أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - حياتي في خطر. قصة قصيرة















المزيد.....


حياتي في خطر. قصة قصيرة


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 3148 - 2010 / 10 / 8 - 17:17
المحور: الادب والفن
    


وإذ بلغتِ الساعةُ تمامَ السادسة؛ اندفعتُ في سيري عبر الممرّ الطويل داخلَ مأوى اللاجئين، قاصداً بوابة الخروج. المأوى بناءٌ ضخمٌ يشبه ثكنةً عسكريّة، يتخفّى في شارعٍ فرعيّ منعزل ضيّقٍ تحفُّ به الأشجارُ من الجانبين. وقد ندر أن تطرقه أقدامُ المارة باستثناء أقدام الغرباء المهاجرين ذوي السحنات المقلوبة أمثالي، والعاملين فيه، وموظفي الإدارة والحرس.
نهارٌ كامد آخرُ. غيومٌ دكن ثقيلة تدفعها الرياح نحو الغرب وهي تسحُّ المطرَ سحّاً متصلاً بلا انقطاع. لن أنتظرَ تحت سقيفة البوابة حتى ينقطعَ الصبيبُ، أو يتحوّلَ إلى زخّاتٍ من رذاذ، مع أنني لا أحمل واقية من المطر أحتمي بها منه. كان عليّ أن ألحقَ بقطار الأنفاق الذي يغادر المحطّة في تمام الدقيقة التاسعة باتجاه حيّ (كرويتس بيرغ) حيث يقع شارعُ (كوخ)؛ لأصلَ في الموعد المضروب إلى المكان الذي عُيّنَ لي في الرسالة التي تلقيتُها أمسِ من الجهات المعنيّة بشؤون اللاجئين؛ متفادياً ما يمكن أن يلحق بي من ضرر – على ما قيل لي - في حال التأخر عنه. ومن حسن حظّي فإنّ المعطف الذي اخترتُ ارتداءَه في ذلك الصباح الجهم، كان مشتملاً على غطاءٍ عازل، سيقي رأسي من البلل.
بلغتُ شارعَ (كوخ) قبل ربع ساعة تقريباً من حلول الموعد. كان المطرُ قد كفَّ عن الهطلان، والشارعُ خالٍ من المارّة صامتٌ إلا من نشيش تصدره عجلاتُ السيارات وهي تعبرُه من اتجاهين متعاكسين، زاحفةً فوق فيض الماء الذي خلّفه المطرُ وراءه فوق سطح الشارع الذي بدا ملتمعاً.
اهتديت إلى المبنى رقم 9 حالاً ما إن لفظني السلّمُ المتحرك خارجَ بوابة المحطة. كان مطلاً عليها من الجانب الأيمن لا يفصله عنها سوى معبرِ المشاة ورصيفٍ ضيّق متآكل.
صعدت درجاتِ السلّم الملتوية إلى الطابق الأول، وفي نفسي شعورٌ بالتهيّب كاد أن يوهن خطواتي. وقد ظلَّ هذا الشعورُ ملازماً لي لم يبرحني إلا في اللحظة التي وقفتُ فيها أمام باب الغرفة رقم 112 متفحّصاً، بعد أنِ اجتزت إليها ممراً طويلاً مستقيماً يخترق صفّين من الغرف المغلقة.
وجدتُني وحيداً في ردهة الانتظار الخاوية الصامتةِ المشبعة بالنور، مما أثار استغرابي وأقلقني؛ إذ خلتُ أنّني ضلَلَتُ عن الطريق الصحيح إلى المكان المنشود. فأخذت بيدين مرتبكتين أنقّب في حقيبتي عنِ الرسالة التي تحمل العنوان. نشرتها تحت بؤرة الضوء الأبيض المتساقط من سقف الرَّدهة المنخفض، فلما استوثقتُ من أنّني في مكاني الصحيح، سكنت انفعالاتي وانتشر في نفسيَ الهدوء. خلعتُ معطفي المبلَّلَ، علّقته على مشجبٍ منتصب في الزاوية اليمنى من ردهة الانتظار التي صُفّت بمقاعدَ معدنية متلاصقة، ثمّ جلست منتظراً أن أدعا إلى الدخول، وأنا أحاول التغلّبَ على رائحة الرطوبة التي تسلّلت إلى أنفي من فُرجة النافذة القريبة المنكفئة إلى الداخل.
لم يطل بيَ الانتظار. مرّت دقائقُ قليلة لم أكدْ أحسّ بوطأتها، ثم انشقّ البابُ وأطلّت منه امرأةٌ بدينة سمراءُ في وجهها ملامحُ الأفريقيين، يلفُّ رأسَها منديلٌ بنيّ غامق انسدلت حواشيه فغطّت كتفيها ومعظمَ صدرها. نادتني المرأة بصوت رفيع حاد يتنافر مع بدانتها، فوثبتُ من مكاني وتبعت إشارتها خفيفاً .لم تمهلني كي ألقي التحية، قدّمت نفسها على عجل بلهجة مصريّة وهي تشير إلى كرسيّ كأنه أُعدَّ لجلوسي، قالت في فتور:
- اسمي (منّة عبد الرزّاق) من مصرَ. أنا المترجمة التي ستنقل أقوالَك إلى المحقّقة السيدة (شفارتس) هل لديك اعتراضٌ على أنْ أكون مترجمةً لأقوالك؟
- لا، لا اعتراضَ.. أجبت بلا تردّد من دون أن أفهمَ لماذا ينبغي عليّ أن أفكّر بالاعتراض.
نقلتِ المترجمةُ جوابي إلى المحقّقة التي بدت لعيني في تلك اللحظة مسترخيةً في كرسيّها الأسود الوثير خلفَ منضدةٍ فارهة ازدحمت فوقها الأشياءُ، ثمّ التفتت بعد ذلك إليّ تسألني :
- هل لديك أوراقٌ غير جواز سفرك، تثبت أنّك عراقيٌّ؟
ومن دون أن تنتظر جوابي، أضافت وهي ترقب حركة يدي التي استجابت لسؤالها بصورة عفويّة :
- وهل لديك شهادات بمؤهلاتك العلميّة أو المهنية مصدّقةً من الدوائر المختصّة؟
اختلستُ نظرة سريعة إلى المحقّقة، رأيتها تنحني فوق المنضدة، تقلّبُ بين أصابعها الطويلة الدقيقة جوازَ سفري الذي كنت سلّمتُه إلى الدائرة المكلَّفة بشؤون اللاجئين فورَ أنْ تقدّمتُ بطلب اللجوء قبل شهرين تقريباً من دخولي إلى الأراضي الألمانية، ثمّ أجبت سؤالها بحركة من رأسي وأنا أدسُّ يدي في حقيبتي الصغيرة؛ لأنتزعَ منها ظرفاً أصفرَ محشوّاً بالأوراق. وقد لاحظتُ إذ مددت يدي إليها بالظرف رعشةً تباغت أناملي؛ فساءني ذلك وشعرت بشيء من الخجل.
- حسنٌ ! تقولُ لكَ السيدةُ (شفارتس) "إنّ أوراقَك ستُترجَم، وستخضعُ للتدقيق بعد ترجمتها" وتقول لك أيضاً: " لقد دخلتَ الأراضي الألمانية طلباً للجوء والحماية، فما هي الأسبابُ التي أرغمتك على أن تطلب اللجوءَ إليها؟".
أطرقتُ برأسي إلى الأرض، جعلتُ أقلّب أفكاري في حيرةٍ ممتزجة بامتعاض. لم يكنِ السؤال مفاجئاً لي أو صعباً عليّ؛ كنتُ أعلم أنني سأُسأَلُ عن الأسباب التي أرغمتني على الهجرة، وأعلم أيضاً أنّ مصيري متعلّقٌ بصحّة عرض هذه الأسباب وبيانها بما يتطابق مع مضمون قانون اللجوء في هذه البلاد. كنتُ أعلم كلّ هذه الأمور وغيرها، وقد كان لعلمي بها الفضلُ في حثَّي على جمع المعلومات عن سير التحقيقات، والفضلُ في إرغامي على أن أفكّر بقضيتي تفكيراً جاداً متأنياً طوال الشهرين اللذين انقضيا على إقامتي في مأوى اللاجئين الذي كنتُ فيه كثيراً ما أخلو إلى نفسي حيثما توفّر لي الهدوء: في زواياه المعزولة، أو ردهاته الخالية، أو في فنائه الواسع المشجّر بعيداً عن جلبة اللاجئين وضوضائهم؛ كي أنال حظّاً من التركيز يمكّنني من أن أصوغ دوافعَ هجرتي في قالب مقنع متين. هذا فضلاً عن استعانتي بخبرة زميلي (عبد الرحيم) الفلسطيني الذي كان سريره يجاور سريري في مهجعنا الصاخب الذي يضمّ خمسة آخرين غيرنا من جنسيات متعدّدةٍ. إذ كنت أستفسره عن قضيته - رغم ميله إلى التكتّم – مؤمّلاً أن أستخلص منها شيئاً ينفعني. إلا أنّني لم أعلم بأنّ التحقيق سيبتدئ بطرح السؤال هذا، لقد فاتني خلال كل ذلك الوقت الذي مضى أن أضع في الحسبان احتمالَ أنْ يبدأَ التحقيقُ به. وفي كلّ الأحوال فإنّ السؤال لم يكن مفاجئاً لي. لربما كان السبب في حيرتي وامتعاضي أن السؤال جاء غير ملائم لحالتي النفسية في تلك اللحظة؛ وقد يكون أنني ما أحببْتُ أن يبتدئ به التحقيقُ قبل أنْ آلفَ الجوَّ الثقيل الذي أحسسته يطبق على أفكاري ومشاعري، ويكاد يلجم لساني.
حاولتُ - وقد ألمّ بي انفعالٌ حار - أنْ أعثرَ على عبارة ملائمة تترجم ما ازدحم في ذهني من الأفكار والصور المشوّشة المضطربة، بيدَ أني لم أُسعفْ – من سوء حظّي - بإجابة تليقُ بالسؤال. إنّ إجابةً عن سؤال ضخمٍ كهذا تفصلُ في قضيّتي، وتبتُّ في مصيري عند بدء أوّل خطوة في التحقيق، لم تكُ مهمةً سهلة، وبخاصةٍ حين يجد المرءُ نفسَه فوق (كرسيّ اعترافٍ) بين امرأتين جمعتهما به مصادفةٌ عجيبة كأنها اللغز.
ولا أدري كم مضى عليّ من الوقت وأنا مطرقٌ ساهم تتناوشه انفعالات مبهمة من داخل أغواره البعيدة! غيرَ أني أدركتُ في اللحظة التي استيقظت فيها من سهومي على صوت المترجمة الرفيع كالوتر المشدود، وفي اللحظة التي رأيت المحقّقة السيدة شفارتس، تنظر نحوي نظرة خامدة كالرماد، وقد عقدت ذراعيها فوق صدرها في وضع أظهرها نافدةَ الصبر ملولاً، أنني استهلكت زمناً طويلاً في التفكير:
- همم، هل فكرتَ في الجواب؟
سألتني المترجمة وهي ترمقني بحدّة، فأجبتُ وأنا أجاهدُ انفعالاتي وأفكاري المرتبكة تحت ضغط شعوري بما تضمّنه سؤالُها من معنى الحثّ على الإسراع:
- نعم، لديّ بلا شكّ سببٌ ما..
ووجدتُني أتنحنح عقبَ هذه الإجابة المبتورة بطريقة مفتعلة، ثمّ أغيّر وضعية جلوسيَ المتوتّرة فوق الكرسيّ، وأهمُّ بذكر السبب، ولكنَّ لساني لم يطاوعني على ما أردت أن أذكره لها في الحال، انفلتَ مني فجأة، وانفجر في القاعة بحماسةٍ خطابية لا أعلم من أين جاءتني أو كيف:
- إنّه لسببٌ قاهرٌ بلا ريب ذاك الذي اقتلعني وطوّح بي في هذه الآفاق..
وسكتُّ؛ انعقد لساني؛ كبّله الخجل إثرَ هذه القذيفة المفاجئة وأصابه الجفاف. أدركت أنني أخطأت وخرجت عن القصد، لقد خيّل إليّ في لحظة عابرة أنني أتكلم كما لو كنت متقمصاً شخصية عبد الرحيم الفلسطيني. أخذت في لحظة سكوتي أنقّل بصري بين المرأتين في ذهول، رأيتهما تتبادلان الحديث من دون أن يظهر عليهما أنهما لاحظتا شيئاً منفراً في كلامي:
- حسناً! ولكنّك لم تذكر لها السبب حتى هذه اللحظة؟ ما هو السبب ؟ تسألك السيدة شفارتس.
فهمهمتُ في غباء:
- أيجبُ أن أذكرَه لها الآن؟
وإذ رأيت حاجبها المزجّجَ يرتفع إلى أعلى راسماً إشارة تعجب، تداركتُ هفوتي، فأردفت متلعثماً:
- عفواً ! لا أقصد هذا، أرجو المعذرة!.. وإنما قصدت شيئاً آخر.. أعني، أعني أنني دوّنتُ الأسبابَ في هذه الأوراق.. ها هي الأوراقُ جميعُها.. هذه أوراقي، هل تسمح لي السيدة بتقديمها لها؟
كان عبدُ الرحيم الذي سبقني إلى التحقيق، هو الذي نصحني بتحرير قضيّتي على الورق؛ قال لي إنّ ذلك يقصّر من زمن التحقيق المرهق الضاغط الذي قد لا ينجي من الزلل، ومن التورّط في إجابات غير محكمة. فاقتنعت بقوله واستجبت لنصحه. لقد كان من الغباء أن أرفض نصيحة عبد الرحيم؛ وهو بيننا الوحيد الذي أدركه النجاح في الحصول على حقِّ اللجوء.
تناولت المحقِّقةُ الأوراق المطويّة من يد المترجمة، ألقَتْ إليها بنظرة سريعة، ثمّ وضعَتْها فوق الظرف الأصفر بعد أن نشرتها ومسحت عليها براحة كفّها المجعّدة؛ فانتابني من ذلك شعور بالارتياح والطمأنينة؛ أيقنتُ لوهلةٍ بأنّي نجحت في التملّص من الردّ المباشر على سؤالها المحرج، همست في سرّي: إنْ تكنِ المحققة قبلت حكايتي مكتوبةً وفيها الجواب عن السؤال هذا، فلا بدَّ لها من أن تجاوزه إلى غيره من الأسئلة. بيد أنّي كنت واهماً؛ إذ سرعان ما عادت المحققة إلى السؤال عينه الذي تمنيت ألا أجيب عنه مشافهةً؛ لتحاصرَني به من جديد؛ مما نكّد عليَّ، وأطفأ شعوري الذي كان ومضَ بالارتياح قبل ذلك. بلهجة باردة صارمة قالت لي المترجمة:
- ما تزال السيدة شفارتس تنتظر جوابك على سؤالها. إنها تريد أن تعلم لماذا غادرتَ العراق؟
ومثل معتقل يُفشي سرّاً مصوناً تحت الضغط والإكراه، أجبتُ وأنا أوشك أن أختنق بالجواب:
- هذا هو السبب الذي أرغمني.. إنه حكاية الحبّ التي رويتُها في أوراقي.
رنّ صوتي رنيناً أخنّ خافتاً في أذنيّ، أو هكذا أحسست به وأنا أبوح بسرّي في استسلام يائس. وعندما رفعتُ بصري إلى المترجمة، رأيتها تقطّبُ ما بين حاجبيها المزجَّجين ثانية، وهي تترجم كلماتي الأخيرة، وظلّت مقطّبة إلى أن انتهت من ترجمة الكلمات، اقتربت بعدها من الطاولة بصدرها الضخم حتى أوشك ثدياها أن يلامسا طرفها مصغيةً إلى ردّ المحقّقة بانتباه شديد. وحين أتمّتِ المحقّقة كلامها، نصبت المترجمةُ جذعها المكتنز، ومالت به نحوي ميلاناً خفيفاً، وقالت كأنّها تخاطب شخصاً آخرَ غيري:
- تقولُ لك السيدةُ شفارتس: "إنّها هنا كي تتحقّقَ من الأسباب التي حملتك على الفرار، وليست هنا لسماع الطرائف والنوادر التي لا يتسع لها وقتها. إنها تنصح لك أن تذكر لها الأسباب الحقيقيّة، وإلا فسيؤسفها أن تخبرَك بأنّك لن يكون من حقِّك أنْ تقيم هنا، وبأنّ الأجهزة الأمنيّة المختصّة بالأمر ستُضطر إلى ترحيلك فوراً".
تململْتُ فوق الكرسيّ، هاجمني شعورٌ بأنني أُهان؛ فأنا في الواقع ما كنت أهزل، كنت جاداً صادقاً في اعترافي بالحقيقة، ومع ذلك فلم أحتجَّ أو اعترضْ على سوء فهمها لكلامي. لملمتُ شعوري بالإهانة، قمعت استيائي، ثمَّ رجوتها بلغة حاولت أن تكون مؤثّرة:
- هل تسمح لي السيدةُ أنْ أؤكّدَ لها بأنّ قصّة الحب التي رويت تفاصيلها في الأوراق التي أمامها هي التي أرغمتني على الهرب؟
كان في يد السيدة شفارتس جهازٌ صغير للتسجيل، تدنيه من فمها عقب كلِّ سؤال وجواب، فتبثُّه كلاماً غامضاً،كم تمنّيت أن أفهمه! وكانت طيلةَ الوقت الذي مضى على وجودي في غرفة التحقيق، لا تعيرني التفاتاً، ولا تبدو مكترثة بوجودي أمامها فوق كرسيّ الاعتراف. بيد أنها عدّلت موقفها غير المبالي بعد أن سمعت رجائي؛ رأيتها تراقب حركاتي وتتفحص هيئتي؛ تتأمّلني بنظرات عميقة من خلف عدستها الشفّافة؛ نظراتٍ تجلّى لي فيها إشراقةٌ من معانٍ لطيفة، فيخيّل إليّ أنها تأثّرت من كلامي. وما هي حتى نهضت من كرسيّها؛ لتقعَ عيني على قامتها الممشوقة الرشيقة الملتفة بثوبها الناعم الموشّى بحمرة هادئة، وعلى ساقيها العاريتين الطويلتين العجفاوين اللتين برزت فيهما خطوط زرقاء باهتة. رأيت يدها تمتدُّ إلى خزانةٍ معدنية رمادية عن يمينها، احتشدت رفوفُها العليا بكتبٍ وكراريسَ من مختلف الأحجام والألوان، فتستلُّ من بينها كرّاساً صغيراً، راحت تتصفّحُه على ساق واحدة، ثم أعادته إلى مكانه بعد أن وضعت علامة عند صفحة من صفحاته، ثمّ رجعت إلى كرسيّها الأسودِ المتحرّك؛ فاحتضنتِ الجهازَ في يدها، وشرعت تكلّمُ وقد ارتسم في وجهها الصغير المجهَد أماراتُ الجِدّ والاهتمام، فلما فرغت من الكلام إلى الجهاز، التفتت نحو المترجمة، فصبَّت في أدنيها وابلاً من الكلمات، ما عتمتِ المترجمة أن نقلته لي بنبرٍ متراخ:
- إنْ لم يكن لديك ما ترويه سوى هذه الحكاية، وإن كنتَ تعتقد حقّاً أنّها سببُ هروبك؛ فليس ثمّة ما يمنعها من اعتمادها بعد أن تصغي إليها مترجمةً.
فأدركتُ من هذه العبارة الواضحة التي نقلتها لي المترجمة بنبرها المتراخي موافقةَ السيّدة المحقِّقة على ترجمة ما دوّنتُ في الأوراق القليلة؛ فأحسست بالارتياح يتمشّى من جديد في عروقي كمن تلقّى وعداً بتحقيق أمنيةٍ جميلة.
تناولت المترجمةُ الأوراق من يد المحققة، أحكمت نظارة القراءة فوق أنفها المفلطح وعيناها معلقتان بالأوراق التي انكشفت لعيني - وهي ترتعش بين أصابعها القصيرة الممتلئة – في صورة معتقَلٍ يحلم بالإفراج. ولم يطل بي حتى سمعتُ صوتها الرفيعَ ينطلق في فضاء الغرفة ولكنْ بغنّة مستحبّة هذه المرّة. ومع أنني لم أكن أفهم شيئاً مما تترجمه للمحققة، فإنني كنت أرهف نحوها السمعَ، وأتملّى ملامحها المتنافرة وقد طاف في نفسي منها شعورٌ بالإعجاب من قدرتها على نقل لغتي إلى لغة غريبة أجهلها. وكان إحساسي بوجودي داخل غرفة موصدة بين امرأتين قد استأثرتْ حكايتي باهتمامهما؛ امرأتين جمعتني بهما مصادفةٌ من مصادفات الحياة الغريبة المدهشة، يمنحني لذةً هادئة دافئة، جعلتُ أتنفّسها بعمق وأتمرّغ في أحضانها كطفل رضيع، وأنا أرمق بين الفينة والأخرى السيدة (شفارتس) التي اتكأت بظهرها إلى مسند كرسيها تنصتُ إلى كلام المترجمة بوجهٍ هادئ الملامح خلا من التعابير، وقد ارتفع صدرها إلى أعلى، أما يدُها التي تحمل الجهاز الموجّه نحو المترجمة، فكانت مستلقيةً فوق فخذها هامدة بلا حراك.
وما إن فرغت المترجمة من عملها بعد ما يقرب من الساعة، حتى أخرجت على عجل من حقيبتها منديلاً ناعماً، وأخذت تمسح حبيبات العرق التي التمعت فوق جبينها الضيّق الصقيل، ثمّ أعادت الأوراق إلى المحققة وهي تتنفس بصعوبة. قالت المحققة وقد دبّ النشاط في أعضائها:
- إنها حكاية طريفة تذكّرني بحكايات الحبّ في القرون الوسطى، أما زلتَ تحبُّها؟
تصنّعتُ الحياء بابتسامة وأنا أجيب:
- كثيراً.
فقالت المحققة:
- إنْ كنتَ ما تزال تحبها كثيراً (وضغطت المترجمة على لفظ كثيراً) فلماذا تمتنع عن الارتباط بها؟ هل العقبات التي ذكرتَها أقوى من الحبّ؟
- لا، قد لا تكون كذلك في الأحوال العادية، ولكنّها كذلك في حالتي أنا. إنها قوية عندي حتى لتثنيني عن التفكير في الارتباط بها.
- ما معنى هذا؟ أتعني أنك تضحي بحبك الكبير؛ لأنّ اختلافاً في الأسماء يفرّق بينكما؟
- نعم..
- ولكنّ الاختلاف ليس عظيماً إلى الدرجة التي يستحيل فيها تسويته.
فقلت مستشعراً شيئاً من الغيظ في داخلي:
- لا أحسبه كذلك؛ إنهم يفرضون عليّ تغيير اسمي، فكيف يمكن تسوية أمر في ظلّ الإكراه؟
أجابت وهي تنفض كتفيها باستهانة:
- بكل بساطة ! فلو كنتُ أنا في مكانك، لاخترت أن أغيّر اسمي.
فاعترضت بجرأة وعناد:
- أما أنا فلن أغيّر اسمي، إنّ تغييره إهانة لا أحتملها.
تبسّمت المحققةُ للمترجمة، قالت:
- فما الحل إذاً، وصاحبتك لا تقدر على تغيير اسمها؟ هل يمكنها أن تفعل ذلك؟
- لا، مستحيل ! فأهلها كما ذكرتُ لا يتهاونون في أمر كهذا. وأنا أيضاً لن أفعل ذلك.
- في هذه الحالة عليك أن ترتضيَ النتائجَ التي سيسفر عنها إصرارُك على موقفك.
- كيف؟ هل يتحتّم عليّ أن أغيّر اسمي؟
- لا، فأنت مخيّرٌ. ولكنْ، ماذا تتوقّع أن يحدث لك لو أنك غيّرت اسمك؟ هل تتوقع أن تتعرّضَ للمطاردة، أو يسقطَ لك حقٌّ من الحقوق؟
فوجئْتُ بقوة منطقها؛ فوجمت عاجزاً عن الردّ. بيد أنّ وجومي لم يطل؛ سرعان ما لمعت في خاطري فكرة مدهشة - أظنّني استلهمتها من قراءاتي الكثيرة فيما مضى - فقلت معبّراً عنها بلفظ حاولت أن يجاري في قوّته قوّة حجّتها:
- الإنسان كائن ذو أبعاد، فهل يصحّ أن نختصره في بعد واحد؟
فأجابت دون أن تبالي بتجاوزي حدّ اللياقة الذي لا يبيح لي أن أطرح عليها السؤال.
- قد لا يصحّ، ولكن ما المراد من قولك هذا؟
- إنّ هذا ليشاكل الحكمةَ المعروفة (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان). ومن جانب آخر فإنّ المعاني لها تأثيرُ الحاجات المادية في حياة الناس، وربما كان تأثيرها في حياتهم أعظمَ، فكم من بشر هانت عليه حياتُه المكتنزة من خيرات الدنيا وهو يواجه تحدّياً لمعنى من معاني النفس الرهيفة كالكرامة مثلاً!.. وهنا تذكرتُ زميلي عبد الرحيم، فأضفت مستغلاً اهتمام المحققة بكلامي: لي معرفة بصديق فلسطينيّ من داخل إسرائيل حياتُه مستقرّة فيها وهو لا يشكو من ظلم ولا اعتداء، ومع ذلك فإنّه لا يطيق فكرةَ الخضوع لنظام دولتها..
قاطعتني المترجمة بإشارة من يدها، وهي تميل بسمعها نحو المحققة التي رأيت سحنتها تتغيّر:
- تقول لك السيدة شفارتس: لسنا في مجال الفلسفة وعلم النفس. المعاني المجردة لا يشملها القانون ولا يحتفل بها إلا في حالات استثنائية نادرة؛ وذلك عندما يكون فيها أو منها خطرٌ على حياتك. وأنتَ - كما تبيّن لها - لن تواجه خطراً، إنْ أقدمتَ على تغيير اسمك.
احتدم غيظ في داخلي، وكدت أنفثه في وجه المترجمة وأنا أقول معترضاً:
- ولكنّ حياتي في خطر.
- كيف؟ أين يترصّدك الخطرُ؟ تسألك السيدة شفارتس.
أجبت منفعلاً:
- عند تغيير الاسم. لقد فسّرت ذلك آنفاً، ألم أفسّره؟ لا ضيرَ، يمكنني أن أفسره مرة ثانية.. بتعبير آخر .. إنّ حياتي سيدهمها الخطرُ، ما دمت مقيماً على الرفض؛ رفضِ تغيير اسمي.. الأمر في غاية الوضوح ولا يحتاج إلى بيان وبرهان.. ألن تكون حياتي في خطرٍ، إنْ أنا اقترنتُ بها من دون أن أغيّر اسمي؟ بلى، إنها ستكون في خطر بلا براح. وليس هذا فحسب، بل هناك خطر آخر يترصّدني في حال عودتي إلى بغداد؛ لن أستطيع أن أقاوم طويلاً، سأسقط لا محالة؛ سأرضخ ورضوخي سيكون أشدّ وبالاً عليّ من الموت.. وماذا لو لم أرضخ؟ ألن يكون العذاب أشدَّ قسوة عليّ من الموت؟ ما فائدة العيش يمضيه المرء في عذاب؟..
توقعتُ أن أرى وجهَها يكلحُ من الطريقة التي خاطبتها بها، غير أنه أضاء - عكس ما توقعت - بشعاع ابتسامة طيّبة، ردّت مقاطعة بلطف:
- بلى ! ولكنّك تملك أن تختار طريقاً سهلاً؛ أنْ تبتعدَ عنها.
فقلت يائساً:
- كيف أستطيع أن أبتعدَ عنها، وحبُّها خليّة تجري في دمي؟!
فأجابت وقد اتسعت الابتسامة على وجهها:
- تستطيع أن تغيّر اسمَك.
فقلت محتجّاً بإصرار وحدّة:
- لا، لن أغيّر اسمي. أليس من حقّي أن أحتفظ به؟ لماذا يجب أنْ أغيّرَه؟
فضحكت المحقّقةُ وقالت:
- كي تفوزَ بصاحبتك. أليس الحبُّ أجملَ من اسمك؟





#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - حياتي في خطر. قصة قصيرة