أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأوانس والجَواري 5















المزيد.....

الأوانس والجَواري 5


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3144 - 2010 / 10 / 4 - 18:08
المحور: الادب والفن
    


الحَرْبُ؛ إنها قدَرُ جيلنا، مثلَ حُكم الفرْدِ الواحِدِ، الأحَد، سواءً بسواء.
أسبوعٌ حَسْب، كانَ عليه أن يَمضي لكي تستردّ اسرائيل أنفاسها وتردّ بقوّة وعنف. ففي الأيام الأولى لنشوب المَعركة، كنا نشهدُ مُبتهجين، مُهللين، تساقط طائرات العدوّ واحدَة بإثر الأخرى. إذاك، كانت أسطح المنازل هيَ مَكمنُ وجودنا الدائب، فيما السّماء فوقنا هدَفُ أعيننا، المَلهوفة. من ثمّة، عليّ كانَ أن أبصرَ ذات صباح، مُندهشاً، تبخترَ قاذفات القنابل الاسرائيلية، المُطلقة سيلاً من البالونات الناريّة: إنها الوسيلة الوَحيدة، الناجعة، لإبطال فعاليّة صورايخ " سام "، السوفياتية الصنع، بعدما سبق وفتكتْ بطيرانها؛ مُبطلة بالتالي أسطورَة تفوّقه، الساحقة. وإذاً، تابعَ الطيران المُعادي تحليقه يومئذ في أجواء المدينة، ثمّ ما لبثَ أن أفرغ، دفعة وراء دفعة، قذائفه المُنهمرَة بانتظام هندَسيّ. الإنفجارات الضخمَة، الهائلة الدّوي، عليها كانَ أن تصدى من ثمّ في سَمَعنا وأن تصكّ كينونتنا.
" أنظروا، النار تتصاعد من مَبنى الأركان.. "، يَصرَخُ قريبنا " قربينة " مُتبجّحاً كالعادَة بمَعارفه الكليّة. ثمّة، في جهة مركز المدينة، الغربيّ، ما كانَ يُمكن تمييز شيء؛ اللهمّ سوى الدخان الكثيف، المُتصاعد باضطراد مع لظى الحرائق. في اليوم التالي، على الأثر، كنتُ هناك في المنطقة المَقصوفة، صُحْبَة " آدم " وقريبه " نهال ". مَررنا بمُحاذاة الأركان، المُتضرّرة بشدّة، ثمّ التففنا حول مبانيها الكبيرَة، المُهيبة، صعوداً حتى شارع السفارات، الراقي. ثمّة، تطلّعتُ بأسى وغضب نحوَ بناء المركز الثقافي السوفياتي، المُدمّر تماماً بطوابقه الثلاثة. أشرطة أفلام السينما والكتب الأنيقة وأشياء أخرى، كانت مُتناثرَة هناك في كلّ مكان. لاحقا، سأعلمُ أنّ مدير المركز، " محمّد أمين "، كانَ من ضحايا القصف. إنه صديقٌ قديم لوالدي، من زمن النشاط في النوادي القوميّة وما تبعها من نضال في صفوف الحركة الشيوعيّة.

من ناحيَة أخرى، كنا نهاراً نسهمُ بتنظيم قدوم الأهلين للملجأ الكبير، الحديث.
أرضُ المكان، الشاسعة، كانت مُلكاً لعمّي الكبير، والد " زاهر "، ثمّ أشترتها الدولة منه. وحينما أجمعُ فعلَ " المُساهمة "، فلأنني أعني بعضَ الأصدقاء، من تنظيم الشباب الديمقراطي. مساءً، كنا نجتمعُ في بيت أحَدنا لكي نناقش ما استجدّ من وَضع الحرب على الجبهتيْن السوريّة والمصريّة: " في دعايتنا بين الناس، يجب أن نركز على مُساهمة الجيش العراقي في معركة تحرير الجولان. لأنّ القوى الرجعيّة، من أخوان وأضرابهم، يُضخمون من دَوْر الجيش المَغربيّ "، يُخاطبنا المسئول التنظيمي.
ولكنّ التحريرَ، على أيّ حال، كانَ أكذوبَة كبرى. بدءً، كنتُ أتابعُ بسخرية أخبار إذاعة العدوّ، طالما أنها كانت لا تفتأ تفيد بتقدّم القوات الاسرائيليّة وانتصاراتها. أما وأنّ صدى انفجارات القنابل، أضحَى يقلق رقادي ليلاً؛ فإنني رُحْتُ أتساءل في سرّي عن حقيقة الوَضع. حتى قدِمَ أخي، المُجند في الجبهة، ليَضعنا في صورَة ما يَجري: " لقد انسَحَبنا بلهوجَة وفوضى من كلّ المواقع، التي قمنا بتحريرها. والآن، فالجيش الاسرائيلي باتَ على مَقربة من " بيت جنّ "
" بيت جنّ؟ "، هتفَ والدي بذهول. حقّ للمُستمعين أن يَرتاعوا؛ طالما أنّ تلك البلدَة كانت قريبة للغايَة من ضواحي الشام. أيامٌ أخرى، وتعززتْ مصداقيَة ما باحَ به " جينكو ": أفواج من النازحين، تركتْ قراها وأماكن سكناها بعدما سيطرَ العدوّ على أراض سوريّة، جديدة.
" لا أصدّقُ كلمة واحدة من حديث النصر، الاسرائيلي "، قالها صديقنا " كيمو " ساخطاً. ثمّ ما عتمَ أن أردَفَ غامزاً من قناتي " كما أنّ " مستو " مفقودٌ ولم يُقتلَ؛ مثلما زعمَ شقيقكَ. لقد أكّد لي الأمر شقيقه، بناءً على مُذكّرة رَسميّة وَصلتهم مؤخراً ". قبلَ أن ينتهي شهرُ الحرب، كانَ كلّ شيء قد أصبحَ جلياً للناس. أما " مستو "، التعِس، فإنّ نواحَ أسرته على شبابه، المَهدور، كانَ هوَ الآخر دليلاً على مصداقيّة أخبار أخي الكبير: " جينكو "، الذي حظيَ بدَوره بشهادَة من قائده، النقيب " المقداد ".

هذا الرّجل، الشهم، كانَ مُستأجراً مع شقيقه في منزل فاره، يَملكه قريبنا " نيّو ".
القريب، هوَ والدُ الحلاق، الطريف، المَنعوت من لدُن الطفولة بلقب " جحا ". كنتُ حاضراً ثمّة، إذاً، عندما راحَ النقيبُ يُشيد أمام أبي ببطولة وتفاني أبنه خلال المعركة. حماسُ الرّجل، دفعه إلى حدّ التوقع بإمكانية منح " جينكو " وسامَ بطل تشرين: لم يَمض عامُ التحرير، حتى كانَ أخي قد مُنحَ سنة سجن، سيقضيها هناك في سجن " تدمر "، الصحراوي. عدّة أشهر، على الأثر، ومُنحَ السّجينُ ضربَة هراوَة، حاقدَة، على دماغه. وبالرغم من إصابته، البليغة، فقد أعيدَ من مستشفى " حمص "، العسكري، إلى ذات السّجن، الرّهيب. أحدُ نزلاء العنبَر، المَحجوز فيه شقيقي، أفرج عنه من بعد. فما كانَ منه إلا القدوم إلى بيتنا، لكي يُخبر الأبّ بمصاب أبنه. وساطة العقيد المُتقاعد، " محمد زلفو "، أفلحَتْ في نقل أخي إلى سجن " القلعة "، الدّمشقي. وبالرغم من حالة " جينكو " الصحيّة، البالغة السوء، فإنه بقيَ ثمّة حتى انتهتْ فترَة حكمه.
اسمُ " العقيد زلفو "، كانَ مُضيئاً في فترَة الخمسينات، إلى أن داجَ ليلُ الديكتاتوريّة؛ المُستهلّ بالوحدَة مع مصر، الناصريّة. شقته، الأنيقة، كانت تقومُ بالقرب من مُستديرَة " السبع بحرات ". ثمّة، كنتُ برفقة الأبّ، الذي كانَ صديقَ عُمْر العقيد مُذ عقد الأربعينات ـ كما تشهدُ عليه الصوَرُ الفوتوغرافيّة، الجامعة إياهما بأعضاء النوادي القوميّة. مُناسبَة الزيارَة، هوَ سَعي الرّجل للتوسّط لي هذه المرّة. رسوبي، مرّة أخرى، في امتحان الشهادَة الإعداديّة، أصابَ والدي بخيبَة أمَل، مَريرَة؛ أنا من كانَ أمله، طالما أخي على السيرَة ذاتها، المَوْصوفة.
عند ذلك، أخذني العقيدُ إلى مَقرّ شركة تجاريّة، يَقعُ بمواجهة سينما " الدنيا ". فوجئتُ هناك بجدّ أصدقائنا، أولاد " كرّيْ عَيْشة "؛ الذي كانَ يَعملُ في الشركة بصفة آذن أو ما أشبه. هذا العَجوزُ ، العَتيّ، كانَ مَرهوب الجانب من قبل أحفاده، خلال فترَة الطفولة على الأقلّ. وإذ كانوا يَغبطونني آنذاك لأنني لم أعرف جدّا قط؛ فإني بالمُقابل كنتُ أجدُهُ شخصاً طيّباً ومُحترَماً. " العقيد زلفو "، شاءَ أن يؤكّدَ رأيي، بما كانَ من إشادَته بالرّجل على مَسْمَع من مُعلّميه.

لم أحظ بعمَل ما، مُناسب، ثمّة في مَقرّ الشركة.
شهرٌ آخر مَضى، وإذا بي ذات مساء، شتويّ، أشاركُ بعضَ لدّاتي في تسلّق سَطح المنزل. من ناحيَة مَركز المدينة، كانَ يَتراءى حريقٌ هائل، تكادُ فرائصه تتماهى بالسّحُب القاتمَة، المُهيمنة. لاحقا، في نفس الأمسيَة، علينا كانَ أن نتحلّق حولَ أصدقائنا، من أولاد " كري عيشة ": إنّ جدّهم لأبيهم ذاك، كانَ في عداد المَفقودين بعدُ، إثرَ ورود خبر جديد، يفيد بأنّ الحريقَ كانَ من نصيب مقرّ الشركة؛ التي كانَ يَعمل فيها. ويبدو أن احتكاكاً حصَلَ بين زجاجتيْ غاز، من تلك المُستخدمَة في الشركات الكبيرَة، مما أدى إلى الانفجار والحريق. لحُسن فأل الجدّ، فإنه كانَ عندئذ في مكان آخر، آمن؛ طالما أنّ مُهمّة، طارئة، أوكِلتْ إليه قبيل وقوع الحادث: وكنتُ مَحظوظاً أيضاً، من جهتي؛ أنا من كانَ قد سَعى للعَمل ثمّة وبوساطة، مُعتبَرَة. نجاة العجوز، أجيز لها أن تبارَكَ بخروف تضحيَة، أريقَ دمُهُ في الليلة ذاتها. مذ ذاك الحين، اعتادَ الجدّ على رَمقي بنظرَة مُبهمَة، مُلغزة، في كلّ مرّة ألتقي معه عابراً أم مُقيماً.. وربّما هيَ نظرة عينيْه العميقتيْن عينها، المُعتادَة.
الرّجلُ الناجي، كانَ جدّ " آدم " لأبيه وجدّ " نهال " لأمّه. إنّ صديقيْ الطفولة والصّبا هذيْن، لم يكونا على ودّ دائماً؛ إلا عندما يَجمعهما حضوري. كنا في أمسيَة مُشرفة على الميلاد، المَجيد، ثمّة في جادّة " باب توما "، المُعبقة بأريج الحضور البيزنطيّ، الغائب. مُطاردَة أوانس الحيّ، كان شاغلنا نحنُ المُتسكّعين، الأزليين، عبْرَ تلك الأوابد التاريخيّة، العتيقة. بيْدَ أنني كنتُ، إلى هذا الحدّ أو ذاك، أقلّ جَسَارَة من رَفيقيْ الدّرب. هذا بالرغم من حقيقة، أنني كنتُ أكثر تآلفا مع الجادّة؛ بما أنّ مدرستي، الإعداديّة، كانت تقع هنا. علاوة على أنّ صديقي الحَميم، " كيمو "، يَخدم عسكريّته في أحد مُستوصفات المنطقة.
مرّة، شاءَ " آدم " لفتَ أنظار عدد من الفتيات، الجميلات، المُتجولات ليلاً في جادّة النصارى نفسها. فما كانَ منه إلا دَفعي، ما أن حاذيْنا جمعتهنّ. الرّجل المُرافق ( ولم أدر وقتئذ أكانَ شقيقا لهنّ أم قريباً )، رأى حقيقة ما جرى. عند ذلك، أمسكَ بتلابيب صديقنا، الأخرق، وأخذ بجذبه في عنف شاتماً لاعناً. على الأثر، شاءَ " آدم " أن يجعلنا نتعقب خطى الرّجل ورفقته، الأنثويّة، شاداً بعصبيّة وحنق على قبضة الموسى.

سَفرُ الانتقام ذاك، أخمِدَ من قبلنا، نحنُ رفقة السّوء.
على أنّ الأمرَ، ولا شك، كانَ مُختلفاً في مرّة أخرى. عندئذ، كنا عائدين من تلك الناحيَة، الأثيرَة، وعبقُ العرَق، الحرّيف، يَسوسُ خطانا، المُرتجلة والمُترنحَة نوعاً. كنا قد غادرنا للتوّ مطعم " أبي وليم "، الشهير بوَجبات شواء السّمك، الفاخرَة. ثمّة، عند الشارع الصاعد من " ساحَة العباسيين " باتجاه منطقة " مساكن برزة "، كانَ عددٌ من حافلات النقل، الخاص، قد أخلد للنوم استعداداً لصباح آخر، مُبكر، من العمل بين المُحافظات. راوحَنا أقدامنا هناك، مُفرغين على هيكل إحدى تلك الحافلات ما تيسّرَ من البول، المَحصور في مثانة كلّ منا. على غرّة، فتحَ بابُ الباص ليخرج منه رجلٌ هائج، مُسلّحٌ بهراوَة حديديّة، ثقيلة. لحُسن الحظ، لم يكُ أحدٌ غيره ثمّة، لا داخلَ حافلته ولا داخل جاراتها، الغافيات بوداعَة. مَرأى المَطاوي، المُشرعة في أيدينا، كانَ رادعاً للرّجل، الأخرَق، من التوغل في مَفازة الحَماقة والتهوّر.
ولكن، ما حالهُ ذاكَ الرّجل، الثمل، المَطروح على أرض الجادّة، والمُلقي شتائمه على العابرين؟ وكنا في يوم آخر، من أسبوع الميلاد، المَجيد، قد عُدنا إلى مركز المدينة عن طريق " القيمريّة ". هناك، تحتَ أقواس السوق القديم، المُدججة بالصفائح المَعدنيّة، كانَ علينا أن نلحظ قبوع الرّجل السكران على الأرض، المُوحلة، فيما الدّم يُبقع ملابسه و وَجهه. كانت ساعة من الليل مُتأخرَة، باردَة. وكنا نهمّ بمساعدته، " آدم " وأنا، حينما دَفعنا عنه بقوّة: " دَعوني يا لصوص، يا أولاد الحرام.. "، هتفَ فينا بلسان ثقيل. فما أن هممنا بالتحرّك، حتى سمّرنا مُخاطبَة السكران لأشباح العتمَة، المُظللة المكان المُوحش، المُقفر: " ولاه، أنا أبن " شمدين آغا "؛ أنا كذا وكذا.. ".
برهة أخرى، وكنا مُستقلين التاكسي في الطريق إلى ساحَة الحيّ، الأشهر، المُكناة باسم جدّ أجداد ذاك الرّجل، الثمل. منزله الجميل، الأثريّ، كانَ مُضاءً حينما وَلجنا بمعيّة الابن، الوَسيم. هناك، قرب البحرَة الكبيرَة، اجتمعنا مع زوجته وابنته. هذه الأخيرَة، كانت من حُسن الصورَة والقوام، أنّ عينيّ لم تفوتا لحظة، مُناسبَة، لكي تتمليا موارَبَة ً فيها. وما لبثتُ، مُحْرَجاً بشدّة، أن رأيتني وَحيداً مع أفراد العائلة؛ ثمة، قربَ مَجلس رجلهم، الجريح. وكان " آدم " قد مَضى ليَجلبَ خالَ أمّه ، لكي يُعالج الرّجلَ المُصاب.

الخال، كانَ في حقيقة الأمر صيدلانيّا؛ هوَ المُعرّف، تبجّحاً، بـ " الدكتور " من لدُن أقاربه.
صيدليّته، كانت في مَكان ما من المدينة القديمة. وأذكرُ مُرافقة أصدقائي إلى ذلك المكان، خلال فترَة طفولتنا. الأكبر فيهم، " أيسر "، كانَ آنذاك يَعملُ صيفا ثمّة. كما أنني كنتُ شاهداً، أكثر من مرّة، حينما كانَ أصدقائي يَنتشلون النقود الوَرقيّة، المَخزونة في درج الطاولة، الرئيسَة. إذاك، كانوا يَستخدمون في عمليّة السرقة ما ندعوه " نكاشة بابور الكاز "؛ ذات السنّ الحادّة، الدقيقة جداً.
" الدكتور نور "، كانَ شديدَ الشحّ ومُحباً بالتالي للمال. صفته، حتمَت عليه خوض المُغامرة تلو الأخرى، سَعياً لجني المزيد من الأوراق النقديّة وتخزينها طيّ الأدراج والصناديق. وعلى الأرجح، فإنه لم يَتب إثر تلك الحادثة، الذائعة الصّيت بفضل قريبه " أيسر "، المُعاون. إذ طلِبَ في إحدى الليالي، الشتويّة، لإسعاف شخص جريح، مُصاب بطلق ناريّ في خاصرته. وبما أنّ الجريحَ مَطلوبٌ للأمن الجنائي، فما كانَ من المُمكن نقله إلى المَشفى. المنزل المشبوه، كانَ هناك في السّفح الغربيّ من الحيّ؛ في المنطقة المنعوتة باسم الفلسطينيين، النازحين. ويبدو أنهم من هذا الأصل، أولئك الهمشريّة المُجتمعون ليلتئذ في المنزل حول رفيقهم، المُصاب. سُويعة على الأثر، والطبيبُ المُزيّف يهرع إلى خارج الحجرَة، قائلاً أنّ رَجلهم، الجريح، على ما يُرام. ثمّ انصرف في الحال، بعدما استلمَ أجرة يده: إنها اليد ذاتها، التي ضربتْ خطأ أحدَ شرايين المُصاب، الحيويّة.
في اليوم التالي، استنجدَ " الدكتور " بأحد أقارب صديقنا، " أيسر "، بعدما دَهَمَ الهمشريّة مقرّ الصيدليّة أكثر من مرّة: إنه " صابر "، أبن جيراننا من آل " كري عيشة " وشقيق زوج حَسناء الحارَة. لقد تعهّدَ للرّجل، الوَجل، بحلّ المسألة مع أولئك الجادّين بأثره انتقاماً لرفيقهم ، المتوفى خلال العملية الجراحية. أبن جيراننا هذا، كانَ مُختلفا عن رَجل " نجلاء " كما وأخوته، الآخرين.

كانَ " صابر " حشاشاً، ظريفا، من عُصبَة أبن خالتنا؛ " مصطي ".
وفضلاً عنهما، كانت العصبة تضمّ كلا من " فنجو " و " باسم السّمكري " و " شهاب ". هذا الأخير، الأحمر شعر الرأس والبشرَة، كانَ شقيقَ أحد المُخرجين المعروفين، من العاملين في الدراما والسينما. أما السّمكري، فإنه أصلاً من مدينة " حمص "، ولديه دكانٌ بالقرب من منزل صديقنا، " كيمو "، مُطلّ على الطريق السلطاني. زوجته، كانت تهرّب المخدرات. ولقد سجنتْ مدّة ليستْ بالقصيرَة، عندما ضبطها رجال الحدود اللبنانيّة.
" لقد كانت، يومذاك، تخفي الهيرويين داخل فرْجها.. "، كانَ بعضهم يقولُ بشبق وخبث. وعلى كلّ حال، فمقرّ العُصبَة كانَ في دكان آخر، عائد لرزق المرحوم " ديبو "؛ أبن عمّنا. أبنه ذاك، المأفون، كانَ قد افتعلَ مَشادَة مع البائع المُستأجر للمحلّ، كي يُجبره على الإخلاء. من بعد، صارَ يتناهى خلل غلق الدكان، المَعدنيّ، جَدلُ أبن خالتنا، الفيلسوف، وهوَ مُتماه مع عبق الدخان، الأزرق.
عندما ماتَ السمكري بسكتة قلبيّة، على غرة، فإنه كانَ عندئذ في غمرَة الصُحبَة، الخالدة. هناك، في تربَة " النقشبندي "، وَقفَ الأصدقاءُ على قبر الرّجل، الراحل، المَدفون تواً: " إيييه.. بالأمس كانَ بيننا، واليوم تحتَ الترابِ "، قالَ أبن خالتنا برصانة مُخاطباً الآخرين من عُصبته.
في صباح يوم آخر، أقلّ حزناً، كانَ صديقي " آدم " أمام عتبَة منزل أقاربه. توَجّهتُ بدَوري إلى جهة جيراننا تلك، لكي أتمتع بصُحبَة أبنهم، الحشاش الطريف. للحق، فقد كانَ " صابر " لامع الذكاء، علاوة على كون ذاكرته كنزاً من الحكايات والأمثال والنوادر والمِلح. برهة أخرى، وظهرَتْ امرأة أخيه. كانت " نجلاء " بقميص النوم، الورديّ، ساترَة أعضاءها العاريَة بكنزة صوفيّة. على التوالي وعبثاً، كانت الحسناءُ قد طلبَتْ من أبنيْ عمّها، الحاضرَيْن، شراءَ مسك لبّان من الدكان المُجاور. بعدئذ، رَنتْ نحوي عَبْرَ الباب بإيماءتها، الساحرَة: " مُمكن، عينيْ، تعمل معي هذا المَعروف..؟ ". منذئذ، أضحَيْتُ ذلكَ الغلام، المُلبّي رغبات ستّ الحُسْن، السوقيّة. كنتُ آنذاك قد تجاوزتُ سنّ السادسة عشر؛ سنّ الحلم بقيادَة الحركات، الثوريّة. بيْدَ أنني، من جهة أخرى، كنتُ على بابٍ آخر من أبواب المُراهقة، العتيدَة.

> الجزءُ الثالث من السيرَة، وعنوانه " الأمكنة الكمائنُ "؛ هوَ قيْدُ التنضيد..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4
- المُتسكعون والمَجانين 3
- المُتسكعون والمَجانين 2
- ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
- القبلة ، القلب 5
- القبلة ، القلب 4
- القبلة ، القلب 3
- القبلة ، القلب 2
- الأولى والآخرة : الخاتمة
- الأولى والآخرة : مَزهر 13
- الأولى والآخرة : مَزهر 12
- الأولى والآخرة : مَزهر 11
- الأولى والآخرة : مَزهر 10
- الأولى والآخرة : مَزهر 9
- الأولى والآخرة : مَزهر 8
- الأولى والآخرة : مَزهر 7


المزيد.....




- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأوانس والجَواري 5