أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - جاسم المطير - الفصل الرابع من رواية المريض الشيوعي















المزيد.....


الفصل الرابع من رواية المريض الشيوعي


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 947 - 2004 / 9 / 5 - 03:54
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


ماريـّا و يوسف العراقي..

( الفصل الرابع من رواية جديدة )
(4)

سكنا البيت في الشتاء الفائت كان فيه الجو قارس البرد حالما تطل ماريـّا من الباب المقابل لحديقة عامة واسعة يلسع وجهها برذاذ ثلجي بعد قليل من مغادرة البيت للتسوق السريع من السوق القريب.‏ برودة لعينة وصلت مبكرة في هذه السنة .. تلف نفسها بمعطفها الجميل اللون مسرعة كما يسرع سكان الشارع كلهم في رواحهم ومجيئهم . أطفال المدرسة القريبة من البيت يسيرون قبل بدء الدوام وحال انتهائه جماعات متراصة كأن كل واحد منهم يريد أن يحتمي من برد الشتاء قريبا من زميله أو محتكا به . يحملون على ظهورهم حقائب كتبهم .. كلما مروا من أمام البيت يطلون على زاوية بابه محاولين مشاهدة الساكن الجديد بعد أن شاهدوا كثيرا السيدة ماريـّا مرات عديدة في رواحها ومجيئها من وإلى السوق . يعرفها أغلب أصحاب الدكاكين بتسوقها المواد الغذائية الشرقية حتى تأكدوا أنها تعيش فعلا مع رجل شرقي شديد السمرة .. تحظى باحترام جميع أصحاب المحلات الذين تتسوق منهم ، فوجهها الرائع جدير بالإعجاب بسمتها السامي وهيبتها المحبوبة . أحيانا يشاهدونها مرتين بيوم واحد لكنها بصورة عامة لا تجول في السوق اكثر من نصف ساعة إذ تتشوش على يوسف العراقي إن بقى وحيدا لكنها لا تتضايق من بعض أصوات غزل تدرك أذنيها من هذا أو ذاك من المتسوقين أو بعض العمال من أصول شرقية.. بصورة عامة لا تفسد كلمات الغزل مزاجها بل تعتبر ذلك لطفا من معارفها.. كل من يراها يفرح وكل من تراه يفرحها . ذلك ميراث ورثته من زمن طويل حتى ابتعدت الكراهية نهائيا من قلبها كما أن فمها لم يمارس لا ذم أحد ولا توبيخ أحد .

يشهد البيت ، كل ساعة ، العديد من فصول وغايات حركة رجل لا يدخل يأس إلى قلبه من الحياة حتى وأن قال له الطبيب المختص :

ــ ستموت غداً ..

- من الخير أن لا يقول أي طبيب كلمات كهذه لأنها تترك أذى في نفس أي مريض.

ثم أضافت :

- غير مجدٍ أن تبلغ إنساناً بموعد إنزاله إلى قبره خاصة لرجل تعذب طوال عمره أثناء وجوده في وطنه وخارجه أيضاً ، وهو ينتظر ليل نهار أي معجزة تنقذه من عالمه القاسي.

قالت ماريـّا رأيها هذا باللغة الهولندية كي لا يفهمها مريض تشاهده أول مرة في غرفة صغيرة بالمستشفى وقد بدت عليها علامات الألم والحيرة والارتباك .

قالت أمام جمع الممرضات :

- هذا رجل يعيش بلا وطن وبلا أهل . تركهما في العراق البعيد بأمل واحد هو أن يحيا . فهل من العقل استباق أمله بكلمات عن موعد موته .لا ادري لماذا لا يلجأ الأطباء إلى دفع كلمات تسعد المرضى حين يسمعوها عن حظهم الأكيد في الشفاء ..

في عينيه تشبث بالحياة أكثر مما فيها ضجر منها .

عاش شبح الموت في جنبيه منذ أن فاه الطبيب السوري قبل عام كامل بكلمات جعلته حائراً إزاء رأي خطير يسترق طريقه إلى أعماق نفسه :

- توقفُ قلبك يا يوسف مؤكد لكنه بحاجة إلى شاهد زمني فقط .. موتكَ قادم مسرعاً.

من تلك الساعة فاض العطف من جنبيها لعل نجوم سماء الأراضي الهولندية المنخفضة تكون هي الشواهد ليس على موته كما سامت أشواق الطبيب السوري بل على إبعاد ميعاد الموت بقهر مرضه نفسه بتكنولوجيا الطب :

- لا تشنقوا الأمل أيها الأطباء في صدر يوسف العراقي كما شنقه غيركم في قلبه يوم كان يتعذب في وطنه .

تسال ماريـّا نفسها في كثير من الأوقات :

- لماذا يبشرون المريض بلقاء الموت كلما عجز الأطباء عن علاج مريض .

يا أطباء هولندا تنفقون وقتكم في تلاوة قصائد الموت و تفضلونها على قصائد أحلام أمل .

كلامكم ليس زاهدا بقولكم إن يوسف العراقي سيموت غدا.

سأظل اعزف موسيقى أخرى تقول :

- ستعيش يا يوسف . لن تموت غدا يا يوسف. الحظ لن يهجرك سأسعى لتلقين الموت طقوس العراقيين أنفسهم ..

ابتعد أيها الموت عن حبيبي.

أيها الموت ابتعد ..

سأتحرك بقوتي كل يوم أقضي عليك لأبعدك عن هذا الجسد القادم من الشرق البعيد من تحت رمال الصحراء العراقية المحروقة بظلم الحاكمين .. فعلوا جوراً إذ قيدوا الحرية عن حركتها وسدوا أبواب انطلاق الملائكة منها وفيها ..

كل شيء في العالم هو الحياة

بضوء من الشمس تتحرك السماء وبشعاع من الليزر تتحرك الأرض.. تظل التكنولوجيا القائمة حاليا طريقة فعالة للحفاظ على سلامة يوسف العراقي .. سأغير مدار حياته مثلما يغير رجال الفضاء مدار الكويكبات الصغيرة ..

كل شيء في الحياة يتطور بحركة

بالحركة يتوقف المرض

وبها أحز جراح المرض من صدر يوسف

أصبحت هذه السيدة نبيلة حقا في نظره منذ اليوم الأول . تملك موهبة تمريضية عظيمة منحتها له وحده حتى صار اسمه يسبق مجيئها إلى المستشفى كل يوم ويعقب مغادرتها مساء . لا أحد من الممرضين والممرضات والأطباء يستطيع أن يحزر هل ترعاه بوصفه زوجا أم عشيقا أم أخا . لقد استولى مرضه عليها حتى غدت هي أيضا ضحية له .

تعيش بجانبه، في بيت صغير انتقلا إليه مع معدات تكنولوجية صغيرة وكبيرة غطت أغلب مساحات البيت في غرف النوم والضيافة والطعام والحمام والتواليت الصغير أيضاً، لا تترك ماريـّا شكلاً من أشكال العناية الطبية بدون أن تلجأ إليه لرعايته وزيادة تشويقه للحياة وإبعاد أفكار اليأس عن ذهنه حتى غدت في حياته خلال فترة قصيرة كما العصا للضرير و كالعفو العام للمحكوم بالإعدام . غدت سبباً في إبعاد منيته التي كان يتمنى دنو أجلها. .

تعتمد على الجدل الجاد الرائع في حديثها معه ومع الآخرين.

كتبت في إحدى رسائلها إلى صديقتها في مدينة خروننكَن بضع كلمات . فيها حزم شديد قاطعةً بذلك أي ضغوط عائلية وغير عائلية يحتمل أن تجبرها على التخلي عن قرارها الصعب بإنقاذه والمدّ في حياته قدر ما تستطيع، فقالت في آخر سطر منها : ( لكي لا يذل إنسان بمرضه ، تكون الممرضة ثائرة بوجه المرض.. مثل ثورة بروميثيوس ) .

لا ترغب أن يقدم أحد عنها ما ليس عندها من صفات .. لا تريد أن يتصور أحد أن يصفها بما يعقله السامعون أو لا يعقلونه لأنها تنجز ما لا يعقله أحد . كلا .. ليست هي كباقي النساء . هي جزء من نظام طبي صار محورا لرعاية الناس المرضى الذين يشاهدون الدراما ويحسون آلامها لكن ليس من خلاص.. ليس من أحد بقادر على استجواب المرض واستنطاقه عن موعد رحيله أو رحيل حامله . دائما يكون التفسير ناقصا أو خاطئا عند الطبيب والممرض والمريض حتى في تخمينات رجال اللاهوت كل الحقائق تتناقض مع نفسها ومع من يؤمنون بها ومع الدين والكنيسة أيضا .

حتى حقيقتي ضاعت أمام زوجي السابق حين ظن أن حالتي مع يوسف هي حالة امرأة ورجل ينقضان أوامر الله بالتهام تفاحة.

التمريض وليس غيره هو الذي قدمني عرضيا لهذا الرجل .. المرض هو سبب وجودي معه وليس التفاحة . المريض ليس له من مطاف غير الوقوع بأيدي الأطباء والطبيبات والممرضات والممرضين . هؤلاء لا يمثلون غير دورهم على المستوى الروحي والإنساني. الطب وروحه الإنسانية هما دفعاني و أقنعاني أن اهجر ذاتي وان اكشف مجرى المرض الصامت في بدن هذا الرجل.. انه اندماج الأخلاق مع العذاب ..



عندما أصبحت ابنتها البكر قادرة على التأمل كانت حياتها هي الحياة الأولى في تأملاتها، فوجدت بداخلها أكثر من صفة إنسانية وأكثر من صفة بروميثيوسية فهي مغامرة ، وجريئة، ومتعاطفة.

تتعاطف مع الناس بسهولة ليس لاستحصال معلومة مفيدة لها بل تتعاطف مع كل إنسان لا يقدر أن يحرر نفسه مهما تأججت النار القاسية في صدره المكبـّــل بقيود المرض فبنظرها أن الناس طيبون يتطلعون إلى عالم غير مكبـّـل .

وجد بداخلها أكثر من إنسان واحد . فهي طفل صغير تعيش براءته في روحها عالقة بالصدق والعفوية. وهي شابة متحمسة مندفعة نحو الفرد والمجتمع تخدمهما في آن واحد. تملك بذات الوقت حكمة الشيوخ المجربين ورؤيتهم.

من هذه الشخصيات الثلاث في أعماقها كانت ماريـّا تتصرف وترتد أفعالها نتيجة ذلك. تتنفس إذ تبوح لابنتها سيزي ببعض حالات ضيق ورفض تأتي إليها من حساسيتها إزاء بعض مواقف زوجها طليقها فتصيح أو تصرخ بأصوات غير مفهومة في أثناء نومها أو يقظتها .

لا أحد يدري لماذا لم تجد مساحة أخرى للتعبير عن موقفها وتمردها خارج البيت. لماذا وجد بروميثيوس ثورته في روحها الساكنة فاقتحمت روحها عنوة. كأنك تراها ممسكة بريشة ترسم بها عشوائياً صوراً غير ذات معنى محاولة أن تمسح جمال سكونها منطلقة نحو إنسان عاجز ساكن يعبق في أعماقها بمجموعة رائعة من صفات أنسان شرقي لا يضيق صدره بقصص ألف ليلة وليلة ولا يضيق من الدنيا مهما كانت مصائبها ولا ينبذ امرأة تحبه أو تعطف عليه. لا يضيق بكلمة يسمعها منها وقصيدها دائما يرضيه.

باستطاعتها أن تعيش خارج المشكلة لكن ماريـّا امرأة الأربعينات اندفعت بدون حذر صوب الحب المشبوب بعاطفة ثائرة ، لا تريد أن تكون مشدوهة أمام العلاقة بين مريض وطبيب. بل تريد من خلالهما أن تطل على عالم يعرف نور الكواكب. تريد من نفس المكان من نفس المستشفى أن يُغفر لها يوم مات قريبا منها مريض قبل مدة قصيرة في نفس القسم العاملة فيه كممرضة نشيطة.. . شاب من مواطني بلدها وقفت في لحظات موته ترمقه بنظرات العجز التام ، أطبقت جفنيه وهو لم يتجاوز الثلاثين. هبطت عليها من ذلك اليوم توترات غير مسبوقة في حياتها فصارت تخشى أن تعود إليها ثانية قبل أن يزول الحدث من ذاكرتها.

هل يتكرر ، يا ترى ، نفس المشهد مع مريض الستين المتعب فيموت هذا الرجل بين يديها أو بعلمها ..!



بسكونها المطبق على جفنيها كل ليلة تمتزج الأضواء في عينيها المنطلقتين نحو إيجاد صلة ما بين العالم والموت ، بين العالم والأشياء الصغيرة في الطب. ففي نظرها ان الحياة دعوى فجّة لا قيمة لها إذا خلت من شيم الناس الأحياء. ماذا يفعل الأحياء قبل أن يموت الذين يقتربون من الموت.. ماذا يفعل الأطباء .. ماذا يفعل الممرضون..؟.

انطلقت من الفلسفة، و الظهور بنوع من أنواع العزلة والتأمل أثار دهشة جميع من يعرفها ودهشة الأطباء والممرضات الأخريات . تحوّل مخزون تجربتها إلى قصد وغرض لمحاربة اليأس النامي في أعماق مريض قادم من بلد الأديان في الشرق ، يائساً ،إلى الغرب المنفوخ بدعايات الأقمار الصناعية، بحثاً عن رجاء جديد ولو قصير.

في مرحلة مبكرة كانت قد قرأت عدداً من كتب الرحلات والروايات التاريخية والقصص الغرامية الخيالية ذات الطابع الشرقي و كتاب ألف ليلة وليلة باللغة الإنكليزية وقرأت كتاب المغامر الفارسي كما قرأت كتباً أخرى عن تاريخ بلاد ما بين النهرين وأعجبت كثيراً بكتاب النبي لجبران خليل جبران لكنها كانت تضجر من عدم سعة المصادر المتوفرة عن حياة الشرق وسحر آدابه ، فمعلوماتها ظلت محدودة لا تتعدى معلومات الكتاب المقدس.

لا تدعي أنها فيلسوفا ولا تعتبر أن مصاعب الحياة تحتاج إلى مذهب فلسفي لتفسيرها . نبهها ذكاؤها لتقلبات حياة هذا المريض مع تقدمه بالسن ، فأحاطت بمعارف عصرها ومستشفاها ومرضاها وبمشاكل الإنسان وكان لها في النظر إلى تلك المعارف وجهة فلسفية يمكن تسميتها بالفطرية والعفوية.

تبدأ الفلسفة لديها بكلمات بسيطة تتحدث بها بعفوية تبدو كمؤمنة بها ، تزيدها توكيداً عيناها الألقتين المصممتين الواثقتين حين تكرر القول:

ـ إن من حق الإنسان أن يعيش حياة طويلة سواء كان عيشه بريح باكية أو بنسمة باسمة. من حق المريض أن يأخذ قدراً كافياً من رعاية الأصحاء ، مجتمعاً ودولة ، سواء كان في الرعاية شكل من بؤس أو حزن أو مجرد أمل بالمعافاة.

في كثير من الأحيان تشغل نفسها بالصمت، وكأنها تتناول شراباً مسكراً تحس بخدره السريع .تصمت بعد أن تستمتع بما تقوله من أنعام فلسفتها أمام مريضها أو أمام الآخرين. تقف قبلته بجسدها الناهض الممشوق وبوجهها المسحور بالسحنة الشبيهة بسحنات البابليات . بابتسامتها الوادعة تخضعه لقبول علاجات صعبة أو مضجرة كما يبرر رفضه في كل مرةلا يدري لماذا تحب الوقوف قبلته ممسكة بسيكَارتها الملفوفة بأصابعها بدقة وعناية يحسدها عليها باقي المدخنين .

في مثل تلك اللحظات يتخيلها جوهرة ثمينة يتمنى أن لا تضيع إلى الأبد.

أحياناً يستغل عدم وجودها فتنزل من عينيه دموع الفرح ويحس بحرقة حادة في جفنيه.يسأل نفسه إلى أين ستأخذه أحاسيسه. هل بوسعه أن يعيد حفر الجبل ثانية..؟

أنتابه تعب الحياة و هو يحفر في فراغ جبال السياسة وجبال الحب المتروك في منحوتات نقوش مبهمة بيد وحوش عملاقة أخذت منه آماله وآمال وطنه وحبه وأرضه.

كان جالساً على كرسيه المتحرك في حديقة المستشفى في يوم مشمس يقرأ في الصفحة 228 : أبحر هو وصديقته من الشمال تجاه غابات الصنوبر الواسعة ، حيث يقع مسرح شاسوس القديم. ومنه انطلقا ثانية إلى أديرة مرتفع أنوس النائية التي تجثم على صخور عالية فوق المياه. وخلال قيام صديقته بعمل رسوم تخطيطية راح هو يقابل الرهبان وتفحص رسوماً جدارية تعود إلى الحقبة البيزنطية ، وألقى نظرة على أيقونات ومخطوطات مزوقة . من بين الحكايات التي سمعها من الرهبان قصة طريفة تحدثوا فيها عن سبب فقدان القطط في مرتفعات آثوس لأذنابها عندما سألهم عن ست قطط شاهدها بلا أذناب .إذ اعتادت هذه القطط أن تجلس حول المقاعد المنخفضة التي يستخدمها الرهبان عند الأكل ، وفي أكثر الأحيان كانت تسكب بأذنابها صحون الطعام وكؤوس الشراب التي يضعها الرهبان أمامهم. وهكذا فكر الرهبان بأن أفضل طريقة لمعالجة المشكلة هي التخلص من أذناب القطط بدل التخلص من القطط نفسها.

حين رفع عينيه من الكتاب كانت ماريـّا قادمة نحوه وقد ظهر جمالها جلياً أمام عينيه المتعبتين ، فاستحالت كلماتها إلى أوامر بالذهاب إلى ردهة رقم 3 فقد حل موعد الفحص بالأشعة.

أمسكت بيده اليمنى تقوده مذهولاً من ممر إلى أخر ، كان يحس بحرارة يدها ، فعاد يسأل نفسه:

- هل أحفر جبلاً ..

قالت له الصبية المسؤولة عن تصوير عموده الفقري :

- اطرح جسدك شبه العاري داخل هذا الجهاز بلا كلام ولا حركة وكن جامدا تماما كالحديد.. أية مخالفة لهاتين القاعدتين تعني إننا نضطر لإعادة التصوير ثانية..

كأنه دخل إلى موقع محدد في سفينة فضائية .. حزمت الفتاة قدميه بعد أن أدخلت نصف جسمه الأعلى إلى جهاز لم يستطع تدقيق محتواه ولا يعرف ماهية فعاليته .. هل ادخل إلى سفينة جاليلو .. هل يريدون منه أن يستكشف كويكبا جديدا أم انهم يريدون استكشاف مذنب جديد مختبئ في بدنه.

35 دقيقة قضاها محبوسا داخل الجهاز بلا حركة . تطرقُ في رأسه مطارق كأنها من حديد صلب مولدة في أعماقه ركاما من أحاسيس لا يعرف نوعها سوى أنها رنين مغناطيسي كعاصفة متوهجة في رأسه .

- هذا كل شيء..

قالت الممرضة الفتية .

أطلق سراحه من هذا النفق وأدرك انه دار دورته حول العالم . راقب فيها مغمض العينين عوالم صغيرة متكتلة كلها بيد ماريا وهي تقضي وقتها في غرفة صغيرة باردة لاعادة كل قطعة من ملابسه إلى مكانها على جسده.

أعلنت الفتاة المصورة أن الصور الملتقطة لعموده الفقري كانت ناجحة ستحولها إلى طبيب الاختصاص ليقول رأيه فيها .

سأل نفسه:

- لماذا يفعلون ذلك مرة أخرى..؟

قالت ماريا:

- يريدون معرفة التغيرات في جسمك بعد عامين من العلاج كما يفعل رجال الفضاء مع السماء حين يظنون إنها دائمة التغير ..

مرة ثانية كشفت الصور أن المرض على حاله بنفس المستوى لم تنفع خطط الطبيب المعالج في إحراز أي تقدم .. في الحقيقة أن الوضع الحالي أسوأ مما كان قبل عامين .. ليس أمام ماريا سوى الاستمرار بنفس خطتها لتخفيف الآلام من هذا الجسد ليس بانتظار الشفاء لكن بانتظار الموت العاجل هذا هو قرار الطبيب ورأيه.

هزت ماريا رأسها تعبيرا عن تحفظها بشأن هذا الرأي رغم أنها وجدت فم الطبيب في تلك اللحظة كسمك قرش يفغر فاه ..

- المرض ينتقل من مفصل إلى آخر في جميع أنحاء جسم يوسف العراقي.. لا إيجاب ولا استجابة في الأدوية . لم تستطع الإجراءات أن تخلص ركبتيه من التصلب ولا الكاحلين ولا مفاصل أصابع اليدين ولا أي تحسن في العمود الفقري ..

كانت نتائج فحص الرنين المغناطيسي سلبية لا يمكن لماريا ولا ليوسف العراقي أن يجدا غير صرامة القرار الطبي : لن يشفى يوسف العراقي ..

كان القرار في رأس ماريا كسماعها انباء عن انهيار البنية الأساسية لحضارة القرن العشرين .. لم يكن القرار جديدا في استنتاجها فهي تعرف عن ذلك اكثر تفصيلا مما يعرفه موقعو القرار لكن المفاجئة التي واجهتها هي صعوبة تصديق حقيقة انخفاض معدلات الابتكار التكنولوجي في الطب.. لماذا يتطور الطيران البشري الفضائي ناقلا البعثات إلى المريخ بينما يعجز حال البلد الهولندي عن علاج المريض يوسف العراقي وهو لا يكلف تريليونات الدولارات كما في مشروعات السفر إلى المريخ ..؟

لماذا نجحت مشاريع ومبادرات إنهاء الوجود السوفيتي والاشتراكي بوقف الأوكسجين عن صدر الدول في أوربا الشرقية وشعوبها بينما لا يجدون وسائل إيقاف زحف الإيدز الوبائي ومرض السرطان ولا يجدون مأوى لملايين البشر السود في أفريقيا .. لماذا لا تتوقف وفيات الأطفال .. لماذا يواجه البشر مشكلات سوء التغذية..؟

كانت ماريا مستلقية على فراشها في غرفتها الصغيرة المجاورة لغرفة نوم يوسف العراقي الراقد كالميت . سألت نفسها أسئلة كثيرة دون أن تحصل على جواب مجد . يزداد اضطرابها مع كل لحظة تتحسس بها جسدها العاري ونهديها التواقين للمعانقة.. أهي علامة ذكاء أنها تركت زوجها عشيق جسدها من اجل الدخول بمجريات الطبابة والتمريض استجابة لنداء برج العذراء كي توقف زحف المرض في جسد يوسف العراقي المشلول أم أنها وقعت في مجرة الغباء حين قررت أن تضع طاقاتها الجسدية والفكرية والمهنية لأسباب غير وجيهة مع درب مريض لا يرجى شفاؤه تماما مثلما يبذر علماء الفضاء تريليونات الدولارات سائرين سبعين مليون سنة ضوئية للبحث عن حضارة أو عن حياة في درب التبانة ..!

ظلت مضطربة في فراشها متعبة منفعلة شاردة الفكر بين العناية بمريضها ومتابعة أخبار ابنها وبناتها الثلاثة . سادها اعتقاد أن نموذج تفكيرها القادم لن يوصلها إلى مرفأ مهما خاضت من حروب ضد معاناة المريض فالبرنامج المعد له غير قادر على الوقوف بمفرده ضد( مجيء الموت غدا) لذلك لا بد من مواصلتها الجهود لكي( يعيش غدا ) ظلت مستلقية عارية على السرير تحاول التركيز والتوصل إلى رأي جديد قد يعيد إليها حالتها الطبيعية لكنها سرعان ما غطت بنوم عميق بعد أن تاه مسعاها في ظلام .

استيقظ يوسف من نومه فجأة .

وجد نفسه على فراشه ممسكا بجهاز تلفون متصببا عرقا من جبينه لاهثا في تنفس سريع مضطرب وهو يستقبل كلمات شقيقه إبراهيم محمولة على هواء جاف من مدينة الزبير :

- ارتفعت حرارة الأرض والحرب في بغداد يا يوسف .. احترقت الميكروبات والحيوانات الوحشية وأذناب القطط صارت مقطعة .. اختبأت القطط نفسها في حفر غير معلومة وديس التمثال الصنم في الشارع ..

- ماذا ..؟

- غدت بغداد تحت أشعة الشمس من جديد يا يوسف ..

- ماذا ..؟

- ... أبو تحسين ..

- ماذا ..؟

- نعال أبو تحسين يقرقع بوجه الطاغية ..

- ماذا ..؟

ظن أنه في حلم . محال أن يصفو له ذهن بعده . ظل يمعن النظر في لوحة فان كوخ لا يبارحه حلم يأتيه في جهاز التلفون متناهياً إلى سمعه كأنه قرع الدف في زفة عرس . هل حدث خسوف في سماء بغداد حقا ..؟

على مقربة من شباك غرفته تناهى إلى أسماعه صياح الأطفال بلغة لا يفقه منها شيئا . غير أن أسم الرئيس صدام كان يسري في أذنه من صياح أطفال . عجز عن تفسير ما يسمع اليوم ما كان يظن أنه لن يسمعه بعد ألف عام . هاج أساه ولعن مرضه وهو يصرخ بصوت عال ٍ :

- ماريّا .. ماريّا .. ماريّا ..

تخيّلٌ مأمول دفعه للظن أن صوته مسموع في كل البيت وحتى في الشارع بل وصل صوته إلى نيويورك وموسكو وبغداد .. لقد عادت الشعلة كنعمة عظيمة جاءت إلى شعب مقهور وقد شعر انه يرتفع إلى أعلى . سيلتقط ثيابه ويرتديها بنفسه. سيسرع السحاب ينقله على الأثير مع حبيبته ماريّا إلى بغداد والزبير وشقلاوة .

أنغام مشوشة تصك أذنيه وتشوش عقله أيضا.

- ماريـّا .. ماريــــــّا .. ماريــــــــــــــــّا ..

ثم حثّه ضرام أساه حين وعى أن صوتا لا يخرج من فمه .

استمر في البكاء حتى فاقت ماريّا من غفوتها بالميعاد اليومي . وجدت وجهه قد فاض بسعادة غامرة يشرأب مسرورا يمنة ويسرة بنظر هادئ عميق يخلو من انكفاء وغيظ اعتاد عليهما في سنوات مضت ..

كان يعتقد طيلة السنوات الماضية أن الزمن قصير وصناعة حرية وطنه صعبة للغاية .. لكن مكالمة شقيقه إبراهيم علمته أسمى حكمة في بلاد النهرين : أن الزمن طويل وصناعة الحرية صارت أمراً ممكنا .

رفعت ماريّا كأس شرابها بحركة غريبة كأنها تعبر عن سرورها بطريقة ساحرة :

- نخب صحتك يا يوسف .. عسى أن تكون السنوات المرة قد ضاعفت قوة الوطن والمواطن في بلاد مسحورة بنهرين ..

- ما اااااااااااااااااااريّا ..

حنجرته صار فيها نغم .









ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرهائن والاختطاف
- مسامير صغيرة 683
- أتحاد الادباء العراقيين
- مسامير صغيرة
- مسامير صغيرة 680
- المريض الشيوعي / الفصل الثالث من رواية جديدة
- رواية جديدة
- ماريا ويوسف العراقي ...رواية
- مسامير صغيرة 675
- ماريّا و يوسف العراقي
- وعي المكان (المكانلوجيا ) عن ثقافة الداخل وثقافة الخارج
- مسامير صغيرة 674
- مسامير صغيرة 673
- مسامير صغيرة 672
- مسامير
- ضرورة البحث عن بحيرات تسقي روابي مؤتمر تموز ..
- مسامير صغيرة 670
- مسامير صغيرة 669
- حكومة أياد علاوي ربطت المثقف العراقي على كرسي القهر أيضاً .. ...
- مسامير صغيرة 668


المزيد.....




- فيديو يُظهر ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت ...
- شاهد كيف علق وزير خارجية أمريكا على الهجوم الإسرائيلي داخل إ ...
- شرطة باريس: رجل يحمل قنبلة يدوية أو سترة ناسفة يدخل القنصلية ...
- وزراء خارجية G7 يزعمون بعدم تورط أوكرانيا في هجوم كروكوس الإ ...
- بركان إندونيسيا يتسبب بحمم ملتهبة وصواعق برد وإجلاء السكان
- تاركًا خلفه القصور الملكية .. الأمير هاري أصبح الآن رسميًا م ...
- دراسة حديثة: لون العينين يكشف خفايا من شخصية الإنسان!
- مجموعة السبع تعارض-عملية عسكرية واسعة النطاق- في رفح
- روسيا.. ابتكار طلاء مقاوم للكائنات البحرية على جسم السفينة
- الولايات المتحدة.. استنساخ حيوانين مهددين بالانقراض باستخدام ...


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - جاسم المطير - الفصل الرابع من رواية المريض الشيوعي