أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية/ 14















المزيد.....


معلم في القرية/ 14


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3130 - 2010 / 9 / 20 - 19:42
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

كيف انتهت العاصفة، وصدفة السفر
انتهى كل شيء، غادرنا الناحية، بعد أن أنجزنا كل ما يتعلق بالامتحانات، وتوزيع النتائج على التلاميذ. كان التلاميذ يتهامسون فيما بينهم، عن المعلمين الذين سيبقون عندهم في العام الدراسي القادم، والذين سينتقلون أو يُنقَلون.
ليس بالأمر الغريب أن يكون بعضهم عارفاً من هو الذي يُنقل ومن هو الذي سيبقى. علاقات آبائهم بمدير المدرسة، والملتصقين به من المعلمين هم الذين ينشرون هذه التوقعات همساً أحياناً، وعلى صورة تندر أحياناً.
بعض التلاميذ كان ينتهز الفرصة حين يمر به أحدنا، فيرسل كلمة إليه: "أستاد! إنشاء الله ما تتركنه بالسنة القادمة على خير وسلامة؟!" ويرد عليه المعلم: الله أعلم.
وقبيل مغادرة الناحية، في إحدى جلساتنا قال لي مدير المدرسة:
- أسمع مني نصيحة. أنا سمعت منك إنك تعمل على الانتقال إلى الكوفة. فهل تعرف عن الكوفة شيئاً؟ إني أحدثك عنها لأني كواحد من سكانها كما تعلم. الكوفة، هذه المدينة الصغيرة، كلّ سكانها، صغيرهم وكبيرهم، فقيرهم وثريهم، المتعلم والجاهل، حتى السقاء والكناس، جميعهم لهم آذان تتسقط أنباء المدينة، وتجد لذة كبرى، في نفش الحكاية الصغيرة العادية، حتى تصبح طويلة وعريضة، ذات فصول، وتحتها أسرار غامضة، وتنشر نشراً واسعاً. فكن حذراً، لا تختلط بهم، ولا تقترب منهم، بهذا ربما تسلم!
قلت: "إني دائماً أعتمد على نفسي في رسم سلوكي مع الناس. ولا أعتقد أن سكان الكوفة يختلفون عن غيرهم من الناس في شيء. كل مدينة صغيرة إذا كان سكانها خليطاً من مدن شتى، فإن مصالحهم المتضاربة تنتج ألواناً مختلفة من الأخلاق. الحسد، النفاق والشغب، نسج الإشاعات. والمعلوم إن الكوفة مركز تجاري، فالسفن تجلب التجارة من البصرة إلى النجف والكوفة ميناؤها. وكونها أيضاً تجاور الأراضي الزراعية، وبساتين النخيل، فهي مقصد التجار الذين يفدون إليها من الحلة وبغداد، على أن مقاليد الأمور التجارية فيها بيد تجار النجف. ولسنا غرباء عن طباعهم أو طباع الآخرين. إنهم بشر على أية حال".
ما من شك إن الكادحين الذين استوطنوا الكوفة –من أي بلد كانوا في الأصل- انصهروا في بوتقة خاصة. هي هواء الكوفة، تربتها، وماؤها، وتكونت طباعهم وتربيتهم طبقاً لأحكام الضرورات، وأسس معايشهم المادية. ومن الكادحين نشأوا فيها منذ الولادة، أو منذ سكن لهم فيها أكثر من جد. قفز نفر بطريقة ما إلى رتبة الطبقة الوسطى. فتحركت في نفوسهم نزعة الحسد والحقد، ضد الذين جاؤا بدافع قابليتهم التجارية ورؤوس الأموال التي لديهم، فاشتروا البيوت، وعمروا الأسواق. وعن هذا الطريق صاروا وجوهاً بارزة في البلد.
لن أفاتح من أستند إلى إمكاناته في مسألة نقلي إلا في الشهر الأخير من العطلة الصيفية. وأنا موقن إن ذلك ممكن وليس بعسير.
وحين جمعت كل أثاث غرفتي في الفندق، بحضور مديره، أدركتني ضحكة مفاجئة. أنتبه مدير الفندق مندهشاً من ضحكتي، وفي عينيه سؤال، عن الباعث لهذه الضحكة!
قلت: "أنظر يا عبد، إن رقم الغرفة 13 مازال على حاله. كنت متشائماً منه، أردتَ اقتلاعه خوفاً عليّ. وقد مرّ العام وخلاله ثُبّتُ بوظيفتي معلماً –تحت التجربة- وبُدئ باستقطاع التوقيفات التقاعدية، وسأنقل حيث أريد، أنا واثق من ذلك. وتذكر إن صاحبنا المعلم "أحمد" [هذا ما تطرقت إليه تحت عنوان "في الناحية"] قد فصل من وظيفته، ولم تكن الغرفة التي يسكنها هي السبب. أنت تعرف السبب الحقيقي!
أبتسم صاحبي وقال: أي صحيح هذه خرافات.
حين وصلت النجف أرسلت كل متاعي مع الحمال، وبقيت في المقاهي، ثم إلى بيت صديقي "مرتضى" أتحسس الأخبار! كيف انتهت العاصفة التي أثارتها هفوتي، وأوقعتني في مأزق محرج. ثم علمت إن العاصفة هدأت بعد أسبوع، بعد أن تأزمت تأزماً مخيفاً. عمُها الخبيث الماكر لبس جلد النمر، وظهر بمظهر رئيس الأسرة، يطالب أباها بالفتك بها، والثأر مني، ويحرض أخاها الذي هو على شاكلته، في بلادة الحس، وخبث الطوية، وحب أكل البارد [مثل شعبي يقال لمن لا يأكل من كدّ يده وعمله] يحرضه على الانتقام مني. لكنهما جبانان أيضاً.
وتم لي لقاء عن بعد، فهمت به خلاصة الأحداث وسكون العاصفة أخيراً. وحرت في أمرين. أين أولي وجهي خلال العطلة. بُعدي مسألة ضرورية، تمهد لي نجاح الخطة في المستقبل القريب حين أتقدم لخطوبتها.
وحين هممت في ساعة متأخرة من الليل أن أتوجه إلى فراشي، أمرني أبي أن أتريث. لقد أخذت دقات قلبي تتسارع بعنف. ربما تغيرت ملامح وجهي. أدركني قلق شديد. ترى، هل وصل إلى أبي علمُ ما حدث؟
وردّ إلي روعي، حين بدأ الحديث، وقال:
- أخوك حسين، ومحمد علي، ذهب كل منهما مرتين نيابة عني إلى عربستان والآن جاء دورك. تهيأ منذ الغد لإنجاز معاملة جواز السفر.
في عربستان

لست بصدد الحديث عن هذه المنطقة العربية المغتصبة من ناحية تاريخية. فإن هذا الجانب أشبعه المختصون بحثاً ودراسة. إني أتحدث عن مشاهداتي وما عرفته من أوضاعهم المزرية، التي شهدت بعضها بأم عيني، فعلى الرغم من أن الأيام التي قضيتها هناك قليلة، والأمكنة التي وصلت إليها أيضاً قليلة، فإن بعض ما أطلعت عليه يعطي صوراً حيه، و فضيعة عن مدى الشقاء والبؤس اللاحق بأولئك القاطنين من القبائل العربية هناك.
عبرت شط العرب من البصرة إلى "التنومة" وفي سيارة توجهت إلى المحمرة، وتسمى عندهم "خرمشهر". وعلى الحدود بين التنومة والمحمرة أوقفت السيارة للتفتيش من قبل أمن الحدود والكمرك.
تقدم إلي رجل أسود من موظفيهم. عرفته أسمي وأبلغته سلام أبي. فهش إلي. وسألني عنه، متأسفاً لما حدث له. وسلمته هديته. قميص من نسيج كان عندنا يدعى "ريزه"، مع قنينة عطر، فتقبلها شاكراً. وواصلت المسير [ريزه: هو نسيج خفيف جداً يستعمل أيام الصيف، ومثله نوع آخر يسمونه "ميزة" وهو أقل قدراً من الأول]. هناك أقمت عند بعض أصحاب أبي، وجيه من وجهاء المدينة، ديوانه جناح من بيته كبير، لأنه مقصد الوافدين من روحانيي النجف، وغيرها من مدن العراق. وسرعان ما تقدم إلي عدد من الناس الذين أحبوا أبي. كانوا يجدون لذة في التحدث عنه، عن ورعه وتدينه، عن مجلسيّاته، ونكاته، وجرأته في الحق وإبائه. ثم يتألمون لما حدث له، بسبب نفاق المعممين، الذين دسوا عليه أخباراً كاذبة، أوغروا فيها صدر الحكومة الإيرانية، إن لبعضها صحة، لكنهم بالغوا واختلقوا مالا صحة له دون أن يتذكروا إنهم عراقيون، وإنهم يستفيدون من هؤلاء المنكوبين بحرياتهم.
أشار أحدهم وهو يتحدث إلى المكان الذي كان يتخذه مجلساً له، ثم إلى الغرفة التي خصصت له خلال إقامته في هذا البيت، وقال:
- كان نائماً، بعد منتصف الليل طرقت الباب. كانت سيارة الأمن، وحين فتح زاير عبود الباب بنفسه، طالبوه أن يخرج بنفسه الشيخ مع ما لديه من متاع وحاجات. وهكذا كان حيث أوصلته السيارة إلى حدود التنومة، وأشر في جواز سفره إلى المنع البات من دخول "عربستان" ويسمونها "أهواز". نحن نتكهن في تشخيص هذا الجاني، وعلى الأكثر لم نخطأ في هذا التشخيص.
فقد حدث مرة إن كان أبي في عربستان على العادة من كل عام. وفي أمسية يوم طرق باب بيتنا، لم أكن أنا حاضراً في البيت. خرجت أختي الصغرى، الشارع مناراً بالفوانيس النفطية إذ ذاك، وبصيص نورها لا يساعد المرء على التشخيص بوضوح. قال الطارق: "هل ابن الشيخ هنا؟". وحين علم إني غير موجود، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله، الشيخ إلى رحمة الله؟!". وانكفأ مسرعاً!؟
وحين عدت إلى البيت كعادتي، وجدت البيت غاصاً بنساء الجيران، وأمي وأختاي، وأخوتي يصرخون. أسكتهم لأستجلي الأمر، فأنبئوني به. فقصدت صديقيه الشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ عبد المحمد زايردهام. قابلاني وأنا أغص بعبرتي باستهجان. وعنفاني كثيراً "أبوك يا علي ليس إنساناً مغموراً ولا مجهولاً لو كان لهذا صحة لوردت إلينا البرقيات تترى. رجل ذو شأن، كل تلك الجهات تعرف منزلته وقدره"
في صباح اليوم الثاني. صحبت أختي إلى الصحن العلوي، وقلت لها: تابعيني عن بعد قليل. سأستعرض المعممين الذين يقصدون تلك الجهة، لعل فيهم من عاد من سفره فأسأله. وسرعان ما أبصرت "الشيخ عبد الغني الجواهري" وحين سلمت عليه وسألته. أنتفض كمن صُدم من ذعر مفاجئ. وصاح بوجهي " آني وين أعرف أبوك؟ أنت منو؟" قلت: "أنا ابن الشيخ محمد الشبيبي". أجاب بغضب: "آنه ما أعرف أبوك!". وعدت فقالت أختي: "هو الذي رأيته بالضبط". إلا يكفي هذا؟ حدث هذا في تلك الأعوام التي لم يكن فيها أبي ممنوعاً من دخول عربستان.
تجولت في شوارع "المحمرة" وأنا ألبس الصدارة وفي لباس عصري، فكان مظهري ملفتا للنظر. شارع النهر، المنصّف بين العراق وإيران، مهدم المباني لغرض توسيعه، وأسواقها عامرة بتجار عرب وإيرانيين. والتقيت بالكثير من معارف أبي، وهم يتألمون من الوضع السائد، ويشيرون أثناء الحديث، إلى أماني في صدورهم، إلى رغبة ملحة، أن تلتحم هذه المنطقة بأخواتها من العراق. ثم يوصوني أن أتحرز فلا أفوه بشيء يجلب لي الضرر [الصدارة: غطاء الرأس للموظفين في بداية تشكيل الحكم الملكي في العراق، وتسمى أحياناً بالفيصلية نسبة لاستعمالها من قبل الملك فيصل].
وبعد يومين توجهت إلى "الناصرية" ويدعونها "أهواز" بعد عبور النهر -مما يلي عبادان- ركبت إليها، في الطريق استرحنا في مكان يدعى"كوت عبد الله". الشارع العام يَقسِم خطيّه، أشجار عظيمة، وأمام البيوت حدائق من الأشجار وأنواع من الزهور. وكأن كوت عبد الله هذا قطاع ليس من عربستان. جلست في المقهى، أشرب الشاي وأستمتع بالأغاني العراقية. كان صاحب المقهى يقتني كثيراً منها، حضري، مسعود العماري، داخل حسن، سليمة مراد [ولأن هذا القطاع مركز شركة بريطانية، فإن أكثر الأيدي العاملة فيه هم من العرب سكان المنطقة ولهذا السبب يميلون إلى سماع الأغاني العراقية، وبالأخص المغنين الذين ذكرتهم. كان هذا عام 1937].
رحت أستفسر من إلى جانبي في المقهى، عن هذا القطاع. أجاب إنه مركز شركة النفط. وراح يقارن بين مدنهم الخربة، وبين هذه الجنان التي يؤسسها الأجانب بينهم، وبفضل خيراتهم.
وعاودنا مواصلة المسير، وهناك في الناصرية عبرنا على جسر ضخم، ولكن لم يكن في جماله بمستوى ضخامته، إن لم يكن فاقداً للجمال تماماً. شوارع المدينة واسعة وعريضة، وتقع المدينة على النهر المعروف " گارون" وهو منخفض عن مستوى المدينة، ماؤه صاف، حتى إن المرء لو غاص إلى قعره فإنه يرى بوضوح، وفي قعره الحصى الكبيرة وعلى شطآنه أيضاً.
أقمت عند التاجر العربي "حاج حسن شماسي" وهو شخصية بارزة في هذه المدينة، وبيته مقصد الوافدين من النجف. كان عنده الشيخ عبد الرسول الجواهري وابن أخيه حسن الشيخ محسن [عبد الرسول هو عم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري]. والشيخ عبد الرسول وأسرته من أفاضل الروحانيين ، ويمتاز بالهدوء وطمأنينة النفس مع شدة الحاجة. كذلك هو على جانب عظيم من الإحاطة والتعمق بدراسة الفقه وأصول الأحكام وله دراية وذوق في الأدب والشعر خاصة. وكان مهتماً كما لاحظته بتلقين الذين كانوا يترددون على ديوان الحاج حسن، بعض أحكام المسائل الشرعية، عن الصلاة، والصوم، والطهارة، وما إلى هذا. بينما ينصرف إلينا عند عدم وجود أحد من هؤلاء. فيتحول بالحديث إلى قضايا الأدب والشعر، والنحو واللغة، فيعيد علينا طراز أدب الفترة المظلمة، بعيداً عما أستجد في حياتنا من اتجاهات الأدب الحديث، في الأفكار العلمية، والسياسة الوطنية. وما يشغلنا للحاق بالأمم التي جدت وحققت الاستقلال والحرية.
علمت إن الحاج حسن في الأصل من أهل البحرين. وإنه بموجب سياسة الحكم الإيراني، يحمل الجنسية الإيرانية. بينما تحمل عائلته من النساء الجنسية العراقية، لكي لا تُلزَم بالسفور الذي حتمته الحكومة على عامة الإيرانيات –طبعاً بضمنها نساء عربستان- وبالمناسبة لاحظت النساء العربيات هناك جميعاً قد أعتضن عن العباءة بما تسميه النساء عندنا "شيله" التي هي الخمار فقد ارتدين منها قطعة كبيرة لهذا الغرض.
كنت أتمشى على ساحل النهر. كانت فتاة ممشوقة القوام، بوجه رائع السمرة وعينين –قال الله كونا فكانتا- وإذا بشرطي يعترضها مهدداً متوعداً. كيف لم تسفر. ولكن الفتاة سرعان ما نزعت الخمار ولفت به جسد الشرطي وراحت تهزه هزاً عنيفاً ذات اليمين وذات الشمال. فتدحرج وانتهى إلى ماء النهر. وقف بعض المارة يتفرجون، ويضحكون، وحين خرج أعلن: "هسّه أخلي رَجلِك بالحبس، آنه أعرفك أنت زوجة .... عند هذا أختفي المتفرجون، كي لا يتشبث بهم للشهادة [كان هذا الشرطي يتكلم اللهجة الدارجة هناك. وقد علمت إنه عربي ولكنه جلف ولذا اُستخدِمَ. وقد فاتني أن أسجل أسم زوج الفتاة، فقد كان أسماً عربياً عشائرياً تماماً].
بعد الاستراحة ثلاثة أيام، ساعدني مضيفي الحاج على مواصلة السفر إلى خلف آباد، وهي قرية صغيرة، سكانها عرب، وبيوتهم على هضابها ومرتفعاتها، والواقع إنها عبارة عن هضاب، ومرتفعات من حجارة صلبة. والمسافر من الناصرية إليها، لا يمكنه ذلك إلا بواسطة سيارات الحمل. وهكذا وصلت، حيث نزلت في أول بيت، كنت أحمل أسم صاحبه "حُميَد" الذي له علاقة بقبيلتنا [نزحت هذه القبيلة، من جنوب العراق من "الكبائش" لقصة لهم مع رئيسهم إذ ذاك ويدعى عبد العزيز ابن دليهم وانتهى بها المطاف في هذه السهول. وهم يعرفون بآل حُمَيد المواجد لانتمائهم بالنسب إلى حُمَيد بن ماجد بن أسد بن ماجد بن أسد].
لم أقم أكثر من استراحة قصيرة، تناولت فيها الغداء لحم "الميش" الذي يصطادونه من الغابات المجاورة. ويبدو إنه أسم للأيل، فقد لاحظت قرونه ذات الفروع، كأنها أغصان الشجر العارية من الأوراق. عندها هيأ لي صاحب المنزل فرساً ورافقني رجل من قرية تجاور منازل قبيلتنا، إلى قرية تسمى "الشكريات". انحدرت من هضبة "خلف آباد" إلى سهل واسع، مترامي الأطراف، فوصلت قرية "الشكريات" قبيل الغروب.
في تلك الجهات تنتشر قرى كثيرة، تسكنها مجاميع تتفرع عن قبيلة "حميد" وبعضها من قبائل عربية أخرى. بيوتهم من الطين وحجارة الهضاب. مورد عيشتهم تجارة المواشي من الأغنام والمعزى والبقر، والإبل وهي أكثر ما يقتنون. ولانخفاض مستوى نهر گارون، الذي يبعد عن منازلهم بخمسة كيلومترات، عن مستوى الأرض فإنهم لم يستفيدوا من مائه، ولهذا السبب اقتصرت زراعتهم على الحنطة والشعير، إذا هطلت الأمطار بغزارة. وربما أصيبوا بالمجاعة إذا لم تسعفهم السماء بالمطر. أو أعوزهم المطر في نهاية الموسم، فسبب العطش والتفحم لزروعهم.
هناك استقبلني من رجالهم المحترمين، وشبابهم. أزياؤهم شبيهة بأزياء البدو، ولهجة عربية بين الدارجة والفصحى، اندمجت فيها كلمات فارسية. هم يسمون الحمار "يعفور" ولأنثى الغنم "شاة" وللجمال "العيس" إلى كثير من الكلمات الفصحى في الحاجات والأثاث. ولكنهم يقولون أيضاً في أمثالهم "مولانا هذا ما يصير بالده يك، أو قولهم إن سألتهم عن وجود شيء تريده "هَسِت" أو يسمون السكر "بلوج" والثلج "يخ" [دَه معناها عشرة، و"يك" معناها واحد، وترجمتها واحد بالعشرة، وتقابل كلمة "مستحيل" وأمثال هذه الكلمات تكثر عندهم خلال كلامهم قد ينادون شخصا أسمه "سبتي" فيقولون "شنبه" هي نفس المعنى بالفارسية].
طلبت الماء، فلما شربت منه جرعة، اشمأزت نفسي بفزع. كان الماء مجاً، ما فيه طعم الماء، حل بمعدتي بثقل الحديد. وانتبهوا لما ظهر على وجهي. فهمس صاحب الديوان "حاج رويشد" وهو من وجهاء القرية إلى واحد من أولاده، وهو يبتسم نحوي. وحين أنقض المجلس بعد الغروب، وبعد العشاء أنعقد ثانية، يتناولون القهوة ويسمرون على عادتهم، لكنهم هذه المرة ينتظرون "الشيخ الصغير" أن يحدثهم، يعظهم، يرشدهم. يستعرض أمور الدين، الصلاة، الصوم، الحلال والحرام.
وأستمر المجلس والأحاديث المتشعبة إلى منتصف الليل، أنفضوا بعد هذا ثانية. فقال الحاج روشيد:
- أنا وصيت خادمك –يقصد أبنه- أن يطلع ويه الفجر لليبل -الجبل- ويجلب لك خاصة ماي عذب، ولو صاد "عنز اليبل" لو ميش خيراً على خير [هم يقلبون الجيم إلى ياء كعادة أهل الجنوب عندنا].
قلت: تسمح ، أروح ويّاه؟
- لا مولانا، ماتگدر، المسافة منا لليبل گدر ساعة وصعود اليبل صعب، حيث لنه عالي!
ثم أدنى فمه مني، وقال:
- يصعد خفيه، وَحَدّه. ممنوع علينه حتى بندقية الصيد. وكلمن يروح لليبل ما يخلي احد يعلم بيه! لو تدري يا مولانا من يسطي علينه حرامي، ما نكدر حتى نخوفه باسم البندقيه، لنّه صباح اليوم يجيب شرطة، ويحضر وياهم، بلا خوف يخبرهم "أجيت أسطي، وعرفت عدهم بندقية!" ويا من يخلصنه من الحكومة!
يتحلقون عصراً والوقت صيف على بُسِطٍ تفرش على مسافة مربعة، وغالباً ما تكون إلى جانب الحجرة التي هي ديوانهم في الشتاء، ويستند على جدرانها صاحب الديوان وأكرم ضيوفه، ووجوه القوم. ولا يلبسون "العقال" بل يطوون جانباً من "اليشماغ" على رؤوسهم. ولا يسمح لهم أن يذهبوا إلى المدينة إلا باللباس الرسمي "السترة والبنطلون" وعلى رأسهم قبعة إفرنجية أو القبعة الإيرانية التي يسمونها "بهلوية" نسبة إلى نسب الشاه.
تتفشى بينهم الأمية بدرجة عالية، وأكثرهم فلاحون فقراء لأن أراضيهم تعتمد على الأمطار والسيول، فإذا ضنت السماء بالمطر عمّ القحط، فإن مصيبتهم عظيمة وخسائرهم فادحة. لبعضهم بساتين من نخيل وأعناب ورقي، على جهة مرتفعة تدعى "رامز"، بينما الأكثرية الغالبة تؤجر نفسها لدى هؤلاء، لتكسب قوتها، فتنقل التمور وغيرها.
ويمر خط نفط في أراضيهم، وقد أوكل أمر الحراسة إلى أحد أولاد رئيسهم المتوفي "زاير رمضان" والذي حل محله ابنه الأكبر "محمد". القائم بالحراسة لا يجد مانعاً حين يحتاج أهل عشيرته إلى النفط فإنه يغض النظر حين يعيبون بعض الأنابيب، فينهمر النفط على الرمال ويسارعون إلى التزود منه بمقدار ما يستطيعون. بعد هذا يسارع إلى أخبار الجهات المختصة.
رئيسهم "زاير رمضان" حصل بينه وبين أبي خلاف فتهور بما لا يناسب أبي فتحول إلى "الحاج رويشد" وتأتي الصدفة بالأمر الغريب. حين أراد الرئيس أن ينفض الغبار عن مخدة يتكئ عليها شكته شوكة تسممم جسمه على أثرها، ولم يطل بقاؤه فمات بعد ثلاثة أيام. كان الناس هناك يتحدثون "إنها مغبة الاعتداء على كرامة الشيخ محمد؟!". ولهذا الاعتقاد تقدم لي أحدهم وقدم طفله الصغير وقال: "مولانه خويدمك ما نام أمس من وجع ضرسه!؟".
فتحت فمه وفحصت الضرس المنخور، بواسطة مصباح "باتري" كان معي، ثم وضعت فيه "أسبرين" فهدأ الصبي بعد قليل. هذه أيضاً اعتبرت مكرمة مقدسة. لو كانوا يتفهمون القول لحطمت هذه المعتقدات من رؤوسهم. الجهل مخيم عليهم، وبين المعممين، والسلطة تزيد عمايتهم.
الحكم الإيراني في عهد الشاه رضا، لم يفكر بهم كرعية مطلقاً، حتى لم يفكر بتفريسهم. لا يبصرون الموظف إلا حين يَقدِم لجباية ضريبته أو لتجنيد أبنائهم. ولكنه يقسو عليهم عند جباية الضرائب حتى ولو كانت أرضه لم تنتج في تلك السنة!.
حين غادرتهم عائداً إلى الناصرية،هناك قصدت مصوراً في الشارع ليصورني على الحال التي أنا عليها، بلباس العامة عندنا وبالعقال واليشماغ. كان كهل قد جلس على كرسي المصور، يملأ الدمل رأسه، وأحدى عينيه عليها غشاوة. كم كانت دهشتي عظيمة حين علمت إنه مسوق إلى الجندية. كنت أتحرق أسفاً. لقد تخلصوا من حكم الشيخ "خزعل" طاغية عربستان آنذاك، فإذا بالحكم البهلوي أشد بلاءً وأشد إهمالا [ الشيخ خزعل هو أمير المحمرة، ورئيس قبيلة "كعب" وقد امتدت سلطته على جميع أرجاء عربستان. وطمح أن ينال عرش العراق، فغازل الإنكليز وفشلت مساعيه. وقد انتهى أمره أن القي عليه القبض بحيلة دبرت على شكل دعوة ومفاوضة معه من قبل الحكومة الإيرانية، فلما ركب اليخت أعتبر أسيراً، ومات في السجن في طهران. وقيل إن موته تمّ بتدبير أيضاً].



يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معلم في القرية/ 13
- معلم في القرية/ 12
- معلم في القرية/ 11
- معلم في القرية/ 10
- معلم في القرية/ 9
- معلم في القرية/ 8
- معلم في القرية /7
- معلم في القرية /6
- معلم في القرية /5
- معلم في القرية /4
- معلم في القرية /3
- الحل ليس بإعادة الانتخابات في العراق!؟
- معلم في القرية /2
- معلم في القرية/1
- نداء لتشكيل برلمان ظل عراقي
- وعي المواطن!؟
- تصحيح بعض المعلومات في مقالة الأستاذ فائز الحيدر (اتحاد الطل ...
- استغلال المناصب الحكومية للدعاية!
- تكتل جديد (تجمع الشعب لمحاربة المفسدين والامتيازات)!
- أشتات /2


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية/ 14