أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع















المزيد.....

الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3151 - 2010 / 10 / 11 - 14:02
المحور: الادب والفن
    



" نورا هَـلـّو "، هيَ من تعهّدَ إرضاع وَليد " سارَة "، الجديد، بعدما نشفَ معينُ ثدي هذه.
رضيعان، يَنهلان الحليب من صَدْر واحد، أثيل؛ طالما أنّ الأولى كانت قد رُزقتْ بابنة مؤخراً. " جَميل وبَديعة "؛ توأمٌ من أمّيْن. وعليهما كانَ أن يَترفلا لاحقاً بصِفة " أخوّة الرّضاع "، المُبارَكة ـ كما كانَ حالُ عائلتيْهما، في قرابَة الانحدار من نواحي مدينة " ديريك "؛ المُستلقيَة بدِعَة ورَخاء في أحضان جبال " مازيداغ ".
جَدّتي، " سارَة "، كانت إذاً في حدود الحلقة الخامسَة من عُمْرها، لمّا أنجبَتْ والدَنا؛ آخر ذريّتها. أبنها البكر، كانَ بدَوره قد رُزق بابنة في الشهر نفسه، لتنضمّ هكذا لأسرَته الصغيرَة مع شقيقها المُناهز سنّ الثالثة. خمسَة أعوام، على الأثر، سَتلدُ " نورا هلو " الابنَ الوَحيد، الصبيّ. إنه " بَديع "؛ الذي سَيصبح فيما بَعد من أقرَب أصدقاء أبينا.
وإذا كانَ والدُ " جميل "، الوَجيهُ العالِمُ، قد اكتفى آنذاك بامرأة واحدَة حَسْب، فإنّ والدَ صديقِهِ، الوَجيهَ المَلاّكَ، كانَ في سبيله للاقتران بالمُثنى والثلاث. من المرأتيْن، الأخيرَتيْن، رُزقَ الرّجلُ على التوالي بابن وابنة: " عاصم "، الذي كنتُ ألتقي معه في صغري عند أخيه الكبير، و" شيرين " التي لم أحظ بمَعرفتها أبداً.
" بديع "، كانَ من الناحيَة البَدَنيّة على اختلافٍ مع صديقه، بَيّن؛ بطوله الفارع، كما وعَضلاته الجبّارة. على ذلك، كانَ مَفهوماً ولا غرو أن يُضحي الأوّل رياضيّا والآخر مُدرّساً، هناك في " نادي كردستان " الدّمشقي؛ الذي انضمّا إليه في فترَة الأربعينيات. مثلُ الكثير من أنداده، أولاد الملاّكين، اتجه " بديعُ " إلى السّلك العسكريّ، لكي يُصبح في مَرحلة تاليَة ضابطاً في الجمارك. ووالدنا أنضمّ بدَوره إلى " جيش الشرق "، الفرنسيّ، المُكوّن خلال عهد الانتداب من مُتطوّعي الأقليات الإثنيّة والمَذهبيّة. ثمّة، في " الفوج الكرديّ "، سيَخدم الأبّ تحت إمرَة الزعيم " بكري قوطرش "، زوج " بديعة "؛ أخته بالرّضاع. هذا الضابط، تولّى فيما بعد مَناصبَ بارزة في جيش الاستقلال، حتى وَصَل إلى أعلى رتبَة. " بكري "، كانَ إلى ذلك مُتحمّساً بشدّة للقوميّة الكرديّة ـ كما كان شأنُ شقيقيْه " خالد " و " محمود ": الأوّل، صارَ تربوياً بارزاً، إثرَ تحصّله على الدكتوراه من العاصمة الفرنسيّة. والآخر، خدَمَ ضابطاً في الدّرك واقترَن مع أبنة عمّه، " بهيجة "؛ القابلة المَشهورة في الحيّ وشقيقة " بكداش "، الزعيم الشيوعيّ.

" بَيْتُ بَديع "؛ إنه المَكانُ الأكثر حميميّة في الطفولة، المَختومُ نقشه في صفحَة ذاكرتي.
مَوْقعُ هذا المَنزل، الفريد، كانَ يُضافر من جَدارَته بالخلود. كانَ يَقومُ ثمّة على الطريق السلطاني، مُتوَسّطاً المَسافة بينَ زقاقيْ " آلرشي " و" ميقري ". بيتُ الوَجاهة، إذاً، كانَ مَدخله آنذاك مُحتفٍ بعدَدٍ من المَحلات، المُتألقة، المَركونة على ناصيتيْه: فرن التنور، المُرتبط باسم أبي " جمّو "، صديق طفولتي؛ حانوت السِمَانة، المُزدَهر، المَملوك لآل " علكيْ "؛ دكان الخضار والفواكه، العائد لرزق العجوز، الطريف " علي كَوشتو ": هذا الأخير، كانَ صاحبَ كرش عظيمة؛ حدّ أنّ لقبه ذاك ( أيْ: المُلحِم أو البَدين )، كانَ نعتَ تحَبّبٍ، دائر على ألسنة أهل حارَته. في ذلك الزمن، كانَ من النادر، حقا، أن يخلوَ اسمُ " علي " من لقبٍ مُماثل في الطرافة: فكانَ لدينا، في الحارَة، أسرة كاملة من " العلويين "، من أمثال " علي رَحّاليا "؛ " علي بَطة "؛ " علي بابو "؛ " علي بَطل "؛ " علي دينو "؛ " علي حسّو؛ " علي كَوطة "؛ " علي وَلاتي ". جَدّا أميّ بدَورهما ـ وكانا أولاد عمّ ـ عُرفا بـ " علي آغا الكبير " و " علي آغا الصغير ".
مُقابل بيت " بديع ديركي " ، على الطرَف الآخر من الطريق، كانَ يَنهض بناءُ مدرسَة الإناث، الابتدائيّة؛ التي كانت مُديرَتها إحدى بنات عمومتنا. هناك، أينَ تحصّل كلّ من شقيقاتي، الكبار، بالمَعارف الدراسيّة الأولى، والمُرافق أحياناً بحضوري، الطفل، خلال المُناسبات العامّة كالحفلات والمَعارض.
جدار بيت الطفولة هذا ، الشرقيّ ، كانَ مُشرفاً على منزل " نجمي "، الواسع المَساحَة والمُقسّم على أولاده، المُتزوّجين: الأصغر فيهم، وألمَعهم وسامَة، كانَ شخصاً مُتجهّماً ومَغروراً. امرأة هذا، الحَسناء، وكانت أصلاً من السلميّة، سبقَ أن جُلبَتْ إلى المنزل خطفا. بيْدَ أنّ والدَها، المالكُ لمحلّ خضار قرب جامع " سعيد باشا "، عادَ وتصالحَ مع ابنته وصهره، العتيد.
ولكنّ " بيت بديع "، كانَ ولا رَيْب هوَ الأكبر مَساحة في الحارَة؛ حتى أنّ أحد جدرانه، الشماليّة الغربيّة، كانَ يتبرّكُ بجيرَة " الشيخ الدّرع "، الكائن منزله في أسفل زقاقنا. هذا الشيخ، كانَ أيضاً من الأغراب. إنه من مدينة " حماة "، التي تتبَع لها بلدة المَرأة تلك، المَخطوفة. ولكنّ حاضرَة السنّة، الحنيفة، كانت لا تهدأ أبداً في أمر التساهل مع تابعتها الأخرى، الهرطوقيةّ؛ جبال العلويين. شيخنا، كانَ أستاذ الديانة في ثانويّة الحيّ، علاوة على كونه خطيبَ مسجد " الهدايَة ". في فتوّتي، فإنّ سببَ نفوري من الشيخ، هوَ ما خبّرنا عن كونه من أبرز وجوه تنظيم " حزب التحرير الإسلامي ".

حديقة " بيت بديع "، كانت صورَة مُكبّرَة عن " جنينة جميل ".
صورَتيْهما، القرينتيْن، مثلما هوَ تجلي الذات للذات. إنّ الأبّ، في واقع الحال، مَن كانَ له الفضل بتناهي ألق نجم حديقة منزل صديقه في مَجرّة الحارَة، المُخضوضرَة، المُكتظة بالأنجم الأنداد. قبل الاهتداء إلى تيْهات نجمنا، كانَ يَجبُ التعريج على صالة السّفرَة، المُستطيلة والعموديّة الشكل. طاولة هائلة، يُحدق فيها من جانبيْها كراس عديدة، كانت تشغلُ مُعظم مَساحة الصالة. إلى اليسار، كانَ مَطبخُ المنزل المُنطبع في ذهني بمَشام مَوجوداته، المُميّز؛ من ثلاجة وبوتوغاز وفرن. إلى غير ذلك من أشياءٍ، عصريّة، كانت مَجهولة ما تفتأ في مطابخ بيوتنا.
إلى يمين صالة الطعام، الكبرى، ثمّة شقيقة لها، أصغر حجماً، مَنذورَة لضيوف الدار. هناك، كنتُ في صغري مُتولهاً بجهاز التلفاز، الأوربيّ الماركة؛ أنا من كانَ مَحروماً من هذه المُتعة، بما كانَ من فقر حال الأبّ ومن لؤم الأقارب، المُوسرين. أستعيدُ بعضاً من لمحات السعادة، عندما كنتُ أتمدّد بالقرب من الوالد فوق الأريكة الأنيقة، المُظهّرَة بالمُخمل الأرجوانيّ. ثلاث أخوات للمَجلس، المُخمليّ، كنَ يَشغلنَ رُكنيْ الحجرَة، المُقابليْن. في وسطهنّ، على السجادَة الفارسيّة، البهيّة النقوش، كانَ ثمّة طاولة من خشب ثمين، مُظهّر بالماهاغوني البليغ اللمعان. فوق الطاولة، كانَ يوجد تحفٌ عديدة؛ ومنها علبة خشبيّة، مُزخرفة، لحفظ السجائر، كانت تثير بهجتي ما أن تفتح وتصدر منها الموسيقى. إلا أنني، عادة ً، أكونُ مُلتخا بالصور المُتواليَة على الشاشة، الصغيرَة.
ذلك كانَ مَظهرُ الأمّ، أيضاً، عندما رأت لأول مرّة في حياتها جهاز تلفاز. آنذاك، ما كانَ بثّ التلفزيون السوري قد أذنَ بعدُ. ذلكَ حصل لاحقا، في فترة الوَحدة. أمّنا كانت شابّة بعدُ، لما استدعتها سلفتها، " آموجني "، لكي تطلعها على هذه المُعجزة: " إنه أصغر حجماً من السينما، كما ترين؛ ولكنه يَفضل عليها بكون أفلامه لا تتوقف طوال الليل "
" ولكن، كيفَ سيتمكّنُ أبطال الأفلام من التسلل إلى خلف الشاشة، وهيَ بهذا الحجم الصغير..؟ "، تساءلت لأمّ المَشدوهة وهيَ تتمعّن بالمُعجزة المَحفوظة لدى امرأة العمّ.

جهاز التلفاز ذاك، كان في الحقيقة مُلكاً لأخت رضاع والدي؛ " بديعة ".
كانَ زوجها هوَ من جلبَ الجهاز، إثر انتهاء خدمته في " موسكو "ـ كملحق عسكريّ في السفارة السوريّة. امرأته، كانت تضعُ مَصاغها وأشياء منزلها، القيّمة، أمانة ً لدى " آموجني "، صديقتها: إنّ رَجلَ " بديعة "، كما علمنا في زمن آخر، كانَ مَهووساً بالمُقامرة وعلى طاولاتها، الخضر، خسرَ مُعظم مُدخراته وأملاكه. " لولا حِرْص زوجته، لما كانَ للأسرَة بيتٌ بعدُ يؤويها ولما أستطاع أولادهما حتى إكمال دراساتهم "، قالت لي الأمّ، مُختتمة حكاية جهاز التلفاز، المُعجزة.
مَزرَعة طفولتي، الرائعة، المُشرفة من تلّ مُعشوشب على وادي " الزبداني "، خسرَها أيضاً رئيس أبي، السابق، في آخر جولات القمار. إلا أنها كانت مُلك " بديع "؛ الذي سبقَ وكتبَ وكالة عامّة لشقيقته، الوَحيدَة. مُبتدأ الأمر، عندما أستهلّ الشقيقُ مُغامراته، التجاريّة، في أوروبة مُتاجراً بأتمن الأحجار؛ الماس. وما تزال بطاقاته، البريديّة، المُرسلة خصوصاً من " بوخارست "، مركز عمله، مَحفوظة لدينا في المنزل. وعل كلّ حال، فإنّ " بديعة " عوّضت شقيقها عن المزرعة؛ بتنازلها له عن حصّتها في منزل أبيهما، الكائن في الحارَة.
فيلا مُنيفة، من ثلاثة أدوار، كانت تتوسّط المَزرعة. وكنا نستقلّ سيارة " بديع "، الصغيرة، في الطريق إليها. ثمّة، كانَ والدي يمرّ أولاً على منازل أخواله من آل " غانم "، الأغنياء، المُتملكين لأراض ٍ خصبة. إلا أنّ زياراتنا لهم أضحَتْ نادرَة، مع وفاة الخال إثر الآخر. أولادهم، كانوا أقلّ حماسَة في صِلة رحم الأقارب، المُقيمين بعيداً؛ هناك في الحيّ، الدمشقيّ. آخر مرّة اجتمعنا مع أولاد الأخوال أولئك، عندما حضرَ أحدهم إلى بيت عمّتي. وعليه كانَ أن يؤوبَ خائباً إلى بلدته، بعدما رُدّت رغبته بتزويج " سوزان "، الحسناء، لأبنه الشابّ المُورّد الهيئة بالنضارة والعافيَة.
" أنظر تحت، إلى الوادي؛ ذاكَ هوَ لبنان.. "، هكذا كانَ يُردّدُ " فاخر " ابنُ الزعيم مُشيراً إلى تلك الأنحاء الساحرَة. من علوّ المراقي، كنا أيضاً نترقبُ قدومَ القطار، التقليديّ الهيئة، بزمجرته وصفيره. إذاك، كنتُ أفرّ مَرهوباً نحوَ حجرَة الأولاد، في الدور الأرضيّ، لكي اختبأ تحتَ سرير أحدهم. ولدى عودتنا إلى الحارَة، كنتُ أتباهى أمامَ لدّاتي بمُغامراتي " في لبنان ". إلى أن صُدِمْتُ أخيراً بالحقيقة. إذ كنتُ مرّة أتحدّثُ مع والدتي بحرارة عن آخر إقامة لي في المزرعة، عندما ألتفتَ إليها والدنا: " عن أيّ لبنان، يتكلّم هذا؟ "، تساءلَ بالكرديّة. فأجابته هيَ باللغة نفسها: " إيْ لوْ، إنه يتكلّم عن زيارتكما لمنزل صديقك في الزبداني ". فما كانَ مني إلا الصراخ بوجهها مُستنكراً، مُجهشاً: " لا، لقد كنتُ في لبنان وليسَ في الزبداني. كنتُ هناك، مع أولاد بديعة ".

" بيتُ بديع "؛ هوَ أحدُ فراديس طفولتي.
عاماً بعدَ آخر، كنتُ أتواجدُ في هذا الفردوس، المَفقود. مفتاحُ باب المنزل، الرئيس، كانَ في حفظ أبي ولحين عودَة صاحبه من أوروبة. لدى إحدى زياراته، المُتباعدَة، كانَ صديقُ الأبّ يَجلب هدايا لأولاد أخوته. بعضُ المَجلوبات، من اللعاب خاصّة ً، كانَ يبقى في المنزل بسبب بَطر أولئك الأطفال، المُتنعّمين والمُدللين. بالتالي، تصبحُ الألعاب من نصيبي، تلقائياً؛ طالما أنّ حضوري مع الأبّ كانَ شبهَ يوميّ.
ثمّة بابٌ آخر، مُزجّجٌ ببلور سميك، يَفصل صالة الطعام عن الحديقة. ما أن يَجتازُ المرء ذلك المَدخل، حتى يتسمّر في مكانه مَذهولاً. وَشمُ الجَمال، كان مُنطبعاً بطعناته الهيّنة، الرقيقة، فوق كلّ تفصيل في الحديقة. مَمشىً عريضٌ، كانَ يَصِلُ بين المَدخل ودَرَج أرض الدّيار، الرخاميّ. فيما كرمَة كثيفة، مُتألقة بثمار العنب " الزينيْ " اللذيذة، كانت تظلّلُ الأرضيّة الأسمنتيّة. على جانبَيْ المَمشى، كانت أصصُ الأزهار تتناسَقُ في أحواضها الفسيحَة وآنيتها الخزفيّة. وبخلاف " جنينة جميل "، فإنّ المساحات الخضراء كان لها حظوَة هنا؛ هيَ المُشَكلة من الحشائش المَجزوزة جيّداً، والمُوَزَعة بالتساوي بين جانبيْ المَمشى؛ أينَ الرشاش المَعدنيّ ، المُوَزّع بدَوره الماءَ بحركته الآليّة، الدائبَة.
ثمّة، كان مَحَط طيور الجنة على أشجارها، الأحَديّة؛ من التفاح والكرز والكمثرى والخوخ والحمضيات، المُنتميَة لأقاليم الله الباردَة، إلى أشجار الأقاليم الأخرى، الحارّة ـ كالتين والتوت والمشمش واللوز. جَدَعاتُ الصبّار، كانت مُتجمّعة على بعضها البعض عند الناحيَة اليسرى من المَمشى، مُحاذيَة ً جدار حجرَة الحظائر، الكبيرَة: ليلاً، كنتُ أميّز بالوَهم أشباحَ تلك الجدعات، والمُترائيَ كلّ منها عندئذٍ كشبَح الحكايات، المُرعب.
الصبّارُ المُثمر، إذاً، كانَ لديه بعض الأقارب هنا، مُبتلين بالعقم ومُلتبسين بأسماء تمتّ للشكل لا للجوهر؛ مثل " الشمعدان " و" الصخرة "؛ أو شقيقتهم، الشوكيّة، المَنعوتة باسم شاميّ ظريف، " لسان الحماة ". هذه وأولئك، لم يكُ يُستغنى عن حضورهم، الأخاذ، وَسَط دوائر المساحات الخضر.

أصدقاءٌ آخرون، كانوا أيضاً يَتواجدونَ أحياناً في بَيت الوَجاهة ذاك.
كانَ صاحبُ فرن التنور، المُجاور، يَطلّ بين فينة وأخرى على والدي؛ مُحّملاً بآخر أخبار الثورة الكرديّة؛ التي كان يَقودها مَعبوده، " ملا بارزاني ". وتكتملُ الصُحبَة بحضور " علي حسّو "، زوج الابنة الوحيدة لعمّتي، وكانَ لا يقلّ حَماساً عن الفرّان، الطريف.
ولكنني، لا أنسى قط ذلك اليوم المُحتفي بعودَة " بديع "، والمُصاقبَ لإحدى العطلات الصيفية. القطارُ المَعدني، الزيتيّ اللون، كانَ إذاك مُثبتاً على سكته الطويلة، الدائريّة. إنه أحدُ الألعاب، المُتبقية أيضاً من هدايا أوروبة، السخيّة. كنتُ إذاً داخلَ الحلقة، المُشكلة من السكّة، مأخوذاً بشدّة بحرَكة القاطرات العديدة، المَوصولة بالتيار الكهربائيّ، في تنقلها بين المَحطات وخلل الغابات والشوارع والجسور، المُتقنة الصُنعة.
علاوة على صاحب الدار وأبي، كانَ ثمّة يومئذٍ كلّ " الأستاذ عماد "ـ شقيق صديقي " سيفو "ـ وعمّه المُحامي " خلّو " وأبن عمّنا " الأستاذ حسين ". هذا الأخير، كانت عيناهُ الزرق، المُزخرفتان باللمعان الحادّ، ترسلان نحوي سهاماً مُختلفة ولا شكّ عن نظرات الآخرين. ربما كون أبنه الشقيّ، " جوامير "، غير مُرحّب به ثمّة، في البيت الصّديق، كانَ هوَ مَبعث نظراته تلك، السوداء.
في يوم آخر، وبُعيدَ سفر صاحب البيت، فإنني بُحْتُ لأبي بسرّ ما كانَ يَجري خلال غيابه في عمله، الليليّ: أبن عمّنا، كانَ يَجلبُ المُقامرين إلى البيت، جاعلاً طاولة صالة الطعام مباحَة لأوراق اللعب والنقد سواءً بسواء. وحينما كنتُ مع " جينكو " في الطريق إلى محلّ " طانيوس "، لشراء بضع زجاجات من المشروبات الكحوليّة، فإنّ أبنّ العمّ انزوى بنا وراء الباب الرئيس، مُحدّقاً على التوالي في عينيّ كلّ منا: " إياكما، ثمّ إياكما، أن يَعلمَ عمّي بما يَجري هنا ".
" بديع "، كانَ في تلك الآونة يَلحّ على أبينا في الانتقال مع عائلته إلى بيت الوَجاهة. بيْدَ أنّ الأمّ، المَعروفة بطبعها الحيي والمُتحفظ، كانت ترفض الفكرة باستنكار: " لِمَ سندَع منزلنا بين أيدي المُستأجرين، الغرباء، ونقيم في بيت الآخرين؟ ". أخيراً، أبدَى أبن عمّنا اهتمامه بالأمر. أسبوعان، على الأثر، حينما قمتُ بزيارَة " بيت بديع "، فإنّ عينيّ أنكرتُ ما رأتهما ثمّة من مَناظر. عُدّتُ إلى المنزل، لكي أهتف بأبي ساخطاً: " أتعرف، بابا، الحديقة ماتت من العطش. كلّ الأشجار والتعريشات والأزهار والمساكب؛ كلها ذابلة بلا حياة ". أمّنا الحاضرَة، علّقتْ عندئذ وهيَ تبتسم بمرارة: " ابنة عمّتي، لا تختلف عن والدتها؛ التي أزالتْ حديقة أبي من الوجود، كي تحوّلها إلى حجرات للإيجار. وربما أنّ أبنتها هذه غير مُستعدة لخسارة بضعة قروش إضافيّة، كلّ شهر، ثمناً لفاتورة المياه ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
- الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
- الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
- الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
- الأوانس والجَواري 5
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4
- المُتسكعون والمَجانين 3
- المُتسكعون والمَجانين 2
- ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
- القبلة ، القلب 5
- القبلة ، القلب 4
- القبلة ، القلب 3
- القبلة ، القلب 2
- الأولى والآخرة : الخاتمة
- الأولى والآخرة : مَزهر 13
- الأولى والآخرة : مَزهر 12


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع