أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - حدود فان جوخ بين الوعي والخرافة















المزيد.....

حدود فان جوخ بين الوعي والخرافة


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 3123 - 2010 / 9 / 13 - 08:49
المحور: الادب والفن
    


قدّمت سرقة لوحة فان خوخ الأخيرة من المتحف القاهري، من بين ما قدّمت، فرصة عظيمة لمستعرضي الحس الفني ومدّعي التذوق، كي يغرقونا بسيول تمجيدهم المجاني المتوارث للفنان الأوحد، الأعظم، الخارق، الباذخ، الأسطورة، المجنون، الأكثر عبقرية، الأطهر قلبا، الذى لم ولن تعرف الأرض له مثيلا، حسب ما يفهم المرء من كلامهم عن هذا الفنان. طريقة النظر هذه إلى هذا الفنان والتقدير الأعمى والمبالغ فيه لعمله ظاهرة، هي أصلا نتاج مزج حياته الشخصية بفنه وعدم القدرة على الفصل بين الاثنين. وللإنصاف، هي ظاهرة عالمية وليست حكرا علي ثقافتنا العربية وحدها، وإن كانت عندنا أشبه بالورم المستفحل. دمل يحتاج من يفقأه لننظر ما تحت قشرته من جراثيم تتغذى على نسيج البشرة الذي هو معادل لنسيج اللوحة ـ أي عمل الفنان. والحق أنني، شخصيا، وبسبب هذا الابتذال المتغلغل، غالبا أخجل من التلفظ باسم هذا الفنان، اللهم إلا حين اضطراري المرور به في السياق التاريخي كحلقة في سلسلة. الفن ليس عاطفة، ولكنه في المقام الأول فكر. وحين تتضخم العاطفة على حساب الفكر، ينسحب الفن إلى ردهاته السرية، وتصبح الثقافة مجرد لغو ولغط وتهويمات، حيث المأساة الشخصية للفنان أو وقائع حياته البهلوانية العجيبة هي الحصان الذي يجر عربته الفنية عبر الزمن. في تاريخ الفن الكثير من الأمثلة التي تثبت هذه الحقيقة، ليس فان جوخ أولهم ولا هو آخرهم، وإن كان من أشهرهم، وقد أصبح رمزا انسانيا، أو حتى تميمة لكثير من بسطاء الذائقة. هذه الشعبية التي تكاد تكون مطلقة يمكن الإمساك بخيوط شبكتها لو انتبهنا إلى حقيقة أنه في هذا الفنان يجد كلُ ُ ما يريد البحث عنه، فهو الأخلاقي، العميق الإيمان، المتشكك، العربيد المتردد على المومسات، المصلح الاجتماعي، البوهيمي، الشاعر، المختل عقليا، الفاشل، الفقير المعدم، العاشق، المحب للحياة... وهو المنتحر. إنه بطلُ ُ دوستويفسكي بامتياز. لكن من منا ليس بهذه الصفات أو على الأقل ببعضها، ولو بنسبة ما؟ الأمر خارج فعلا عن دائرة التقييم الفني لأعمال هذا الفنان، رغم أن فنه هو السطح التي تنعكس منه، أو تنعكس عليه أسطورته كشخص.

الأسطورة صنيع الإنسان، هذا معروف. قديما، أضفى الإنسان على أشياء الطبيعة الأكبر منه والتي هددت وجوده، كالريح والنار والماء والظلام... قداسةً، فألّهها ونسج حولها الحكايات والأساطير والأديان. ثم أصبحت الآلهة واحدا ثابتا تدور حوله عجلة الأشياء الفانية بمنازلها المختلفة منه كمركز: الأقرب والقريب والبعيد والأبعد. على قدر القرب كان النور والقداسة، وعلى قدر البعد كان الظلام والخسران. هذا المنطق الديني في الحكم، وفي تحجيم الكائنات والأشياء والمعاني، من التقديس إلى التحقير، لا يزال حتى اليوم هو نفس المنطق الذي تعمل به الدماغ البشرية في تقييماتها، حتى تلك التي نفضت عن نفسها غبار الدين. ربما تكون نجت من فكرة المقدس بمعناه الروحي، لكنها وقعت في فكرة التقديس بمعناه المادي. كان نيتشه أول من حاول تمزيق قماشة المقدس التي نسجتها تراكمات التاريخ قبله، ومن عباءة نيتشه ولد فكر ما بعد الحداثة الذي لا يفتأ يفتت الأشياء والمعاني إلى عناصرها الأولى ويضع لحمتها تحت مجهره العدمي، فلا فوق ولا تحت ولامركز ولا أطراف. سقطت القداسة عن الفكر والفن لكنها لم تسقط عن الواقع، وللواقع منافع مع الفن وتأثيرات عليه. فخضوع الفن لماكينة السوق المعقدة، التي يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، جعل البرجوازية تستخدم حتى خطاب الفنان المضاد لها وتغلفه في ورقها البراق وصناديقها الزجاجية، لتجعل من الهش والفاني والعابر أبديةً على جدران متاحفها وصالات مزاداتها حيث الأرقام سلطة، ولا بد للسلطة من هالة، ولا بد للهالة من أسطورة. فان جوخ أصبح رقما فرمزا فأسطورة. القسيس الخائب في الكنيسة أصبح قديسا في البورصة.

بول سيزان خدم الفن أكثر مما فعل فان جوخ. سيزان لم ينتحر، بل عاند شياطينه حين راهن بوجوده على شق طريق في الفن يوصله إلى الجنة "في الجنة يعرفون أنني سيزان"، رامقا العالم الذي أنكره من طرف عقلانية شاهقة، ومضى في صمت. سيزان لم يقطع أذنه، ليس لأن وهجه الوجودي كان أقل اشتعالا من وهج جوخ، لكن لأنه كتم لهيبه بنصل منجل رياضي اجتز به الحشائش الضارة عن غابات لوحاته وطرقاتها، في حين أسلم فان جوخ وهجه لعاطفة لا تفرق بين الوقوف أمام اللوحة والوقوف أمام امرأة، وما كنا لنطالبه بغير ما كانه، حيث الجمال في أن يكون المرء نفسَه، وحيث هناك شيء اسمه القدر. لكن العالم يقدس العاطفة لأنه غارق في العاطفة. يرفعها، لجموحها ولا مسئوليتها، فوق التأمل، فالعاطفة دغدغة والتأمل ملل! لم يقدم سيزان للعالم حكاية، ويصعب على العالم ألا يكون خلف الفن حكاية، وفان جوخ كان الحكاية. ليس القصد هنا المقارنة، قدر ما هو محاولة التقاط الخيط الذي يصطاد به العالم سمكاته ليحنطها فتتحول بمرور الوقت وآليات التضخيم ذهبا. سمكا ذهبيا كذلك الذي سبح في ماء "مئة عام من العزلة". جوجان بدوره خدم الفن أقل من زميليه، لكنه كان أيضا حكاية، ولما التقت الحكايتان صنعتا رواية: جوجان وجوخ، وبينهما سيف ومبارزة افتراضية، أو موسى حلاقة سوف يسح الدم من شفرتها، وتسقط أذن المسكين على الأرض. أصبحت الحادثة أهم من اللوحة التي صورت الحادثة: وجْه الفنان بعينيه الناريتين مضمدا. أصبح لون الدم المتواري في أعماق أذهان المتفرجين أكثر قيمة من خطوط اللوحة وألوانها. اللوحة تقدم لهم طبق الحدوته وكوب الخيال. تختفي اللوحة كفكر وتصير عاطفة. أسطورة!

قيم الفن، لحسن الحظ، ليست ثابتة. ليست قيم الفن وحدها هي المتغيرة بتغير الأماكن والأزمنة، بل القيم جميعها تقريبا. الذي يحدد قيمة شيء أو معنى ما، هو درجة نفع هذا الشيء أو هذا المعنى وصلاحيته بالنسبة للمكان أو الزمن الذي يُتداول فيه. والفن، نظرا لحيويته وحساسيته للبيئة التي يخرج منها وتأثره بها، يتغير، ليس فقط معناه، بل تتغير وسائطه وأدواته، وأحيانا جذريا، كما حدث مع الفن المعاصر قياسا بالفن الحديث وكل ما سبقه من حقبات. سبعون عاما مرت على آخر لوحة رسمها فان جوخ، ولو أغفلنا الثورات والتطورات الفنية التي حدثت منذ وفاته، نبقى أمام حقيقة واقعة لا مفر من مواجهتها ولا معنى لإغماض العين عنها، وهي أن القيم الفنية التي تنتمى إلى عصر هذا الفنان، وتلك التي أبدعتها قريحته، قد جنحت من حيز الفني إلى حيز التاريخي. هذا لو أردنا النظر بعين الحقيقة لا بعين العاطفة. الفنان الألماني الراحل يوزف بويز كان قد سئل يوما عن ما إذا كانت لا تزعجه حقيقة أن أعماله لن يبقى منها شيء عبر الزمن بعد رحيله (كان يستخدم خامات هي عرضة للتآكل والاندثار)، فأجاب بأن حتمية ذوبان أعماله وفنائها في الزمن هي بالتحديد أكثر ما يحبه ويرضيه في أعماله. الإنسان نفسه كائن مندثر، فلم الإصرار على فكرة تحنيط الأشياء وتأبيدها بينما خالقها فانٍ، حسب ما رأى بويز! لكن، كما ألمحنا أعلاه، تستعمل البرجوازية كل ما لديها من تقنيات الحفظ والتغليف بعيدا عن السوس والصدأ والتحلل والعثة، للمحافظة على منجز فنان يكمن جمال أعماله وفنيتها في اندثارها من بعده. هذا الاندثار في حد ذاته قيمة فنية وجزء من أعماله لا ينفصل. إنه الموضوع.

لا علاقة لهذا الكلام بحكاية اللوحة المسروقة، فهذا موضوع آخر، ولا يُفهمنّ من الكلام أنه انتقاد الحفاظ على منجزات التاريخ الفني، فهذا أيضا موضوع آخر، لكنه ورم الأسطورة الذي انتفخ من جديد نتيجة سرقة لوحة فان جوخ، وذلك التمسح الزائف باسمه التميمة، استعراضا لذائقة تفضح نفسها بنفسها حين الكلام عن القيمة وعن الفنية. وكأن الذائقة الهاجعة في عزلة مئة عام، لا ينخسها من شخيرها إلا اختفاء لوحة لم يُنظَر إليها أصلا في الغالب، حين كانت معلقة في ركنها المغبر. ماذا عن أعمال مئات الفنانين الأحياء الذين، لو قام فان جوخ من موته اليوم واطلع على فكرهم وأدواتهم وقيمهم الفنية، لأشاح البصر عن منجزه، باعتبار أنه كان مرحلة في التاريخ ليس أكثر؟ ولا يُفهمنّ أيضا، رغم هذا، أنه إشاحة نظر منا عن القيمة الفنية لأعمال هذا الفنان، فالجديد لا ينسخ القديم لمجرد كونه جديدا، ولكنه الوعي بأين يقف الجديد من القديم وماذا في القديم وماذا في الجديد. هذا الوعي وحده هو الصراط الذي تسير عليه الذائقة. في عبوره تتحرر الذائقة من الأورام الخبيثة الملتصقة بالقديم والجديد معا، وتنجو من زيفها. تصير ذائقة مبدعة، لأن الوعي مبدع، والقيمة لا تنعكس على الأشياء إلا من داخلنا، لا من أساطير الأرض، ولا من خرافات السماء.



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحيل اللباد صاحب -كشكول الرسام-
- عن الثقافة في مصر: شجرة البؤس وأزهار الخشخاش المسروقة
- الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات، إلى أين كان، وإ ...
- جان ميشيل باسكيا .. فنه أم موته المبكر صنع أسطورته؟
- سبنسر تونيك .. كما نبي يقود أمته عرايا يوم الحشر
- عن النقد والفن في مصر .. حوار
- هيلموت نيوتن .. الفن رغماً عن أنف ما يصوره الفنان
- مان راي .. أنامل الفنان على أوتار الجسد وظلاله
- من ثقب الكاميرا: حقيقة الجسد أم وهم خياله؟
- تجربة رانيا الحكيم بين الحركية والغنائية في معرض بالقاهرة
- نينار اسبر .. جسدها آلة تعزف عليها قناعاتها
- يوسف نبيل .. الجسد مثقوبا بوجوده
- حمدي عطية وخريطة الجسد
- دينا الغريب .. وردة الرغبة في حقل جسم ملتبس
- عاصم شرف .. الواقع معكوساً في مرايا الرقص
- روح مصر كما يفهمها ثلاثة فنانين عيناً وقلباً
- سمر دياب .. أجساد مفتتة في سوريالية الوجود
- محمود سعيد .. الأرستقراطي الذائب في جسم بنت البلد
- محمود مختار والجسد الناهض
- جسد جبران


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - حدود فان جوخ بين الوعي والخرافة