أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية/ 18















المزيد.....


معلم في القرية/ 18


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3153 - 2010 / 10 / 13 - 00:40
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


1- معلم في القرية/ 18
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

توجيهات تربوية للمربي الراحل: (قلت لتلاميذي، يجب أن ندرس لنوسع آفاق فكرنا، وهذا يقتضينا أن لا نلتزم التعصب، أو نتخذ تقاليدنا وعقائدنا ذريعة للانتقام والتهريج. علينا أن نفهم منبع وأصل كل فكرة أو عقيدة، ولا نكن كالذين قال عنهم القرآن "... إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" من سورة "الزخرف" الآية 22 )

منقذو البشرية بين الأسطورة وحلم الانتظار
منذ عودتي من عربستان وحتى الأول من نيسان 1939، اليوم الذي ولد فيه ولدي البكر "كفاح"، لم أدون شيئا من ذكرياتي. تغيرت أشياء كثيرة. ولكن حياتي الجديدة صرفتني عن الاهتمام بتلك الأشياء الأخرى. طبعاً أنا مخطئ. إن علي أن أوازن بين اهتماماتي.
مدير مدرستي –النجفي- أنتقل إلى النجف. كان دائما يعتبر منصب إدارة المدرسة ذا أهمية، ومركز محترم، لذا يقول كلمته المعروفة "ميز الإدارة بحر؟!". وللأسف إن ما أسند إليه في النجف هو مدرسة أولية من أربعة صفوف، وسرعان ما شاكسه أحد معلميها. فنحي عن الإدارة، وأسندت الإدارة إلى نفس المعلم الذي شاكسه، ومن باب النكتة علق أحد المعلمين بقوله: "يبدو إن الرجل لا يجيد السباحة، لا في البحر ولا في النهر، فوضع على الضفة؟!"
مدير المدرسة الجديد هو صاحبي الذي تحدثت عنه أكثر من مرة، الشاب الوطني المتحرر، عبد المهدي البرمكي. لقد أبدى اهتماما ملحوظاً في ضبط المدرسة، النهارية والمسائية. إنه يلتزم المعلم وفي نفس الوقت لا يغض النظر عن هفواته، حين يرى إنها ذات مردود على شخصيته بحيث تؤثر في انعكاسها على المدرسة ومكانة المعلم في هذا المجتمع الحساس، الذي سمّى بعضهم إحساسه المرهف -نفاقاً وتدخلا بما لا يعنيه- صحيح إن وعي الجهال كثيراً ما ينتهي إلى التطرف، فيكون شغباً وفوضى ويمتزج بالنفاق أيضاً، ولكنه على أية حال اهتمام بكل ما حولهم، وبحث عن الأصلح.
خلال هذه المدة حدث أن كنت أدرس العربية -إنشاء في الصف السادس- في المدرسة المسائية، كان بعض الطلبة في سن يقارب الثلاثين، ويمتهنون تجارة الحبوب. وكانوا على مستوى ضعيف في الدراسة. حاولوا مرات أن يفرضوا عليّ رغبتهم في وضع درجات عالية في الامتحانات الشهرية، مرة بتوسلات وتودد، ومرة باتهامات، بأن المعلم يحابي بعض التلاميذ، ويبغض آخرين. كنت أصرح لهم كلما أجريت امتحانا: "ليس للإنسان إلا ما سعى". وقلت لهم مرة: "ما قيمة الدرجة في دفتر الامتحان إذا لم تكن المعلومات موازية لها!" هم يرددون دائماً: "أطو التلميذ مجال شنص". ولما لم يجدوني متأثراً بمحاولاتهم تلك، لجأوا هذه المرة إلى شغب من نوع جديد. نهض أحدهم وقال:
- أستاذ شنو رأيك في مسألة صاحب الزمان؟!
قلت: الدرس إنشاء ولا علاقة له بهذه الأمور. أنتبه إلى الموضوع وأنجز المطلوب.
وانتهى الدرس وغادرت الصف إلى غرفة المعلمين أحمل دفاتر الإنشاء. لفت انتباهي أن الجرس جلجل عالياً وأستمر طويلاً، ومدير المدرسة في الساحة يصيح بالطلبة بانفعال: اصطفاف!. خرجت إلى الساحة مع سائر المعلمين. الصمت والوجوم يسيطر على الساحة. المدير ينفث دخان سيجارته بعنف. صاح بغضب: "كريم" "عبد الأمير" [وأسم شخص ثالث لا أتذكره. حين خرجوا في الفرصة ذهبوا إلى المدير وشكوني عنده. بأني اسخر من معتقداتهم المذهبية، وأشجب فكرة وجود المهدي المنتظر!] خذوا حاجاتكم مفصولين من المدرسة. قبل أن ينادي بأسمائهم قذف جملة شتيمة لموضوع استفسارهم عن صاحب الزمان. كانت شتيمة غاية في الجرأة، هزتني هزاً، خشيت عليه من أثرها لو أنتشر أمره عنها في الوسط الكوفي المتهم بالشغب والنفاق. لكن المسألة في اليوم الثاني بدت عادية جداً. فكل ما حصل في اليوم الثاني، هو أن جاء أولئك الطلبة مع بعض وجهاء البلد، يعلنون اعتذارهم، وندمهم على ما بدر منهم، ويطلبون العودة للمدرسة.
ما أبداه المدير من مساندة لي يدل عن قوة شخصيته، ووجهة نظره في ذلك الموضوع أيضاً. إن هذه الفكرة، والتي لم ينفرد بها المذهب الشيعي، ولكنه أنغمر بها أكثر من أي مذهب آخر. البوذيون ومن بعدهم المسيحيون، هم أيضاً لديهم أسطورتهم في عودة بوذا، الذي يذكرون عنه في إنه ركب قارباً وانحدر في البحر وغاب عن العيون. ولكن تلك الشعوب والأمم لم يخدرها الأمل وحلم الانتظار. ولم يحل بينها وبين النضال من أجل حريتها وحقها في الحياة، ولم تشغل نفسها طيلة حقب بالجدل والنزاع في ، أين يعيش الآن؟ أو كيف إنه يعيش على عسل وماء في كهف من كهوف جبل رضوي [كما جاء في شعر السيد الحميري أو كثير عزّه
تغيّب لا يرى فيهم زمانا برضوى عنده عسل وماء
وتروى أحاديث كثيرة بنفس المعنى، وإنه ليس فقط يملأ الأرض قسطاً وعدلا، وإنما ينبش قبور أعدائهم ويقتص منهم جزاء ما فعلوه. قيل أن غيبته حصلت سنة 873 ويروي السيد نعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" إن الأمام المنتظر يقيم في جزيرة أسمها الجزيرة الخضراء. وفي عصرنا هذا توهم بعض الذين وجدوا هذا الاسم في خارطة العالم إنها هي المقصودة، مع العلم إن هذه الجزيرة لم تسكن إلا من عدد قليل تابع لبريطانيا].
وكم انتهى أمر الجدل إلى تكفير عالم عبقري، وتحطمت حياته بتهييج العامة ضده. لاشك إن هذه الأسطورة من بدع الحاكمين ليحدوا من انتفاضات الشيعة ضدهم، ودك روحهم الثورية، وتهدهد أحلامهم بالصبر لليوم الموعود.
تألمت أول الأمر كثيراً، وحين وصلت البيت أنستني ابتسامة صغيري كل ما حدث. وحين عاد الطلبة بعد الاعتذار مني، لم أشأ أسدل على الموضوع ستاراً، فأشعلت درس المحفوظات في بحثه. قلت لتلاميذي، يجب أن ندرس لنوسع آفاق فكرنا، وهذا يقتضينا أن لا نلتزم التعصب، أو نتخذ تقاليدنا وعقائدنا ذريعة للانتقام والتهريج. علينا أن نفهم منبع وأصل كل فكرة أو عقيدة، ولا نكن كالذين قال عنهم القرآن "... إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"[ سورة "الزخرف" الآية 22]
حكيت مجملاً مختلف الآراء في هذه المسألة، عند مؤيديها، ومعاديها وما قالوه في أسباب هذا المعتقد، ثم إن الأيمان بها ليس أصلاً من أصول الدين. فمن يرفض هذا المعتقد ليس كافراً.
ابن عباس
العراق مبتلى، وخاصة في المدن الشيعية والقرى، بنوع من المخدرات، ذات أثر بالغ في عقلية الناس، وتوجههم نحو الحياة، إنها ذات أثر في كل شؤونهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية حيث ساد النفاق بسبب تخوف المراجع الدينية من مس تلك المخدرات بسوء، هم أيضاً يدينون بالكرامات والقدسيات الغيبية، إذ صرفتهم عن حقيقة دين محمد، وما توخاه لهم من خير ورفاه، وتفهم حقيقي للحياة.
بسبب الإتكالية التي ألفوها واعتمدوها في حل مشاكلهم، وكل أمانيهم قد تحل وتتحقق، في معتقدهم، بنذر يقدم لإمام أو ولي! ولهذا السبب كثرة القبور ، ونحلت لهم أسماء، ومعاجز وكرامات، وأدرك القرويون قيمة تلك القبور المدّعاة، فصار من الميسور جداً أن يصبح أحدهم، وينشر بأسلوب فيه كثير من الحذق والذكاء، بأن حلماً تكرر عليه مرات ومرات وقد زاره ولي ويأتي باسم لولي، أو إمام كالخضر، أو المهدي المنتظر، والحمزة، وعلي الشرجي، وأبو عجلة، والشريف، وأم العباس، وبنات الحسن، وزادوا جرأة مادام المسؤولين من رجال الدين لا يهمهم أمر هذه البدع. فصار كل مكان جرى فيه تغسيل علوي من القرى مزاراً، تقدم له النذور والقرابين. تقصده العقيم ترتجي الولد، والحامل ترجو أن ترزق بمولود ذكر، ومن فاتها القطار أن يتحقق لها زواج -على الكيف- والرجال أيضاً يؤمنون بهذا. ولعل المثل المعروف في الأوساط الشعبية، حين يثنون ويمتدحون إنسانا بسيطاً وساذجاً في فهمه ومظهره فيقولون "من أهل الله" وكلما بدا قذراً معتوهاً صار أقرب لتصديقهم وثقتهم. ففي مدينتي مدينة العلم والبطولات، إلى جانب قبر بطل الإسلام الإمام علي، بنات الحسن [في محلة البراق وبجوار السور ولا يعرف احد عددهن واسما من أسمائهن!]، ومقام المهدي، وصافي صفا [في وادي السلام في النجف بناية تتوسطها قبة زرقاء يزورها النساء والعامة من الناس يسمونها "مقام المهدي" ومنذ الأربعينات قلّ الإقبال عليها، بعد انتشار وسائل الترفيه، الراديو والتلفزيون السياحة، وتغلب بعض الأفكار الحرة واندحار بعض القيود التي كانت في عنق المرأة]. وحين ماتت العلوية المخبولة "هاشمية" بني لها قبر محترم. صار النساء يطلينه بالحناء، ويقدمن لقبرها الشموع. كان لها شوارب ولحية خفيفة، اعتبرت إحدى سمات القدسية فيها. ومن بركة هذه المراقد عاشت العوائل التي تقوم بخدمتها.
ذات يوم من أيام آذار الجميلة ذاع حدث في الكوفة. لفت أنظار الناس جميعهم. في جهة من جهات الكوفة، حيث يسكن أصحاب "الجاموس" بجوار النهر والبساتين. وفي بيت أحدهم يتزاحم الناس بالمناكب، لزيارة الإمام الجديد "حبيب بن محسن بن العباس بن علي بن أبي طالب"!
أصبح سادن هذا الإمام "عبد الله الدَبّي" صاحب البيت. يقف عبد الله في باب المزار مرحباً بالناس، شارحاً قصة إمامه "حبيب أبو جناغ بن محسن بن العباس" مات حين جيء بعائلة الحسين إلى ابن زياد في الكوفة، لتسفيرهم إلى الشام [الجناغ كلمة عامية وهو مصوغ من ذهب أو فضة مرصع بحجر يربط للزينة بشعر مقدم الرأس للطفل ، ولكن لماذا سماه عبد الله أبو جناغ!؟]. رأى عبد الله حلماً. حبيب ينذره إن لم يظهر معالم قبره فسيوقع به! المسألة عسيرة يا ناس، من يصدق عبد الله الدَبي؟ وهو يدعي هذا الشرف العظيم؟ لزم الصمت، فمات أبوه! وتكرر الحلم، ولزم الصمت، وماتت أخته؟! وأنذره الحلم بشدة، وهاهو يعلن، والله يظهر نوره!
كان صحن الدار يعج بالنساء، عجائز وشابات وشبان، بين وافد للتبرك والدعاء، وبين متنزه -ولكل جديد لذة- وسرعان ما قدمت الهدايا، من رايات، ومرايا، وساعات، ومباخر فيها أغلى أنواع البخور، ومع ذلك فإن رائحة السرجين كانت متغلبة. وهذا الجزء من بيت عبد الله زريبة جاموس، والغرفة الطينية التي هي موضع القبر هي إحدى مكامن جاموسه [السرجين، كلمة فارسية الأصل تعني الزبل والأقذار، ويطلقها القرويون على فضلات البقر والجاموس بينما يسمون فضلات الغنم والإبل بعر والحمير والخيل روث]. والبستان المجاور أنتشر فيه الزوار والمتفرجون، ونصبت فيه أكواخ القصب مقاهي للراحة، وباعة الأغذية والكرزات.
قلت لجماعة من الشباب يجب أن نقوم بعمل، ضد هذه البدعة قبل أن تستفحل.
فتيا تقصم الظهر
زرت مدير الناحية، السيد عبد الكريم الراوي، كان مثال الطيبة والبساطة، شغل منصب مدير ناحية الكوفة، وقائممقامية النجف وكالة أحياناً عند تغيب القائممقام، لم يقم بأي خدمة للناحية لأنه يخشى المشاكل ويتجنب الناس، حدثته عن هذا الحدث، الذي هو استهتار بالدين، وبالإنسان. طلبت منه أن يقوم بعمل، باعتباره أعلى مسؤول إداري في الناحية، جبن الرجل فالمسألة -كما قال- مسألة عقائد وباسم الأئمة في محيط جعفري؟!
حسناً، قلت: سأستحصل فتوى من الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء [هكذا يضع أسمه -محمد الحسين- وربما شفعها بهذه العبارة أيضاً "الأب الروحي" وكان جريئاً في معارضته في آرائه الخاصة في مجال السياسة والاجتماع، ولكنه أيضاً يتأثر بمن يثق به. كان يقيم في الكوفة في أكثر أيام الأسبوع خلال فصل الربيع، في بيت خاص يمتلكه]. التقيت بالشيخ قبيل الغروب، فقلت له حكاية الإمام الجديد والدبي. وجدته قد ألّم بالموضوع مفصلاً، فراح يهدر غضباً واستياء. دوى صوته وأنا أسايره في شارع النهر: "بدع، ظلالات، يبتدعها شياطين الناس، ويتقبلها الجهلة!. بعيني هاتين رأيت سفينة يبتلعها هذا النهر في موسم طغيانه، وهي تقل ما يزيد عن مئتي نسمة، كانوا يقصدون –مرقد زيد-، أي مرقد لزيد؟! زيد حرق وذري في الهواء" [أنا أيضاً شاهدت هذه المأساة، هذه السفينة عام 1929 أو 1930 وكانت محملة بالحنطة وما يزيد عن مئتي نسمة من النساء والرجال والأطفال، والفرات كان في فيضان طاغ، وصدفة سكن محرك السفينة فارتدت مع سرعة الجريان وارتطمت بالجسر فحطمته وغرقت ومات أكثر ركابها غرقاً. وزيد هذا هو الثائر ضد بني أمية، وهو ابن علي ابن الحسين -السجاد- والمعروف إنه بعد أن قتل دفن في ساقية فأستخرجه الأموي عام 740م وصلبه على جذع نخلة، وبعد مدة أحرقه وذري رماده في الهواء، ولكن أهل البدع شيدوا له قبراً ومزاراً، ومن الغريب إنهم اتخذوا هذا المزار متنفساً لهم في اللهو والطرب في موسم معين من كل عام].
وهدأ، فطلبت منه أن يتفضل بالفتيا حول الموضوع ليمكننا اتخاذ إجراء رادع. وبعد صلاة المغرب عدت إليه فتسلمت الفتيا، سلمتها لأحد رجال المنبر الحسيني، طلبت منه أن يعلنها على أسماع الناس في مجالس التعزية. هكذا لمدة ثلاثة أيام. هذه الفتيا كانت خير سند وعون لنا بعد أن سمعها كثير من الناس.
عاودت السيد مدير الناحية، أعلمته بقصة الفتيا، فأرتاح كثيراً لهذا التدبير، ومدني بخمسة من الشرطة بسلاحهم. توجهت وجماعتي، لإنجاز المهمة بعزم لا يمازجنا أي خوف فالشيخ سندنا. أما الشرطة، فقد صحبونا مترددين، كانوا يتوسلون إلينا أن ندعهم ولا نشركهم في الأمر: "سيدنا الأمر زحمة، ما نستطيع نِدّخَلْ ضد الأيمة".
قال أحد رفاقي -يداعب الشرطي- هؤلاء لا يفيدونكم، ياكلون لوحدهم؟!
في صحن الدار قريباً من الباب التقيت برجل يفرك عينيه، ويهتف "اللهم صل على محمد وآل محمد" أمسكته من تلابيبه.
- ما بك؟
- هِدني، لعن الله الشكاك!
- ما بك؟
- هِد .... هدني، لعن الله الشكاك.
صاح بعض النسوة: "هذا الشاب ما يخاف الله؟! مالَه يتعتع بالمسكين؟". ردّت عليها عجوز بهدوء: "الآن وقت التجربة، أتنَحن. إمام المايشور ما ينزار!" [مثل شعبي، يراد به، إن الخَنوع الذي يسكت على التعدي ضده لا يحترم. و -الشارة- يقصد بها في مصطلحهم ظهور أذى فيمن يمس كرامة الولي أو الأمام كأن يقسم كاذباً، أو يعد بنذر أو قربان ولا يفي].
هززت الرجل هزاً عنيفاً، وكأنه أفاق من حلم، كان يحرك أجفانه برعشة مفتعلة، وتمتم بخوف: "ها عمي شديت شماغي وحّله!". كان دَبّيا أيضاً، قدم بهذه الصورة ما عليه من الدعاية للإمام الجديد.
وانشطرنا فريقين، أحدنا صعد إلى شرفة سطح -المرقد- وانهالوا على المرايا والساعات رمياً وتكسيراً، ودخلت وآخرون غرفة المرقد، هناك نساء تجمعن في أحد أركانها وعلى الزاوية بين رَفيها وُضِعت عصا شَدّ النساء عليها خيوط خضراء، وعلى الرفين شموع موقدة [يوزع خدم العتبات المقدسة، ومراقد الأولياء خيوطاً خضراء يشدها طالب الحاجة والشفاء في رسغ يده أو بعقاله، والمرأة بخمارها وحين يتحقق المراد يتخلى عنها بعد أن يفي بنذره]. طردنا النسوة وكن يبكين توجعاً للمظلوم -حبيب- فخرجن يتصايحن يمثلن الذعر والخوف، هن بلا شك من بطانة عبد الله.
علم عبد الله، فأقبل وانتصب بباب الغرفة، وضع سبابتيه بأذنه، وصاح بكل قوته: "تسودن تسودن". وأمرت الشرطة أن يقبضوا عليه، ويذهبوا به إلى التوقيف. بينما وجهت بعض الشرطة إلى أصحاب الجراديغ ليطووها وهدتهم بإحراقها إن عادوا.
في هذه الأثناء كان العمل يجري على قدم وساق. كان هناك نجفي من تجار الألبان، قد تقدم، قربة إلى الله لبناء المرقد! بدأ أول الأمر بالسور، كان أثناء ما قمنا به جالساً إلى بعض عمال البناء يتحدث عما لقي أهل البيت من ظلم وتشريد! توجه إلي معاتباً مؤنباً:
- أنت ابن شيخ محمد ... أبوك خادم أهل البيت، من الغريب أنت تصير مع ظالميهم.
قلت: "يا حاج، من حقك تهتم بتشييد بنية القبر، لأن عبد الله لجأ إلى أبتداع هذه الوسيلة، فإن نجحت مسألة الأمام الجديد، تخلص من تربية الجاموس ومشقة رعايتها وأصبح سادناً محترماً، وَوَفّاك دينك الذي بذمته [كان أسمه حاج صادق اللبان، وتجار الألبان يتعاقدون مع أصحاب الجاموس، كما يفعل تجار الحبوب مع الفلاحين، بما يسمونه على الأخضر، فهم يقرضونهم مقدار من المال سلفاً على أن يسددوا بدلا منه منتوج حيواناتهم من القيمر، والجبن واللبن والدهن بأسعار يفرضها التاجر سلفاً. وهكذا يظل الدبي تحت يد التاجر كأنها إخطبوط لا يقوى على التخلص منه]. ويا لك من ذكي، دبرت أمرك خشية أن تخسر مالك. بذلت مادة البناء، الظاهر -قربة إلى الله- والواقع أن تتملك البقعة إن فشلت خطة عبد الله، أو تصبح شريكاً إن نجحت، أنت لاعب شطرنج ماهر. ولكن البلاء جاءك من يد ليست يد عبد الله. فاسلم بجلدك أو نلحقك به".
وقف رئيس العمل مندهشاً. فأمرناه أن يقيم على باب غرفة المرقد جداراً، وعلى الحاج أن يسدد لكم الحساب!
أولياء وأئمة كثيرون خلقهم أمثال عبد الله الدبي، ولكن لم يحصل لهم من يئدهم مثلي ومثل رفاقي آنذاك. وسيكثر من يخلق لهم قبوراً، ويعتاش بفضلهم مادام الاستغلال والمستغلون، وفبارك الاستعمار والرجعية بيدها ملكوت كل شيء!
حدثٌ له سر! في هذا العام أيضا فرض علينا من قبل وزارة المعارف ما سمي بـ "الفتوة" أن نلبس البدلة الخاكية، ولبعضنا خيوط فضية تثبت على أكمام السترة حسب درجة الفتى بالراتب والخدمة! وإن نتدرب على حمل السلاح وعلى ما يلزم أيضاً على من يعد للحرب في يوم ما. هذه البدعة جاءت من مدير المعارف العام "سامي شوكت"، الذي أبدى اهتماما فائقاً في تدريب الشباب وإعدادهم إعدادا يتلاءم مع المطامح القومية! يريد أن يخلق جيلاً متمرساً قوياً، على النخوة والخشونة؟ يقال انه كتب لوحة فيها هذا الحديث المروي عن النبي "أخشوشنوا فإن الترف يزيل النعم". ولكنهم يقولون إنه جعل على كل نافذة عمارية من العاقول، ترش بالماء باستمرار ليكون هواء المروحة الكهربائية بارداً [العمارية، تصنع من جريد النخل أشبه ما تكون بالشباك، وتبطن بالعاقول وترش بالماء، فإذا أشتغلت المروحة الكهربائية جاء الهواء بارداً، كانت تقوم مقام المبردة. وسامي شوكت طبيب أشغل منصب مدير المعارف! وأخوه ناجي شوكت وزير]. ويقال إنه خطب في طلبة دار المعلمين العالية مرة وأفتتح خطابه بقوله "تعلموا صناعة الموت!؟". كان الأستاذ عبد الله الحاج حاضراً، وهو من أضداده، فصاح بصوت مسموع "لا يحسن صناعة الموت إلا الطبيب الجاهل!"
ويرمى أيضاً بعلاقات مشبوهة، وإن له صلة بسفير ألمانيا النازية "الهر غروبا". إن كثير من شبابنا -القوميين- مالوا إلى أفكار النازية واعتبروا هتلر مثلاً يحتذى. قلده بعضهم في قص شعر الرأس والشوارب، وجاهروا بعداء الشيوعيين. وشاعت مفاهيم عديدة مصدرها النازية، الموسيقى الصاخبة، والتغني بالقوة، ومعاني في الأناشيد المدرسية من مثل: وطني فوق الجميع أمتي فوق الأمم [أعتقد إنه من نظم عبد الصاحب الخضري ولحن الموسيقار أكرم رؤوف].
وكل غزو يقوم به هتلر للشعوب المجاورة يظل لأيام حديثهم المفضل، وتمجيد الفوهرر يتردد على ألسنتهم بإعجاب وإكبار. قال بعضهم مقارناً بين الإسلام والنازية: "الإسلام يفرض على المرأة ملازمة البيت" وهتلر أيضاً صاح: "إلى المطبخ يا بنات المانيا"، الإسلام يقول: "الجنة تحت ظلال السيوف" وهتلر ينادي: "المدفع بدل الزبدة". إن هذا منطق أخرف، ولكني واثق إن معظم هؤلاء اندفعوا بهذا الاتجاه لكرههم الاستعمار البريطاني، بينما يختفي وراء الكواليس الذين يخونون وطنهم، فيأخذون عن جواسيس هتلر ما ينشرونه لتمهيد الطريق أمام مستعمر جديد هو هتلر، وكأنهم لم يطلعوا على كتابه "كفاحي" وما قاله عن العرب خاصة.
يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
[email protected]



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 1- معلم في القرية/ 15
- معلم في القرية/ 17
- 1- معلم في القرية/ 16
- استفسار واتهام حول القطع الأثرية
- معلم في القرية/ 14
- معلم في القرية/ 13
- معلم في القرية/ 12
- معلم في القرية/ 11
- معلم في القرية/ 10
- معلم في القرية/ 9
- معلم في القرية/ 8
- معلم في القرية /7
- معلم في القرية /6
- معلم في القرية /5
- معلم في القرية /4
- معلم في القرية /3
- الحل ليس بإعادة الانتخابات في العراق!؟
- معلم في القرية /2
- معلم في القرية/1
- نداء لتشكيل برلمان ظل عراقي


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية/ 18