أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة















المزيد.....

الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3152 - 2010 / 10 / 12 - 19:40
المحور: الادب والفن
    


كلّ عارض من حياتنا، طاريءٍ، كانَ يُحال إلى حَقائق الحقّ.
قبلَ " الكوميديا الإلهيّة " للشاعر العظيم، " دانتي "، كانَ المُتصوّفة المسلمون يَسِمونَ وجودَ الله في الإنسان بـ " النكتة الإنسانيّة ". إنّ إرادة الحقّ، والحالة تلك، كانت وراءَ خلل عقل أخي، الكبير. على الأقل، ذلكَ ما كانه تأويلُ الكثيرين في مُحيطنا: حادثة مَصرَع الشابّ الفلسطينيّ، كانَت طريّة في الذاكرَة بعدُ. إنّ جنونَ " جينكو "، وقبله مَوت " مستو " في حرب تشرين، ربّما عُدّا في أذهان أولئك الناس نوعاً من التكفير عن تلك الجريمَة. حتى الأبّ، فإنه راحَ يُذكّر بأفعال أبنه الأكثر وَحشيّة.
" كيفَ كانَ بوسعِهِ ذبح مخلوقات الله، العاجزة، بدَم بارد؟ "، يتساءلُ مُخاطباً أمّنا. كانَ الوالدُ يَستعيدُ الحادثة المَعروفة، الشنيعة، العائدَة لأحد أيام زمن طيش أبنه. من جهتي، كنتُ بعدُ غلاماً غريراً لمّا أمرَني " جينكو " يومئذ بمُغادَرة بستان العمّ. ثلاثة من الجراء، كانت في صَدْر المَشهد، الدّموي. لاحقا، سوّغ أخي ذبحَهُ تلكَ المَخلوقات المسكينة، الدقيقة الحَجم، بالرغبَة في تصليب القلب وجعله بمنأىً عن أيّ عاطفة.
عامٌ واحد، على أثر الحرب الأخيرَة، وكانَ منزلنا في حالةٍ، سوداء، شبيهةٍ بالحِداد. رقمُ " سبعة "، المُبارَك، كانَ له بالمُقابل طيرَة، مَشئومة، عندما تعلّقُ الأمر بأسرتنا. سبعُ سنوات، هيَ ما يَفصلُ بينَ جنون " جينكو "، المُعقب شهوده الباسل لحربَ تشرين، وبينَ مَقتل أبن عمّه، " نصر "، المُحارب في حرب حزيران.
أمّ القتيل، كانت عمّة والدتنا، الوَحيدَة. إنها المرأة نفسها، التي استولتْ على منزل جدّي لأمّي وجَعلته حراماً علينا، أبداً. مرّاتٌ مَعدودات، هيَ الشاهدَة على وطئي دارة الوَجاهة تلك، الآفلة؛ إحداها، كانت في يوم وفاة العمّ، الأكبر. المَرحوم، كانَ يُقيم قبلاً مع امرأته وأولاده في زقاق " الكيكيّة "؛ في بيتٍ فسيح للغايَة، ما لبثَ أن امتلأ بالمُستأجرين الأغراب . جرى ذلك، عندما حَضَرَ خال والدتنا، المَنعوت بـ " ديغول "، لكي يُقابلَ ابنة عمّه: " جَميل دَفعَ عربوناً، تمهيداً لشرائه منزل شقيقكِ "، قالها بنبرَة غلّ ثمّ أضافَ " إنكِ أحقّ من الغريب، ولا رَيْب، بذلك المَنزل العامِر ".

جدّي لأمّي، الوَجيهُ الجَوادُ، كانَ في سبيله للتدهور في مُنحدر آخر مُغامراته، التجاريّة.
أراض شاسعة، خصبَة، كانت ثمّة في " الجزيرَة "، مَشاعاً أو تباعُ بثمَن بَخس. أخوَة خالتي " فيروزا " لأبيها، المُقيمون في بلدة " عامودا "، همُ من كانوا في إحدى زياراتهم للشام قد حثوا الجدّ على المُغامرَة. آنذاك، كانَ الجدّ يُعاني من ضائقة ماليّة، إثرَ الخسائر المُتتاليَة في أعمال تجارته. على ذلك، أقترَحَ على صهرَه الأثير، " جميل "، أن يَشتري دارَهُ بما أنّ هذا قد حَصَلَ على تعويض، طيّبٍ، في ختام خدمَتِهِ العسكريّة. كانَ الجدّ مَلولاً من وَضع والدتنا، الشابّة، هناكَ في الزقاق المَنعوت باسم جدّ أجدادي لأبي؛ " حاج حسين ". في منزل هذا، الكبير، دأبَتْ الأمّ على تحمّل وطأة سلفتيْها؛ الضبع الضاريَة والثعلب الخبيثة.
" ما نه بشاريْ خوه دكه " ( أيْ: ألا فليَخسأ هوَ )؛ إنه جوابُ عمّة الأمّ حينما بعثَ شقيقها، الوَحيد، من يُطالبها بثمن منزله، الكبير. قبيل سفره إلى الشمال، كانَ قد وَصَل جدّي من شقيقته تلك مبلغٌ بسيط ـ كعربون حَسْب. والدنا، كانَ قبلاً قد شفعَ، عبثا، عربونَ ثمن البيت بالمبلغ جميعاً، المَطلوب. بيْدَ أنّ جدّنا، الطيّب، كانَ قد خدِعَ بالمَناحَة المَديدة، المُصمّة، المُتكرّمَة بها شقيقته: " ويلاه، ألستُ أحقّ بالمَنزل من الغريب؟ سأدفعُ لزوجتكَ بقيّة المَبلغ، قبلَ أن تصلَ أنتَ للجزيرَة "، قالتها له وهيَ تقسمُ بأفظع الإيمان.
عقدٌ من الأعوام، عليه كانَ أن يَمضي على تمتع عمّة أمي بالدار، الكبيرَة. وإذا بصراخها الثاقب عرض السّماء، يطغى على نواح نسوَة العائلة. جرى ذلكَ في حجرَة " آموجني "، عندما شاءَ أبنها، " الأستاذ حسين "، مواساة حماته اللدودَة. كانَ قد فاتحَ زوجته، أولاً، بشأن ورقة النعي، الرّسميّة، التي تسلّمها هوَ بحُكم وَضعِهِ المسئول، الاعتباريّ: كانت الورقة تفيدُ، بأنّ " نصرَ " لم يَعُد مَفقوداً بعدُ؛ بل قد حُسِبَ شهيداً وفق مَعلومات موثوقة، أكثر جدّة.
في تلك الليلة، المَشئومة، أجاز أبنُ العمّ لنفسه أن يُضافِرَ من ضِرام المناحة، المُشتعِلة في منزله. إذ استدعاني إلى حضرته: " عليكَ بالتوجه في الحال إلى بيت ابنة عمّك، حسّيبة. قل لها أنْ تأتي فوراً، وبلا إبطاء "، قالها مُحدّقا فيّ بعينيْه الزرق، المَرهوبتيْن. ثمّة، في بيت ابنة العمّ، الطيّبة والمَحبوبَة، المُشرف على تربَة " رأس الحارَة "، فتحَ البابُ على سِحْنة ربيبتها " نازيْ "، الرقيقة القسمات. مُرجفا ومُجهشاً، رُحْتُ أخبرُ الفتاة بالأمر، دونما أن أنتبه لوجود امرأة أبيها خلف الباب. هذه الأخيرَة، ما أسرَعَ أن انهارَتْ أرضاً مَغمياً عليها.

يائساً ومُحبطا ومُتوحّداً، كانَ جدّي على فراش مَرَضه، الأخير.
كانَ مع " ريما "، امرأته الحَسناء والوَفيّة، هناك في منزلهما، البائس، الكائن في مُبتدأ طلعة ما سيُعرفُ تالياً بـ " حارَة الدروز ". صغرى البنات، إضافة لحفيدة زوجته، كانتا تعيشان أيضاً مع الجدّ وامرأته. كانوا يَشغلون ثلاث حجرات نوم، رثة، مع ملحق أكثر رثاثة للمَطبخ والمَنافع. ذاكَ الخراب، هوَ كلّ ما كانَ يَحتويه المَنزل. ولم تكُ ثمّة أيّ شجرَة، أو حتى شتلة خضراء. أرضُ الديار الجرداء، الأسمنتيّة، كانت تمتدّ إذاك خلل نافذة الحجرَة وعلى مرأى من عينيّ جدّنا، المَلول. ذلكَ ما بقيَ من أملاكه وعقاراته، المُبدّدة في مغامراته الغراميّة والتجاريّة. ثمّ جاءتْ طعنة الظهر من الشقيقة، الوَحيدة، لكي تجهزَ على صحّة الرّجل؛ الكريم والسخيّ والشهم.
ذاتَ مَساء، من زمن مَجدِهِ، كانَ مع امرأته في الطريق إلى منزل أحد الأقارب. ثمّة، عند ناصيَة مسجد " سعيد باشا "، أنتبها إلى وجودَ شبَحَيْن مُتسترَيْن بالعتمَة، البهيمَة. بضع ساعات، على الأثر، حينما عاد الجدّان من سهرتهما، فإنهما لاحظا المَشهدَ ذاته؛ الذي سبق وعرََضَ لعينيْهما في مُستهلّ المساء.
" بافي عصمان، الأرجح أنّ هذيْن الشخصيْْن هما من اللاجئين الفلسطينيين، المساكين "، خاطبَتْ " ريما " رَجلها. هنيهة أخرى، وتأكّدَ ظنّ جدّتنا. إنّ الزوجَيْن، اللاجئيْن، كانا بانتظار صلاة العشاء لكي يَدخلا إلى المسجد في مُحاولة منهما لتدبّر مأوى. فيما بعد، سيُهرع الكثير من مواطنيهم، الواصلين للشام تواً، إلى مساجد الحيّ والأحياء الأخرى، أيضاً. إلا أنّ الزوجَيْن، التعسَيْن، ما عادا بحاجَة إلى تجشّم عناء الانتظار. لقد رَحّبَ فيهما جدّي في منزله، مُصرّا على استضافتهما ما طابتْ لهما الإقامة هناك. إنّ كثيرين من أبناء الحارَة، ولا غرو، استأنسوا بمَسلك الجدّ، الشهم، فاندفعوا لاحقا إلى المساجد كي يَقترحوا على اللاجئين الانتقال إلى منازلهم.
" لا بأس عليكما ولا تثريب. ستأكلان ما نأكله نحنُ وتشربان ما نشربه "، هكذا كانَ جوابُ " بافي عصمان " على إلحاح الضيف الفلسطينيّ. هذا، كانَ قد عبّرَ عن خجله من الجلوس في منزل الجدّ عاطلاً. على ذلك، طلبَ من مُضيفِهِ أن يتدبّر له عملاً ما، يَرتزق منه وامرأته. من ناحيَة أخرى، فإنَّ الضيفيْن غير المُتنعمَيْن بذريّة، كانا وقتذاك على أتمّ انسجام مع أسرَة الجدّ، الضاجّة بصخب أولاده، المُنجَبين من ثلاث نساء. ثمّة، في الدار الكبيرَة وفي حجرَة مُعتبرَة مبذولة لهما، ظلّ الضيفان قرابَة خمس سنين. حتى انتقلا، أخيراً، إلى مَوطن قومهم في " مُخيّم اليرموك "؛ المؤسس على طرَف حيّ النصارى.

تدَهور حالُ أخي، الصحيّ، رافقَ انحدار أحوال العائلة، الماليّة.
حينما أشدّد على مَفردَة " العائلة "، فإنّ القصدَ منها ليسَ أسرتنا حَسْب، بل ودائرَة الأقارب، الأقرب إليها. على إيقاع ذلكَ القول، سارَتْ حياة خاليّ وعَميّ. الأولان، اقتنعا بالعمل هنا وهناك ـ كسائقيْن لحافلة كبيرَة أو صغيرَة. ولكنّ وَضعَ شقيقيْ والدنا، المُتبقييْن على قيد الحياة آنذاك، كانَ يَمتّ لما وَسمناه آنفا بـ " النكتة الإنسانيّة "؛ في جانبٍ منه، على الأقل.
إنّ خيولَ البُخل، المُسَوّمَة من لدُن عمّنا الكبير، جَرّتْ عرَبَة حياة أسرته إلى مَهاوي الإملاق والفاقة: تغرّب طبعُ والد " زاهر " عن المُحيط البشريّ من أقارب وأصدقاء وجيران، جعلَ مُستحيلاً تواصل الرّجل مع ما يَجدّ ثمّة خارجاً. وإذاً، قرّرتْ الدولة في أواسط الستينات تغيير العملة النقديّة، كي تكونُ صوَرها مُتوافقة مع المُنقلب، الثوريّ، في مَناحي الحياة الأخرى. ثمّ مَضتْ الأعوام، مُتناهيَة إلى عشيّة وفاة العمّ: عندئذ، اكتشفتْ أرملته كنز مُدخرات الرّجل، الجَسيم؛ والذي لم يَكن لخيْبَتها سوى أوراق نقد قديمَة، باطلة، ليسَ لها أيّ قيمَة.
العمّ الحاج، الكريم والشّهم، تقلّصَتْ الأراضي الزراعيّة العائدَة لمُلكه مع توسّع نفقات أسرته، المُتناميَة العدد. على ذلك، أخلى منزلَ أبيه للمُستأجرين، الأغراب، بانتقاله إلى منزل آخر، ضيّق للغايَة، مَركون بأسفل الزقاق. ثمّة، كانت أسرَة العمّ تشغلُ الدور الثاني، فيما الأوّل كانَ مَبذولاً أيضاً للمُستأجرين. أما المنزل، الأوّل، فإنّ الأسرَة فلسطينيّة التي كانت تقتسمُ حجراته مع أسرَة العمّ، ما عَتمَتْ أن بدَورها انتقلتْ إلى حيّ " اليرموك ".
إنّ ربّة الأسرَة الغريبَة، " زينب "، كانَ والدها ينتمي إلى أصل كرديّ وأمّها يهوديّة. أهلها، كانوا يُقيمون في آخر طلعة زقاق " الكيكيّة "، ليسَ بعيداً عن منزل جدّتي " ريما ". وكنا في طفولتنا على صداقة مع أصغر أولادهم. كانَ الوَلدُ، الغامِق السُمْرَة، مَنعوتاً بلقب " دَعلة "؛ خبيراً بالنشل بشكل خاص. كانَ يٌردّدُ على الدوام مَقاطعَ من أناشيدٍ، فدائيّة: " أبو عمّار شيخ الثوار، أبو عبد الله شيخ الثورة ". كنا على مَعرفة بمَن يكونه، " أبا عمّار ". أما الآخر، فكانَ " الملك حسين "ـ كما عَلِمنا من صديقنا، الخبير. إثرَ أحداث أيلول، الأسوَد، في الأردن، ما عادَ للثورة شيخاً. أعوامٌ أخرى، وأخبرَنا " دَعلة " بنبرَة أسى، أنّ أخوته الكبار طردوا من " المنظمة " على خلفيّة كون والدتهم يهوديّة الأصل. أما جارُهم وقريبُ والدهم، " علي الكردي "، فكانَ ما يفتأ في ترقيه درجات المناصب العليا في منظمة التحرير، حتى صارَ سفيرها في ألمانية الشرقية. إنه زوجُ أخت " وصال فرحَة "، الزعيمة الشيوعيّة؛ وكانَ أبنهما " عماد " صديقنا وزميلنا في تنظيم " الشباب الديمقراطي ".

في زمَن مَجد عائلتنا، كانَ يُنظر بازدراء إلى أولئكَ الذين يؤجرون منازلهم إلى الأغراب.
وها هيَ جدّتي، سليلة الوَجاهة، تضطرُ إلى فعل ذلك في آخر الأمر. حجرَتان من منزلها، المُتبَقي وَحيداً من عقار جّدنا الواسع، شغلتهما أسرَة من جبل الدروز. حينما ارتفعَتْ تسعيرَة الكِراء، على غرّة، فإنّ المُستأجر لم يأبه بإلحاح جدّتي عليه كي يُزيدَ المَبلغ المُتحصّل منه. بل وبلغ من امرأة الرّجل، الحانقة، أنْ كفتْ عن رَدع أطفالها المُشاغبين. إلى أن زارَ أبن " فيروزا " جدّته الحبيبَة؛ هوَ من كانَ وجودُهُ نادراً في الحارَة، بسبب سيرة حياته المُوزعة، غالباً، بين السّجن والملاحقة.
" تيْتيْ، أعانكِ الله على هذه الجَلبَة، المُزعجَة؟ "، قالها الحفيدُ، العتيدُ، وهوَ يُومأ برأسه إلى خارج الحجرَة. عند ذلك، راحَتْ جدّته تسرُدُ على مَسْمَعِهِ مُعاناتها. في اليوم الذي تلا، مُباشرة ً، كانَ أبن " فيروزا " قد أنتقلَ للسُكنى في حجرَة جَدّته. يومان آخران، على الأثر، والمُستأجرُ الغريبُ يَحضر إلى بيتنا مَلهوجاً، لمُقابلة صاحبَة بيته.
" يا خالة، إنّ قريبكِ لا يَهدأ له قرارٌ ليلاً أو نهاراً. إنه يَسكرُ ويطلقُ الرّصاص خلل نافذة حجرَتكِ ويروّع الصغارَ "، توجّه إليها بالقول مُتوسّلاً. وعلى أيّ حال، فما مَضى أسبوع آخر حتى أخلى الرّجلُ الغريبُ منزلَ جدّتنا. عادَتْ هيَ إلى حجرَتها، وما لبثَ مُستأجرون آخرون، قادمون أصلاً من جبال " كرداغ "، أن حلّوا لديها.
من جهتي، وكنتُ في سنّ المُراهقة بعدُ، رأيتني كذلكَ أحلّ في حجرَة الجَدّة. إنّ تفاقمَ حالة " جينكو "، النفسيّة، قد جعلَ مُشاركتي له في حجرَة منزلنا، ذاتها، أمراً غيرَ مُحتمَل. ولم يكُ الحالُ أهون، حتى عندما نقلَ أخي إلى حجرَة الضيوف، المَفتوح عليها بابُ حجرتي، الوَحيد. كانَ هذا، إذاً، هوَ سببُ رَمي حصاة حياتي في ذاكَ القفر.
ففي الفترَة نفسها، التي شهدَتْ إنهاء شقيقي الكبير لخدمة الجنديّة، كنتُ بالمُقابل قد أنهيتُ على خير شهادتي، الإعداديّة. تسريحُ " جينكو "، كانَ عادياً وليسَ بداعي مَرَضه: لقد أنكروا أيضاً على ذلك " الشهيد الحَيّ " أيّ تعويض عن إصابته، الخطيرَة، في سجن " تدمر " الصحراوي، الرّهيب. كما ولم يؤبه بالالتماسات، المُتتاليَة، التي وَجَهها الأبّ لقيادَة الجيش، بشأن مُعالجة أبنه في مشافي الدولة؛ وهيَ الالتماسات، المُقدّمة بوساطة من صديقه " العقيد زلفو ".

إقامتي في حجرَة الجَدّة، كانت مَنذورَة لحضرَة البرزخ، الليليّ.
نهاراً، أكونُ عادة ً في دوامي؛ هناك، في الثانويّة الصناعيّة. عند العصر، أتناولُ غدائي في منزلنا. وأثناء ما أكونُ في حجرَتي، الكهف، أطالعُ الكتبَ الفكريّة أو الأدبيّة، فإنّ أخي المَريض يكون عندئذ في مَتاهة عقله، المُوديَة فيه غالباً إلى بساتين الحارَة. مساءً، حينما يَعودُ هوَ إلى المنزل، أكونُ بدَوري قد غادرته إلى منزل الجدّة أو إلى أحد الأصدقاء.
" سيفو "، كانَ آنذاك قد أضحى أقرب أصدقائي. هذا الفتى، الجَسور والمُتألق بالوسامَة، كانَ يَحضر أحياناً إلى حجرَتي؛ ثمّة، في دار الجدّة. وبما أنها كانت، عادة ً، تقيمُ لدينا في المنزل أو عند خالتنا، فإنّ سهراتي مع " سيفو " والآخرين من أصدقائنا كانت تمتدّ حتى وقت من الليل، مُتأخر.
" يا ربّ العالمين. عندكَ مثل تلك الجارَة، الحسناء، وتقضي الوَقت في الثرثرة عن " سوزان " وغيرها..؟ "، قالها صديقي الأثير مُشيراً بعينيْه، الجميلتيْن، إلى نافذة الحجرَة. الوَقتُ، كانَ صباح يوم جمعة. قبل قليل، تناهى إليّ صوتُ " سيفو "، المُعتذر لجارتنا اليزيديّة، العفرينيّة. وكانَ قد اصطدَم عفواً بطشت الغسيل، وهوَ في طريقه إليّ. نافذة الحجرَة، الوَحيدَة، كانت إزاء مَجلسنا على حافة السرير. ولكي يؤكدَ صديقي الخبَرَ، فإنه أزاح جانباً من الستارَة: مَشدوهاً، تطلعتُ بدَوري إلى مَنظر المرأة المُستأجرَة. بدءاً، اعتقدتُ أنها امرأة أخرى؛ قريبَة ما للمُستأجرَة أو لزوجها. بيْدَ أنّ الابنة الصغيرَة، الرّضيع، كانت وقتئذ هناك في حضن المرأة؛ وكأنما لدَحْض ظني. جارتنا، إذاً، كانت في تلك الهنيهة، اللاهبَة، جالسة ً على كرسيّ واطيء وطشت الغسيل بين رجليْها، المَجبولتيْن من العاج؛ الرجليْن، المَفتوحَتيْن على أقصى وسع فتنتهما، الصارخة.
إذا كنتُ لم آبه، أولاً، بمَديح صديقي لجمال الجارَة، المَزعوم. فلأنني كنتُ قد لمَحتُ سِحنتها، خطفا، أثناء دخولي أو خروجي من المنزل. وكانت إذاك حبلى، و وَجهها الشاحبَ بشدّة كانَ مُحوّطاً بخصلات الشعر الأشقر. زوجها، كانَ مُجنداً في إحدى قطعات الجبهة؛ وبالرغم من أنه كانَ يبدو عُمْراً فوقَ الثلاثين. كانَ لطيفا معي، عموماً. ولكن، كانَ أحياناً يُبدي انزعاجه من حضوري الليليّ، المُتأخر. وحينما قلتُ له، ذات ليلة، أنني أحملُ مفتاحاً ولا داعي بالتالي لغلق الباب بالدقارَة، فإنه تطلّع فيّ ملياً ولم يُجب. فيما بعد، أوضَحَتْ لي امرأته الحَسناء، ضاحكة ً، داعي إغلاق الباب على تلك الطريقة، القديمَة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع
- الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
- الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
- الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
- الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
- الأوانس والجَواري 5
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4
- المُتسكعون والمَجانين 3
- المُتسكعون والمَجانين 2
- ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
- القبلة ، القلب 5
- القبلة ، القلب 4
- القبلة ، القلب 3
- القبلة ، القلب 2
- الأولى والآخرة : الخاتمة
- الأولى والآخرة : مَزهر 13


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة