إصلاحاته الإدارية بإلغاء هذا التقليد. و من ثم التنكر لأفراد الأرستقراطية الدين أسدوا خدمات جلة لآبائه و أجداده أوصلتهم إلى دفة الحكم على حساب ملوك الأسرة الميروﭬنجية.
ثانيا : افتقار الدولة إلى أطر كافية و محترفة لتدبير شؤونها في وقت أصبحت فيه مترامية الأطراف بعد الحروب التوسعية. و بالتالي، فان الضرورة كانت تقتضي الاستمرار في الاعتماد على أفراد الأرستقراطية في تدبير مختلف القمطيات من خلال علاقات الفصالة التي أرسوا دعائمها والتي مكنتهم من القيادة و التسيير.
ثالثا : محدودية الموارد المالية الضرورية لتغطية النفقات التي تتطلبها مهام الحكم و التدبير و دفع مرتبات " موظفي " الدولة من رجال الدين و العلمانيين رغم الإصلاحات الاقتصادية و المالية التي قام بها شارلمان. و بالتالي ،كان لابد من استعمال الأرض كوحدة نقدية لتغطية النفقات الإدارية و العسكرية. و بما أن الحروب التي خاضها شارلمان و فرت مساحات شاسعة من الأرض، فقد أغنت عن المضي قدما في البحث عن مصادر السيولة النقدية. كما أن تلك الوفرة شجعت على المنح المطلق أحيانا و على المنح المشروط بحق الاستغلال في أحايين كثيرة. و كان من تبعات ذلك أن استغل عدد من أفراد الأرستقراطية وفاة شارلمان فسيطروا على قطع الأرض التي منح لهم حق استغلالها. كما أن خلفاؤه حادوا عن السياسة التي انتهجها في هذا المضمار و التي كان يتبعها فيما مضى محافظو القصر. و ذلك حين قرروا بأن تصبح ملكية الفصل على قطعة الأرض التي منحت له كعطاء ( beneficium )، ملكية تامة مطلقة نظير استمراره على الولاء سواء كان سيده، أي " سنيوره " أحد الخواص أو سيده الملك شخصيا.
و انطلاقا مما تقدم، نخلص إلى القول بأن علاقات الفصالة التي نشأت في الممالك الجرمانية زمن ضعف السلطات المركزية، كان من المفترض أن تتراجع في مرحلة بدأت تترسخ فيها نسبيا أسس الدولة المركزية. غير أن هذا التطور لم يحصل. بل على العكس من ذلك تماما اكتست تلك العلاقات مشروعية و ارتقت إلى مصاف القوانين المنظمة للعلاقات و المعاملات. و هذا ما حدث بالذات في غالة التي غدت في عهد شارلمان إمبراطورية مترامية الأطراف. شمل نفوذها معظم أقاليم غرب أوربا. و ستشكل الاضطرابات الداخلية التي شهدها هذا الكيان بعد وفاته بالإضافة إلى عوامل خارجية المناخ الأمثل لكي تنطلق تلك العلاقات نحو آفاق أرحب سنتوقف عند تجلياتها في الفصل الموالي .






الفصل الثالث : الروابط الفيودو- فصلية



هيا انهيار الامبراطورية الكارولنجية و ماتلاه من اضطرابات داخلية وغارات خارجية المناخ الملائم لاتساع مجال انتشار علاقات الفصالة في غالة و في مجموع أقاليم غرب أوربا. والحقيقة أن تلك العلاقات لم تتوقف أبدا عن الانتشار منذ عهد محافظي القصور كما أوضحنا ذلك فيما مضى. وكان من الممكن أن يأخذ انتشارها منحى تصاعديا منذ عهد شارل مارتل، غير أن شارلمان نجح في التخفيف من إيقاع مسيرتها حين عمل على تقنينها. و بذلك وفق أيضا في كبح جماح أفراد الطبقة الأرستقراطية و وضعهم تحت السيطرة و لو إلى حين. وبعد وفاته افتقدت غالة، و الغرب الأوربي عموما، حاكما في مثل حنكته و قوة شخصيته. فخلى الجو لأفراد الأرستقراطية الذين عادوا مجددا لتفعيل علاقات الفصالة التي أصبحت منذ هذا الوقت متحورة حول الفيف أكثر من أي وقت مضى. كما اجتهدوا في بسط سلطانهم على عموم الفلاحين. وشرعوا في إرساء الآليات و الوسائل الكفيلة بتحقيق مكاسب معنوية و مادية من وراء ذلك السلطان. و قد استفادوا لتحقيق مبتغاهم من الاضطرابات و الفوضى السياسية. و مع ذلك فيجب التنبيه في هذا المقام، بأن أفراد الأرستقراطية من كبار الملاكين العقاريين و كبار رجال الدين لم يستغلوا تلك الأوضاع للإسراع بإعلان تمردهم أو للتحلل من سلطة القائمين على الأمر في الممالك التي قامت في غالة ، وفي أقاليم غرب أوربا الأخرى ، بعد انهيار الإمبراطورية الكارولنجية. فقد استمروا، حتى العقد الأخير من القرن العاشر، يدينون بالولاء للملوك مباشرة أو للأقماط الذين يمثلونهم في القمطيات. و تجلى ذلك في كونهم ظلوا يؤدون فروض الطاعة للملوك مباشرة، و يحضرون أشغال " الاجتماع الملكي " ( le plaid royal ). و هو واحد من بين اجتماعين سنويين كان يرأسهما الملك. كما ظلوا يؤدون يمين الولاء للأقماط. بعضهم يقومون بذلك بوصفهم أفصالا لهؤلاء الأقماط وبعضهم الآخر يقومون بذلك بوصفهم " مواطنين " خاضعين لسلطة الأقماط. و بما أنهم من علية القوم، فقد كان يتوجب عليهم القيام عمليا بأداء الولاء، و حضور الاجتماعات الدورية التي يدعو إليها القمط ( les plaids comtaux ). و عند تعيين قمط جديد على رأس القمطية، كان كبار الملاكين العقاريين و كبار رجال الدين يقومون بتقديم ولائهم للقمط الذي تم تعيينه. و إذا تعذر على أحدهم القيام بذلك لأسباب قاهرة كان ينيب عنه من يقوم بالعملية. و كأنهم بذلك يقدمون فروض الطاعة و الولاء للملك شخصيا. و هذا التقليد ظل يجري به العمل منذ عهد شارلمان . و لكن بعد مطلع القرن الحادي عشر بدأت تظهر معالم الاتجاه نحو مرحلة جديدة في مسار تطور الفيودالية.
نشترك مع عموم الباحثين في القول بأن هذه المرحلة تميزت بكون الفيف أصبح خلالها يمثل حجر الزاوية في العلاقات بين أفراد الأرستقراطية. و لكننا نختلف معهم حين نذهب إلى اعتبارها مرحلة ثالثة اكتمل خلالها نضج الفيودالية كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذا القسم. في حين، يذهب الباحثون إلى اعتبار هذه المرحلة مرحلة أولى و وحيدة نشأت خلالها الروابط الفيودو – فصلية، و خلالها أيضا تبلورت تلك الروابط. و ينكرون اعتبار علاقات الفصالة مقدمة لهذه الروابط.
و مهما يكن من أمر، فقد قام الباحثون منذ عقود برصد مسيرة هذه الروابط و باستعراض السياق الذي " نشأت " و تطورت فيه. بعضهم اختار الغرب الأوربى ككل مجالا جغرافيا لتناولها، و بعضهم اختار أحد أقطاره الحالية كإطار جغرافي للقيام بذلك ، بينما ارتأى البعض الآخر تناولها في حيز جغرافي أضيق. و بما أننا نتفق معهم، على الأقل في كون فترة ما بعد ستة 1000 تمثل مرحلة تبلور الروابط الفيودو – فصلية، فقد ارتأينا في هذا الفصل اعتماد بعض المنغرافيات الإقليمية للقيام باستعراض أبرز مظاهر هذا التبلور كما حدثت في قمطيتين تنتميان لغالة الموسومة بكونها " الموطن الأصلي " للفيودالية هما قمطية ماكوني ( le Mâconnais) و قمطية بروﭬانسيا ( la Provence ) ؛ وفي إقليمين بعيدين عن غالة هما إقليم اللاسيوم (le Latium) أحد أقاليم ايطاليا، و إقليم قطلونيا ( la Catalogne ) الواقع في شبه جزيرة ايبيريا.

شكلت قمطية ماكوني مجالا جغرافيا لأطروحة أصدرها جورج دوبي ( Georges Duby ) سنة 1953. و قد أنجز هذه الأطروحة بين نهاية الأربعينيات و مطلع الخمسينيات من القرن العشرين؛ خلال مرحلة خاصة من مسيرة البحث التاريخي في فرنسا. تميزت بكون الرؤية الضيقة التي تختزل الفيودالية في الفصالة و الفيف و المؤسسات المتصلة بهما كانت هي السائدة في أوساط الباحثين في التاريخ الأوربي الوسيط و كذلك في أوساط المهتمين بالقانون و تاريخ المؤسسات . بينما كانت الرؤية الواسعة التي تبناها مارك بلوك ( Marc Bloch ) ، و التي ترى الفيودالية إحدى التجليات التي اتخذتها البنيات الاجتماعية في تطورها خلال العصر الوسيط ، لا زالت تبحث لها عن موطئ قدم. و لذلك، جاءت أطروحة دوبي مثقلة بإرث الماضي و مستشرفة في ذات الوقت النقلة التي ستحدث بعد تزايد تلامذة بلوك. و هذا ما يتضح من عنوانها و كذلك من مضمونها. فقد تضمن عنوانها كلمة " مجتمع " على شاكلة عنوان كتاب مارك بلوك. أما مضمونها فتضمن فصولا مطولة خصصها الباحث للفصالة والفيف. و أخرى خصصها لرصد التحولات التي شهدها مجتمع الماكوني خلال القرنين الحادي عشر و الثاني عشر. سعى فيها جاهدا إلى إقناع القارئ بأن الفصالة و الفيف كانا مجرد واجهتين لمؤسسات نشأت و تطورت في سياق تلك التحولات الاجتماعية. و رغم الجهد المبذول، لم يستطع جورج دوبي التحرر من نظرة المؤرخين القدامى للفيودالية حين يرون بأنها تمثل الحصيلة المنطقية لانفراط وحدة الإمبراطورية الكارولنجية. إذ يذهب على غرارهم إلى الاعتقاد بأن تدهور مؤسسة القمطية في إقليم الماكوني أفضى إلى تشكل شبكة من الروابط الفيودو – فصلية انخرط فيها أفراد الأرستقراطية في هذا الإقليم.
أولا : تدهور مؤسسة القمطية
يفيدنا جورج دوبي بأن إقليم الماكوني كان منتظما في إطار قمطية نشأت منذ العهد الكارولنجي في سياق عملية إعادة تنظيم " الإدارة الترابية ". و قد حصل فتور في علاقة هذه القمطية بالمؤسسة الملكية منذ شهر غشت من العام 843، تاريخ توقيع معاهدة ﭬردان ( Verdun ) التي تم بموجبها تقسيم الإمبراطورية الكارولنجية بين الإخوة الثلاث أبناء الملك لويس التقي ( Louis le Pieux ). و تحول هذا الفتور إلى نوع من القطيعة منذ سنة 951 .فقد زار الملك لويس الرابع قمطية ماكوني خلال هذه السنة. و بعد هذا التاريخ لم تطأها أقدام ملك حتى حوالي سنة 1166 . و رغم هذه التطورات، فان مؤسسة القمطية و المؤسسات العمومية المتصلة بها ظلت منذ سنة 951 وحتى حدود سنة 980 أو 982 تمارس دورها في إقرار الأمن و جباية الضرائب و الإشراف على أمور القضاء والسهر على ممارسة الشعائر الدينية في ربوع قمطية الماكوني. و لذلك فان عموم الفلاحين و غيرهم من الأفراد الأحرار ظلوا يثقون في تلك المؤسسات. و لم يعودوا يبحثون عن الأمان و الاطمئنان في علاقات القرابة أو في صيغ أخرى مماثلة لها. أما أفراد الأرستقراطية اللائكية، فقد استمروا من جانبهم في احترام مؤسسات القمطية. و لم يكونوا يترددون في مد يد العون للقمط و للمؤسسات الدينية في الحالات العادية، كما في الظروف الاستثنائية. غير أن مستجدات شهدتها القمطية أخذت تأثر سلبا في علاقة أفراد الأرستقراطية اللائكية و الدينية بالقمط .
فابتداء من سنة 982 تولى إدارة القمطية أوت ﯖيوم ( Otte Guillaume ) الذي أمضى السنوات الأولى من فترة ولايته في سلسلة حروب توسعية ضد جيرانه. استنزفت موارد القمطية واضطر لإنهائها دون تحقيق طائل ليتفرغ لإقرار السلم الاجتماعي في ربوع القمطية على اثر موجة العنف التي أخذت تجتاحها.
لم يخف أفراد الأرستقراطية تذمرهم من سياسة أوت ﯖيوم ،و لكن المصالح المشتركة اقتضت أن يلتفوا حوله لمواجهة هذه المستجدات الداخلية. و يفيدنا جورج دوبي بأن عملية التصدي لأعمال العنف التي أخذت تقوم بها مجموعات من الفرسان و التي واكبتها حركات احتجاج في أوساط الفلاحين شكلت في حقيقة الأمر سلاحا ذو حدين: فقد أبانت عن تظافر جهود القمط و أفراد الأرستقراطية و رجال الدين في تدبير الشأن العام. كما أبانت عن حرص جميع الأطراف على سلامة المؤسسات و استمرارية دورها. و لكنها دلت في نفس الوقت على أن مؤسسة القمطية لم تكن قادرة لوحدها على مواجهة أعمال العنف أو التصدي لحركات الاحتجاج. و بما أن تلك الأعمال و الحركات اتخذت في بادئ الأمر مسحة دينية، فقد تزعمت المؤسسات الدينية عملية مجابهتها. فأمدها ذلك بشحنة معنوية و جعل كبار رجال الدين ينفردون باتخاذ بعض القرارات دون العودة إلى القمط ؛ من قبيل عقد الاجتماعات دون سابق إعلان للبث في آليات التصدي لتلك الحركات. فكان هذا الإجراء لوحده يمثل مؤشرا على تزايد تنامي سلطة كبار رجال الدين و تراجع هيبة القمط أوت ﯕيوم الذي أخذ يتخلى عنه كبار أفراد الأرستقراطية اللائكية بدورهم. و هذا ما تأكد لاحقا بعد سنة 1000 حيث أخذ عدد الحاضرين لاجتماعات القمط يتراجع بشكل مستمر. و إذا صدقنا جورج دوبي ،فان اجتماعا دعا لانعقاده أوت ﯕيوم سنة 1005 لم يحضره سوى أفصال القمط و نفر من كبار رجال الدين و أعيان الأرستقراطية اللائكية. أما اجتماع سنة 1010 فلم يحضره سوى أفصال القمط و أسقف القمطية مرفوقا بأحد مساعديه . و بعد هذا التاريخ أخذت تلك الاجتماعات تكتسي طابعا عائليا. حيث لم يعد يحضرها سوى أقرب المقربين من القمط و أفراد عائلته و أشخاص آخرين تربطهم به صلات قرابة.
و معنى ذلك أن أفراد الأرستقراطية، من كبار الملاكين العقاريين اللائكيين و كبار رجال الدين تحللوا من سلطة القمط و قطعوا صلاتهم بمؤسسات القمطية. و أضحوا سادة أنفسهم و سادة سكان القمطية الذين أصبحوا خاضعين لنفوذهم في إطارما نصطلح على تسميته " بالسنيورية الإلزامية " ( la seigneurie banale ). كما شيدوا القصور التي اتخذوها مراكز لممارسة السيادة. و شكلوا، لتفعيل تلك السيادة أجهزة و مؤسسات تابعة لهم. تقوم بإقرار الأمن و جباية الضرائب و تشرف على أمورالقضاء. و بموازاة ذلك ارتبطوا فيما بينهم بعلاقات فصالة متمحورة حول الفيف.
ثانيا ; تشكل الروابط الفيودو – فصلية
يعود جورج دوبي في معرض حديثه عن الروابط الفيودو – فصلية ليقنع القارئ ضمنيا بأن انخراط أفراد الأرستقراطية الماكونية في هذه الروابط يمثل النتيجة المنطقية التي آل إليها تدهور مؤسسة القمطية. و يفيدنا في هذا الصدد بأن النصوص التي اعتمدها توضح بأن الصلة بين الفيف و الولاء ( l’hommage ) أصبحت وثيقة في الماكوني ابتداء من سنة 1030. حيث غدت كل عملية تقديم فيف تستوجب من المستفيد منه تقديم الولاء و أداء القسم. و تبعا لذلك خصص صفحات مطولة لرصد مسيرة الفيف و للحديث عن الولاء و عن الطقوس التي كانت تتم فيها عملية تقديم الفيف وعملية أداء الولاء. و أهم الملاحظات التي يمكن استخلاصها من تلك الصفحات هي كما بلي :
أولا : لم تكن العلاقات بين جميع أفراد الأرستقراطية في إقليم الماكوني قائمة على الفيف.فقد مثل حجر الزاوية في العلاقات القائمة بين أفراد الشريحة السفلى و أفراد الشريحة المتوسطة في الطبقة الأرستقراطية، و كذلك بين أفراد هذه الشريحة و أفراد الشريحة العليا، أما بين أفراد الشريحة العليا فقامت روابط " فيودو – فصلية " غير مستندة على الفيف.و قليلا ما كان أحد أفراد هذه الشريحة يقدم فيفا لفرد آخر. لأن أفراد هذه الشريحة كانوا ينحدرون كلهم من أسر نبيلة و عريقة مالكة لأراضي مترامية الأطراف، و لأن الأمر يتعلق هنا بشخصين متساويين في المقام و القوة. و من ثم، لم يكن من اللائق أن يسلم أحدهم فيفا للآخر، لأن عملية تسليم الفيف تحيل إلى نوع من الدونية. كما تجعل المستفيد من الفيف في وضعية تبعية و خضوع للشخص مانح الفيف.
ثانيا : اتخذت عملية تقديم الولاء ( l’hommage ) في قمطية ماكوني شكلا عموديا و آخر أفقيا. فقد كان بإمكان الشخص الواحد المنتمي للشريحة السفلى أو للشريحة المتوسطة في الأرستقراطية أن يتسلم فيفين من مانحين. فيغدو بذلك فصلا " لسنيورين ". وغالبا ما كانت تتكرر مثل هذه الحالات في أوساط حملة السيف الذين كان الطلب عليهم قويا، لذلك كان " السنايرة " يتنافسون في استقطابهم بمنح الأفياف و التخفيف من أعباء الخدمات و الالتزامات. بينما لم يكونوا هم أيضا يترددون في الاستجابة لتلك الإغراءات. فكان الواحد منهم يضع مهاراته القتالية رهن إشارة أكثر من سنيور لزيادة رصيده من الأفياف. غير أن تعدد مثل هذه الروابط كان يطرح أحيانا بعض المشاكل، حين يقع سوء تفاهم بين سنيورين. فيجد الفارس المرتبط بهما بعلاقة فصالة نفسه في وضعية حرجة.
و مهما يكن من أمر فالمحصلة النهائية التي يخرج بها قارئ أطروحة جورج دوبي هي أن قمطية الماكوني وقعت في شراك الفيودالية بعد تدهور مؤسسة القمطية و نهاية دورها في رعاية شؤون أفراد المجتمع. فغدت بذلك إحدى المجالات الجغرافية الممثلة لهذه الظاهرة في ربوع غالة. و من ثمة، فان قصة العلاقة بين قمطية الماكوني و الفيودالية تلخص إلى حد بعيد قصة غالة مع هذه الظاهرة تبعا للانطباع الذي تتركه الأطروحة. ففي الماكوني كما في مجموع تراب غالة بدأت تلك القصة عندما تدهورت المؤسسات السياسية، و حدث فراغ سياسي أفضى إلى تجزئة متقدمة للسلطة التي أصبح يمارسها كل من استطاع إلى ذلك سبيلا.فانتفت المؤسسات. وانتفت معها أية صلة تربط الفرد بالدولة. فماذا يمكن أن يقال عن صلة قمطية بروﭬانسيا بالفيودالية ؟

شكل إقليم بروﭬانسيا مجالا جغرافيا لأطروحة أنجزها جون بيير بولي (Jean-Pierre Poly) الباحث الذي يزاوج بين المقاربة التاريخية و المقاربة القانونية في تناول قضايا العصر الوسيط في أوربا.
و تندرج هذه الأطروحة و الأطروحتان اللتان سيأتي الحديث عنهما بعد حين ضمن مشروع علمي طموح انبرى للقيام به ثلة من الباحثين منذ سبعينيات القرن الماضي. سعى لدحض فكرة كانت رائجة في أوساط الباحثين في تاريخ العصر الأوربي الوسيط خلال خمسينيات و ستينيات القرن المذكور. مفادها أن موطن الفيودالية هو الأقاليم الممتدة بين نهري اللوار و الراين التي شكلت قلب الإمبراطورية الكارولنجية. أما أقاليم جنوب غالة، و معها أقاليم جنوب أوربا، فلم تشهد ظاهرة الفيودالية. و إذ قدر لبعض تلك الأقاليم أن تشهد بعض تجليات الظاهرة، فقد كانت تجليات دخيلة على نظمها و بنياتها.
و قد عبر جون بيير بولي عن مقاصد أطروحته منذ الصفحات الأولى من خلال السؤال المحوري الآتي : هل ينطبق المخطط الخاص بالفيودالية، الذي صاغه مؤرخو مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية انطلاقا من نصوص تنتمي للأقاليم المعروفة بمهد الفيودالية ،على إقليم بروﭬانسيا خاصة، و أقاليم جنوب غالة عامة؟
و قد اقتضى الجواب عن هذا السؤال من قبل الباحث اعتماد ما ينيف عن ألفي نص من النصوص المعروفة " بالمواثيق " ( les chartes ). بالإضافة إلى ترسانة أخرى من المصنفات؛ ككتب التاريخ العام و الحوليات و سجلات الأديرة و النصوص الهاجيوغرافية التي تعرض لسير و كرامات القديسين و القديسات و غيرها من النصوص.
خلص جون بيير بولي بعد استقرائها إلى خلاصة مفادها أن قمطية بروﭬانسيا انخرطت هي الأخرى في ظاهرة الفيودالية " من أبوابها الواسعة ". و أن مقومات الظاهرة في هذا المجال الجغرافي لم تقل نضجا و تكاملا عن مثيلاتها في وسط أو شمال غالة.
و يفيدنا على غرار جورج دوبي بان الفيودالية اتبعت في نشأتها و تطورها بقمطية بروﭬانسيا مسارين متوازيين : واحد ذو طابع سياسي تمثل في نهاية دور المؤسسات العمومية. و الثاني ذو صبغة عقارية تمثل في تشكل شبكة من العلاقات تمحورت حول الفيف. و لكن لحظة انطلاق المسار الأول كانت أسبق من لحظة انطلاق المسار الثاني. حيث انطلق المسار السياسي بين سنتي 1000 و 1040. و لم ينطلق المسار العقاري إلا بعد مطلع القرن الثاني عشر.
و بناء عليه ، ففي إقليم بروﭬانسيا كما في إقليم الماكوني شكلت مؤسسة القمطية أم المؤسسات. كانت تباشر بواسطة أجهزتها الاقتصادية و القانونية و القضائية تدبير الشأن العام. و إليها كانت تحتكم سائر فئات المجتمع من خاصة و عامة.
و إذا كانت حركة هدنة الله قد شكلت منعطفا حاسما في مسار تلك المؤسسات بقمطية الماكوني، كما رأينا من قبل، فان تطورات ذات بعد اقتصادي – ديموغرافي حدثت خلال الفترة الممتدة بين سنتي 950 و 1040 هي التي أفضت هذه المرة إلى التحولات السياسية و الاجتماعية التي شهدتها بروﭬانسيا بعد سنة 1040.
و قد تمثلت هذه التطورات في كون أن أفراد الأرستقراطية، من كبار و متوسطي الملاكين العقاريين، أصبحوا يلاقون صعوبات في إيجاد الأيدي العاملة الكافية لاستثمار استغلالياتهم المترامية الأطراف. بفعل التراجع الديموغرافي و تقلص أعداد العبيد الذين كانوا يسخرون منذ قرون في مختلف الأنشطة الزراعية. و من ثم، لم يجدوا أمامهم من حل سوى القيام ببسط سلطانهم المعنوي و المادي على عموم الفلاحين الأحرار. فشرعوا في إرساء الآليات لتحقيق هذا المبتغى.
و من المفيد التذكير مجددا في هذا المقام، بأن القمط كان هو المسؤول الوحيد منذ عهد شارلمان، و قبله أيضا، الذي تتجسد في شخصه السلطة في ربوع القمطية. فهو الذي يمتلك ما تسميه بحق الإلزام ( le droit de ban ) الذي يسري مفعوله في حدود دائرة ترابية معينة هي القمطية. و بمقتضى هذا الحق، الذي تقوم بأجرأته عدة أجهزة، يقوم القمط بالقيادة ( le commandement ) و يسهر على إقرار الأمن، و يدعو كبار أفراد الارستقراطية لحضور الاجتماعات السنوية التي تعقد للبث في القضايا التي تهم القمطية، و يشرف على جباية الضرائب، وعلى شؤون القضاء، كما يشرف على استخلاص الذعائر و الغرامات.
فحدث في قمطية بروﭬانسيا أن شرع عدد من أفراد الأرستقراطية اللائكية في التطاول على بعض هذه الحقوق. فأخذوا يسهرون على إقرار الأمن في ربوع القرية التي تقع بها ممتلكاتهم العقارية. و نجحوا في التأثير على أشغال المؤسسات القضائية. و أنشأوا مؤسسات اقتصادية كالأفران و المعاصر و الطاحونات. و احتكروا استغلالها.
و بالنظر إلى ثروة أفراد الأرستقراطية و ما كانوا يملكونه من نفوذ قوي، فقد أصبحت لمعظمهم اليد الطولى داخل القرى. بل إن عددا منهم نصبوا أنفسهم " اقماطا " في تلك القرى. التي تحولت كل واحدة منها إلى " سنيورية إلزامية " . أي إلى دائرة ترابية يمارس الأرستقراطي في حدودها حق الإلزام بكل تجلياته.
و قد كان التطور حاسما في هذا الاتجاه، في نظر جون بيير بولي، حين أصبح أفراد الأرستقراطية في بروﭬانسيا يشيدون القصور و الحصون دون طلب إذن من مؤسسة القمطية. فأخذت هذه المنشآت تنتشر هنا و هناك بإيقاع سريع. إذ قبيل حدود سنة 1040 أضحت إحدى المعالم البارزة في المشهد العمراني بقمطية بروﭬانسيا. الأمر الذي دفع الباحث إلى التساؤل عن أسباب هذه الظاهرة.
انتهى جون بيير بولي في معرض جوابه عن هذا السؤال إلى التأكيد بأنه لم يكن ثمة مبرر أمني داخلي أو خطر عسكري خارجي يدعو إلى إقامة هذه التحصينات، خاصة و أن المسلمين الذين كانوا يهددون القمطية تراجعوا عن حدودها منذ سنة 972 . فما من تفسير لهذه الظاهرة ، في اعتقاده، سوى أن أفراد الأرستقراطية كانوا يسعون بخطى حثيثة لعسكرة القرى لسببين : أولا لحماية أنفسهم و حماية ممتلكاتهم بدل التعويل على الأجهزة العمومية لتحقيق الحماية. وثانيا لإيجاد قاعدة مادية لتفعيل سلطانهم على سكان القرى.
و انطلاقا مما تقدم، يذهب جون بيير بولي إلى الاعتقاد على غرار جورج دوبي بان القصر
( le château ) أو الحصن أصبح من وجهة نظر معنوية رمزا للسلطة. و من وجهة نظر مادية مركزا لمؤسسة هي السنيورية الإلزامية. انطلاقا من هذا المركز أضحى الأرستقراطي، أي السنيور، يمارس حق الإلزام على سكان القرية.
و إذ قدر لأفراد الأرستقراطية في بروﭬانسيا النجاح في الاستحواذ على حق الإلزام، و سحب البساط من تحت أقدام القمط ، فقد أفرغوا بذلك مؤسسة القمطية من أي محتوى، و نجحوا في نفس الوقت في إيجاد مخرج لأزمة اليد العاملة التي كانت وراء كل هذه الترتيبات. و إذا كانت هذه التحولات قد حدثت دون أن ترافقها أحداث دامية كبرى كما حدث في قمطيات أخرى،فقد أدت مع ذلك ، إلى حدوث " قطيعة " بين عهدين في يروﭬانسيا كما يؤكد ذلك جون – بيير بولي :عهد ما قبل الفيودالية، وعهد الفيودالية. و رغم ذلك فان الباحث يشد انتباهنا إلى مسألة أساسية و هي أنه حتى نهاية القرن الحادي عشر كانت الظاهرة " تستعد لحط الرحال " بالديار البروﭬانسية. و كان عليها أن تبدأ المسار الثاني من رحلتها لكي تستكمل مسيرتها و تصبح نظاما متكاملا.

بدا جون بيير بولي معالجته لهذا المسار بالتذكير بان الفئات الاجتماعية في قمطية بروﭬانسيا ارتبطت فيما بينها بمختلف أشكال و صيغ علاقات التبعية منذ القدم كما هو الشأن في مختلف قمطيات غالة. فالفقراء ارتبطوا بالأغنياء، و الضعفاء ارتبطوا بالأقوياء بعلاقات تضرع و إذعان. بينما ارتبط نفر من كبار أفراد الأرستقراطية الدينية و اللائكية مع القمط بعلاقات ولاء ( la fidélité ).
و قد كانت علاقات الولاء بين هذه الأطراف التي تهمنا فيما نحن يصدده، تستند في بعض الحالات إلى عقار. هو عبارة عن " بنفسيوم " استفاد منه عدد من " علية القوم " الذين أبانوا عن
إخلاص و تفان في خدمة القمط و القمطية. تمثل ذلك البنفسيوم في الأغلب الأعم في مجموعة حصون. كان المستفيدون منها يقومون بحراسة المناطق التي تقع بها نظير استمرارهم على ولائهم للقمط. و حسب الإفادات التي يقدمها لنا جون بيير بولي ، فان النصوص القليلة التي تتحدث عن هذا الشكل من العلاقات لا تتضمن مصطلحات تندرج ضمن ما يسمى بقاموس الفصالة. كما أنها لا تتضمن معلومات عن الطقوس و الحركات ( les gestes ) المتصلة بعلاقات الفصالة من قبيل الانحناء و عملية أداء اليمين. باستثناء نص واحد يعود لسنة 990 يفيد بأن ريكولف ( Riculf ) أسقف كنيسة فريجوس ( Fréjus ) وقف على ركبتيه ( s’est agenouillé ) يوما ما بين يدي القمط كما يفعل الفصل أمام سيده السنيور . و لاشك أن هذا الحدث يكتسي دلالة بالغة الأهمية؛ الأمر الذي دفع جون بيير بولي إلى التساؤل عما إذا كان هذا الانحناء تعبيرا عن علاقة فصالة أم أن ما قام به الأسقف كان مجرد تعبير عن الإخلاص و الولاء في أرقى صوره ؟ جوابا عن هذا السؤال يذكر بولي بأنه من الصعب الحسم في المسألة انطلاقا من شهادة منفردة. و لكنه لم يتردد مع ذلك في الجزم بأن الطقوس و الشعائر المرافقة لعلاقات الفصالة لم تظهر في قمطية بروﭬانسيا إلا بعد مطلع القرن الثاني عشر. و يذكرنا في هذا المقام بأن عددا من أفراد الأرستقراطية الذين شيدوا القصور و الحصون ، كما ذكرنا فيما مضى ، شكلوا مليشيات عسكرية كانت تعمل تحت إمرتهم؛ و كان من المفروض أن يكون أفرادها أ فصالا لهم، و رغم ذلك فقد كانت العلاقات القائمة بينهم و بين أفراد الأرستقراطية قائمة على الولاء، و لم تكن علاقات فصالة. و يدعم جون بيير بولي و جهة نظره هاته بالقول بأن المصادر الخطية التي اعتمدها في انجاز أطروحته لا تتضمن سوى 19 نصا تعود للفترة الممتدة بين سنتي 1040 و 1100 تتحدث عن الولاء ( la fidélité ). و لا تشير من قريب أو من بعيد إلى الفصالة ( la vassalité ). و بعد سنة 1100 و حتى حدود سنة 1166 انضاف إليها 16 نصا. تعززت بظهور عدد من العقود الفيودالية ( des conventions féodales ) بلغ عددها 22 عقدا. و أهم ما في الأمر هو أن معظم هذه النصوص بالإضافة إلى العقود المشار إليها أصبحت تتحدث بكل وضوح عن الفصالة و ما يتصل بها من طقوس.
و المحصلة النهائية هي أن قمطية بروﭬانسيا انخرطت بدورها في سلك القمطيات التي سادت فيها الفيودالية. و قد وجدت في جون بيير بولي الباحث الذي أثبت ذلك بالحجة و الدليل. فماذا يمكن أن يقال عن اللاسيوم أحد أقاليم شبه جزيرة ايطاليا.

ظل الباحثون حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي يروجون لوجهة نظر مفادها أن الأراضي التي كانت خاضعة لسلطة البابوية في شبه جزيرة ايطاليا ظلت بمنأى عن ظاهرة الفصالة حتى حدود سنة 999 حين اعتلى عرش البابوية رجل الدين الفرنسي جربير الأورياكي ( Gerbert d’Aurillac) المعروف باسم البابا سلفستر الثاني ( Sylvestre II ).
يذكر روبير بوتريش، أحد الباحثين المتأخرين المروجين لهذا الطرح ،بأن البابا المذكور أبان خلال الأربع سنوات التي قضاها على رأس البابوية عن حيوية و نشاط لرد الاعتبار لمؤسسة البابوية، و لنشر تعاليم المسيحية في بعض أقاليم أوربا الشرقية المعروفة اليوم ببولندا و هنغاريا. و لم يخف رغبته في وضع الحجاج القاصدين بيت المقدس تحت حماية البابوية. بل دعا إلى حمل السلاح لتحرير الأماكن المقدسة. فشرع في استقطاب حملة السيف من المتحمسين لهذا المشروع. و شجع أفراد الأرستقراطية على تكوين مليشيات و الانخراط في روابط الفصالة.
و إذ ارتبط هذا المشروع بشخصية البابا سلفستر الثاني ، فقد شهد نوعا من التعثر بعد وفاة هذا الأخير سنة 1003. و لذلك ظلت الفيودالية محتشمة في هذه الربوع. ولم يقدر لها الاكتمال لتصل إلى مستوى أعلى من التبلور حسب مزاعم بوتريش و الباحثين السابقين.
تمثل أطروحة بيير توبير( Pierre Toubert ) الصادرة سنة 1973 قطيعة مع هذا الطرح. فقد خلص بعد قراءة جديدة لترسانة من النصوص تهم الفترة الممتدة بين القرنين التاسع و الثاني عشر بأن الأمر عكس ما روج له الباحثون تماما.
و حقيقة هذا الأمر هو أن فيودالية إقليم اللاسيوم ( le Latium ) الذي اختاره مجالا جغرافيا لبحثه، فيودالية " محلية الصنع ". كانت وراء إرساء قواعدها مؤسسات دينية ،أبرزها دير فارفا Farfa ) ) و دير سوبياكو ( Subiaco ) . فقد دأبت هاتان المؤسستان منذ مطلع القرن الحادي عشر على تقديم قطع أرض لأفراد ينتفعون بها مدى الحياة ( des tenures livellaires ) سعيا منها لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المريدين.
و يفيدنا بيير توبير بأن دير فارفا كان مؤهلا أكثر من دير سوبياكو في التسريع بوتيرة إرساء دعائم الفيودالية. فقد كان يملك موارد مادية وبشرية هائلة. تمثلت في تحف نادرة و قطع أرض شاسعة المساحة و أعداد كبيرة من المريدين. كانوا في معظمهم يتألفون من فلاحين يقيمون في قرى محيطة بالدير، و يحظون بحمايته فيما يعرف " بالمحميات " ( les sauvetés ). لذلك ارتأى رجال الدين القائمون بأمر دير فارفا إنهاء العمل بالصيغة السالف ذكرها. و شرعوا منذ سنة 1062 في منح قطع أرض كأفياف للمريدين، الذين يتقنون استعمال السلاح، مقابل خدمات عسكرية. و سرعان ما تلت هذه العملية عمليات مماثلة خلال السنوات الموالية. ثم تضاعفت خلال العشرية الممتدة بين سنتي 1080 و 1090. و غدت هي الصيغة الأكثر تداولا بين دير فارفا و الراغبين في الانضمام للمليشيات التي أنشاها. و منذ هذا التاريخ بدأت ظاهرة العسكرة تأخذ منحى تصاعديا في الأراضي الواقعة في منطقة صابين ( Sabine ) الخاضعة لنفوذ دير فارفا. ثم أصبحت الظاهرة واضحة أكثر بعد سنة 1100 حسب الإفادات التي تقدمها النصوص التي اعتمدها بيير توبير .
و فد سمحت نفس النصوص لبيير توبير بالقول بأنه ابنداءا من حوالي سنة 1120 أخذ نفس المشهد يتشكل في المنطقة المحاذية لنهر التيبر ( le pays Tibertin ) الخاضعة لنفوذ دير سوبياكو. فقد أبان نفر من أفراد الأرستقراطية اللائكية عن رغبة جامحة في الاستحواذ على أراضي تدخل ضمن ممتلكات هذا الدير، فاقتضت ضرورة صد الأطماع من رجال الدين المشرفين عليه الالتحاق بركب زملائهم رجال دين دير فارفا. فاجتهدوا بدورهم في استقطاب " المريدين " ( Fides equites ) من بين الذين يتقنون فنون الحرب و القتال و امتطاء صهوات الخيول. فمنح الدير لكل منخرط في العملية فيفا. و شكل مجموع المنخرطين مليشيات عسكرية. ارتبط أفرادها بسادتهم من رجال الدين بروابط فيودو – فصلية. و تعهدوا بالخدمة العسكرية.

انطلاقا مما تقدم يتضح بأن مؤسسات دينية " صغرى " نسبيا هي التي تزعمت حركة إرساء الفيودالية في شبه جزيرة ايطاليا ، أو على الأقل في إقليم اللاسيوم و في الأراضي المحاذية لنهر التيبر. و هذا ما يستفاد من كلام بيير توبير حين يذكر بأن عملية إرساء الفيودالية في ايطاليا اندرجت ضمن اهتمامات " المؤسسات العمومية " و ليس ضمن اهتمامات الأفراد كما حدث في أقاليم غالة . و قد تأكد هذا البعد " المؤسساتي العمومي " أكثر حين انضمت البابوية إلى العملية. فما هي الإجراءات التي قامت بها أم المؤسسات الدينية في هذا الشأن؟
يذكرنا ما يورده بيير توبير من معطيات و هو بصدد الجواب عن هذا السؤال بما حدث في غالة قبيل أن يتولى شارلمان حكمها. فقد كانت روابط الفصالة قد استشرت في أوساط الطبقة الأرستقراطية من مجتمعها. و بما أنه كان من الصعب استئصال الظاهرة، فقد فكرفي احتوائها ،كما ذكرنا فيما مضى ، من خلال إضفاء الطابع المؤسساتي عليها. و ذلك بأن جعلها إحدى وسائل الحكم وممارسة السلطة. و هذا بالذات ما حاولت البابوية القيام به في ايطاليا.
فقد شرع الباباوات منذ مطلع القرن الثاني عشر في نسج خيوط شبكة من الروابط الفيودو – فصلية. و شجعوا كبار رجال الدين و كبار الملاكين العقاريين اللائكيين على الانخراط فيها؛ مستحضرين في هذا الشأن ما سبق أن قام به البابا سلفستر الثاني. و لتحقيق النجاح في مسعاهم اتبعوا مسلكين أساسيين: تمثل المسلك الأول في عملية شراء مجموعة قصور و حصون كانت في حوزة بعض أفراد الأرستقراطية. منحت لهم فيما مضى قصد الانتفاع، أو بسطوا عليها نفوذهم في ظروف غير عادية. فاشترتها منهم البابوية و عادت لتمنحها لهم كأفياف نظير الإقرار بتبعيتهم لها كأفصال. وتمثل المسلك الثاني في عملية " شراء للولاءات ". فقد كان عدد من كبار الملاكين العقاريين يدينون بالولاء ( la fidélité ) للبابوية منذ القدم. فارتأى الباباوات تقديم مبالغ مالية لهؤلاء على أن يتحولوا من مجرد أشخاص يدينون بالولاء للمؤسسة إلى أفصال تابعين لها.
و يفيدنا بيير توبير بأن البابوية حققت نجاحا منقطع النظير في هذا الاتجاه. إذ بعد مضي سنوات قليلة شرع كثير من كبار الملاكين العقاريين و عدد من الأقماط في تقديم فروض الطاعة للبابوية بالانحناء و تقديم الولاء ( l’hommage ) و تأدية القسم كسا يفعل سائر الأفصال . و بذلك ، فان الفيودالية التي سبق لها أن بلغت مستوى من النضج في إقليمي اللاسيو م و صابينا اكتمل نضجها أكثرعلى يد البابوية. و اتسع انتشارها هذه المرة في مجال جغرافي أوسع.
و الجدير بالذكر أن ما أقدمت عليه البابوية كان ينسجم من جهة مع ما كان يعتمل في ايطاليا و في غرب أوربا عامة من أحدات و تحولات انطلقت منذ مطلع القرن الحادي عشر. فكان على هذه المؤسسة الدينية أن تركب تيار مرحلة جديدة من تاريخ غرب أوربا اختلط فيها الديني بالدنيوي. و أصبحت فيها المؤسسات الدينية تجنح نحو طلب الدنيا كما كان يفعل أفراد الأرستقراطية اللائكية . كما كان يستجيب من جهة أخرى مع رغبة البابوية في أن تكون تحت إمرتها مليشيات تمدها بالقوة و تسمح لها بقيادة المسيحيين في المشروع الحربي الشهير بالحروب الصليبية.

تترك الفقرات السابقة الانطباع لدى القارئ و كأن نشأة و تطور الفيودالية، في إقليمي اللاسيوم و صابينا، حدثا في سياق مختلف عن السياق الذي حدثا فيه في إقليمي الماكوني و بروﭬانسيا. ففي هذين الإقليمين حدث أن تدهورت المؤسسات العمومية. فاتجهت عملية تدبير الشأن العام نحو " الخوصصة "؛ و ذلك حين قام أفراد الأرستقراطية ( فرادى ) بالسطو على حق الإلزام وشرعوا في تشييد القصور. ثم أصبحوا يمارسون ذلك الحق في إطار سسنيوريات إلزامية أنشأوها. و ارتبطوا فيما بينهم في شبكة من العلاقات تمحورت حول الفيف.
في ايطاليا لم يحدث التدهور المشار إليه. فقد كانت المؤسسات الدينية تشكل دائما ما يمكن تسميته ببنيات استقبال. حيث كانت تحتضن أفراد المجتمع و تسهر على تأطيرهم. كما أن منظومة القوانين التي كانت تنظم المعاملات بين الأفراد ظلت قوية. و من ثم لم يتهافت أفراد الأرستقراطية اللائكية في إقليم اللاسيوم على تطبيق قوانين جديدة. و لم يسارعوا إلى التسلط على شؤون القضاء. و رغم أنهم شرعوا منذ منتصف القرن العاشر في تشييد القصور و إقامة مناطق النفوذ، فإنهم لم يلجئوا إلى نسج روابط فيودو - فصلية كما فعل زملائهم في عدد من أقاليم غالة . و هذا ما يفسر في نظر الباحث عدم مواكبة الروابط الفيودو – فصلية ( أي الفيودالية في معناها الضيق ) في إقليم اللاسيوم لظاهرة تشييد القصور و إقامة مناطق النفوذ كما حدث في أقاليم غالة. لكن هذا لا يعني بأن أفراد الأرستقراطية ( اللائكية بوجه خاص ) ظلوا في إقليم اللاسيوم بمنأى عن الفيودالية أو بمنأى عما كانت تقوم به المؤسسات الدينية. فكيف يوضح بيير توبير هذا الأمر؟
يفيدنا بيير توبير بأن حضور أفراد الأرستقراطية في قلب الأحداث يتجلى من خلال الحديث عن " حركة إعادة الهيكلة " التي شهدها إقليم اللاسيوم بين سنتي 920 و 1030، و التي شملت مختلف المجالات كأشكال السكن الريفي و أساليب الزراعة و البنيات الاجتماعية و طرق تدبير الشأن المحلي. و قد كانت وراء تلك " الحركة " تحولات كبرى ، أبرزها النمو الديموغرافي الذي حدث في مجال جغرافي يتميز بصعوبة تضاريسه و قلة أراضيه الصالحة للزراعة. الأمر الذي كان يستدعي التدخل لإعادة تنظيم ذلك المجال بشكل يجعله قادرا على استيعاب التزايد المذكور دون إعاقة النمو الاقتصادي ( أي التوسع الزراعي ) الذي بدأ يرتسم في الأفق منذ نهاية القرن العاشر. و لتحقيق هذا المسعى قام أفراد الأرستقراطية بتجميع سكان إقليم اللاسيوم في قرى محصنة بأسوار أقاموها لهم في المرتفعات و في المناطق الوعرة التي لم تكن مستغلة من قبل. فأفضى ذلك إلى ظهور تجمعات سكنية جديدة. أطلق عليها الباحث اسم " الأنكستلمنطو " ( l’incastellamento ) .والواقع أن الأمر يتعلق بظاهرة تجاوزت كثيرا حدود التجمعات السكنية. اكتست دلالات متعددة و ترتبت عنها نتائج بالغة الأهمية يمكن إجمالها فيما يلي :
أولا : أشرف على إقامة تلك التجمعات أفراد الأرستقراطية الدينية و اللائكية. أحيانا كانوا يقومون بذلك مجتمعين ،و في أحايين أخرى متفرقين.فانتهى على اثر ذلك عهد تميز فيه العمران الريفي بتفرق المساكن. و حل عهد أصبحت فيه المساكن متجمعة. و غدا " الكاستروم " ( le Castrum ) هو النواة الأساسية في التنظيم الترابي. و بالمثل انتهى عهد كانت فيه أرياف ايطاليا مجالا جغرافيا مفتوحا، يمكن أن تتحرك ساكنته في جميع الاتجاهات. و حل عهد أصبح فيه الفلاحون قرويون ( des villageois ou des castellanus ). يقيمون تحت رحمة أفراد الأرستقراطية في تجمعات مغلقة يمكن نعتها بلغة عصرنا " بالكيطوهات " ( des ghettos ).
ثانيا : ترتب عن إقامة القرى المحصنة نهاية العمل بنظام الدومين الكبير ( le grand domaine ) الذي كان سائدا خلال الحقبة الكارولنجية. و الذي بمقتضاه كانت الأراضي الصالحة للزراعة موزعة إلى استغلاليات كبيرة، شاسعة المساحة. فأصبح الآن كل دومين مقسما إلى وحدات صغرى يتوسطها قصر المالك العقاري. و تكتسي إعادة الهيكلة هاته دلالة بالغة في نظر بيير توبير لأنها تعني نهاية العصر الوسيط و بداية العصر الوسيط في إقليم اللاسيوم.
ثالثا : يختلف بيير توبير مع بعض الباحثين حين يربطون بين ظاهرة " الأنكستلمنطو " و غارات المسلمين على بعض المواقع الايطالية. و يوضح في هدا المقام بأن أقدام المسلمين وطأت إقليم اللاسيوم بين سنتي 870 و 910. و قد استطاع المسلمون الوصول إلى كنيسة القديس بطرس. ثم ابتعدوا عن الإقليم نهائيا بعد هزيمتهم في وقعة 915. في حين أن عملية تشييد القرى المحصنة لم تنطلق إلا بعد سنة 920 .
و بناء على ما تقدم يخلص بيير توبير إلى القول بأن المنشآت الجديدة أقيمت في بادئ الأمر لإعادة تنظيم السكان. و بعد ذلك غدت أطرا تعتمل فيها حياة سكان الأرياف. بل إن جميع الأحداث و التطورات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية أصبحت الآن تعتمل في هذه الفضاءات الجديدة.و كأنه بذلك يقر ضمنا بأنها لا تختلف عن السنيوريات الإلزامية التي أرسى دعائمها أفراد الأرستقراطية في قمطيتي الماكوني و بروﭬانسيا كما رأينا فيما مضى. و يؤكد بيير بوناصي فعلا، في معرض تعليقه على أطروحة بيير توبير، بأن تجمع السكن الريفي في إقليم اللاسيوم أو تفرقه في إقليم قطلونيا لا يعدوان كونهما مجرد تجليات اتخذها السكن هنا و هناك. أما في واقع الأمر،فقد كان السكان تحت سيطرة الطبقة الأرستقراطية التي استطاع أفرادها امتلاك حق اتخاذ القرار، أي امتلاك حق الإلزام . و إذا كان مالكو حق الإلزام في قمطيات غالة فد حصنوا أنفسهم بتشييد القصور المنيعة ، و شكلوا المليشيات للاستناد عليها في أجرأة ذلك الحق، فيبدو أن الهاجس الأمني أو العسكري لم يكن غائبا تماما عن أذهان أفراد أرستقراطية اللاسيوم. لأنهم بقدر حرصهم على حل المشاكل الديموغرافية عن طريق إعادة تنظيم المجال ، فقد كانوا أيضا حريصين من خلال إقامة القرى المحصنة و تشييد القصور على حماية أنفسهم و حماية ممتلكاتهم العقارية. و جعلها في مأمن من أي خطر قد يتهددها من قبل الفلاحين، الذين أخذت أعدادهم تتكاثر بشكل ملفت، أو من قبل أية قوى أجنبية.
نخلص في ضوء ما تقدم إلى القول بأن بيير توبير أبان بما لا يقبل الجدل بأن إقليم اللاسيوم ،و بمعيته مجموع أقاليم ايطاليا، شهد ظاهرة الفيودالية. و أن الأمر يتعلق بظاهرة أصيلة نشأت و ترعرعت في نفس الإقليم. و بالمثل ففد أبان بأنه انتهى زمن كان يتم فيه النظر إلى فيودالية غرب أوربا انطلاقا فقط من النموذج الماكوني أو من نماذج الأقاليم الواقعة في الشمال بين نهري الراين و اللوار. و نؤكد من جانبنا بأن أطروحة بيير توبيرالتي حظيت باهتمام خاص في الأوساط العلمية غدت منذ صدورها نموذجا يقتدى من قبل المهتمين بالبحث في المؤسسات السياسية و القانونية و في البنيات الاجتماعية و الزراعية في أقاليم جنوب أوربا. و فد تلتها بعد سنتين فقط أطروحة بيير بوناصي حول إقليم قطلونيا التي أحدثت القطيعة بصفة نهائية مع الطروحات التي ظلت رائجة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي، سواء فيما يتعلق بنشأة و تطور الفيودالية ، أو فيما يتعلق بطبيعة هذه الظاهرة في أقاليم جنوب غالة و أقاليم أوربا المتوسطية. فماذا يمكن أن يقال عن الفيودالية في إقليم قطلونيا ؟

اعتمد بيير بوناصي لانجاز بحثه على ما ينيف عن 15000 نص تعود للفترة الممتدة بين
منتصف القرن العاشر و نهاية القرن الموالي. توزعت بين سجلات أديرة و مواثيق و عقود ونصوص هاجيوغرافية و غيرها. خلص بعد استقرائها إلى فكرة أساسية وهي أن إقليم قطلونيا شهد خلال الفترة المذكورة تحولات اقتصادية كبرى واكبتها عملية إعادة تشكل للبنيات الاجتماعية. و من ثم ، فخلافا لجورج دوبي و بيير توبير الذان يربطان نشأة الفيودالية بالتحولات السياسية، يذهب بيير بوناصي إلى التأكيد بأن نشأة و تطور ظاهرة الفيودالية في إقليم قطلوتيا لا يمكن فهمها و تتبع مسارها إلا باستحضار النمو الاقتصادي الذي أفضت إليه تلك التحولات الاقتصادية.
أولا : نهاية الركود الاقتصادي في إقليم قطلونيا و بداية النمو
يفيدنا بيير بوناصي بأن النصوص التي اعتمدها تسمح بالقول بأن إقليم قطلونيا كان منتظما خلال الفترة موضوع البحث في هيأة قمطيات؛ أكبرها قمطية برشلونة. و على غرار قمطية الماكوني، فقد ظلت مؤسسة القمطية قوية في قطلونيا حتى حدود سنة 950. حيث كان القمط مهاب الجانب. يدين له بالولاء جميع السكان من خاصة و عامة. و ربما كان التماسك و التآلف في قطلونيا أقوى مما كان عليه في سائر القمطيات نظرا لقربها من مراكز وجود المسلمين في الأندلس. أما اقتصاديا، ففد كانت قطلونيا إقليما فقيرا حتى حدود السنة المذكورة. يقيم سكانها المؤلفين في معظمهم من فلاحين في المناطق الوعرة. يعيشون في إملاق و تغلب على حياتهم الرتابة.
و يفيدنا بيير بوناصي بأن أقماط قطلونيا تحللوا من تبعيتهم لملوك غالة منذ عهد بوريل الثاني ( Borrell II ) الذي تولى مهام القمطية بين سنتي 948 و 992 . فحرموا من أي سند يحميهم، و لذلك ظلوا حريصين على كسب ود خلفاء قرطبة بحفظ المواثيق و تبادل الهدايا و الصلات. و لم يجرؤوا يوما على مناوشة مسلمي الأندلس رغم أنهم تعرضوا لبعض الحملات العسكرية مثل تلك التي قادها المنصور بن أبي عامر سنة 985 م. / 374 ه. و تلك التي قام بها ابنه عبد الملك سنة 1003 م./ 393 ه. و رغم انقلاب موازين القوى لصالح مسيحيي شبه جزيرة ايبيريا بعد سقوط الخلافة و اتجاه الأندلس نحو التجزئة ،فقد استمر أقماط قطلونيا في نهج سياسة الود و المهادنة اتجاه القائمين على الأمر في الممالك الطائفية خلافا للسياسة التي انتهجها القشتاليون. و أهم ما تجرؤوا على القيام به هو حماية بعض الممالك الطائفية الصغرى مثل مملكتي سرقسطة و طرطوشة و المشاركة في بعض الحملات التي قام بها مسيحيو شبه جزيرة ايبيريا ضد مسلمي الأندلس و السماح لعدد من المحاربين القطلانيين بوضع مهاراتهم القتالية رهن إشارة بعض القوى الإسلامية مقابل أجر.
و يبدو أن سياسة الأقماط و خدمات المحاربين عادت بالنفع على القمطية و على سكانها. فقد أخذت تتسرب إليها كميات مهمة من القطع الذهبية الأندلسية. ساهمت منذ حوالي سنة 980 في إنعاش اقتصادها. حيث أعطت ديناميكية للنشاط الزراعي الذي كان معتمد سكانها. و أسهمت في إذكاء المبادلات التجارية، و إن ظلت منتجات الأرض موضوع تلك المبادلات. مما أفضى إلى نهضة اقتصادية. بدأت معالمها تتضح أكثر ابتداء من سنة 1020 .
و ينبهنا بيير بوناصي في هذا المقام يأته من الخطأ القول بأن العوامل الخارجية وحدها هي التي أدت إلى حدوث الانتعاش الاقتصادي. و الصواب هو أن استقرار الأوضاع الأمنية على حدود قطلونيا هيأ الظروف الملائمة لجهود مضنية كان يقوم بها الفلاحون منذ منتصف القرن العاشر. تمثلت في عمليات توسيع للمساحات الصالحة للزراعة عن طريق استصلاح الأراضي الهامشية و تجفيف بعض المستنقعات و تحسين أساليب الأداء في العمل الزراعي. و أتى ذهب الأندلس ليقدم قيمة مضافة لتلك الجهود.
و الحصيلة هي أن عوامل خارجية و أخرى داخلية تظافرت لتنتقل قمطية قطلونيا من مرحلة الركود إلى مرحلة النمو ؛ ومن مرحلة الانغلاق إلى مرحلة الانفتاح. و قد تجسدت صور هذا الانتقال في ارتفاع كمية عائدات الأرض، و انتعاش الأسواق، و ازدياد حدة السيولة النقدية، و انتعاش حركة البناء و التشييد وتحسن ظروف عيش السكان، و ارتفاع وتيرة الترحال في اتجاه المراكز المسيحية و الإسلامية.
ثانيا : النمو الاقتصادي و تشكل الروابط الفيودو – فصلية
كان من تبعات النمو الاقتصادي أن ازدادت قيمة و أهمية الأرض. و أصبحت موضوع رهان حاد و صراع مكشوف بين عموم الفلاحين و كبار الملاكين من أفراد الأرستقراطية الذين تزايد جشعهم. فلجأ هؤلاء إلى تشييد الحصون و القصور المنيعة و تشكيل المليشيات العسكرية على غرار ما قام به أقرانهم في مختلف قمطيات غالة. و شرعوا في شن الغارات على بعض المؤسسات الدينية و على الفلاحين للاستحواذ على ما في حوزتهم من أراضي.
و آل الصراع بطبيعة الحال لأفراد الأرستقراطية الذين نجحوا في بسط سلطانهم على معظم فلاحي قطلونيا من خلال إرساء السنيورية الإلزامية. التي تمثل في نظر الباحث مؤسسة أقيمت للاستفادة من الثمار التي أسفرت عنها جهود الفلاحين .
و يبدو أن المكاسب المادية و المعنوية التي حققها أفراد الأرستقراطية لم تثنيهم عن طلب المزيد. فأينعت رؤوس الكبار منهم . و أخذوا يرنون بأبصارهم نحو مؤسسة القمطية. و دخلوا فعلا في صراع مكشوف مع القمط رايموند برنجر الأول ( Raimond Béranger Ier ) . نجحوا على إثره في بسط سلطانهم على القرى الواقعة في منطقة قطلونيا العليا. و أسسوا بها ما يشبه الكيانات السياسية المستقلة ( des dominations territoriales autonomes ). بينما فشلوا في تحقيق نجاح مماثل في الحاضرة برشلونة وفي القرى التابعة لأعمالها. و مرد هذا الفشل في نظر بيير بوناصي يكمن في قوة سلطة القمط في هذه المناطق و في انضمام سكان الحاضرة و فلاحي القرى إلى صفوفه تجنبا للسقوط في قبضة أفراد الأرستقراطية.
و الأهم من ذلك هو أن الانتصار الذي حققه القمط في هذه المواجهة شكل منعطفا حاسما في مسيرة المؤسسات السياسية و البنيات الاجتماعية في قطلونيا. فقد خبر رايمند برنجر قوة خصومه، فارتأى أن يتحول من قمط يشرف على تدبير الشأن العام و يرعى شؤون جميع أفراد المجتمع من خاصة و عامة إلى قائد للارستقراطية. فكان هذا التحول يعني بالنسبة لبيير بوناصي دخول قطلونيا في " عصر الفيودالية " . حيث غدت الروابط الفيودو – فصلية هي أساس العلاقات بين الأقماط الذين تعاقبوا على إدارة قطلونيا و كبار أفراد الأرستقراطية. و قد تميزت هذه الروابط بكونها كانت تتم أمام الملأ في طقوس و مراسيم خاصة. ثم أصبحت منذ سنة 1040 تتم عبر مواثيق أو عقود ( les convenientiae ). فكان كل واحد من كبار الأرستقراطية يبرم عقدا مع القمط ؛ بوصف الأول فصلا و الثاني سنيورا. و بموجب هذه العقود كان يتم تحديد واجبات و حقوق كل طرف من طرفي العقد. و قد تزايد عدد هذه العقود خلال السنوات الموالية. و واكبتها في تفس الوقت روابط فيودو – فصلية من دون عقود بين المنتمين للشريحة السفلى و المنتمين للشريحة الوسطى في الطبقة الأرستقراطية و كذلك بين هؤلاء و المنتمين للشريحة العليا في نفس الطبقة.
و المحصلة النهائية هي أن شبكة الروابط الفيودو – فصلية بلغت في ظرف لا يتجاوز العقدين بعد سنة 1040 مستوى رفيعا من النضج و التبلور لم يسبق له مثيل في مختلف أقاليم غرب أوربا،.بما في ذلك الأقاليم الواقعة بين نهري اللوار و الراين التي ظلت تنعت حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي بكونها مهد الفيودالية.

يسمح العرض الوجيز لمضامين المنغرافيات الإقليمية التي اخترناها كنماذج لرصد مظاهر تطور الفيودالية خلال المرحلة الثالثة من مسيرتها بالقول بأن الفيودالية بلغت فعلا مستوى متطورا من النضج بعد سنة 1000. يمكن إجمال تجلياته و الأبعاد المترتبة عنه في العناصر الآتية :
- أولا : تجلى ذلك النضج في تجزئة مطلقة للسلطة؛ التي أصبح يمارسها كل من استطاع إلى ذلك سبيلا من أفراد الأرستقراطية في دوائر ترابية ضيقة لا تتجاوز حدود القرية. فتراجع دور قصور الملوك و مقرات الأقماط. وغدت القصور القديمة التي كان يملكها أفراد الأرستقراطية، و القصور التي استحدثها نفر منهم، مراكز لاتخاذ القرارات و إصدار الأوامر و ممارسة حق الإلزام الذي تم تسليطه على عموم الفرحين. و استتبع كل ذلك اتساع نطاق شبكة روابط الفصالة التي بلغت خلال هذه المرحلة الثالثة مستوى من الكمال. فأخذت تبرم بمناسبة إقامتها في بعض الأقاليم عقود و مواثيق. كما حدث مثلا في إقليمي قطلونيا و اللانكدوك حيث حلت تلك المواثيق محل الوفاء القائم على القسم في الروابط الفيودو- فصلية. و في نفس الوقت أصبحت هذه الروابط متمحورة حول الفيف الذي لم يعد متمثلا في قطعة أرض فقط ، بل أصبح كذلك عبارة عن قصور أو حصون كان يمنحها الأقماط أو كبار الملاكين العقاريين لقادة المليشيات العسكرية .
- ثانيا : يبدو أن هذه التحولات كانت بالغة الأهمية حسب الانطباع الذي تتركه قراءة مؤلفات المعاصرين لها . ترتبت عنها نتائج عميقة و شاملة على جميع الأصعدة و المستويات. و لذلك ذهب جورج دوبي ،المعروف بكونه أبرز الباحثين الفرنسيين في التاريخ الأوربي الوسيط ، إلى نعتها " بالثورة الفيودالية " . فيما ارتأى باحثون آخرون نعتها " بالانتقال الفيودالي " ( la mutation féodale ).
- ثالثا : انخرطت فيما نسميه بالمرحلة الثالثة من مسيرة الفيودالية مختلف أقاليم غرب أوربا، و لو أن انطلاقة هذه المرحلة تمت هنا و هناك في فترات متفاوتة نسبيا بين كيان سياسي وآخر؛ و أيضا بين كيانات متجاورة داخل المجال الجغرافي الواحد. ففي غالة نجح أفراد الأرستقراطية في الانفراد بالسلطة في جميع الأقاليم منذ العقد الثاني من القرن الحادي عشر كما يتضح من منغرافيتي جورج دوبي و جون بيير بولي. أما في انجلترا فلم يحدث ذلك إلا على نطاق ضيق منذ عهد وليم الفاتح ( Guillaume le Conquérant ). فقد تنامت قوة بعض البارونات. و أقاموا شبكة من علاقات التبعية. و أصبحت تحت إمرتهم مليشيات عسكرية. و لكنهم ظلوا يحترمون المؤسسة الملكية من خلال تقديم الضرائب و تلبية نداء الملوك حين يدعونهم لإبداء المشورة أو لخوض الحروب.
و يبدو أن هذا المسار الخاص الذي سلكته الفيودالية في أنجلترا هو الذي حدا ببعض الباحثين إلى إنكار وجود فيودالية بها. بل إن نفرا منهم نادوا بضرورة شطب مفهوم الفيودالية من قاموس اللغة.
و خلافا لأنجلترا، ففي شبه جزيرة أيبيريا استطاعت أرستقراطية إقليم قطلونيا أن تفرض وجودها كقوة فاعلة ابتداء من سنة 1060 بعد أربعين سنة من الصراع مع سلطة الإقليم ممثلة في شخص القمط.
و قريبا جدا من قطلونيا، في مملكة قشتالة و ليون، لم يستطع أفراد الأرستقراطية الانفراد بالسلطة إلا بعد سنة 1109 تاريخ وفاة ألفونسو السادس الذي كان يحكم المملكة خلال عهده بيد من حديد.
و عموما، فقد حدثت التحولات في مختلف كيانات غرب أوربا بعد فترة مخاض صعبة امتدت بين سنتي 1020 و 1060 أو 1080. احتدمت خلالها النزاعات السياسية – العسكرية و الاضطرابات الاجتماعية. فماذا يمكن أن يقال عن ملامح فترة المخاض و ما هي مظاهر التحولات التي انبثقت عنها ؟
يستفاد من الأبحاث المنغرافية التي استعرضنا مضامينها و من غيرها ، بأن الفترة المشار إليها شهدت فعلا حالة احتقان و توتر عمت مختلف أقاليم غالة كإقليم ماكوني و إقليم بواتو ( Poitou ) و إقليم بيكارديا ( la Picardie )؛ و هي أقاليم تقع وسط و شمال غالة وقريبة من مركز السلطة. و حدث الاحتقان أيضا في إقليمي بروﭬانسيا و اللانكدوك ( le Languedoc ) الواقعان في الجنوب و البعيدين نسبيا عن مركز السلطة. و حدثت نفس الحالة في إقليم اللاسيوم الايطالي البعيد عن التأثير المباشر للأحداث الجارية في غالة. و كذلك في أقاليم شبه جزيرة أيبيريا التي كان من المفترض أن تظل فيها جميع فئات المجتمع متماسكة ، و أيديها في أيدي القائمين على الأمر بها، نظرا لوقوعها بمحاذاة مراكز وجود المسلمين الذين كانوا يهددونها باستمرار.
و عموما،فان العنف أصبح منذ مطلع القرن الحادي عشرسلوك أفراد المجتمع عامته و خاصته. و كأنهم استشعروا جميعا بأن حدثا ما يلوح في الأفق كان يجب الاستعداد له. ما هو ذلك الحدث الذي كان يلوح في الأفق؟ انه باختصار النهضة الاقتصادية التي بدأت مقدماتها منذ مطلع القرن التاسع ، و التي ستتجلى في صورة أوضح بعد سنة 1020. و ستستمر حتى حوالي سنة 1320. فقد أحس الفلاحون الذين بذلوا جهودا مضنية في استصلاح الأراضي و توسيع المساحات الصالحة للزراعة، بأن عوائق توضع أمامهم لمنعهم من الاستفادة من ثمار تلك النهضة. أما أفراد الأرستقراطية فأرادوا استباق الأحداث للاستفادة منها. و لذلك شرعوا في وضع " المسالك " و " القنوات " التي ارتأوا أن تعبرها النهضة الآتية.
و هكذا بدأت في أوساط الفلاحين إرهاصات الحركات الاحتجاجية التي ستندلع بعنف، متخذة تارة شكل حركات دينية كالحركات الهرطقية ( les hérésies ) و تارة شكل انتفاضات اجتماعية عارمة. اندلع بعضها بين سنتي 1000 و 1320 ،أي خلال العصر الوسيط الأوسط. بينما اندلعت سلسلة انتفاضات أخرى منذ سنة 1315 أو 1320 و استمرت طيلة العصر الوسيط الأسفل؛ متزامنة مع الكوارث الطبيعية و الديمغرافية و الحروب التي شهدتها أقاليم غرب أوربا خلال هذه الفترة.
أما أفراد الأرستقراطية، الذين بهمنا أمرهم في هذا المقام، فقد بدأوا يتلكئون في تقديم الولاء للأقماط كما رأينا في ما مضى. و أخذت العلاقات بينهم و بين الأقماط تميل نحو التشنج. ينطبق هذا الأمر أيضا على نفر من أفراد الأرستقراطية الذين ينتمون لأسر عريقة، و الذين كانوا يشاركون في ممارسة السلطة في القرى بتفويض من الأقماط أو بتفويض مباشر من الملوك. فقد أصيبوا هم الآخرين بالعدوى. و بموازاة هذه التطورات أخذ الفساد ينخر جسم مؤسسة القمطية. و تفشت الضغائن و الدسائس بين الأقماط و مساعديهم كما حدث في إقليم قطلونيا و في قمطية اللانكدوك مثلا حسب الإفادات التي يقدمها لنا كل من بيير بوناصي و هلين ديباكس ( Hélène Débax ) في الموضوع. و سرعان ما كانت هذه المشاكل تتحول إلى صراع مكشوف.
و من البديهي في مثل هاته الحالة أن ينضم أرستقراطيون لهذا الطرف و آخرون لذاك الطرف. ثم يحدث الاقتتال.
و الراجح أن هذه الظاهرة لم تقتصر على إقليمي قطلونيا و اللانكدوك، بل حدث ما يشبهها في أقاليم و قمطيات أخرى كما يتضح من المنغرافيات الإقليمية التي سبق أن أحلنا عليها. حيث خصص مؤلفوها صفحات مطولة للحديث عن الوقائع و الحروب التي دارت رحاها بين أفراد الأرستقراطية. إما بسبب اختلاف المواقف من مؤسسات القمطية و من شخص القمط ، أو لأسباب و دواعي مختلفة. وإن أهم ما يمكن استخلاصه من وراء هذا الحديث هو أن وقائع الحروب لم تعد تجري فقط على مستويات جهوية أو إقليمية كما كان يحدث في الماضي، بل أصبحت كذلك عبارة عن وقائع شبه يومية تحتدم على المستوى المحلي. أي في حدود القمطية، و أحيانا في حدود القرية الواحدة على مشارف القصر أو الحصن.
و انطلاقا من هذا الاعتبار ذهبت دومنيك بارثلمي ( Dominique Barthélemy ) إلى القول بأن الحروب و عمليات القرصنة و عمليات السلب و النهب ( les rapines ) وجميع أشكال العنف الأخرى غدت بعد مطلع القرن الحادي عشر إحدى ظواهر المجتمع الأوربي. بينما ذهبت هلين ديباكس إلى التأكيد بأن العنف غدا أحد مكونات الفيودالية.
و كان من الطبيعي في مثل هاته الأجواء أن يتصدر حملة السيف واجهة الأحداث. فعليهم أخذ يعول أفراد الأرستقراطية في خوض الوقائع الدائرة بين بعضهم ؛ أو الدائرة بينهم و بين الأقماط. و عليهم كذلك أخذ يعول أفراد الأرستقراطية لإخماد انتفاضات الفلاحين. و من ثم ،تكاثرت المليشيات العسكرية التي كانت عبارة عن فرق تتشكل من فرسان ( les milites ) و من محاربين مرابطين في الحصون ( les milites castri ). و قد قدر بيير بوناصي بأن الفرقة الواحدة من تلك المليشيات كانت تتألف أحيانا من مائة محارب. و في نفس السياق خلص فليب دوران ( Philippe Durand ) إلى القول، بعد تحريات ميدانية، بان عدد المحاربين المرابطين في القصور المنتشرة هنا و هناك في غرب أوربا كان مختلفا ، ولكنه كان يصل عموما إلى المائة محارب. و لكن هذا العدد كان يرتفع تبعا للظروف و المستجدات العسكرية. و من هنا نستطيع أن نتصور بان مجمل عدد المحاربين كان يقدر بالآلاف. بعضهم كان يحارب تحت إمرة الأقماط ،و بعضهم الآخر تحت إمرة المؤسسات الدينية، و بعضهم تحت إمرة كبار
الملاكين العقاريين. و كانت تربط بين كل واحد منهم و بين سيده القمط أو المؤسسة الدينية أو الأرستقراطي روابط فيودو – فصلية. كانت تقضي بأن يقوم بخدمة سيده السنيور مقابل قطعة أرض ( الفيف ).
و من المفيد الإشارة إلى أن خصوصيات المرحلة اقتضت في بعض القمطيات لجوء أفراد الأرستقراطية إلى الوسائل السلمية لفض النزاعات القائمة بينهم و التحالف لمجابهة التحديات المشتركة، وأهمها انتفاضات الفلاحين. لذلك نشأت في تلك القمطيات،إلى جانب الروابط الفيودو- فصلية التي تربط بين كل سنيور و أفصاله، روابط فيودو – فصلية بين بعض " السنايرة " ، و خاصة بين متوسطي و كبار الملاكين العقاريين أو بين هؤلاء و البابوية كما حدث مثلا في قمطية بروﭭانسيا أو في إقليم اللاسيوم. و يبدو أن هذه الروابط تجاوزت مستوى " المجموعات " و نحت نحو " المركزية " في إقليم قطلونيا. فقد استطاع قمط برشلونة ريموند برنجر الأول أن يحسم سنة 1070 الصراع الدائر بينه و بين الأرستقراطية المحلية لصالحه. فلجأ إلى" ترويض" الروابط الفيودو – فصلية القائمة بين أفراد الأرستقراطية و المليشيات التابعة لهم بان سخر تلك الروابط لحسابه من خلال إقامة شبكة علاقات تبعية. وضع نفسه على رأسها،فغدا بذلك " سنيور السنايرة ". و تفاديا لأية ردة من جانب أحد عناصر الشبكة اقترح إبرام عقود أو مواثيق ( convenenientiae ) بينه و بين أفراد الأرستقراطية. منح بمقتضاها لهؤلاء " أفيافا " تمثلت في قطع أرض و حصون نظير الالتزام بولائهم للقمط و احترام مؤسسات القمطية. و كأنه بهذا الإجراء ألهم الملوك و الأمراء الذين حكموا الكيانات المسيحية في شبه جزيرة أيبيريا بعد القرن الثاني عشر. إذ أرسوا هم الآخرين حكمهم على العناصر الثلاث : الفصالة و الفيف و المواثيق التي غدت هي العناصر الأساسية المعتمدة في الحكم و تدبير الشأن العام.
و يبدو أن هذا الإجراء كان ناجعا و منسجما تماما مع ما كان يعتمل في الواقع. بدليل أن بعض القائمين على الأمر في فرنسا " مهد الفيودالية " تبنوه هم الآخرين خلال القرن الثالث عشر و حتى أواخر القرن الموالي. فبعد هذا التاريخ بدأ الوهن يدب في أوساط الأرستقراطية من جراء المصاعب الاقتصادية – المالية التي تفاقمت منذ سنة 1317 . و تداعيات حرب المائة سنة التي اندلعت منذ سنة 1337؛ بالإضافة إلى طاعون 1348-1349. فهيأت هذه العوامل الظرفية المواتية لتشرع " الدولة " مجددا في استعادة هيبتها على أسس قومية هذه المرة. فكان ذلك يعني بداية تلاشي الفيودالية رغم أن بعض تجلياتها القانونية و المؤسساتية ظلت مستمرة في فرنسا " مهد الفيودالية " حتى سنة 1789. و لذلك ذهب جمهرة من الباحثين إلى نعت الثورة الفرنسية بكونها " ثورة ضد الفيودالية " ( une révolution anti-féodale ) .




يتبع بحول الله



#يوسف_نكادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- خمس مدن رائدة تجعل العالم مكانا أفضل
- هجوم إيران على إسرائيل: من الرابح ومن الخاسر؟
- فيضانات تضرب منطقتي تومسك وكورغان في روسيا
- أستراليا: الهجوم الذي استهدف كنيسة آشورية في سيدني -عمل إرها ...
- أدرعي: إيران ترسل ملايين الدولارات سنويا إلى كل ميليشيا تعمل ...
- نمو الناتج الصيني 5.3% في الربع الأول من 2024
- حضارة يابانية قديمة شوه فيها الآباء رؤوس أطفالهم
- الصحافة الأمريكية تفضح مضمون -ورقة غش- بايدن خلال اجتماعه مع ...
- الولايات المتحدة.. حريق بمصنع للقذائف المخصصة لأوكرانيا (صور ...
- جينوم يروي قصة أصل القهوة


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف نكادي - الفيودالية و النظام الفيودالي في غرب أوربا