أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - العرفاء والتنزلات الالهية للوجود















المزيد.....


العرفاء والتنزلات الالهية للوجود


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3151 - 2010 / 10 / 11 - 23:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لا يختلف العرفاء كثيراً عن زملائهم الفلاسفة حول طبيعة التنزيل والصدور لدى المفارقات العلوية. فعندهم ان ما صدر عن المبدأ الحق انما هو جملة العالم بأسره دفعة واحدة، وهو المطلق عليه الوجود المنبسط العام، والذي يفيض على كل موجود من الموجودات الخاصة. لكن مع ذلك فان اول تعين لهذا الصدور ضمن الوجود المنبسط العام هو العقل الاول . وعليه ذهب صدر المتألهين الى التوفيق بين المذهبين الفلسفي والعرفاني، وذلك لان العرفاء وإن قالوا بالصدور الجملي والكلي للعالم دفعة واحدة عبر ذلك الوجود المنبسط، فانهم لا ينكرون التسلسل والترتيب في التعينات الخاصة، وبالتالي فقد اعتبر ان ما ذكره العرفاء حول الوجود المنبسط هو ذاته عبارة عن العقل الاول من حيث التفصيل، أما من حيث تعينه الخاص فهو ايضاً عبارة عن جميع ما في العالم من موجودات؛ ولكن على نحو الكمال والاجمال. وهنا ان مقالة العرفاء لا تبتعد عن مقالة ابن رشد المشائية، وهي ذاتها التي نحا اليها صدر المتألهين كما هو واضح.
نعم قد ظهر لابن عربي تصورات مختلفة وعديدة ازاء موقفه من نظرية الصدور. فهو احياناً يستدل على خطأ التعميم القائل (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) بدليل هندسي مفاده ان النقطة رغم انها تعد واحدة الا ان من الممكن ان ينشأ منها خطوط متعددة، فاذا كانت النقطة مفترضة في مركز الدائرة فان من الجائز ان يرسم عليها خطوط تنتهي الى نقط متعددة في المحيط، بحيث ان جميعها يقابل تلك النقطة وجهاً لوجه . والواقع انه يمكن انشاء ما لا نهاية له من الخطوط المنبعثة من نقطة المركز والتي تفضي الى رسم ما لا نهاية له من النقط على المحيط. لكن انما يصح ذلك باعتبار ان نقطة المركز لم تعد نقطة بسيطة، بل هي مركبة الى ما لا نهاية له من النقط الجزئية، وهو امر لا يتنافى مع قاعدة الصدور، مثلما اشار الى ذلك صدر المتألهين وهو في معرض ردّه على ذلك الاستدلال الذي نسبه الى بعض الأذكياء.
وحيث رفض ابن عربي مفاد نظرية (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) حاول ان يفسر علة الكثرة من خلال فكرة التثليث التي اناط بها الايجاد والتنزيل. فالثلاثة عنده هي ابسط الكثرة ، او انها اول الافراد وعنها وجد العالم. فهي في الحضرة الالهية عبارة عن علم وعالم ومعلوم، وان هذه العلاقة الثلاثية اقتضت العلاقة بين الحق والاعيان الثابتة. فالواحد بمفرده لا ينتج، وكذا الاثنان لا ينتجان ما لم يقم بينهما حركة الجماع وهي الفردية، وبالتالي فبالاحدية ظهرت الاشياء عن الله الواحد من جميع الوجوه، فالموجود الذي صدر انما صدر بثلاثة اعتبارات، هي اصل النتائج كلها، وهي وجود الذات وكونها قادرة وكونها متوجهة. فبهذه الاعتبارات والوجوه ظهرت الاعيان.
ويستعين ابن عربي في ايضاح العلاقة الثلاثية للايجاد والتنزيل ببعض النصوص الدينية، فيعتبر ان العلاقة بين الحق والاعيان كانت من الطرفين عبارة عن ثلاثيتين لولاهما ما وجد العالم، فمن حيث طرف الحق ان الايجاد لا بد ان يتضمن شروطاً ثلاثة تضمنها قوله تعالى: {انما قولنا لشيء اذا اردناه ان نقول له كن فيكون} النحل/40، حيث لا بد من ذات وإرادة وقول (كن). كما لا غنى عن ان تكون هناك شروط ثلاثة في العين التي يراد لها الايجاد، وهي ان تكون لها شيئية، وان تسمع القول، وكذا تمتثل الامر. فلولا ان هذه العين مستعدة للتكوين ولها قابلية لذلك من نفسها ما تكوّنت عند سماعها القول الالهي. وهذا الاستعداد هو الحاصل لديها بفعل الفيض الاقدس. بل ان الموجد والمكون للشيء انما هو تلك العين للشيء بشرط سماعها الامر، فليس الحق هو من أوجد الشيء، وانما اوجده نفس الشيء او عينه لا غير، بدلالة قوله تعالى: {ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعاً او كرهاً قالتا أتينا طائعين} فصلت/11 . وتبعاً لهذه النظرية في التثليث فان هناك ثلاثة انواع من الايجاد التي فيها اوجد الله العالم، فهناك الايجاد بقول (كن) لا غير، حيث فيه تم ايجاد اكثر العالم. كما هناك الايجاد بقول (كن) واليد الواحدة، وذلك مثل ايجاد جنة عدن والقلم وكتبة التوراة وغير ذلك. واخيراً هناك الايجاد بقول (كن) وكلتا يديه، وهذا النوع من الايجاد خاص بالانسان، ولذلك فانه خرج على صورة الحق كما في الحديث ‹‹خلق الله ادم على صورته››‮.
مع هذا فهناك موقف اخر لابن عربي ازاء قاعدة الصدور الانفة الذكر، حيث عدّها صحيحة تماماً من الناحية العقلية، بل وتنطبق على جميع الموجودات باستثناء احدية الحق، حيث الكثرة تصدر عنها، وذلك لان احديته خارجة عن حكم العقل وطوره ‹‹فأحدية حكم العقل هي التي لا يصدر عنها الا واحد، واحدية الحق لا تدخل تحت الحكم››‮ . كذلك فلو صدر عن الحق جميع العالم فانه لا يصدر عنه الا واحد، حيث انه مع كل واحد من حيث احديته، لكن الامر يختلف عما يقوله الفلاسفة كما اشار الى ذلك.
وهو في محل اخر رأى ان التعدد الصادر عن الواحد ممكن باعتبار القوابل لا باعتبار ذات الواحد. والمسألة عنده مفسرة بحسب ظهور الحقيقة الواحدة في المرايا المتعددة والمختلفة، حيث تتعدد الصور وتختلف في هذه المرايا مع ان الحقيقة واحدة، وكذا في علاقة المبدأ الحق مع تجلياته المختلفة. فهو لا يرى غير الذات الالهية وهي متجلية في كل شيء، كأمر واحد يظهر بمظاهر مختلفة كلها تبدي كونها مرايا لحقيقة واحدة، او انها اسماء وصفات هذه الحقيقة المطلقة، وان تجلي الواحد في المقامات والمراتب تظهر الوحدات المتعددة، تعدد الوجه الواحد في المرايا المتعددة، وليست هناك كثرة دالة على الاختلاف، حيث العدد لا يولد كثرة في العين، فالعالم كله وحدات ينضاف بعضها الى بعض فتسمى مركبات . وكما قيل في الشعر:
وما الوجه الا واحد غير انه اذا انت عددت المرايا تعددا
او يمكن القول ان صدور الكثرة او التعدد عن الواحد هو باعتبار ما عليه الاعيان الثابتة التي هي قوابل متعددة وغير متناهية، وعليه صحّ ما يقوله العرفاء بأن المبدأ الحق هو الواحد الكثير فكيف لا تصدر عنه كثرة؟!
مع هذا فان رؤية ابن عربي في علاقة المبدأ الحق بالكائنات هي رؤية مبتنية الى حد بعيد على تلك القاعدة. فاستناداً الى تصويره الرمزي تبعاً للالفاظ الدينية، اعتبر ان للتجلي مراتب، وان اول هذه المراتب هي الروح الكلي او العقل الاول الموصوف بالقلم، ومنه تشتق سائر العقول، ثم النفس الكلية الموصوفة باللوح المحفوظ ، حيث انها اول موجود انبعاثي، فقد طلب القلم موضع اثر لكتابته فانبعث من هذا الطلب اللوح، وذلك كانبعاث حواء من ادم، اي كان بين القلم واللوح اول نكاح معنوي معقول وله اثر حسي مشهود، ومنه عملنا بالحروف المرقومة عندنا . ومن عملية النكاح بينهما ولد توأمان، حيث اول ما القت النفس علم الطبيعة الكلية، والتي عنها ظهرت العناصر الاربعة، ثم بعدها الهباء او الهيولى الكلية، ومن نكاح هذين التوأمين ولدت صورة الجسم الكلي، وهكذا استمر التوالد ونزل الى العالم السفلي. وفي محل اخر اشار ابن عربي الى ان الله اوجد بعد تكون علم الطبيعة - وهي من عالم النور - الظلمة المحضة ، ومن ثم فاض عليها النور فظهر الجسم المعبر عنه بالعرش، وهو اول ما ظهر من عالم الخلق، ثم اوجد الكرسي في جوف العرش وجعل فيه الملائكة من جنس طبيعته، ثم خلق في جوف الكرسي فلكاً في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالماً يعمرونه هم الملائكة، الى ان خلق المولدات الطبيعية ، حيث تصدر عن حركات السماوات والارض اعيان المولدات والتكوينات.
هكذا فلدى ابن عربي ان اصل النكاح والتوليد هو ذلك الذي حدث بين العقل الاول والنفس الكلية، او بين القلم واللوح، ومنه سرى النكاح في عالم التوليد الكوني وغيره من العوالم . فهو في العالم الطبيعي يطلق عليه النكاح، ويسانخه في عالم الارواح النورية فيطلق عليه الهّمة . ومن مترتبات ذلك النكاح الوجودي ما ظهر من انواع اخرى للنكاح والتوليد لا تمتّ الى العالم الوجودي بصلة، مثل النكاح الذي يتم بين المقدمتين المنطقيتين لانتاج النتيجة ، وانه لا بد في الدليل من ثلاثة حدود ، وكذلك النكاح الخاص في التوليد الكوني ومقدمات الاستدلال.
على ان المراتب التنزيلية، كما يتحدث عنها العرفاء ومنهم ابن عربي، هي مراتب تتصف بالنظام القائم حسب نظرية الامكان الاشرف والمشاكلة، مثلما سبق لدى زملائهم الفلاسفة. فالعوالم الوجودية لدى العرفاء هي عوالم قائمة على المشاكلة والسنخية. فتبدأ المضاهاة بين الذات الالهية والقلم او العقل الاول، وذلك من جهة الاجمال والكلية، ثم بعد ذلك بين القلم واللوح المحفوظ او النفس، وذلك من حيث التفصيل. كذلك هناك مضاهاة بين العرش والقلم من جهة الاجمال، وكون الاشياء فيهما على الوجه الكلي، وكذا هناك مناسبة بين الكرسي واللوح من جهة مظهريهما. فالعرش في المرتبة الحسية هو مرآة القلم، وما في القلم من اشياء مجملة وكلية مندرج في العرش بشكل كلي ومجمل ايضاً، والكرسي في المرتبة الحسية هو مرآة اللوح، فما في اللوح فهو في الكرسي، والقلم انموذج الذات ومرآتها ومظهرها ومنصتها ومجلاها، واللوح انموذج القلم ومرآته ومظهره ومنصته ومجلاه. والقلم نسخة الذات، واللوح نسخة القلم، والعرش نسخة القلم، والكرسي نسخة اللوح. وأما الانسان الكامل فهو نسخة جامعة لجميع النسخ، وهو الجامع بين العالمين الالهي والكوني، وبين هذا الانسان وبين الحق مضاهاة في الجمع بين العوالم، وان كلاً منهما عبارة عن مرآة لذاته، فعلمه لذاته هو مرآة لذاته، وبين علم الحق وعلم الانسان الكامل مضاهاة من حيث مظهريته لتفصيل ما اجمل، ومن ثم فان علم الانسان الكامل مرآة لعلم الحق، وان علم الحق متجل عليه وظاهر به.
بل العالم لدى ابن عربي له تماثل وتوازي مع الحروف، فهو مشتق من كلمة (كن)، تبعاً لقوله تعالى: {انما امره اذا راد شيئاً ان يقول له كن فيكون} ياسين/82، وحيث ان هناك ثمانية وعشرين حرفاً، فان العالم بدوره عبارة عن هذا العدد في المراتب لا يزيد ولا ينقص، ويقف العقل كأول مخلوق ، اذ كان العقل او القلم هو اول خلق خلقه الله من النفس المسماة بالعماء او الحق المخلوق به، والتي تتصف بقابلية فتح الله صور العالم فيها ، ثم النفس الكلية او اللوح، ثم الطبيعة، ثم الهباء، ثم الجسم، ثم الشكل، ثم العرش، ثم الكرسي، ثم الاطلس، ثم فلك الكواكب الثابتة، ثم السماء الاولى، ثم السماء الثانية فالثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة فالسابعة، ثم كرة النار فكرة الهواء فكرة الماء فكرة التراب، ثم المعدن فالنبات فالحيوان فالملك فالجن فالبشر، ثم المرتبة، وهي الغاية في كل موجود، مثلما ان الواو هي غاية حروف النفس . ومثلما هناك كلمات العالم، فانها تسمى في الانسان حروفاً من حيث احادها وكلمات من حيث تركيبها، وكذا فان اعيان الموجودات حروف من حيث احادها، وكلمات من حيث امتزاجاتها ، فما الانسان الا عالم صغير، وما العالم الا انسان كبير.
هكذا يتضح انه لا يوجد اختلاف جذري بين الرؤية العرفانية والرؤية الفلسفية حول طبيعة التنزيل تبعاً لنظرية الصدور وما يترتب عليها من المشاكلة والنظام التسلسلي.

الالوهة وفق النظر العرفاني
كذلك لا يختلف الامر عند العرفاء عما يلاحظ لدى الفلاسفة، فهم ايضاً يعولون على الترتيب الحاصل في التنزيل الوجودي، وان الاختلاف بينهما كما يصوره الاملي هو ان الفلاسفة يجعلون تأثير الحق على ما دونه عبر الوسائط، في حين ان العرفاء يوحدون الفعل الالهي، وانه لا فاعل والا مؤثر عندهم غير الحق تعالى، وان كلمات من امثال ظهر وخلق وصدر هي الفاظ متغايرة بمعنى واحد.
ويصور العرفاء طريقتهم بتناظرات للعلاقة بين الحق وتنزلات الوجود من جهة، وبين الواحد والعدد من جهة اخرى. فكما ان من تكرار الواحد ينشأ العدد ويتزايد بلا نهاية، فكذا ان من جود الحق وفيضه نشأت الخلائق وتزايدت من غير نهاية. كذلك فكما ان الاثنين هو اول عدد ينشأ من تكرار الواحد، فكذا ان العقل الاول هو اول موجود فاض عن الحق. وكما ان الثلاثة ترتبت بعد الاثنين، فكذا ان النفس ترتبت بعد العقل الاول. وكما ان الاربعة ترتبت بعد الثلاثة، فكذا ان الطبيعة ترتبت بعد النفس. ومعلوم ما يأتي بعد الاربعة من اعداد، فانه ما يأتي من وجودات بعد الطبيعة هي بحسب التسلسل عبارة عن الهيولى ثم الجسم فالفلك فالاركان فالمولدات. وكما ان التسعة هي اخر مراتب الاعداد، فكذلك المولدات هي اخر مراتب الموجودات الكلية، وهي المعادن والنبات والحيوان. فالمعادن كالعشرات، والنبات كالمئات، والحيوان كالالوف، والمزاج كالواحد.
وواقع الحال ان المناظرة بين الواحد والعدد من جهة، وبين الحق والتنزيل او الخلق من جهة اخرى، مناسب في التعرف على طريقة العرفاء في فهمهم لحالة التنزيل الخاصة بالخلق، ذلك انها تبدي شكلاً من الظهور والبطون. فالظهور لا يكون الا للعدد، والواحد باطن فيه، وانه لولا الواحد ما ظهر العدد ولا كان بالامكان ايجاده، والعكس ليس صحيحاً، حيث ان الواحد لا يتوقف على العدد. وكذا الحال فيما يتعلق بالعلاقة بين الحق والخلق، ذلك ان ما ظهر لدى افهام الناس هو الخلق، وان باطنه هو الحق، وانه لولا الحق ما ظهر الخلق. فالحق اساس الخلق، والعكس ليس صحيحاً.
فهذا هو التنزيل والايجاد بحسب الظهور والبطون. وهو تنزيل يعبر عن سريان الوجود الحق في الخلق، او سريان الوجود المنبسط العام في جميع الموجودات العلوية والسفلية. فابن عربي يصور الطبيعة والكون في صيرورة غير متناهية، وذلك من حيث اظهار النفس او تنفس العالم، وبذلك يدوم السريان ويتم حفظ الكون عنده. وكما يقول: ‹‹بالنفس كان العالم كله متنفساً والنفس اظهره وهو للحق باطن وللخلق ظاهر، فباطن الحق ظاهر الخلق، وباطن الخلق ظاهر الحق، وبالمجموع تحقق الكون، وبترك المجموع قيل حق وخلق، فالحق للوجود المحض، والخلق للامكان المحض، فما ينعدم من العالم ويذهب من صورته فمما يلي جانب العدم، وما يبقى منه ولا يصح فيه عدم فمما يلي جانب الوجود ولا يزال الامران حاكمين على العالم دائماً، فالخلق جديد في كل نفس دنيا واخرة، فنفس الرحمن لا يزال متوجهاً، والطبيعة لا تزال تتكون صوراً لهذا النفس حتى لا يتعطل الامر الالهي، اذ لا يصح التعطيل، فصور تحدث وصور تظهر بحسب الاستعدادات لقبول النفس، وهذا ابين ما يكون في ابداع العالم››‮.
ويعبّر هذا التنزيل عن تنزلات الحق وتقيده بالقيود، فاذا تقيد بقيد سمي به، حيث يسمى في اول تنزله بالعقل، ثم بالنفس، ثم بالفلك فالاجرام فالطبائع فالمواليد وهكذا. مع ان الحقيقة هي ان هذه الاشياء ليست عقلاً ونفساً وفلكاً وما اليه، وانما هي اسماء دالة على الحق، ومن حيث التحقيق فان الحق ليس له اسم ولا رسم، بل الحق والوجود هما من الاسماء الدالة عليه بحسب الاصطلاح لا غير، وانه لا وجود لغيره في الوجود ، حيث وجود الخلق اضافي اعتباري ليس له عين في الخارج، فالحق اذا ظهر بوجوده لم يبق للخلق وجود. فمثل النسبة بينهما كالنسبة بين الشمس والظل الذي ليس له الا الاسم والاعتبار، وهما امران عدميان ليس لهما وجود في الخارج . ويمكن اعتبار الخلق عند العرفاء ما هو الا احتجاب الحق في الخلق، حيث ظهر الخلق وبطن الحق . وكما يقول القيصري ان ايجاد الحق للاشياء جعله يظهرها ويختفي فيها . لكن ذلك عند عموم الناس من غير اولي الكشف، أما لدى العرفاء فالامر معكوس، وكما يقول ابن عربي: ‹‹ان العالم غيب لم يظهر قط، والحق تعالى هو الظاهر ما غاب قط، والناس في هذه المسألة على عكس الصواب، فيقولون العالم ظاهر والحق تعالى غيب، فهم بهذا الاعتبار في مقتضى هذا التنزل كلهم عبيد السوى››‮ . حيث ان العلاقة بين الحق والعالم هي ذاتها العلاقة بين الوجود والماهية او الاعيان الثابتة التي توصف بانها ما شمت رائحة الوجود قط، او انها عبارة عن غيب محض. وكذا بحسب صدر المتألهين فان احتجاب الحق في الخلق انما هو بالنسبة لذوي العقول الضعيفة في هذه الدنيا، اما بحسب النشأة الاخرى وبحسب العقول النيرة المقدسة فان الحق هو المشهود الجلي، وان الخلق هو المستور الخفي . وذلك انه كما يقول العرفاء ان الحق قد ‹‹حجب الذات بالصفات، والصفات بالافعال، والافعال بالاكوان››‮ ، وان ما نتوهمه من الكثرة الوجودية هي ذات الاعيان الثابتة التي البسها الحق الوجود، وحقيقة الامر هي ان في كثرتها الموهومة واحداً كما يشهده كل عارف، حيث الوجودات الكثيرة هي كشخص واحد له احوال مختلفة . وكما يقول العارف الاملي: ثبت من حيث العقل والنقل والكشف انه ليس في الوجود الا الله. او كما يقول العرفاء: لا يعرف الله الا الله، ولا يرى الله الا الله، ولا يدل على الله الا الله، ولا يحب الله الا الله.
لكن التنزيل يتخذ صورة ثانية لدى العرفاء، وذلك من حيث علاقة الاسماء بلوازمها وتوابعها، حيث ان هذه اللوازم تارة تكون عبارة عن مجرد صور علمية تلك التي يطلق عليها الاعيان الثابتة، واخرى احكام هذه الصور ووجوداتها الخارجية، فمثلما ان تلك الصور تعد لوازم الاسماء وعلى شاكلتها، فان ظهوراتها الخارجية هي ايضاً تكون عبارة عن لوازمها وتوابعها التي لا بد ان تتجلى وتظهر بحسب تعيناتها الخاصة. وهو امر يطابق ما لدى الرؤية الفلسفية في علاقة العلة بالمعلول، حيث اتباع المعلول لعلته من غيرمفارقة، وان المعلول له صورة في العلة يكون فيها على نفس الشاكلة. او يمكن القول ان العالم عند العرفاء منوط بكل من الاسماء الالهية ولوازمها من الاعيان الثابتة. حيث طالما ان للاسماء هذه اللوازم التي تمثل العلوم التفصيلية الالهية فانه لا بد ان يكون لها الاثر من الوجود، وذلك شبيه بما عرفناه لدى الفلاسفة عندما عدوا العلم الالهي هو سبب التنزيل والايجاد. وهناك تصوير بديع للكيفية التي تتم فيها هذه العملية من الايجاد كما يقدمها ابن عربي. ذلك ان عملية الخلق والتكوين تتخذ لديه شكل العلاقة بين الاسماء الالهية فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين الذات الالهية من جهة اخرى، وذلك بطلب من الاسماء في ان يكون لها شيء من التأثير بظهور احكامها، فلو لم ينشأ العالم لما ظهر شيء من احكامها ولا اثارها، ولا تميز بعضها عن البعض الاخر.
على ان ربط عملية التنزيل بالاسماء الالهية هي وإن كانت تتماثل مع ما عليه الطريقة الفلسفية في ربط التنزيل بالعلاقة العلية، الا انه بحسب الرؤية العرفانية ليس هناك تأثير مثل الذي لاحظناه في تلك العلاقة الفلسفية. فالعرفاء لا يعترفون بتلك العلاقة، ولا يعدون المبدأ الاول علة لما هو دونه من الموجودات. فالمبدأ الاول عندهم غني عن العلة والعلية، ولو انه ارتبط بهذه الرابطة لكان مفتقراً اليها على نحو الايجاب لا الاختيار، انما كان في الازل ولا شيء معه، واوجد العالم لا من شيء، وهو الان كما كان ولا شيء، حيث ان العالم من حيث ذاته باق في عدميته لم يشم رائحة الوجود قط ، اذ ما هو الا تلك الاعيان الثابتة التي هي من حيث ذاتها عدمية لم تظهر ولن تظهر ابداً. وان الحق على ذلك كان نفسه هو الدليل على نفسه وعلى الوهيته، وان العالم ليس الا تجليه في صور الاعيان الثابتة، حيث يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الاعيان واحوالها. ومعنى كونه الهاً ورباً وخالقاً هو انه يظهر في الشيء، فظهوره فينا دليل على انه رب اله خالق لنا، فالموجود ليس سوى الحق الذي يتنوع ظهوره بحسب خصوصية المظهر، ومنه يعلم ان العالم تجل منه، حيث انه الظاهر في العالم بحسب حقيقة وخصوصية هذا الاخير من القبول. فمن حيث ظهوره في العالم المحدث كان دليلاً على نفسه انه احدثه واوجده . فهو الاله والرب والخالق بهذا المعنى المذكور لا غير.
ولدى ابن عربي ان لكل شيء روحاً او ملكاً او اسماً من اسماء الله هي التي تقوم بفعل التأثير دون ان يكون للعامل الطبيعي دور يذكر. فهو يشير بان الله تعالى ‹‹لا يسوي صورة محسوسة في الوجود على يد من كان من انسان او ريح اذا هبت فتحدث اشكالاً في كل ما تؤثر فيه حتى الحية والدودة تمشي في الرمل فيظهر طريق، فذلك الطريق صورة احدثها الله بمشي هذه الدودة او غيرها، فينفخ الله فيها روحاً من امره لا يزال يسبحه ذلك الشكل بصورته وروحه الى ان يزول فتنتقل روحه الى البرزخ، كما في قوله تعالى: {كل من عليها فان} الرحمن/ 6 2. وكذلك الاشكال الهوائية والمائية لولا ان ارواحها ما ظهر منها في انفرادها ولا في تركيبها اثر، وكل من احدث صورة وانعدمت وزالت وانتقل روحها الى البرزخ فان روحها الذي هو ذلك الملك يسبح الله ويحمده، ويعود ذلك الفضل على من اوجد تلك الصورة التي كان هذا الملك روحها››‮.
وهو يطبق هذه الروح حتى على اخراج الحروف وهيئتها نطقاً وكتابة، بل وانه يقيم علاقة بين كل من الحروف والانسان والاسماء الالهية والملائكة. فلكل اسم من اسماء الله الحسنى المختصة بالانسان ‹‹روحانية ملك تحفظه وتقوم به، وتحفظها لها صور في النفس الانساني تسمى حروفاً››‮. وتسمى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الارواح باسماء هذه الحروف . فالملائكة ارواح هذه الحروف، وهذه الحروف اجساد تلك الملائكة لفظاً وخطاً. حيث بهذه الارواح تعمل الحروف لا بذواتها، اعني صورها المحسوسة للسمع والبصر، المتصورة في الخيال، فلا يتخيل ان الحروف تعمل بصورها وانما بارواحها، ولكل حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد لتعظيم خالقه، وان مظهره وروحانيته لا تفارقه. وبهذه الاسماء يسمون هؤلاء الملائكة في السماوات. ويؤكد ابن عربي ان ما من هؤلاء ملك الا وقد افاده .
مع هذا يمكن القول انه لا توجد فوارق جوهرية بين العرفاء والفلاسفة حول مفاهيمهم الخاصة بالتنزيل، فالمآل عندهما واحد من حيث مراتب التنزيل واعتباراته الازلية التي لا تنتهي ابداً، لعدم انتهاء صفات الحق واسمائه. بل ان الالوهة لدى العرفاء لها من الشمول ما هو اعظم مما لدى الفلاسفة. ذلك انه من حيث كون الحق عبارة عن جميع الاشياء، فان هذه الالوهة تصبح شاملة بجميع تلك الصور، ومنه يعلم صحة عبادة اية صورة من صور العالم باعتبارها تمثل احدى تعينات الالوهة. الامر الذي جعل ابن عربي يعد فرعون صادقاً في قوله: {أنا ربكم الاعلى} النازعات/24



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جواب على سؤال مطروح
- المصلحة ودورها في التشريع
- الواقع وضبط الفتوى
- نظرية الطوفي والفكر الإمامي
- مقارنة بين علم الكلام والفقه
- القراءة الوجودية للنص والفهم السائب
- العقل والإجتهاد
- فهم النص ومعايير التحقيق (5)
- فهم النص ومعايير التحقيق (4)
- فهم النص ومعايير التحقيق (3)
- فهم النص ومعايير التحقيق (2)
- فهم النص ومعايير التحقيق (1)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (5)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (4)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (3)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (2)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (1)
- موقف الفلاسفة التقليديين من فهم النص
- نظرية المقاصد ونقدها
- موقف الخطاب الديني من غير المسلمين


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - العرفاء والتنزلات الالهية للوجود