أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - العقل والإجتهاد















المزيد.....



العقل والإجتهاد


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3123 - 2010 / 9 / 13 - 07:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تواجه طريقة الإجتهاد التقليدية تهمة بارزة حول منهجها في معالجة القضايا الفقهية. فبحكم اعتمادها - في الأساس - على النصوص، سيما نصوص الحديث؛ وباعتبار ان هذه النصوص تعالج - في الغالب - قضايا جزئية تظهر بمظهر المطلق الشامل؛ فقد تشكَّل من ذلك قالب ذهني جزيئي منفصل عن كليات مقاصد الشرع، ومجرد عن اعتبارات الواقع وما ينطوي عليه من حقائق تساعد على الفهم العقلائي، ومتصادم أحياناً مع العقل والمنطق.
هكذا فبفعل المبالغة في التفكير في الجزئيات تولدت ظاهرة الغبش عن الكليات، وبفعل الانغماس الكلي في النصوص تولدت حالة الاغتراب عن الواقع وحقائقه، وعن العقل وما يفرضه من نتائج منطقية. مع ان الممارسة الفقهية لا تدعي لنفسها تحصيل القطع واليقين، فهي تقر - في الغالب - بظنية الحديث سنداً ودلالة، لكنها مع ذلك تتعامل معه تعامل الصحيح الثابت من غير نظر قاصد إلى مقصد أو واقع أو عقل. وهنا ينشأ الصدام بين الطريقة المتبعة وبين الحقائق المشار اليها قبل قليل، مع أخذ اعتبار التفاوت في المستويات بين فقيه وآخر، أو بين مذهب وآخر.
وفي هذا البحث سنتعرف على مجمل التناقضات والمفارقات التي لحقت بالطريقة التقليدية جرّاء موقفها السلبي من الاستكشافات العقلية في مجال الأحكام، ومنها تلك التي لها علاقة بالمقاصد.

المدارس الفقهية وتغييب العقل

ليس بين المذاهب الفقهية من اطلق العقل كمصدر من مصادر الكشف عن التشريع صراحة غير مذهب الإمامية الاثنى عشرية، وكذا ما ينسب إلى بعض المعتزلة والفقهاء. فبحسب إستقراء نجم الدين الطوفي ان أدلة الشرع بين العلماء تنحصر بتسعة عشر باباً القليل منها متفق عليه، واغلبها موضع اختلاف بين الأخذ والرد، وليس بين هذه الأدلة المطروحة عنوان خاص باسم العقل. فهي عبارة عن: الكتاب، السنة، إجماع الأُمة، إجماع أهل المدينة، القياس، قول الصحابي، المصلحة المرسلة، الإستصحاب، البراءة الأصلية، العوائد - العادات -، الإستقراء، سد الذرائع، الإستدلال، الإستحسان، الأخذ بالأخف، العصمة، إجماع أهل الكوفة، إجماع العترة، وإجماع الخلفاء الأربعة .
قد يقال ان عنوان العقل ورد ضمن أنواع الأدلة التي توصل للحق. فمن الناحية التاريخية نجد ان مؤسس المذهب الاعتزالي واصل بن عطاء هو أول من حدد المصادر العامة لطريقة الانتاج المعرفي لكل من علم الكلام والفقه معاً. إذ يقول الجاحظ في حقه: (وكل أصل نجده في ايدي العلماء في الكلام وفي الأحكام فانما هو منه). فالجاحظ يعتبر واصل بن عطاء (هو أول من قال: الحق يعرف من وجوه أربعة؛ كتاب ناطق، وخبر مجمع عليه، وحجة عقل، واجماع من الامة). وقد تصور الاستاذ علي سامي النشار ان الوجوه الأربعة التي ادلى بها واصل؛ تساوي حتماً اصول الفقه الأربعة: القرآن والسنة والقياس والاجماع .
ومن حيث التحقيق يلاحظ ان حجة العقل لا تساوي القياس الفقهي. فمن جهة ان تلك الحجة اعم من اعتبار الجانب العقلي أو الإجتهادي للقياس الفقهي. كما من جهة أخرى ان القياس يحمل دلالة الارتباط بالنص خلافاً لما هو الحال في حجة العقل الذي له دلالة الاستقلال، فأحدهما لا يعني الآخر. ومنه نفهم لماذا لم يرادف العلماء بينهما، حيث وضعوا العقل كمصدر أساس للعقيدة والكلام ولم يضعوا القياس، ووضعوا القياس كمصدر للفقه ولم يضعوا العقل. وبعضهم ميّز، وهو ينص على سبر اصول الأدلة، بين القياس والعقل، كما هو الحال مع الباقلاني الذي عدد اصول الأدلة وحصرها بخمسة، وكان منها أصل العقل، وكذا أصل القياس والإجتهاد، فضلاً عن الكتاب والسنة والاجماع .
مع هذا لا ينكر ان المعتزلة أقروا مبدأ تشريع العقل في القضايا الرئيسة لأجل تصحيح العقيدة ضمن علم الكلام، كوجوب النظر والشك وشكر المنعم ودفع الضرر عن النفس وما اليها . علاوة على ما نُسب إلى بعضهم من إقرار التعويل على العقل في الأحكام بدلاً عن الأخذ بأخبار الآحاد، لأنها لا تفيد علماً ولا توجب عملاً، كالذي نقله ابن السمعاني، معتبراً ان بعض الفقهاء قد تلقف هذا القول من القدرية والمعتزلة الذين أنكروا أخبار الآحاد، وعولوا على القرآن والحديث المتواتر ودليل العقل . وسبق للشافعي في كتابه (الأم) ورسالة (جماع العلم) أنْ حكى مقالة جماعة من المعتزلة ينكرون الأخذ بأخبار الآحاد باعتبارها لا تفيد علماً أو يقيناً، مما جعله يرد عليهم .

العقل عند الإتجاه السني

أما في الوسط السني بعيداً عن أجواء المعتزلة، فمن الواضح أن رجاله يحصرون التشريع في النصوص دون العقل. وعلى رأيهم ان هذا الأخير لا يمكنه إدراك أدلة الأحكام بذاته . فهذا هو الموقف العام لأهل السنة، حيث لا نجد من يعترف بدور العقل المستقل في التشريع الا من شذّ منهم، كالعز بن عبد السلام (المتوفى سنة 660هـ) الذي رأى بأن مصالح الدنيا كلها تُعرف بالعقل من خلال الضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرة، وذلك على خلاف مصالح الآخرة التي لا تدرك الا بالشرع، فعلى حد قوله: (من أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله، بتقدير ان الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك الا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته) . مع أنه صرح قبل ذلك بسطر أو سطرين ما يبدو أنه مناقض للتقرير الذي نقلناه، حيث قال: (أما مصالح الدارين واسبابها ومفاسدها فلا تعرف الا بالشرع) .
ويتسق الرأي السابق مع اعتبار الأحكام الشرعية الدنيوية لم تصدر عن الشرع بعنوان التأسيس كما هو الحال في التعبديات، وانما صدرت عنه بعنوان الإمضاء والتبعية .
كما نقل الشاطبي ما ذهب اليه جماعة اعتقدوا باكتفاء ما يرد في النفس من إطمئنان يخص جملة من الأحكام، ونقد ذلك من حيث ان التعويل عليه لا يستقيم مع الأخذ بما أمر به الله من العمل بالكتاب والسنة. وعلى رأيه ان احكامه تعالى لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته ، اتساقاً مع ما ذهب اليه الأشاعرة من نفي الدلالة العقلية للحسن والقبح. كذلك نقل عن جماعة أنهم عوّلوا على إدراك مصالح العباد طبقاً لمقاصد الشرع الكلية المستخلصة بالإستقراء، حيث جردوا المعاني وطرحوا خصوصيات الالفاظ، بل وردّوا كل خاص يخالف العام المستخلص بالإستقراء، وقد عرفوا بأصحاب الرأي . الا ان ذلك ليس له علاقة بالعقل، إذ الإستقراء المحكي عنه إنما هو الخاص بالشرع لا غير.
نعم جعل الغزالي عنوان العقل ضمن اصول الأدلة الفقهية، وهي عنده عبارة عن الكتاب والسنة والاجماع، مضافاً اليها دليل العقل والإستصحاب الدالين على براءة الذمة في الأفعال قبل ورود السمع . لكن كما هو واضح أنه يعد هذا الدليل مقيداً بالحال قبل ورود الشريعة، وهو ما يطلق عليه (البراءة الأصلية)، أما مع وجودها وورودها فليس للعقل شأن يمكن ان يستكشف به الحكم مستقلاً. لهذا فمن الناحية المبدئية ان الإتجاه السني لا يعترف بدور العقل في استكشاف موارد التشريع والأحكام، وهو أمر يتسق مع نظرية الحسن والقبح الشرعيين التي يميل اليها أغلب أهل السنة، مثلما هو حال التفكير الأشعري، سواء لدى المتقدمين منهم أو المتأخرين.
واذا كنا نعتقد بأن قسطاً كبيراً من المسؤولية يقع على عاتق الأشاعرة في ابطالهم لدور العقل في التشريع أو الكشف عن الأحكام، بسبب التنظير الذي آلوا اليه في قاعدة الحسن والقبح الشرعيين؛ فإن القسط الآخر من المسؤلية يتحمله - قبلهم - الشافعي، باعتباره المنظر الأول لأصول الفقه. فبحسب المعطيات المتوفرة لدينا اليوم هو ان تنظير الأدلة الشرعية وتقعيدها لم ينشغل بهما فقيه مسلم قبل هذا الإمام القرشي، أو على الأقل أنه لم يصلنا شيء واضح ومقطوع به قبله . والعديد من العلماء يعتقدون أنه أول من صنف في ذلك العلم، كالذي نصّ عليه ابن خلدون وابن تيمية والزركشي ومن قبلهم الإمام الجويني . وكان أحمد بن حنبل يقول: لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي . مع ذلك فإن هذا الإمام الذي مارس التنظير والتقعيد لم يعط أي دور مميز للعقل في التشريع والاستكشاف. فغياب العقل هو الظاهرة البارزة في مشروعه. ذلك أنه يلتزم بالبيان التام لنص الخطاب فلا يدع مجالاً لمشاركة غيره في التشريع؛ باستثناء القياس للضرورة والاضطرار، كما نصّ على ذلك مرات عديدة، مثل قوله: (ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة الا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها) . وقوله ايضاً: (ليس لأحد ابداً ان يقول في شيء: حلّ ولا حرُم الا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الاجماع أو القياس) . وكذا قوله: (العلم طبقات شتى.. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من اعلى) .
هكذا نرى غياب العقل من مشروع الشافعي، مثلما نشهد موته لدى الأشاعرة، وكل ذلك له انعكاساته الخاصة التي مازلنا نعاني منها حتى يومنا هذا.
ويلاحظ أنه حتى لو أوّلْنا مبادئ الإجتهاد التي تقول بها بعض المذاهب الإسلامية واعتبرناها مبادئ عقلية تتباين في الاستقلالية من حيث علاقتها بالنص، كالقياس أو المصالح المرسلة أو الإستحسان أو الإستصحاب أو البراءة الأصلية أو غيرها، فانها مع ذلك تظل مهملة غير فاعلة الا عند غياب النص، بل غالباً ما يكون العمل بها على نحو الاضطرار أو تبعاً لضغط الحاجات الزمنية. فعلى الأقل ان رؤساء المذاهب الإسلامية قد صوروا الأمر على هذا النحو من الاضطرار، مثلما يعترف بذلك أصحاب المذاهب الأربعة، حتى من عُرف منهم بشدة العمل بالإجتهاد - سيما القياس منه - كأبي حنيفة النعمان . فهم يرجحون العمل بالنص رغم كونه لا يرقى - في الغالب - إلى درجة أقوى من الظن، سواء من حيث الصدور أو الدلالة. على هذا يظل العمل بمبادئ الإجتهاد متأخراً رتبة عن العمل بالنص. وهو أمر ينطبق حتى على من يعترف صراحة بمبدأ العقل في استكشاف الحكم الشرعي، إذ لا يرى له مرجعية تتقدم على مرجعية النص، رغم ما يعتري النص من مشكل عدم افادته العلم واليقين في الغالب، خاصة الحديث منه، حيث يشهد مشاكل اضافية تتعلق بالسند والتقطيع وإحتمالات الزيادة والنقصان، فضلاً عن مشاكل أخرى تلوح المتن ذاته.. كالذي يلاحظ عند مذهب الإمامية الاثنى عشرية التي تعد العقل مصدراً أخيراً لمصادرها التشريعية الأربعة (الكتاب والسنة والاجماع والعقل)، بدءاً من بداية عصر التنظير الشيعي، كما ينص عليه الشريف المرتضى، ومن ثم جاء الآخرون يؤكدون مقالته في حجية العقل بعد النص والاجماع.
والامامية وإن اختلف علماؤها حول ما يريدونه من المعنى الخاص بالعقل كمصدر استكشاف وتشريع، الا ان ما استقر عليه المتأخرون هو أنه ينحصر مستقلاً في دائرة التحسين والتقبيح العقليين.
من هنا يتضح ان مكانة العقل - أو الرأي والإجتهاد تسامحاً - في علم الفقه تختلف عما هي عليه في علم الكلام، فكثيراً ما يُحتج به في القضايا العقائدية قبال ظواهر النصوص للكتاب والسنة، فينتهي الأمر بهذه النصوص إلى التأويل والتوجيه، أو الترك والإبطال. مما يعني ان اعتبار العقل في علم الكلام هو اعتبار تأسيسي، أو ان له جعلاً على نحو التأسيس لا التبعية، سواء كان التأسيس خارجياً لاثبات الخطاب الديني من حيث الاصل، أو داخلياً يراد منه توجيه معاني نصوص الخطاب بما يتفق ومداليله الخاصة. لهذا كان متهماً من قبل النزعات البيانية بانه يقوم بدور مناهض لنصوص الخطاب وبيانها، مثلما ذهب اليه ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ممن ابتعدوا عن الطريقة العقلية الكلامية .
أما في الفقه فالامر يختلف تماماً، ذلك ان هذا العلم لا يحتاج إلى العقل للتأسيس من الخارج، فتأسيس الخطاب الديني بالعقل هو في حد ذاته يصحح عمل البناء الفقهي. والاهم من هذا هو ان علم الفقه لم يجعل العقل موضعاً للتعارض مع النص كما فعله علم الكلام، إنما الإعتماد على بيانية النصوص هي الحالة الراكزة والمستقرة، رغم المفارقة في الامر! إذ كان العقل الكلامي يمارس حالة التوجيه والتأويل بتأسيس الخطاب من الداخل في النصوص القطعية الصدور (الايات القرآنية)، في حين أُهمل العقل في الفقه ولم يسمح له بممارسة حالة التأويل والتوجيه للنصوص؛ بما فيها نصوص الحديث رغم أنها ظنية الصدور والدلالة. ولو انا طبقنا عليها منطق الإحتمالات لكانت الأحكام المنتزعة منها في غاية الضعف لما ينتابها من مشاكل متنوعة على صعيد السند والمتن، كالذي التفت اليه أصحاب دليل الانسداد في الإتجاه الشيعي.
هذا هو حال الفقه ليس له زاد ولا معين يطمأن اليه وهو في صورته التقليدية تلك. الأمر الذي يحتاج إلى نوع من التعويض المسدد، وذلك بالتعويل على الاعتبارات الموثوقة لتشييد الأحكام واستكشافها، كاستخدام مبدأ العقل ومبدأ الواقع ونظام الخلقة، وكذا مقاصد الشرع وكلياته العامة.
إن إهمال العقل في الفقه جعل الممارسة الإجتهادية تصطدم أحياناً بالنتائج العقلية القطعية دون ان تشعر، أو أنها تجاهلت ذلك طبقاً لمسلكها الاستصحابي في إبعاد العقل عن الاستكشاف والنفي والإثبات. وهنا بيت القصيد !
فحتى الإتجاه الشيعي رغم اعترافه بمرجعية العقل للكشف عن التشريع ورغم ما صرح به بعضهم كالشيخ النائيني من أنه (لو عزل العقل عن الحكم لهدم أساس الشريعة) ؛ الا أنه من الناحية العملية ظل هذا الإتجاه يتعامل مع العقل تعاملاً سلبياً.

العقل عند الإتجاه الشيعي

لقد خضع الدليل العقلي القطعي المعد كاشفاً عن الحكم الشرعي والمعبر عنه بقضية التلازم بين العقل والشرع طبقاً لقاعدة (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع).. خضع هذا الدليل لتفسيرات عديدة بين الأصوليين الشيعة. فقد فسّره بعضهم بالبراءة الأصلية والإستصحاب، وقصره بعضهم على الثاني، فيما ذهب بعض آخر لتفسيره بلحن الخطاب وفحواه ودليله، مضافاً إلى وجوه الحسن والقبح . وأضاف آخرون كلاً من مقدمة الواجب واجبة، ومسألة الضد ، واصل الاباحة في المنافع والحرمة في المضار، وكذلك البراءة الأصلية والاستصحاب، وما لا دليل عليه، ولزوم دفع الضرر المحتمل، وقاعدة شغل الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً، والأخذ بالاقل عند الترديد بينه وبين الاكثر . وقدّر البعض بأن من ضمن الأحكام العقلية اعتبار الضرورات تبيح المحظورات، وان الضرورة تقدر بقدرها، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة، ولزوم اختيار أهون الشرين اللذين لا مناص من أحدهما، والعلم بوجود التكليف يستدعي العلم بطاعته وامتثاله، واصل المشروط عدم شرطه، والاذن بالشيء اذن بلوازمه . لكن هناك من قصد بالدليل العقلي بأنه حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم الثابث شرعاً أو عقلاً وبين حكم شرعي آخر، كحكمه بالملازمة في مسألة الإجزاء ومقدمة الواجب ونحوهما ، وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان اللازم منه حكم الشارع بالبراءة، وكحكمه بتقديم الأهم في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعلية حكم الأهم عند الله، وكحكمه بوجوب مطابقة حكم الله لما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة. أما المستقلات العقلية فقد حصرها في مسألة واحدة هي التحسين والتقبيح العقليين باعتبار ان الشرع لا يشارك حكم العقل العملي الا فيها . وتنص هذه القضية كما يقول ابو القاسم القمي: (ان كل ما يدرك العقل قبحه فلا بد ان يكون من جملة ما نهى الله عنه، وما يدرك حسنه فلا بد ان يكون مما أمر به، فاذا استقل العقل بادراك الحسن والقبح.. فيحكم بأن الشرع ايضاً حكم به كذلك، لأنه تعالى لا يأمر بالقبيح ولا ينهى عن الحسن) . وفي قضية المستقلات العقلية يفترض ان يكون للعقل العملي حكم إزاء ما يدركه بغض النظر عن الشرع، كالحكم بقبح قتل الأبرياء، كما يفترض ان تكون هناك ملازمة نظرية بين الحكمين العقلي والشرعي، وهي ما يدركها العقل النظري، والتي تقول ان كل ما حكم به العقل يحكم به الشرع، فاذا كان العقل يحكم بقبح قتل الأبرياء؛ فإن الشرع يحكم بذلك ايضاً، كما هو واضح من صيغة التحريم .
واعتبر البعض ان من وظائف العقل إدراك المصالح والمفاسد، وان الأحكام تابعة لها، مما يعني صحة استكشاف العقل لهذه الأحكام تبعاً لإدراك تلك المصالح والمفاسد، فكما يقول صاحب (فوائد الاصول) من (انه لا سبيل إلى انكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وان في الأفعال في حد ذاتها مصالح ومفاسد كامنة مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه وانها تكون عللاً للأحكام ومناطاتها، كما أنه لا سبيل إلى انكار إدراك العقل لتلك المناطات) . وكذا قول بعض المعاصرين: (ان المصالح والمفاسد علل للأحكام، فاذا ادرك العقل المصلحة أو المفسدة في فعل من الأفعال فلا بد من ان يكون للشارع حكم في ذلك الفعل لوجود علته، فيكون العقل كاشفاً عن الحكم الشرعي) .
والبعض جعل اطباق العقلاء على مصلحة الشيء أو فساده هو الضابط الوحيد المعول عليه في اقرار الملازمة بين العقل والشرع. فالشيخ المظفر يقول: (اذا ادرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في اخر، ولم يكن إدراكه مستنداً إلى إدراك المصلحة أو المفسدة العامتين اللتين يتساوى في إدراكها جميع العقلاء؛ فإنه لا سبيل للعقل ان يحكم بأن هذا المدرك يجب ان يحكم به الشارع على طبق حكم العقل، إذ يحتمل ان هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما ادركه العقل، أو ان هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما ادركه العقل وإن كان ما ادركه مقتضياً لحكم الشارع) .
لكن هذا التقرير هو في حد ذاته يبرر حالة الفصل بين الحكمين العقلي والشرعي. فحتى لو حصل الضابط الذي ذكره المظفر واجمع العقلاء على حكم من الأحكام العقلية؛ فإن ذلك لا يمنع - تبعاً لما افاده الشيخ - ان يحتمل وجود (ما هو مناط لحكم الشارع غير ما ادركه العقل، أو ان هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما ادركه العقل وإن كان ما ادركه مقتضياً لحكم الشارع). فهذه هي حالة الفصل بين الحكمين العقلي والشرعي، والتي نجدها شائعة لدى الفقهاء الأصوليين من الشيعة.
ويلاحظ من كل ما ذكرنا ان الدليل العقلي وضع - في الغالب - بصورة غير مستقلة عن البيان أو النص، فهو يعتمد عليه وموظف لخدمته. فالاتجاه الشيعي يقر بأن العقل في الفروع بخلاف الأصول يعجز عن الكشف عن الحكم الشرعي بشكل مستقل، باستثناء حالات خاصة وقليلة كتلك المتعلقة بالحسن والقبح. لكن حتى في هذه القضية الواضحة نجد بعض المتأخرين الشيعة قد انفرد ونفى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع؛ رغم قوله بنظرية الحسن والقبح العقليين، كما هو الحال مع صاحب كتاب (الفصول)، حيث يقول: (الحق عندي ان لا ملازمة عقلاً بين حسن الفعل وقبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه). وقد صور الشيخ محمد علي الكاظمي - في تحريره لافادات استاذه النائيني - هذا الرأي من انكار الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بقوله: (ان العقل وان كان مدركاً للمصالح والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة الا أنه من الممكن ان تكون لتلك الجهات موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل إلى تلك الموانع والمزاحمات، إذ ليس من شأن العقل الاحاطة بالواقعيات على ما هي عليها، بل غاية ما يدركه العقل هو ان الظلم مثلاً له جهة مفسدة فيقبح، والاحسان له جهة مصلحة فيحسن، ولكن من المحتمل ان لا تكون تلك المفسدة والمصلحة مناطاً للحكم الشرعي) . وقد أيّد الشيخ ضياء الدين العراقي هذا الرأي الذي ذهب اليه صاحب (الفصول) .
لكن ذلك لا يتسق مع ما يكاد يتفق عليه علماء المدرسة الأصولية من الشيعة في صحة العلم الوجداني القطعي من حيث أنه حجة ذاتية غير قابلة للجعل الشرعي . فهو والعلم التعبدي يعدان – عندهم - كامل حجية المجتهد . وقد زاد بعضهم على ذلك بأن اعتبر العلم العادي (الإطمئناني) مما لا تشمله الأدلة الناهية عن العمل بالظن لخروجه عن موضوع الأدلة في نظر العقلاء . بل رغم هذا الاعتراف نلاحظ ان هناك تضييقاً لحدود هذين العلمين. ففي العبادات يعول المجتهد على الأخبار لكثرتها رغم مشاكل الحديث المعترف بها. أما في المعاملات فالمجتهد يعول على القواعد الأصولية والكبريات الواردة فيها . وفي كلتا الحالتين لا نجد مساحة يعتد بها للعمل بالوجدان العقلي المستقل، ومنه ذلك المزود بخبرة الواقع.
نعود مرة أخرى لنقرر أن ما صوّره الشيخ الكاظمي من انكار الملازمة بين الحكمين العقلي والشرعي؛ هو ذاته قد هيمن على السلوك الشيعي من الناحية العملية، بل وعلى السلوك الإسلامي قاطبة. فالإتجاه الشيعي يعد العقل غير قادر على الإدراك القطعي للمصالح والمفاسد الحقيقية في الواقع. ويندرج تحت هذا التعامل جميع القضايا الفقهية تقريباً، سواء كانت بسيطة عادية، أو عظيمة خطيرة، ومنها ما يتعلق بنظام السلطة والحكم واعتبارات الحرية الفردية والاجتماعية والتعامل مع الحقوق العامة للانسان. فهذه القضايا وغيرها لا تبحث ضمن إطار المصالح والمفاسد العقلية المندرجة تحت عنوان الحسن والقبح، وإنما تبحث بحسب ما يؤدي اليه النظر المنبثق من التفكير البياني، رغم ان هذا النظر لا يفضي في الغالب إلى ما هو أقوى من الظن، وهو الظن المعبّر عنه بالمعتبر، تمييزاً له عن الظن العقلي المبعد. فبنظر الفقهاء تكون الأحكام تابعة للمصالح الخفية والشرع كاشف عنها، كما نصّ عليه العلامة الحلي في (النهاية) ، وان العقلاء قد يتوهمون ما هو أقرب إلى واقع الشرع على أنه ابعد، وما هو أبعد عن هذا الواقع على أنه اقرب، وبالتالي فلا مجال لكشف الحقائق الا عن طريق الشرع؛ لكونه محيطاً بكل الجهات وعالماً بكثير مما لم تصل اليه العقول. فمع ان المعول عليه عندهم كون المقياس في باب الحجج هو الأقربية إلى واقع الشرع، الا ان معرفة هذه الأقربية لا يمكنها ان تكون بالنظر العقلي المنفصل عن الشرع ولو على نحو السلب، وذلك من حيث العلم بعدم ردع الشارع عن الأخذ بما يعتقد أنه أقرب إلى ذلك الواقع .
لكن بحسب هذا المنظور تصبح الأحكام تعبدية لا تُعلم مصالحها بالنظر العقلي، وأنه لا معنى للاستدلال على ظرفية بعض الأحكام أو تخصيصها بوقائع محددة أو اعتبارها مما تقع تحت دائرة الأحكام المولوية القابلة للتغيير، اذا ما كانت ظواهر النصوص الدالة على مثل هذه الأحكام تتصف بالاطلاق والعموم دون وجود ما يخصصها ويقيدها بحسب القرينة اللفظية، حيث أنها يمكن ان تُبرر بنفس تلك الحجة، فيُفترض وجود مصالح خفية تجعل العقل عاجزاً عن الكشف عن ظرفية الأحكام أو تقييدها وتخصيصها. الأمر الذي يجعل من الأحكام أحكاماً تعبدية لا تقبل التوجيه والتفسير بغير ما يفيده الظاهر الاطلاقي للنص. مما يعني بالتالي وجود التعارض بين ما يدركه العقل المستقل من فهم واضح معلل، وبين ما ينطق به النص من حكم ظاهر مخالف.
والمسألة لا تتوقف عند حدود القضايا المعيارية من الأحكام الشرعية، وانما يمكن ان تنسحب وتطال الأحكام التقريرية التي لها علاقة بالكشف عن الواقع الموضوعي، ذلك أنه بنفس تلك الحجة من إحتمال وجود مصالح حقيقية خافية على العقل البشري، يمكن ان يدّعى وجود حقائق خفية يعجز العقل عن إدراكها وراء ما ينطق به النص الذي ظاهره يخالف ما يدركه العقل من القضايا الموضوعية والخارجية. فمثلاً ان بعض النصوص تنهانا عن التعامل مع بعض الاجناس البشرية بحجة أنهم من الجن. لكن عقلنا وادراكنا الواقعي يكذّب ذلك، إذ ليس فيهم ما يختلفون به عن غيرهم من البشر. وقد يحتج صاحب فكرة الحقائق الخفية بأنه حتى لو لم يظهر أي تمايز بين هؤلاء الاجناس وبين غيرهم فإن ذلك لا يمنع من كون العقل لم يدرك بعض التمايزات الخفية التي تجعل من مثل هؤلاء من الجن. لذا يصبح من الصعب أو المحال الرد على مثل هذه الحجة التشكيكية. لكن كل ما يقال هنا يمكن ان ينسحب على قدرة العقل على الإدراك الموضوعي برمته، ذلك أنه بحسب هذا المنطق يمكن ان يقال ايضاً بأن كل ما يقرر من إثبات للقضايا الدينية، وعلى رأسها القضايا الأصولية، يواجه ايضاً نفس المصير. فإحتمال وجود حقائق مخالفة تخفى على العقل وتجعل معرفة الحقيقة الدينية من المحالات أمر وارد ؛ مثلما لا سبيل لمعرفة القضايا التقريرية التي تخالف ما تنطق به النصوص، وكذا لا سبيل لمعرفة المصالح الحقيقية التي يتوخاها العقل في القضايا المعيارية من الأحكام وغيرها.
إذاً لا داعي لجر القضايا بمثل هذا المنطق الخطير، بل لا بد من الثقة العقلائية الوجدانية في الكشف عن الحقائق والتسليم بها ما لم تُعارض بما هو أقوى منها حجة واعتباراً.

شواهد الصدام مع العقل

لقد أدت طريقة الإجتهاد التقليدية إلى الصدام مع العقل ومقاصد التشريع عبر حالتين من التعارض، احداهما لها علاقة بالنص الروائي، والاخرى لها علاقة بتقنية الإجتهاد النظري خارج حدود منطوق النصوص. ولكل منهما شواهد عديدة، كالذي يتبين أدناه..

1 ـ تعارض العقل مع النص

من أبرز الشواهد التي تتعلق بتعارض العقل مع النص؛ ما ورد حول دية اصابع المرأة بما يعرف بصحيحة ابان بن تغلب، حيث روى عن الإمام الصادق قوله بأن دية قطع اصبع واحد من أصابع المرأة هي عشر من الإبل، وقطع اصبعين منها هي عشرون من الإبل، وقطع ثلاث اصابع منها يكون ثلاثين، أما قطع اربع اصابع فديته عشرون من الإبل. وبحسب الرواية ان ابان الذي كان حاضراً عند الإمام الصادق تعجب وقال: يا سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعاً فيكون عليه عشرون؛ ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان. فأجابه الصادق بالقول: مهلاً يا ابان ان هذا حكم رسول الله، ان المرأة تقابل - وفي رواية تعاقل - الرجل إلى ثلث الدية، فاذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا ابان انك اخذتني بالقياس.. والسنة اذا قيست محق الدين .
ومع أن في هذا الحديث مفارقة باعتباره يتضمن تخفيف الدية رغم تضاعف حجم الجرم دون سبب معقول، إلا أن فقهاء الإمامية أوردوه وما يتضمنه من حكم دون تشكيك ، وذلك اذا ما استثنينا السيد الخوئي في (مصباح الاصول) حيث قدّم عدداً من المناقشات حوله، كان أهمها أنه اعتبره ضعيف السند ولا يمكن الإعتماد عليه . لكن تلميذه محمد تقي الحكيم استدرك وقال: (بلغنا ان الاستاذ عدل عن تضعيف الرواية لثبوت صحتها لديه، ولم تسعني مراجعته للتأكد من ذلك) .
وقد علّق المرحوم محمد جواد مغنية على هذا الحديث بالقول: أنه (صريح في أن عقولنا لا تدرك لهذا الحكم سراً وأنه تعبدي محض) . وكذا اعتبره الاستاذ المظفر من الشرعيات المحضة أو التعبديات ، وقال في تبريره: (إنما الذي وقع من ابان قياس مجرد لم يكن مستنده فيه الا جهة الأولوية، إذ تصور - بمقتضى القاعدة العقلية الحسابية - أن الدية تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الاصابع، فإذا كان في قطع الثلاث ثلاثون من الإبل فلا بد أن يكون في قطع الأربع أربعون، لأن قطع الأربع قطع شرعاً فيما يبلغ ثلث الدية فما زاد، وهي مائة من الابل) .
كما سبق ان علّق عليه الشيخ مرتضى الانصاري (المتوفى سنة 1281هـ) بقوله بأن الرواية (وان كانت ظاهرة في توبيخ ابان على رد الرواية الظنية التي سمعها في العراق بمجرد استقلال عقله بخلافه أو على تعجبه مما حكم به الإمام عليه السلام، من جهة مخالفته لمقتضى القياس، الا ان مرجع الكل إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الاحكام. فهو توبيخ على المقدمات المفضية إلى مخالفة الواقع. وقد اشرنا، هنا وفي اول المسألة، إلى عدم جواز الخوض لاستكشاف الأحكام الدينية في المطالب العقلية والاستعانة بها في تحصيل مناط الحكم والانتقال منه اليه على طريق اللمّ، لأن انس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل اليه من الأحكام التوقيفية، فقد يصير منشأً لطرح الامارات النقلية الظنية، لعدم حصول الظن له منها بالحكم. وأوجب من ذلك ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية لإدراك ما يتعلق بأصول الدين، فإنه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد) .
وورد ما يماثل الحديث المذكور في المصادر السنية، حيث التزم به جماعة من فقهاء التابعين وبعض ائمة المذاهب الأربعة ونسبوه إلى الرسول (ص). إذ جاء ان المالكية والحنابلة يرون ان دية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما دون ثلث الدية الكاملة، فإن بلغت الثلث أو زادت عليها رجعت إلى نصف دية الرجل. حتى روى النسائي بهذا الصدد عن النبي قوله: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها) . واورد الإمام مالك في موطئه حواراً بين سعيد بن المسيب وربيعة بن ابي عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي، إذ سأل ربيعة سعيداً عن مقدار الدية فيما لو قطع رجل ثلاثاً من اصابع المرأة؟ فأجابه سعيد ان فيها ثلاثين من الإبل، وسأله عن مقدار الدية فيما لو قطع اربعاً، فأجاب أن فيها عشرين، فقال له ربيعة حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها! فرد عليه ابن المسيب: أعراقي انت؟ فقال: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، فقال له سعيد: إنها السنة يا ابن أخي .
مع هذا فإن هذا الحكم لم يستسغه الحنفية والشافعية الذين رأوا ان الجناية على ما دون النفس في المرأة تقدر بحسب ديتها، لذلك تكون الدية نصفاً . وعلّق الشافعي على محاورة ربيعة وابن المسيب الآنفة الذكر بقوله: (كنا نقول به ثم وقفت عنه وانا اسأل الله الخيرة لأنا نجد من يقول السنة ثم لا نجد نفاذاً بها عن النبي (ص) والقياس أولى بنا فيها) .
ويلاحظ من كل ما سبق ان الفقهاء، سواء في الساحة الشيعية أو السنية، لم يحتكموا إلى الوجدان العقلي إزاء مضمون الرواية الآنفة الذكر رغم أنها من الآحاد التي لا تفيد علماً، وانها تتعارض تعارضاً قطعياً مع مبادئ الحقوق الطبيعية والعدالة التي هي على رأس الثوابت العقلية ومقاصد التشريع.
ومثل ذلك يمكن القول بصدد عدد من الفتاوى التي تتعارض مع العقل، كفتوى جماعة من الفقهاء بكراهة التعامل مع بعض الاقوام والاجناس؛ كما في البيع والشراء والتزويج، بحجة أنهم من الجن، مثل الأكراد ، استناداً إلى نص الحديث الذي لا يتفق مع منطق العقل والواقع ولا مع مبادئ التشريع ومقاصده .
ومثلها الفتوى التي تقول إن ولد الزنا كافر، والتي صرح بها جماعة من الفقهاء. وقديماً قال ابن ادريس الحلي في (السرائر): لا خلاف بين اصحابنا في ان ولد الزنا كافر . واتبعه في هذا القول العلامة الحلي في (مختلف الشيعة) . لكن الفاضل الآبي صرح في (كشف الرموز) بأن المسألة على قولين، إذ قال أكثر الفقهاء بأن ولد الزنا كافر . وكذا جاء عن الفقهاء بأن ولد الزنا لا خير فيه وأنه شر الثلاثة ، وأنه لا تقبل شهادته ولا تجوز امامته، تبعاً لعدد من الروايات.
كما قال أكثر فقهاء الإمامية بأن ولد الكافر نجس تبعاً لأبويه باعتبارهما نجسين بسبب الكفر ، وكذا القول أنه كافر ايضاً . وقال محمد بحر العلوم في (بلغة الفقيه): (ولد الكافر يتبع ابويه في الكفر والنجاسة؛ اجماعاً مصرحاً به في كلام جماعة، وهو الحجة)، واستشهد على ذلك ببعض الروايات عن الأئمة الاطهار .
ولا شك أن هذا الحكم لا يُقبل عقلاً ووجداناً، إذ لا ذنب للولد في كفر أبويه أو نجاستهما، وهو يتصادم مع المقاييس الشرعية، مثل قاعدة عدم الوزر: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)). فضلاً عن أن الكافر الكتابي طاهر بلا أدنى شك، بدلالة ان الله تعالى أجاز الزواج من الكتابيات كما في قوله تعالى: ((اليوم أُحلّ لكم الطيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حِلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم)) المائدة/5، ولا يتسق الحال بين التنجيس وبين المعاشرة الزوجية بكل ما فيها من ملابسات معنوية وحسية .
ومن المعاصرين من ناقش هذا الحكم، كما هو الحال مع المحقق الخوئي وتلميذه الصدر، فمثلاً ناقش الخوئي الروايات المتعلقة بالحكم مثل صحيحة عبد الله بن سنان - وغيرها - التي تتضمن بأن أولاد الكفار يدخلون النار مثل آبائهم، فقال: (لا يخفى ان هذه الأخبار مخالفة للقواعد المسلمة عند العدلية، حيث أن مجرد علمه تعالى بإيمان أحد أو كفره لو كان يكفي في صحة عقابه أو ترتب الثواب عليه لم تكن حاجة إلى خلقه بوجه، بل كان يدخله في النار أو في الجنان من غير ان يخلقه.. الا أنه سبحانه خلق الخلق ليتم عليهم الحجة ويتميز المطيع من العاصي، ولئلا يكون للناس على الله حجة، وعليه كيف يمكن تعذيب ولد الكافر مادام لم يعص الله خارجاً. فهذه الأخبار غير قابلة للاستدلال في المقال، ولا مناص من تأويلها.. وعليه فلا دليل على نجاسة ولد الكافر سوى الاجماع والتسالم القطعيين المنقولين عن اصحابنا..). ثم أنه تحفّظ من تمامية هذا الاجماع، واعتبر ان التوقف والمناقشة في نجاسة ولد الكافر له مجال واسع .
ومثل ذلك الفتوى التي ترى جواز استباق مقاتلة المشركين والكافرين لأجل العقيدة دون اعتداء. وكذا اشتراط العصمة عند البعض، والنسب القرشي في الحكم السياسي لدى البعض الآخر.
وعلى هذه الشاكلة عدد من الفتاوى المتعلقة بالنساء، مثل النهي عن تعليمهن الكتابة وسورة يوسف وتركهن بلّهاً ، وأنه يقطع الصلاة كل من المرأة والحمار والكلب الاسود . وأنه لا يجوز قبول شهادة النساء في الأمور المالية مهما كان عددهن ما لم يكن معهن شاهد من الرجال، كالذي يقول به أبو بكر الهمذاني وغيره . وجاء عن الفخر الرازي أن الأصل في غرض تكليف النساء هو أن تنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، حيث أنها على رأيه مخلوقة كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع التي يستمتع بها الرجال .
ومثلها ما جاء حول بيع أمهات الأولاد، حيث ذهبت الظاهرية، خلافاً لجمهور الفقهاء واكثر التابعين، إلى جواز بيعهن، واحتجوا على ذلك بما روي عن جابر أنه قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم نهانا عمر عن بيعهن. وقال ابن رشد الحفيد: ان من الثابت عن عمر أنه قضى بأن لا تباع أم الولد، وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات. وروي عنه قوله في الاحتجاج عن عدم بيع أمهات الاولاد: (خالطت لحومنا لحومهن، ودماؤنا دماءهن). وقد احتج ابن رشد على هذا الرأي بقول النبي: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وليس من مكارم الأخلاق أن يبيع المرء أم ولده .
وأخيراً الفتاوى التي تجمد على إمضاء الكثير من الأحكام الشرعية دون مراعاة للمقاصد والوجدان العقلي، مثل الأحكام المتعلقة بتحريم الرسم والنحت لكل ما فيه روح من الحيوان والإنسان، وتحريم سفر المرأة بغير محرم مطلقاً. ومثلها الأحكام المناطة بفرض الجزية والصغار على أهل الكتاب، وأحكام الرق وتقسيم الغنائم على المجاهدين، ووجوب الضعفية في القتال، وإعداد رباط الخيل، وحصر موارد الزكاة في المحاصيل الأربعة أو الأشياء التسعة، والمراهنة في السبق للصور الثلاث المعروفة، وحريم الأرض، والفتوى الخاصة بالعورات الثلاث... الخ.

2 ـ تعارض العقل مع الإجتهاد النظري

من الشواهد التي يتعارض فيها الإجتهاد النظري للفقهاء مع حكم الوجدان العقلي ومقاصد التشريع ما ذكره محمد جواد مغنية من وجود عدد لا يحصى في كتب الفقهاء مما لا يتفق مع المبادئ الإسلامية، منها بعض الاجماعات التي اتفق عليها فقهاء الشيعة رغم أنها تتعارض مع عدالة الإسلام ومبادئه الإنسانية . فمثلاً أجمع هؤلاء الفقهاء بأنه اذا كانت عين في يد انسان فأقر بها لآخر، ثم أقرّ بها لغيره، كما لو قال: هي لزيد، بل هي لعمر، وجب على المقر ان يدفع العين للاول، وثمنها بكامله للثاني، لأنه ساوى بينهما في الاقرار. يعطي العين للاول لتقدم الاقرار له، وثمنها للثاني، لأنه أحال بينه وبين حقه. وهذه (الحيلولة) بمنزلة التلف. ومن الواضح ان مثل هذا الحكم ضرر فاحش ومبالغ به على المقر، حيث حكم عليه باكثر مما ثبت في الواقع، وان احد المحكوم لهما أخذ منه ما لا يستحقه ظلماً بحكم القضاء. فهنا يلاحظ ان هناك تعارضاً بين الوجدان العقلي في العدل والاستحقاق، وبين ما عليه الصنعة الفقهية من اعتبارات وضعية لا دليل عليها في النص ولا في العقل، حيث أصبح تعدد الاقرار وتساويه له من التأثير في الحقوق أكثر مما يستوجبه واقع الامر.
ومثل ذلك الشاهد ما أجمع عليه فقهاء الشيعة من أنه اذا ظلم قوي عاملاً فحبسه حائلاً بينه وبين عمله الذي يدرّ عليه وعلى عياله القوت؛ قالوا: ان القوي آثم يستحق الذم والعقاب، ولكن لا يجوز الحكم عليه بالمبلغ الذي فوّته على العامل، وبالتالي لا يحكم عليه بالعطل والضرر. لكن لو غصب دابة ضَمن منافعها سواء استوفاها الغاصب أم لا. وقد استند الفقهاء في ذلك التمييز والتفريق - بحسب ما أملت عليهم الصنعة من اعتبارات وضعية - إلى ان العامل نفسه انسان حر لا يتقوم بمال، فمنافعه كذلك، بخلاف الدابة فانها تتقوم هي ومنافعها بالمال. مع ان هذا الحكم، كما يرى الشيخ مغنية، يتنافى مع مبدأ الحرية واحترام الأنفس والأموال. والعرف لا يرى أدنى تفاوت بين حبس عامل لو ترك حراً لحصل على المال، وبين التعدي على ماله الحاصل. وبالتالي فإن الحكم السابق يتعارض مع الوجدان العقلي ومقاصد الشرع من ضرورة التعويض في الحقوق المضيعة بالاعتداء.
ومن ذلك ما ذكره صاحب (جواهر الكلام) بأن من الغريب ما صدر عن عدد من الفقهاء المعاصرين، ومنهم بعض مشايخه، من فتوى توجب على المحبوس في المكان المغصوب الصلاة على الكيفية التي كان عليها اول الدخول إلى هذا المكان؛ فإن كان قائماً فقائم، وإن كان جالساً فجالس، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة ايضاً، وذلك باعتبار ان أي حركة إنما هي تصرف في مال الغير بغير اذنه، ومن هؤلاء من يقول أنه ليس له ان يحرك أجفان عيونه أكثر مما يحتاج اليه، ولا يديه ولا سائر اعضائه، وان الحاجة تقدر بما تتوقف عليه حياته ونحوها. وهي فتوى ادعى أصحابها ان الفقهاء عليها. لكن النجفي اعتبرها من الخرافات غير اللائقة، خاصة وانها تفضي إلى ظلم المحبوس بأعظم من ظلم الظالم الذي الجأه إلى هذا الحبس المغصوب .
وعلى هذه الشاكلة ما ظهر من فتاوى أفضت إلى هدر الأموال وتبديدها، مثل تلك المتعلقة بصرف الخمس؛ كفتوى دفنه كله أو نصفه، أو القائه في البحر، أو الوصية عليه من واحد إلى آخر حتى ظهور الإمام المهدي. وقد استمر العمل ببعض هذه الفتاوى إلى ما يقارب تسعة قرون، ثم هجرها الفقهاء - مؤخراً - لإدراكهم أنها تخالف الوجدان بتضييعها الأموال وهدرها.
ومن ذلك ايضاً ما ذكره الشهيد الثاني في (المسالك) من الحيل المحرمة، وكذا الشيخ النجفي والبحراني، وهو أنه اذا كرهت المرأة زوجها، وارادت انفساخ عقد الزواج، فارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه.. فاذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قُبل منها وتمت الحيلة .
ومثل هذا الاحتيال الذي يتنافى مع العقل والمقاصد فتح بعض الفقهاء الباب أمام الذين لا يريدون دفع الزكاة، وذلك ان بامكان الشخص ان يهب ماله إلى زوجته مثلاً قبل انقضاء الحول بيوم أو اكثر، ولو مع الاشتراط عليها ان تعيده له بعد اتمام الحول بيوم أو اكثر، وبذلك يتصور أنه لا يشمله هذا الفرض العظيم .
وكذا هو الحال فيما جاء في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) من أنه اذا أراد رجل ان يقول لزوجته: انت طاهر، فسبق لسانه وقال: انت طالق، يحكم القاضي بصحة الطلاق . فبحكم الصنعة الفقهية اعتاد الفقهاء أن يتعبدوا باللفظ، وكأنه علة لا بد من ان يأتي معلوله على سنخه وشاكلته. فعندهم كما يقول قاسم أمين: (متى ذُكر اللفظ تم الأثر الشرعي) .
كما جاء في (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) أنه إذا أتت الزوجة بالولد لدون أربع سنين ولو بساعة من حين طلقها الزوج، بعد انقضاء عدتها بالأقراء، فإن الولد يلحق بالزوج. رغم ان ذلك في غاية البعد وخلاف السنن الطبيعية .
ومثل ذلك ما نُقل عن ابي حنيفة قوله أنه اذا قال رجل لامرأة بحضرة الحاكم إن تزوجتكِ فأنت طالق، ثم قبِل نكاحها من الحاكم بإذنها، فإن الطلاق يقع عقيب النكاح، وعلى رأيه أنه لو أتت بولد لستة أشهر فإنه يلحقه، مع أنه غير معقول ويعد خروجاً عن السنن الطبيعية .
وكذا ما نُقل عن الشافعي بأنه إذا تعاشر الزوجان على الدوام مدة عشرين سنة فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئاً ولم يكسها شيئاً، فعلى رأيه ان القول قولها، رغم ان ذلك خلاف العادة . ومثله ما رآه الشافعي بأنه لو وطئ رجل أمته ثم استبرأها بقرء ثم أتت بتسعة أشهر من حين الوطء فإن ذلك لا يكفي إلحاق الولد بالرجل. مع ان هذه المدة تعد كافية وغالبة في الالحاق. وهو يقر بإلالحاق بأقل من هذه المدة في حالة الزوجة. لذلك خالفه بعض أصحابه . وايضاً ما رآه الشافعي من أنه لو ادعى السوقة على الخليفة أو على ملك عظيم أنه استأجره لكنس داره وسياسة دوابه، فإن هذه الدعوى تقبل، رغم أنها غير معقولة، وقد خالفه بعض أصحابه لهذه العلة .
وهناك آراء ساقطة ما لا تحتاج إلى تعليق؛ كالذي رآه البعض ان من بين الترجيحات الخاصة بالأحق بالامامة هو ان يكون الإمام أحسن زوجة، وكذا أكبر رأساً وأصغر عضواً! فقد جاء في (الدر المختار) للحصفكي ان الأحق بالامامة تقديماً بل نصباً: الأعلم بأحكام الصلاة، ثم الأحسن تلاوة، ثم الاسن، ثم الأحسن خلقاً، ثم الأحسن وجهاً، ثم الأشرف نسباً، وبعضهم زاد الأحسن صوتاً، ثم الأحسن زوجة، ثم الأكثر مالاً، ثم الأكثر جاهاً، ثم الأنظف ثوباً، ثم الأكبر رأساً والأصغر عضواً، ثم المقيم على المسافر، ثم الحر الأصلي على العتيق، ثم المتيمم عن حدث على المتيمم عن جنابة... . وعلق ابن عابدين على هذا النص، وقال فيما قال: قوله (ثم الأحسن زوجة) لأنه غالباً يكون أحب لها وأعف لعدم تعلقه بغيرها، وهذا مما يعلم بين الاصحاب أو الأرحام أو الجيران، إذ ليس المراد ان يذكر كل منهم اوصاف زوجته حتى يعلم من هو أحسن زوجة... (ثم الأكبر رأساً) لأنه يدل على كبر العقل مع مناسبة الأعضاء له، والا فلو فحش الرأس كبراً والأعضاء صغراً كان دلالة على اختلال تركيب مزاجه المستلزم لعدم اعتلال عقله. وفي حاشية ابي السعود: وقد نقل عن بعضهم في هذا المقام ما لا يليق أن يذكر فضلاً عن أن يكتب. وكأنه يشير إلى ما قيل ان المراد بالعضو الذكر .
اخيراً فإن هناك ممارسات إجتهادية لا يستسيغها الوجدان لكون بعضها يتناقض مع البعض الآخر ضمن المذهب الواحد، كتلك التي عرضها ابن القيم في (اعلام الموقعين) عن اتباع المذاهب الأربعة . واعظم من ذلك تكريس منطق الفرقة الناجية وسط ما يطلق عليه فرق الضلال، ومن ثم إبطال عبادات أهلها، وعدم الاعتراف لهم بالايمان، مما ينافي كلاً من مقاصد التشريع ووجدان العقل الفطري.
***
هكذا تتبين حاجة الفقه لإعادة النظر في موقفه من العقل وايجاد الضوابط التي تخرجه عن أحكام الهوى. وكذا تتبين الحاجة لإعادة النظر في الموقف من الروايات التي غالباً ما تحوم حولها الشكوك من كل جانب، إذ تصطدم تارة بالعقل، واخرى بالواقع ونظام الخلقة، وثالثة بالمقاصد، ناهيك عما ينتابها من كثرة التعارض ومشاكل أخرى كثيرة، كالتي فصلنا الحديث عنها في (مشكلة الحديث). وبالتالي كان لا بد من إخضاع الممارسة الإستنباطية للفقه تحت حكم المبادئ الاساسية الثلاثة (العقل والواقع والمقاصد). فهي مقدمة على كل ما يعارضها من الأحكام الظنية .

مكانة العقل والشبهات المثارة

يتصور الكثير بأن الإعتماد على العقل في التشريع يفضي إلى نسخ الشريعة أو تعطيلها، ناهيك عن ان ذلك يثير في حد ذاته الاختلاف لارتفاع الضوابط. وقديماً كان السلف يمتعضون من ابداء الرأي الذي فيه رائحة العقل والبعد عن النص ، بل ويتحفظون أحياناً حتى من الرأي الذي يضطرون اليه في ابداء الفتوى، رغم أنه لا يستقل عادة عن النص، كالقياس مثلاً. وكان الإكثار في الرأي مدعاة لإحجام الاخرين عن صاحبه، كما هو معروف من موقف العلماء إزاء ابي حنيفة الذي اشتهر أنه يكثر العمل بالرأي وترك الأحاديث .
لكن اول محاولة مبدئية للتنظير في الموقف من مبادئ الإجتهاد والرأي نجدها لدى الشافعي. فقد كان هذا الإمام القرشي أول من استدل على المنع من التدخل العقلي، جاعلاً حدود الرأي لا تتعدى القياس باعتباره ظل النص وتابعه. ففي معرض نقده لمبدأ المصلحة والإستحسان اعتبر ان من استحسن فقد شرع، وقال: (انما الإستحسان تلذذ) ، وان (القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق) . وعقد في كتابه (الأُم) باباً بعنوان (كتاب إبطال الإستحسان) . والأدلة التي طرحها الشافعي بهذا الصدد هي ذاتها التي وظفها تلميذه داود الاصبهاني ضدّه في المنع من القياس، حيث وجدها تنطبق لا في منع المصلحة والإستحسان فحسب؛ وانما في مختلف ضروب الرأي التي منها القياس . كذلك وسّع ابن حزم الاندلسي من دائرة الشبهة في نقضه للقياس والمصلحة والإستحسان . فجميع هؤلاء استدلوا بكون الشريعة بيّنة وكافية في أحكامها لسد كل شأن من شؤون الحياة، فما من حادثة الا ولها حكمها بالنص، أو بدليل مستظل من نص كما يرى الشافعي. وبغير ذلك لا يبقى للحكم مصدر يعول عليه غير الأهواء والميول الذاتية، إذ لا ضابط للمصالح، وهي تتردد بين اعتبار الشارع لها وبين الغائه؛ كالذي صرح به الآمدي من الشافعية . ويضيف البعض إلى أنه مثلما قد يغلب على العقل الهوى؛ فقد يخفى عليه وجوه الضرر والفساد .
كما ان الشاطبي الذي أقام تنظيراً واسعاً لمقاصد الشرع طبقاً للمصالح المعتبرة وجد نفسه في الوقت ذاته مضطراً إلى وصد الباب بوجه الممارسة العقلية، فعمد إلى نقد العقل بصورته المستقلة. فعلى رأيه ان العقل عاجز عن إدراك مصالح الدنيا من غير شرع، وذلك لإعتبارين: أحدهما أنه بالشرع لا العقل قد تبين ما كان عليه أهل الفترة (الجاهلية) من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام. والثاني أنه لو كان للعقل قدرة تامة على إدراك جميع تلك المصالح لما كان الشرع بحاجة إلى ذكرها، ولاكتفى بذكر مصالح الآخرة فحسب. وبالتالي فقد انتهى إلى إقرار كون (العادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بادراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل) لكنه مع ذلك أقرّها (بعد وضع الشرع اصولها) . بالإضافة إلى أنه اعتبر التعويل على العقل يقتضي ان يكون على حساب ما أمر به الله من العمل بالكتاب والسنة، فعلى رأيه أن احكامه تعالى لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته ، اتساقاً مع ما ذهب اليه الأشاعرة من نفي الدلالة العقلية للحسن والقبح.
ولا شك ان الرأي الأخير يمكن ان يكون موضعاً للاحتجاج - بغض النظر عن الدلالة العقلية للحسن والقبح - وذلك فيما لو كان هناك وضوح كاف في تفاصيل الكتاب والسنة. أما مع عدم هذا الوضوح فالامر مغاير، حيث ان الأخذ بإطمئنان النفس لم يعد في قبال ما يقره القرآن والسنة، بل في قبال ما ينقله الناقل وما يفتيه المفتي من حيث فهمه واستنباطه، وان هذا النقل وكذا الفهم لا يتجاوز في الغالب درجة الظن، ولا يرقى إلى حالة الإطمئنان، فضلاً عن ان يكون مضاهياً للقطع الوجداني.
كذلك اعتبر الشاطبي ان الإعتماد على العقول في تحديد المصالح يفضي إلى التضارب والاختلاف لعدم توفر الضابط، فعلى حد قوله أنه (لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد اليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة واسباباً معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير احصان.. الخ.) .
مع ذلك ان ما ذكره الشاطبي في بيانه الأخير لا يتسق مع ما نعلمه من كثرة الإجتهادات والتغييرات التي ظهرت في عصر الخلفاء الراشدين، كتلك التي مارسها عمر بن الخطاب قبال العديد من النصوص والسيرة النبوية، وكان على رأسها إجتهاده في مقدار عقوبة شارب الخمر وكيفية تنفيذها، وكذا حكم المؤلفة قلوبهم؛ مما عدّه الفقهاء مقبولاً لاعتبارات معينة ابرزها مراعاة المصلحة وتغير بعض الظروف. مما يعني ان الضبط يمكن ان يتحقق مع الإجتهاد العقلي اذا ما روعيت فيه اعتبارات التوافق العقلائي، أو خضع لالزام الشورى أو الاجماع.
وعلى صعيد الوسط الشيعي سبق ان أثار الشيخ الطوسي شبهة الإعتماد على العقل وأبطلها، وذلك وهو بصدد اقرار فقدان القرائن التي تصحح الأحاديث الموجودة، معتبراً أنه يلزم من ذلك ترك أكثر الأخبار والأحكام بحيث (لا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار اليه لا يحسن مكالمته لأنه يكون معولاً على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه) . وتابعه في هذا الأمر رجال الإمامية بلا خلاف.
وذكر الانصاري ان السبب في منع التعويل على الأحكام العقلية، هو (ان الركون إلى العقل فيما يتعلق بادراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام موجب للوقوع في الخطأ كثيراً في نفس الامر، وان لم يحتمل ذلك عند المدرك، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة بمضمون: (ان دين الله لا يصاب بالعقول)، وانه لا شيء أبعد عن دين الله من عقول الناس) . هذا في الوقت الذي عدّ قطعيات العقل المخالفة للدليل النقلي هي في غاية الندرة إن لم تكن غير موجودة بالمرة، وكما صرح بأن (ادراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه لا يمكن الجمع بينهما في غاية الندرة، بل لا نعرف وجوده، فلا ينبغي الاهتمام به في هذه الأخبار الكثيرة ، مع ان ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض، وعلى ما ذكرنا يحمل ما ورد من ان دين الله لا يصاب بالعقول) .
على ذلك شاع القول بأن ما موجود من بيان أو نصوص يكفي لسد وتغطية جميع ما يستحدث من واقع وقضايا، حتى بغير حاجة إلى الأحكام العقلية. وقد سبق ان اشار الشيخ ابو جعفر الطوسي إلى ما موجود من وفرة خبرية كافية لتغطية مسائل الأحكام كافة. وحديثاً رأى السيد الصدر ان البيان كاف في الشمول لتناول مختلف قضايا الأحكام حتى مع عدم الأخذ بالدليل العقلي النظري الذي يستند اليه الأصوليون ويخالفهم عليه الإخباريون . كما ان السيد محمد تقي الحكيم صرح هو الآخر بأن الإمامية تعتبر أحكام الشريعة بمفاهيمها الكلية لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقتصر عن حاجاتهم وبالتالي فانها مسايرة لمختلف الأزمنة والأمكنة، وان تأثير الزمان والمكان والأحوال إنما هو في تبدل مصاديق مفاهيم النصوص لا غير . الأمر الذي يعني عدم الحاجة إلى الأحكام العقلية.
والى اليوم مازالت نزعة الاحجام والخوف من الممارسة العقلية في التشريع سارية، حتى عُدت خطرة على الشرائع السماوية، كالذي صوره الاستاذ عبد الوهاب خلاف وهو في معرض رده على الطوفي بقوله بأن (تعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين) .

خلاصة الشبهات

مما سبق يمكن تلخيص الشبهات التي تثار بحق الممارسة العقلية في تأسيس الأحكام أو استكشافها كالتالي:
1 ـ إن الممارسة العقلية المستقلة تبعث على نسخ الأحكام الشرعية وتغييرها، أو طرحها وإلغائها كلية.
2 ـ إنها عاجزة عن إدراك المصالح الدنيوية، بدلالة ان الشرع لم يكتف بذكر المصالح الأخروية وانما جاء ايضاً بتعليم المصالح الدنيوية، وأنه بالشرع لا العقل قد تبين ما كان عليه أهل الفترة (الجاهلية) من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام.
3 ـ إنها غير قابلة للضبط والإنضباط، وتتأثر بالأهواء والمصالح الخاصة.
4 ـ إنها توقع في الأخطاء الكثيرة وإن لم يدركها المدرك.
5 ـ إنها لا تتفق مع مقولة كمال الشريعة وبيانها وتمامها، ولا مع منطق (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة).
6 ـ وجود الأحاديث الناهية عن العمل بها في إدراك الأحكام ومناطاتها.
هذه هي خلاصة الشبهات التي مرت معنا، ويمكن الرد عليها نقضاً وحلاً، أو بناءاً ومبنى، كالاتي:

النقض والبناء

من حيث النقض والبناء اننا لو سلمنا بمصداقية هذه الشبهات لكان بعضها على الأقل يصدق على جميع المذاهب التي تعول على الإجتهاد والرأي. ذلك ان هذه الإجتهادات تضطر أحياناً لتغيير الأحكام تبعاً لمراعاة المقاصد أو المصالح أو غير ذلك من الاعتبارات، ومع ذلك لا يصح ان يقال أنها تمارس نسخاً للشريعة أو إلغاء احكامها. وفعلاً أنها تُتهم بمثل هذه التهمة من قبل تلك المذاهب التي لا ترى مجالاً لممارسة الرأي والإجتهاد. بل ان الشاهد التاريخي يكشف عن تبادل الاتهامات بين المذاهب في هذا الخصوص، تبعاً لمنطق التوسع في الأخذ بأصول الإجتهاد. فكلما زادت أصول الإجتهاد أكثر كلما زادت الشبهة بحق المذهب. فلو غضضنا الطرف عن الكم المستخدم من تلك الأصول وجدنا ان القائل بالقياس والإستحسان والمصالح متهم بدرجة أكبر من القائل بالقياس والإستحسان، والأخير متهم أكثر مقارنة مع من يقول بالقياس وحده. مع ذلك فنحن نعلم ان التهمة في حق الجميع غير صحيحة.
أما الاشكال عن عجز العقل عن إدراك المصالح الدنيوية فإنه لو صدق لانطبق ايضاً على جميع المذاهب التي تعول على المصالح والإستحسان، ومنهم الشاطبي الذي أثار مثل هذا الاشكال. وكما سنعرف ان الممارسة العقلية وخبرتها المناطة بالواقع والاسترشاد بمقاصد الشرع؛ كل ذلك يجعلها قادرة على إدراك مثل هذه المصالح، باعتبارها مصالح واقعية لها آثارها الواضحة إن كانت مفيدة معتبرة أو ضارة ملغاة. نعم ان فائدة الشرع - هنا - هو أنه سبّاق في تحديد المصالح لاحاطته الكلية، بينما يحتاج الكشف العقلي إلى المزيد من الخبرة والجدل مع الواقع، كما لا بد من تبني المقاصد لإدراك ما يخفى عنه من هذه المصالح.
وكذا يمكن القول ان الإجتهادات التقليدية للفقه غير قابلة للضبط والإنضباط باعتبارها تعود إلى الفهم، والفهم مختلف حوله اصولاً وفروعاً، الأمر الذي يجعلها مفضية للوقوع في الأخطاء الكثيرة، بدلالة ما لدينا من آراء كثيرة للمسألة الفقهية الواحدة. وهو ما أدى إلى تكوين علم خاص اطلق عليه الخلافيات، مما ليس معنوناً في أي علم من العلوم الإسلامية الأخرى. واكثر من هذا قد ضُرب بالفقه المثل على ضعف النتائج التي يولّدها لكثرة الشكوك التي تراود مسائله. ومن ذلك ان الفقيه الفيلسوف ابن رشد لم يجد وصفاً يليق بتسخيفه لنظرية الفيض الفارابية السينوية من حيث أنها مدعاة للظنون والخيالات غير مقارنته إياها بعلم الفقه، كما في قوله: (وبحق صارت العلوم الإلهية لما حُشيت بهذه الأقاويل أكثر ظنية من صناعة الفقه) .
فأين هي اسعافات الضوابط الفقهية، وكيف يمكن تجنب الكم الهائل للاخطاء التي يدل عليها كثرة الخلاف الفقهي؟! فهي من الناحية المنطقية إما ان تكون كلها خاطئة بلا استثناء، أو ان الصحيح منها لا يتجاوز الرأي الواحد للمسألة، وفي كلا الحالين نعلم اننا أبعد ما يكون عن بلوغ الحد الذي يُعتمد عليه في علاج المشاكل الفقهية وحلها. فهل يعقل ان تكون أخطاء الوجدان العقلي أكثر من ذلك؟!
وكذا يجوز ان يقال بأن تلك الإجتهادات تبعث على الأهواء لما تحمله من مرونة يصعب ضبطها، الأمر الذي تشهد عليه فتاوى ما يسمون (وعاظ السلاطين)، وهم الذين لا يخلو منهم عصر ولا زمان. فهم يستخدمون نفس الأساليب الاستدلالية المعول عليها، فيصبح من الصعب كشف ما في ذاتهم من الدوافع الدخيلة، سيما ونحن نعلم بأن الإنسان، مهما بلغ من التجرد، فإنه يبقى عاجزاً عن ايجاد رصيف آخر خارج الطوق الذي تفرضه عليه ثقافة البيئة وروح العصر، مما يؤثر على تحديد آرائه ونتاجه الإجتهادي.
وكذا يمكن أن يقال بأن تلك الإجتهادات تتنافى مع مقولة بيان الشريعة أو تمامها وكمالها. إذ مع هذا البيان والكمال ليس ثمة حاجة للإجتهاد الذي هو منبع الاختلاف وموطن الأخطاء وموضع زلات الاقدام، وكل ذلك لا يتفق مع ما عليه الشريعة من الكمال والبيان.
كذلك فإن وجود عدد من الأحاديث الناهية عن الممارسة العقلية يمكن ان يعم بحسب اطلاقها، وبحسب غيرها من الأحاديث، جميع صور الإجتهاد الأخرى. فلسان هذه الأحاديث واضح في الحث على تجنب الوقوع في الأخطاء الناتجة عن الظنون الإجتهادية لإدراك الأحكام، وهو أمر ينطبق على جميع صور الإجتهاد التي يمارسها الفقهاء على مر العصور . وإن كنا في القبال نجد أحاديث أخرى معارضة تشيد بالعقل ومكانته، وتحث على ممارسته في إدراك القضايا المعروضة. الأمر الذي يؤيد صدق الدعوة بالإحتكام إلى العقل في القضايا التي يمكنه إدراكها إدراكاً عقلائياً معتبراً، بعيداً عن الهوى والمصالح الشخصية.

الحل والمبنى

أما من حيث الحل والمبنى فيمكن القول بأن حجية الوجدان العقلي هي حجية ذاتية تستغني عن جعل الشارع، واي مساس بها يُعد في حد ذاته مساساً بالشرع، إذ لا يتقوم الشرع إثباتاً الا بهذه الحجية أو هذا الوجدان. كما يمكن القول بأن توكيد هذه الحجية ينبع من الشرع، لا من حيث التصريح بمكانته وقيمته وكذا الحث على ممارسته كما نجد ذلك في العديد من نصوص القرآن والحديث؛ إنما ايضاً من حيث ما يزودنا به منهج الإستقراء وحساب الإحتمالات من نتيجة مؤكدة مفادها صدق قضاياه بما يجعل العمل به مشروعاً حسب ضوابط لا غنى عنها. واذا اضفنا إلى ذلك ان الوجدان العقلي يستهدي بهدي مقاصد الشرع وتوجيهاته كأحد أبرز الضوابط التي يناط بها في علاج مزاحمات الواقع وما يفرضه من تشابك في قضايا المصالح والمفاسد؛ علمنا كم هو حجم الضرورة وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق مثل هذه الممارسة الإجتهادية.
على ذلك كيف تجوز المقارنة والموازاة بين الحكمين الوجداني والإجتهادي التقليدي، فيوضع الحكم الأول جنب الثاني، أو يُدرجان بحسب الترتيب، مع ان الحكم الأخير غالباً ما لا يرقى إلى نوع معتد به من الظنون العقلائية النوعية؟! والأنكى من ذلك كيف يرجح العمل بمثل هذه الطريقة وتقديمها على الحكم الوجداني للعقل؟ كما كيف يصح اتهام هذا الوجدان بالهوى والتضارب مع أنه يقبل الضبط العقلائي والمشاركة النوعية؟! في حين ان طريقة الإجتهاد التقليدية بضوابطها المعروفة لا تثمر في الكثير من قراراتها الا نتائج ضعيفة. بل ان الوسيلة التي تتبعها قائمة على مقدمات ضعيفة، فكيف يوثق بالنتائج التي تفرزها وتحسبها نتاجاً شرعياً خالصاً؟! إذ تتقوم ممارستها - في أحسن الأحوال - بجمع من المقدمات الظنية، وحيث ان صدق النتيجة متوقف على صحة هذه المقدمات جميعاً، لذلك فإنه بحسب منطق الإحتمالات لا بد من ضرب إحتمالات صدق تلك المقدمات ببعضها كي تكون النتيجة صحيحة صادقة، وبضرب الإحتمالات تضعف القيمة الإحتمالية، فتندرج النتيجة تحت مراتب الأحكام الضعيفة لا الظنية، لذلك كيف يمكن قبول مثل هذه الأحكام الضعيفة، في الوقت الذي يتم فيه تفويت فرصة العمل بالوجدان العقلي للمسائل التي تقبل الإدراك وتحديد النتائج؟!
وكما ذكرنا فإن حجم ما نراه من الاختلاف بين الفقهاء حول القضية الفقهية الواحدة؛ يضعّف من مصداقية طريقة الإجتهاد التقليدية، حيث ان الآراء المختلفة إما ان تكون كلها خاطئة، أو باستثناء واحدة منها صحيحة. لكن شتان بين هذه الطريقة وبين ممارسة الوجدان العقلي. فأحكام هذه الممارسة إن لم تكن قطعية فإنها متاخمة للعلم، أو على الأقل يكون الظن فيها قوياً لا يقارن بما عليه الصور التي تعكسها مرآة طريقة الإجتهاد التقليدية، سيما حينما تستهدي بهدي الشورى وتوظف لعملها دراسة الواقع وما تقتضيه من معرفة العلوم الإنسانية الكفيلة بالبحث الميداني.
إذاً نحن بصدد بيان كيف أن الإستقراء الشرعي يثبت صحة التعويل على الوجدان العقلي. ومن ثم بيان أن المقاصد هي المرشدة لهذا السلوك، الأمر الذي يعطي نتائج مخالفة لما عليه الطريقة التقليدية.

مع منهج الإستقراء

ليس هناك طريقة أهم من منهج الإستقراء في الكشف عن الحقائق وفهم القضايا، والتي منها قضايا الدين والإسلام المعرفي. ويعد الشاطبي من القلة الذين عزوا للإستقراء دوراً هاماً في الكشف عن الموارد الكلية للشريعة، وسعى لأن يجعل منها منبعاً للقطع واليقين. لهذا كان من المفيد ان نوظف هذه الطريقة للبحث عن مدى التوافق بين الأحكام العقلية والأحكام الدينية، وذلك في المسائل التي يمكن للعقل إدراكها، كما في قضايا الحسن والقبح وقضايا المصالح والمضار وما على شاكلتها.
وسبق ان طرقنا هذا الباب الجديد، وبيّنا أن التوافق في الأحكام بين التشريعين العقلي والديني يكاد يكون تاماً، وطبقاً لمنطق الإحتمالات يُستبعد أن يكون هذا التوافق صدفة واعتباطاً، وبالتالي كان لا بد من رد احد التشريعين للآخر، أو أن الشيء لا يُفسر الا طبقاً لمحور مشترك بحيث لا يمكن عزل أحدهما عن الآخر، الأمر الذي يفسره كون الأحكام الدينية عبارة عن امضاءات للأحكام العقلية، فالشرع لم يأت بهذه الأحكام على نحو التأسيس، بل على نحو الإمضاء والتبعية. والأهم من ذلك ان إحتمالية صحة الحكم العقلي أو الوجداني في قضية جديدة لم يطرقها الشرع، أو لم نستكشفها نحن منه، تساوي تبعاً للحساب الإحتمالي قدر ما يكسبه العقل من قيمة معرفية في موافقته للقضايا الدينية .
هكذا تتأيد بالإستقراء قاعدة الإمامية القائلة: (كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً) . وصدق من قال بأن الشرع سيد العقلاء. فكيف يجوز - اذاً - عزل العقل عن ممارسته الوجدانية في استكشاف الأحكام اذا ما كان الشرع سيداً فيها؟!
بعد هذا التقديم يمكن الرد على مختلف الشبهات الدائرة حول الممارسة العقلية الوجدانية وبيان بطلانها وزيفها.

العقل وشبهة نسخ الشريعة

نرى ان هذه الشبهة تصدق في حالة واحدة، وهي فيما لو افترضنا ان العقل يحيد النظر عن مقاصد الشرع. أما مع أخذ هذه المقاصد بعين الاعتبار فالامر يختلف، رغم ان هذا الأخذ قد يفضي إلى تغيير الأحكام الجزئية، وذلك عندما تتغير الظروف وتصبح هذه الأحكام معارضة لما عليه المقاصد. إذ لا يعقل الجمود على هذه الأحكام لأنه يعني خرقاً للمقاصد ومن ثم هدماً للدين الذي جاء من أجلها.
فعلى هذا المبنى لا تصدق مثل تلك الشبهة، حتى مع إفتراض القطع بوجود الحكم الشرعي. أما مع عدم القطع بالحكم فإن الموازنة هي الحاكمة، إذ لا بد من التعويل على العمل بالقضية التي لها درجة إحتمالية اعظم مقارنة بغيرها. وهو المبنى الذي اضطر اليه جماعة من الفقهاء المتأخرين في الساحة الشيعية، إذ أدركوا ضعف القيمة المعرفية لركام الأخبار في كتب الحديث، فعملوا بما اطلقوا عليه (دليل الانسداد) وانقادوا إلى الأخذ بأي ظن كان يقربهم من الحكم الشرعي. وكان الشيخ جعفر الكبير الملقب بكاشف الغطاء (المتوفى سنة 1228هـ) يوصي الفقهاء بعدم الأخذ بخبر الآحاد الا عند الضرورة والاضطرار، وأنه لا بد من الإعتماد على القرآن الكريم والحديث المتواتر والسيرة القطعية . لكن هذه الوصية لم تحقق هدفها، فقد استمر الفقهاء يدورون في فلك الرواية وما يقرب منها من اعتبارات؛ كالاخذ بدليل الشهرة وعمل الاصحاب. وفات هؤلاء الجماعة من أتباع دليل الانسداد تشييد ثورتهم على اعتبارات الوجدان العقلي والنظر إلى الواقع ومقاصد الشرع.
اذاً فإن العمل بالعقل لا يفضي إلى نسخ الشريعة، سيما اذا أحسن توظيفه طبقاً لبعض الضوابط؛ وعلى رأسها النظر إلى كليات الشريعة ومقاصدها، فهي قد ترتقي بالعمل بالحكم العقلي إلى حد العلم أو الإطمئنان. وعلى العكس من ذلك فإن ترك الممارسة العقلية يمكن أن يؤدي إلى نسخ الشريعة، أو حتى تحنيطها ضمن قوالب فارغة تقف على الضد من المقاصد والكليات التي من شأنها الحفاظ على اصالة التشريع وروح الديانة.

العقل وشبهة العجز عن إدراك المصالح

اعجب ممن يدعي ان العقل عاجز عن إدراك المصالح الدنيوية، إذ هل للعقل وظيفة أخرى أهم من إدراك مثل هذه المصالح؟! وهل يعقل ان تكون هذه الهبة الإلهية موضوعة فقط لقراءة الخطاب والبحث عن مصالح الآخرة؟!
لقد سبقت الإشارة إلى أن ما جاء به الشرع حول المصالح الدنيوية لا يفسر الا على نحو الإمضاء والتبعية للوجدان العقلي، كالذي يدل عليه المنهج الإستقرائي. ولا شك ان الفائدة من ذكر الشرع لها ليس لاجل التوكيد والتنبيه والتذكير فحسب، بل الأهم من ذلك ما في الشرع من توعد بالعقاب لغرض الردع عن الانحراف، ذلك لأن النفوس تخاف - في الغالب - مما يتوعد به الشرع ولا تخاف مما تستهجنه النفوس والعقول، فترتدع بسبب الأول دون الثاني. وبهذا تتبين حكمة الشرع من ذكر المصالح الدنيوية رغم ان العقل قادر على إدراكها. الأمر الذي يحل الاشكال الذي طرحه الشاطبي في وجه العقل، وهو أنه لو كان قادراً على إدراك المصالح لما كانت هناك فائدة من ذكر الشرع لها.
فقد امضى الشرع جملة من المصالح كانت معهودة في الجاهلية باعتبارها محمودة تتقبلها العقول، وكان منها: الدية والقسامة والقراض وكسوة الكعبة والاجتماع يوم العروبة - الجمعة - للوعظ والتذكير... الخ . كما نهى عن جملة أخرى من العادات والأعراف المنحرفة آنذاك؛ يشهد عليها الوجدان بالقبح والفساد، كتحريمه للغزو الداخلي واستباحة الأموال والأعراض والربا واسترقاق المدين والنهي عن الغرر في التعاقدات، كالنهي عن البيع بالمنابذة والملامسة والقاء الحجر وبيع الملاقيح والمضامين وبيع ضربة القانص والغائص وما إلى ذلك .
نعم ربما يستثنى من ذلك بعض الأمور التي لا ندرك مغزاها إلى اليوم على وجه القطع واليقين، مثل علة عدم إلغاء الشريعة لنظام الرق، مع أنها تتبنى اصالة تساوي الناس وتحث على تحرير الرقبة وتضيّق من منابعها، بل ويظهر أحياناً من بعض النصوص أنها تستهجن حالة ذلك النظام. وقد ورد عن الإمام علي (ع) قوله: (لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً)، وقوله ايضاً: (ايها الناس ان ادم لم يلد عبداً ولا امة وان الناس كلهم احرار). وعن عمر بن الخطاب قوله: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً).
مع ذلك يمكن حل هذا المشكل عبر مقاصد الشرع التي تعالج - أحياناً – تناقضات ما تفرضه الظروف والأحوال المختلفة. فمثلاً فيما يتعلق بموقف الشرع من المشركين نرى نصوصاً تدعو إلى المسالمة معهم ما لم يبادروا إلى الاعتداء، وفي القبال نجد نصوصاً أخرى تحث على قتالهم وإن لم يقاتلوا. واذا كان الظاهر من هذه النصوص هو التعارض والتناقض فإن واقع الأمر يثبت العكس مع أخذ اعتبار المقاصد الشرعية. فالامر بقتل المشركين والنهي عن قتلهم لا يمكن ان يكون معلولاً للشرك ذاته كموضوع، وذلك لحصول التناقض بين الأمر والنهي على الموضوع الواحد. أما لو حملنا الأصل على المسالمة كما هو واضح من النصوص الغزيرة، واعتبرنا في الوقت ذاته ان قتال المشركين جاء لبعض الطوارئ الخاصة؛ لأصبح الأمر مفهوماً. وبالفعل يمكننا تفهم علة قتال هؤلاء بما ورد في ذيل الآيات التي حثت على ذلك، والتي منها تبيان ما في قلوبهم من الخيانة والعداوة . الأمر الذي يكشف عن ان القصد في القتال إنما جاء للوقاية وحفظ سلامة المجتمع الإسلامي، سيما وقد كان فتياً.
وكذا يمكن أن يقال بصدد ما نجده من تضارب في الموقف من حرية الإنسان كما سبق توضيحه. لكن بلحاظ المقاصد والأصل العقلي يرتفع هذا التضارب. إذ الأصل المؤكد هو ان الناس احرار لانهم يصدرون عن نفس واحدة ويتساوون في الخلقة. أما علة إبقاء التمايز أو اقرار نظام الرق فمازالت غائبة عن الانظار ، ولا يقنع ما ذهبت اليه بعض التصورات الحديثة من ان المجتمع انذاك كان بأمس الحاجة للرق لاعتبارات العمل الاقتصادي المعني بتحقيقه، ولولاه ما استطاع ان تقوم للمجتمع قائمة . وهو تصور ينطوي على مبالغة كبيرة، سيما ان الإسلام صنع في اوساط اهله ومريديه ارادة أمكنها ان تحقق الكثير من المعجزات بالعمل والجهاد والتضحية والايثار. ولعل من النماذج التي تشهد على عظمة الإسلام هو أنه جعل المؤمنين من أشد الناس امتناعاً عن الشيء الذي طالما سرى في عروقهم وخالط دماءهم، أي الخمرة التي كانت أقرب الأشياء إلى نفوسهم فأصبحت بعد الايمان من أبعدها وأكرهها.
على ان جهلنا لعلة عدم إلغاء نظام الرق لا يضر بسلامة التصور المنطقي من الناحيتين الوجدانية العقلية والشرعية كما سنبين أدناه:
طبقاً لمنطق الإستقراء وحساب الإحتمالات يمكن تفسير القضية الجزئية الشاذة بردها إلى الكلي المشترك مع إفتراض وجود بعض الأسباب التي ادت إلى ذلك الانحراف في تلك القضية عن الكلي. والطريقة التي نعول عليها هنا هي ذات طريقة المنهج العلمي المتبع في إثبات الظواهر الطبيعية وتفسيرها، فنحن إزاء عدد من الفرضيات كالتالي:
الفرضية الاولى: هناك خطأ في تعيين الكلي المفترض، بدلالة عدم انطباقه على الجزئي الشاذ. وما تعنيه مسألتنا حسب هذه الفرضية هو اننا اخطأنا اعتبار الشرع يطابق العقل ويلازم قراره، بدلالة قضيتنا الجزئية الشاذة، وهي ان ما اقره العقل من قبح نظام الرق لم يحكم به الشرع. إذاً بحسب هذه الفرضية أنه لا ملازمة بين العقل والشرع، فلكل طريقه ونتائجه المختلفة عن الآخر.
الفرضية الثانية: ان الخطأ متحقق في الجزئي الشاذ (عدم إلغاء الرق) لكون الكلي لا ينطبق عليه.
الفرضية الثالثة: انهما صحيحان معاً، لكن ما جعل الجزئي ينحرف عن الكلي هو لوجود أسباب خاصة غير معلومة دعته إلى ذلك. فلولا هذه الأسباب لخضع تحت طوق الكلي كبقية القضايا.
ولا يخفى ان الإفتراض الأول غير سليم باعتبار ان الكلي يحظى بقوة إحتمالية كبيرة بحسب الإستقراء، فلا يمكن التضحية به لمجرد وجود بعض الشذوذ. فمن الصعب قبول كون الشواهد المؤيدة للكلي دون غيره جاءت صدفة بلا ضابط يمحورها. كذلك لا يؤخذ بالإفتراض الثاني لعلمنا يقيناً ان ما ورد من شذوذ حول الجزئي هو صحيح. لذا ليس لنا من سبيل الا الأخذ بالإفتراض الثالث، وهو إفتراض وجود أسباب خاصة منعت انخراط الجزئي تحت حكم الكلي، سواء كنّا على علم بهذه الأسباب أم لم نكن.
وسبق للشاطبي أن أكد بأنه لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة الكليات الثابتة بالإستقراء، لأن الجزئيات الشاذة لا ينتظم منها كلي ليعارض الكلي الثابت. واذا كان التعارض بين الجزئي والكلي هو تعارض من بعض الوجوه فإنه يمكن الجمع بينهما . أما لو كان التعارض من جميع الوجوه والجهات بحيث لا يمكن الجمع بينهما فإنه لا بد من الحفاظ على الكلي الثابت بالإستقراء مع اعتبار ما يخالفه من النصوص الشاذة بأنها من المتشابهات التي يجب الوقوف عندها وإيكال علمها إلى الله ، إذ أن الأخذ بالجزئي سوف يفضي لا محالة إلى هدم الشريعة بكلياتها. وهو أمر منكر ومرفوض .
ومن الناحية المنطقية يمكن ارجاع هذه النتيجة إلى طريقة (جون ستيوارت مل) المسماة (طريقة العوامل المتبقية). إذ قدّم (مل) هذه الطريقة الجديدة ليضيفها إلى عدد من الطرق المنهجية في الكشف العلمي . ويقصد بها أنه اذا كانت هناك ظاهرة مؤلفة من عدة أجزاء أمكن تفسير بعض منها وفقاً لعوامل محددة ضمن مبدأ عام وشامل؛ فإنه يمكن تفسير ما تبقى من الأجزاء الأخرى طبقاً لذلك المبدأ المفترض.
وبهذه الطريقة أمكن التنبؤ واكتشاف عدد من الظواهر الكونية. ومن ذلك ما تمّ اكتشافه من كوكب جديد اعتماداً على نظرية الجاذبية. إذ رغم تمكن هذه النظرية من تفسير الكثير من الظواهر الكونية، الا أنها واجهت شذوذاً لم يخضع لتفسيرها، وهو انحراف مدار كوكب (يورانوس)، الأمر الذي احتاج إلى نوع من التفسير بحيث لا يتعارض مع مبدأ الجاذبية المتبنى. لهذا افترض وجود كوكب آخر مجهول هو الذي يسبب حالة انحراف ذلك المدار. وفعلاً ان احد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما اطلق عليه كوكب (نبتون). بل وتم اكتشاف كوكب آخر تبعاً لما لوحظ من وجود انحراف في مدار الكوكب المكتشف الأخير، فأُطلق عليه (بلوتو) .
كما استخدمت هذه الطريقة في الكشف عن غاز (الارجون)، إذ لوحظ ان غاز (الازوت) الموجود في الهواء يختلف في خواصه ومن ثم في تركيبه الكيميائي عن غاز الازوت النقي، فافترض ان هناك غازاً مجهولاً يختلط به فيسبب ذلك الفارق. وفعلاً تم اكتشاف هذا الغاز الذي اطلق عليه الارجون.
وبهذه الطريقة ايضاً استطاعت (مدام كوري) أن تكتشف (الراديوم)، إذ لاحظت ان بعض المعادن تحتوي على طاقة اشعاعية أكثر منها في المعادن الأخرى، فبحثت عن الظاهرة الخفية من خلال إفتراض وجود عنصر مجهول، حتى تم لها اكتشافه .

العقل وشبهة الأخطاء والاهواء

لا ينكر ان للوجدان العقلي أخطاءه، فهو غير معصوم عن الأوهام والنتائج الخاطئة. لكن الميزة التي يمتاز بها هذا الوجدان عند الخطأ هو أنه يجد في الغالب طريقه نحو الصواب؛ عبر الخبرة مع الواقع وما يترتب عليها من حقائق. فهو يعتمد على الواقع في تأسيسه للأحكام والتقديرات، سواء بالخبرة والحس، أو بالإختبار والمماحكة، أو من خلال أُفق التوقع والإنتظار، أو ما يكشف عنه الزمن. ومسيرة البشرية من أوّلها إلى آخرها قائمة على سلاسل متنوعة من محاولات الخطأ والصواب. وهي بهذه الحركة تزداد خبرة ويزداد تقدمها تبعاً لذلك. الأمر الذي يختلف عن سائر الإدراكات غير المتكئة على الواقع، ومنها الممارسات الإجتهادية التقليدية التي يصعب عليها إدراك الأخطاء واختبار الآراء بوسائلها المعروفة. فالنص الذي تلجأ اليه في بناء أحكامها مركب من حروف ساكتة وساكنة، ليس فيها نطق ولا حركة، خلافاً لما عليه الواقع، حيث يتسم بمثل هذا النطق وتلك الحركة، مما يؤهله لأن يكون مصدراً أساساً للبناء والتصحيح. لذلك فإن مراجعة الواقع بين مدة واخرى تساعد على تنمية معارفنا وتكشف عن أخطائنا وتغير من تقديراتنا، بينما قراءة النص قراءة فاحصة لمرة لا تستدعي قراءته مرة أخرى ليكون كاشفاً عما هو جديد في البناء والتصحيح، فهو هو، لم يتجدد منه شيء وليس فيه تغير يبعث على المقارنة والمساءلة والاختبار والاحتكام. وسنزيد ايضاح هذه المسألة فيما بعد.
على هذا فالأخطاء المترتبة على الممارسة التقليدية للإجتهاد تكاد تكون ثابتة لا تقبل التصحيح، إذ نجد ركاماً من الآراء الفقهية المتضاربة على مدى تاريخ الفقه الإسلامي. فهي على تضاربها ظلت كما هي لم يبدُ عليها علائم التغيير الا عند اقتضاء الحاجة الزمنية وضغوطها الفاعلة. وحتى هنا نعود مرة أخرى إلى معيار الواقع الذي يحتكم اليه الوجدان العقلي، مما يجعله اقل خطأ واكثر تصحيحاً. يضاف إلى ان بالامكان ضبط أحكامه بعيداً عن الهوى والمصالح الشخصية، وذلك فيما لو تقيد بمقاصد الشرع واستند إلى نظام الشورى والإجتهاد الجماعي.

العقل وشبهة نقص الشريعة

اذا كنا قد علمنا أن أحكام الشريعة تطابق قرارات الوجدان العقلي، وعرفنا ان للاولى طبيعة امضائية مقارنة بالوجدان، فإن ما يناط بهذا الأخير من وظيفة الكشف عن الأحكام لا يستلزم منه نقصان الشريعة، بل كمالها، وذلك لما تحمله من الطابع الامضائي والمطابقة، ولما تحث عليه ـ تبعاً لهذا ـ من حق الممارسة الوجدانية. وسبق ان لاح لمحمد اقبال إدراك مغزى بعثة النبي محمد (ص) وخاتميتها للرسالات السماوية، إذ حدد وظيفتها بربطها بين العالمين القديم والحديث، فمن حيث الدعوة إلى الرسالة كمصدر معرفي يكون النبي (ص) منتمياً إلى العالم القديم، لكنه ايضاً ينتمي إلى العالم الحديث، بحثّه على ايقاظ روح العقل والتجربة والواقع، معتبراً ان دين الإسلام يعترف بما للعقل من قدرة لأن يشكل مصدراً صادقاً للكشف عن الحقائق المعرفية، ومن ثم الاقرار بوجود مصادر أخرى للمعرفة بجانب ما امده الوحي. وهو أمر جعل اقبال يعتبر مولد الإسلام مولداً للعقل الاستدلالي، وذلك لما دعا اليه من اعتماد التجربة والنظر لفهم ظواهر الكون واستنطاق الأنفس والآفاق كمصادر هامة للمعرفة ، وكذا الاعتبار من أخبار الأولين وغير ذلك مما يشكل اعترافاً بقيمة النشاط العقلي المستند إلى الواقع ونظام الخلقة .

العقل وشبهة نهي الحديث عن الممارسة العقلية

أما بخصوص الأخبار الناهية عن الممارسة العقلية؛ فتعارضها أخبار أخرى تحث على هذه الممارسة. ومن ذلك الأحاديث التي تعد العقل حجة باطنة، وشرعاً من الداخل، وأنه مما يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان. وهي أحاديث قيل فيها أنها متواترة . بل من الأخبار ما يوصي بعدم قبول شيء من غير عرضه على الوجدان العقلي المفضي إلى نوع من الطمأنينة، ومن ذلك ما روي عن النبي (ص) قوله: (استفت قلبك وان أفتاك الناس وأفتوك) ، أو قوله: (استفت قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت اليه النفس واطمأن اليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) .
مع هذا فحتى لو صحت الأخبار الناهية عن الممارسة العقلية في إدراك الأحكام، فإن من الممكن تخصيصها في المجالات التعبدية التي لا يلوح منها معنى معلوم. أو ان المراد من النهي فيها هو الممارسات العقلية القائمة على الأهواء والمصالح الذاتية، أو تلك التي لا تفيد العلم وتكون على حساب الرجوع المباشر للمعصوم الكاشف عن الحكم يقيناً بلا أي لبس، أو تلك التي لا تكون منضبطة بضوابط تقنية متينة، كإن تكون غير مستنة بسنة التتبع والبحث والاستقصاء للقضية المطروحة في جوانبها المختلفة، سواء ما تعلق بما ورد عنها شرعاً، ومن ذلك إدراك المقاصد العامة والموجهات الكلية، أو بما ارتبط بها من المترتبات الواقعية والمقدرات الوجدانية.
مهما يكن فالملاحظ هو ان مثل هذه الروايات يصح ان تثار ويعول عليها فيما لو كان هناك وضوح كاف بمؤدى الأخبار والنقل، أما مع عدم وجود مثل هذا الوضوح والإطمئنان فالأمر مغاير، ومن ذلك أن الروايات المتعلقة بهذا الجانب ينتابها بعض اللبس، لذلك نجد الخلاف الكبير بين الإخباريين والأصوليين حول علاقة العقل بالإجتهاد والعمل بالرأي ضمن الاعتبارات الظنية والتي تفضي إلى كثرة الاختلاف وبالتالي كثرة الخطأ. فهل يصح - طبقاً لهذا - أن نقول كما يقول الإخباريون: ان عمل المجتهدين ينافي ما جاء في الأخبار الدالة على منع تدخل العقول والآراء والإعتماد على القواعد والنظريات المفضية إلى المزيد من صور الاختلاف ؟!



مبادئ وضوابط

أخيراً فإن المبادئ والضوابط التي تتحكم ببناء الأحكام كما ندعو لها هي كما يلي:
1 ـ ممارسة الوجدان العقلي في القضايا التي يمكنه إدراكها، كالقرارات التي تتخذ في المعاملات الحضارية.
2 ـ دراسة الواقع وفحصه عن كثب اعتماداً على اصول المنهج العلمي، سيما فيما يتعلق بالدراسات الإنسانية وكل ما له علاقة بعلاج الواقع وتقرير الاحكام.
3 ـ التعرف على ثبات وتغير كل من حاجات الواقع والأحكام الشرعية، ومحاولة الفرز بين الحاجات التي لها القابلية على الثبات وتلك التي لها القابلية على التغير، وكذا بالنسبة للأحكام التي تتأثر بتلك الحاجات ثباتاً وتغيراً والتي ينبغي ان تتأسس على ضوئها.
4 ـ النظر إلى مقاصد الشرع والهدي بهديها من غير زيغ ولا انحراف.
5ـ العمل لتأسيس الأحكام طبقاً لضوابط محددة من العلمية الفقهية والخبرة الواقعية والإختصاص وحسن السليقة والإعتدال مع التدين والتقوى، وأن لا يكون ذلك بمعزل عن الشورى، حيث أنها صمام الامان من الهوى الشخصي، وبها يتحقق أكبر قدر ممكن من العلمية كما هو واضح. وما اعظم ما قاله سفيان بن عيينة من السلف: (إجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول هو برأيه) .



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فهم النص ومعايير التحقيق (5)
- فهم النص ومعايير التحقيق (4)
- فهم النص ومعايير التحقيق (3)
- فهم النص ومعايير التحقيق (2)
- فهم النص ومعايير التحقيق (1)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (5)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (4)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (3)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (2)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (1)
- موقف الفلاسفة التقليديين من فهم النص
- نظرية المقاصد ونقدها
- موقف الخطاب الديني من غير المسلمين
- عقل: عربي أم إسلامي؟
- الخطاب الديني والتفكير الوقائعي
- التراث المعياري وصراع الأصول المولّدة
- الاصول المولدة في علم الكلام
- كيف نقرأ التراث؟
- أربعة مواقف للفلاسفة والعرفاء من النص الديني
- بين الفهم المجمل والمفصل للدين


المزيد.....




- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- لوموند: المسلمون الفرنسيون وإكراهات الرحيل عن الوطن
- تُلّقب بـ-السلالم إلى الجنة-.. إزالة معلم جذب شهير في هاواي ...
- المقاومة الإسلامية تستهدف تحركات الاحتلال في موقعي المالكية ...
- مكتب التحقيقات الفيدرالي: جرائم الكراهية ضد اليهود تضاعفت ثل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - العقل والإجتهاد