أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كامل السعدون - لماذا نتأمل - دراسة في التأمل وتقنياته















المزيد.....


لماذا نتأمل - دراسة في التأمل وتقنياته


كامل السعدون

الحوار المتمدن-العدد: 942 - 2004 / 8 / 31 - 11:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لماذا نتأمل ….!
دراسة في التأمل وتقنياته ومنافعه …!
الفصل الأول
___________
تأليف
دايفيد هارب
ترجمة
كامل السعدون
مقدمة المترجم :
________

رغم إننا أهل الشرق من أقدم الشعوب وأعرقها حضارة ، ( وإن لم نكن نحن العرب صناعها ، فإننا بالسيف ورثناها ) ، الحضارات الفرعونية والفينيقية والعبرانية والبابلية والآشورية والفارسية ، رغم هذا فإننا وللأسف الشديد من أقل الناس اعتبارا للروحانيات الحقة ( ربما لأن الإسلام أقل الأديان روحانية وأكثرها مادية وعملية ) ، ولأننا هكذا فإننا في تصوري حرمنا من عناصر خطيرة هامة في التقدم الحضاري ، إلا وهو الميراث الروحي الذي يستنبت جذوره في العقل الجمعي لشعوبنا وبالتالي يبعث في النفوس الألق والطمأنينة والرضا الداخلي والتفكير الجدي العميق في إشكاليات الموت والحياة والتقدم والحب .
أظن أننا عرب اليوم من أفقر الناس في كل هذا العالم روحياً ، وإذ أعني روحياً فأنا لا أعني روحية العداء والقتل وإقصاء الآخر ورجم المرأة ووأد الطفل باكراً ولا الطقوس الدينية الزائفة الوثنية التي لا روح فيها كالحج والصيام و..و…و…الخ ، وإنما أعني روحية الحب والتسامح وفهم الآخر ونبذ العنف والإقرار بالذنب تجاه الأمم المستضعفة من قبلنا وتصحيح أخطاء التاريخ و…و…و…!
جميع هذا نفتقده ولأجل هذا فإننا ممزقين من الداخل ، نفتقد السلام والرضا والأمان الداخلي ونعيش كشعوب وكأفراد حالات أحتراب وتوتر وقلق وإفلاس وعجز عن التقدم ….الخ .
حين أرى التقدم الصناعي والعلمي الذي أصابته شعوب الشرق الأقصى ، لا أتوهم أن هذا التقدم سببه شيوعية أهل الصين ولكن مزيج شيوعيتهم مع كونفشيوسيتهم ، وحين أرى التطور الصناعي الهائل والاستقرار الذي أصابته الهند قياساً إلى الشقيق الباكستاني ، أرى في ذلك الخلفية البوذية والهندوسية والمسيحية للشعب الهندي ، بل لشعوب الهند بلغاتها التي تتجاوز الثلاثمائة لغة وبقومياتها وإثنياتها التي لا تعد ولا تحصى …!
وحين ألتفت لشعوب العالم العربي وأرى التخلف والأمية والجهل وملايين العوانس والإرهاب وضعف النمو الاقتصادي ، أرى وراء ذلك ضعف الخلفية الروحية للعرب ، لأن دينهم بلا روحانية على الإطلاق وكلنا يذكر قولة محمد ( لا رهبانية في الإسلام ) ، بمعنى لا مجال للتأمل وإعمال الفكر والاعتكاف والتحرر الحق من المادة في سبيل تنقية الروح وتهذيبها …!
أقسم لو إن الفراعنة اليوم أو الفينيقيين أو البابليين هم من يدير بلداننا لارتقت تلك البلدان إلى القمة ، لأن كارثتنا هي في هذا الدين الدموي العدواني الضيق الأفق .
حسنا ما علاقة كل هذا بالتأمل وبهذه الترجمة …؟
هناك أسباب عديدة أولها :
لأن الغرب ومنذ بضع سنين وعلى ضوء البحوث العلمية التي تطابقت إلى حد كبير جداً مع الديانات البوذية والهندوسية والكونفشيوسية ، تأكد لهم خطورة وأهمية الأنشطة الروحية في تعزيز الصحة النفسية والجسدية وفي الصناعة وزيادة الإنتاج وفي الاستقرار الأسري لا بل وفي الاختراع والاكتشاف والتربية و…و…و…الخ .
وانتشرت ديانات الشرق الأقصى بشكل كبير في الغرب ، وترجمة النصوص الأصلية من السنسكريتية وغيرها وكتبت المئات من الكتب في بحر سنوات قليلة عن العلوم والأنشطة الروحية المشرقية القديمة ، وأستُقبِل المعلمون البوذيون والهندوس من الهنود واليابانيون والصينيون في الغرب بالترحاب وحقق الكثير منهم نجاحات ساحقة وصار بعضهم من أصحاب الملايين في بحر عامٍ أو عامين بفضل الدورات التدريسية التي كانت تلقى إقبالاً منقطع النظير من قبل شعوب أوربا وأمريكا وغيرها .
وبالتالي فحيث أن الغربيون وهم أهل حضارة فلسفية وسياسية ومادية عظيمة تمتد في جذورها إلى اليونان وروما القديمة وصولاً إلى عصر النهضة والعشرات بل المئات من عظماء الفلاسفة ، إذا كان هؤلاء قد احتاجوا للروح المشرقية العظمية وعلومها فكيف بنا نحن ونحن المفلسفون تماماً ، لا من دين ذو طابعٍ روحي ولا من ترابط تاريخي وديٍ مع جذورنا الحضارية السامية ( الفرعونية والبابلية والآشورية والعبرانية والفينيقية ) ، ولا من حضارة عقلية فلسفية ( لأن الإسلام ذاته قد قمع أهل الروح وأهل العقل بذات الآن ) .
فإننا قطعاً بحاجة إلى الالتفات للروح ومحاولة إعادة بناء العقل والروح العربية على أسس جديدة تقصي الدين والموروث القبلي وتفسح منافذ لنور وجه الرّب الحقيقي ، لا البدوي …!
الحقيقة لا أعرف ( كما أسلفت في مرات عديدة ) ما هو مترجمٌ أو مكتوب عن التأمل وعلوم الروح في عالمنا العربي ، لأنني بعيد عن هذا العالم منذ سنين عديدة ، ولكنني أجيز لنفسي أن أكتب وأترجم حتى لو سبق أن تُرجم أو كتب ، طالما أني أعتمد لغتي الخاصة ورؤيتي الخاصة وطالما لا أقع في محظور انتهاك الحقوق الفكرية للغير ، إذ أشير دوماً إلى الكاتب الأصلي والعنوان الأصلي ، وأعمد دائماً إلى الاحتفاظ بنصف أو ثلاثة أرباع الكتاب في أرشيفي ولا أنشرّه مهما كان الثمن ، احتراما لصاحب الحق الأصلي ولكي ما أستحث النشء من خلال ما أنشر على البحث عن البقية عند غيري فيتعزز الوعي وتطرد حركة التنوير .
حسناً فلنتوجه أذن صوب الفصل الأول من هذا الكتاب ، مع الإشارة إلى أني تجاوزت الكثير من اللغو غير المفيد ولا العملي ، ولم أنشره هنا .

الفصل الأول
________


ما هو التأمل :
_______

التأمل هو فن السيطرة الذاتية الذهنية على العقل والأفكار وتدفق الصور أو منع تدفقها أو تغيير اتجاهها ونوعيتها .

لماذا نتأمل :
______

لا نشك في أن أي واحد منا يعاني بين الفترة والأخرى من هبوط المعنويات ، كآبة ، يأس ، قلق ، توتر ، اضطراب ، تردد ، خوف ، إحساس بعبثية ولا معنى الحياة ، أحبط ، شعور باللاقيمة ، ولأجل هذا وغير هذا كثير نحتاج للتأمل …!!
حسناً …وما علاقة التأمل بتلك الاضطرابات والمتاعب النفسية التي لا تعفي أحداً من الوقوع في فخاخها …؟
الجواب العلاقة كبيرة جداً وخطيرة وإلا فلنسأل أنفسنا ما الذي يوقعنا في تلك الحالات النفسية المدمرة الهدامة …، وأين تقع بالضبط ومن أين تنبثق في الأساس …؟
إنها تنبثق من المخ أولاً ، من طريقة أو نمط تفكيرنا السلبي في هذه اللحظة أو تلك وليس من الأحداث التي تحصل في الخارج أو من الآخرين الذين يسببون لنا تلك المتاعب …!
لا…. مطلقاً نحن من يخلقها لأنفسنا لأننا نحن من يفسر انعكاسات الحواس بشكل سلبي وبالتالي ننتج مشاعر سلبية من قبيل الكآبة أو الملل أو القلق …!
وكلنا سمعنا بأناس تمكنوا من العيش عمراً طويلاً من السعادة والألق والجمال رغم إنهم خسروا أطرافاً أو أعضاء أخرى أو أصيبوا بكوارث مدمرة أو فقدوا أعزاء أو أفلسوا بعد ثراء …!
لماذا لأنهم نظروا إلى الحدث من زاوية إيجابية وفسروه تفسيرا إيجابي وبالتالي لم يتحطموا كما كان متوقعاً أن يحصل .
إذن فكل شيء له علاقة مسيسة بالمخ والعقل لأن العقل هو من يدير المخ وإذا أمكن لنا أن نسيطر على العقل أمكن لنا بالتالي السيطرة على حياتنا ومشاعرنا وعواطفنا بالكامل وبالتالي أمكن لنا أن نخلق الحياة التي مريدها لأنفسنا لا تلك التي تريدها الظروف لنا …!!!
كيف نسيطر على عقولنا …؟
هناك أساليب وتقنيات عديدة جداً ، لكن التأمل هو أقدم وأخطر وأنجع تلك التقنيات ، لا بل وهو المفتاح لكل فنون وعلوم الروح ، من الاسترخاء البسيط جداً لتنقية المخ إلى الباراسيكولوجي والسحر وغير ذلك …!
كلها تبدأ من هنا وكلها تنتهي هنا …التأمل (MEDITATION ) .
إن العقل إن تُرك لحاله ، عاملاً حسب قوانينه الذاتية فإنه سيظل يطحن ذات الأفكار وذات الصور وانعكاسات الحواس وبالتالي ينتج ذات المشاعر ، سواءٍ المحزنة الكئيبة المملة منها أو السارة المفرحة الزائفة السرور والتي قد تعقبها في النهاية خيبة موجعة .
وهو ينتقد ويراقب كل صغيرة وكبيرة ويتدخل في كل شيء ويثقل كواهلنا بتصوراته الفجة وخيالاته غير المجدية ، إنه ذاته من يغريك بوجبةٍ إضافية من السمن أو اللحم المحمر أو الرز فتأكل وتأكل وتضيف على الدوام كيلو غرامات جديدة ثم تلتفت لنفسك فتتلاوم وتتألم لانتفاخ البطن وتكور المظهر الخارجي ، إنه ذاته من يغريك بأن تستدين لتشتري سيارة جديدة تعجز لاحقاً عن سداد أقساطها ، إنه… وإنه… وإنه …!
هنا يلعب التأمل الدور الأخطر في أن يسلمك قيادة العقل وبدلاً من أن يتحول عقلك إلى دكتاتور كريه ومزعج ومهيمن يقلب شؤون حياتك ويديرها بحريته ، فإنه عبر التأمل يمكن أن يتحول إلى جهازٍ منضبطٍ مفيدٍ توجهه أنت ذاتك حيث تريد وبالاتجاه الذي تريده …!!

التأمل والذكاء العاطفي :
_____________

من الكتب السيكولوجية الرائعة للغاية ، كتاب الذكاء العاطفي Emotional Intelligens لمؤلفه " دانيال كولمينس " ، هذا الكتاب صدر عام 1995 ، ولم يذكر فيه المؤلف لا من قريب ولا من بعيد لا حتى في الهوامش شيئاً عن التأمل ، ولكنه طرح سؤالاً مستفزاً أثار حفيظتي ودفعني للبحث في أسرار التأمل وبالتالي تعلمه .
لماذا تبدو أفكارنا ، مشاعرنا وتصرفاتنا في أغلب الأحيان وكأنها خارج عن إرادتنا وسيطرتنا الواعية …؟
ولماذا حين نتمكن من السيطرة على تلك الأفكار والمشاعر والتصرفات ، يتحسن أدائنا الحياتي ونحقق النجاح …؟
ويجيب المؤلف قائلاً :
" الوعي الذاتي… وعي المشاعر والانتباه لها لحظة انبثاقها ، هو الحجر الأساس في الذكاء الشعوري والعاطفي ، أن تستطيع التعامل مع المشاعر بحيث تحيلها إلى مشاعر إيجابية وذات قيمة ومعنى ن هو أبرز خصائص الوعي الذاتي "
حسناً وهذا هو تعريف التأمل ، بلا زيادةٍ ولا نقصان ، السيطرة على المشاعر وإعادة توجيهها وتغيير مسارها أو حذفها وإلغائها .

مخ الديناصور وعقل الإنسان الحديث :
_____________________

في الفصل الأول من كتابه الرائع ، يتحدث السيد كولمن عن الكيفية التي تطور بها الإنسان منذ عصر الديناصورات حتى يومنا هذا
ويعتمد الرجل في بحثه على استعارة المعلومات التي توصل لها علماء الأعصاب باعتمادهم على محركات البحث الإلكترونية الحديثة المتطورة للغاية والتي تمكنت من إعطاء خريطة تفصيلية على تطور المخ منذ أيام الديناصورات وصولاً إلى يومنا هذا .
تلك المعدات الراقية جداً أوضحت بالدليل الملموس تلك الأجزاء من المخ ، القديمة والجديدة ، وكيف تخصصت في إنتاج عمليات ذهنية مختلفة ، وكيف أن الدائرة العصبية ( منظومة الأعصاب الدقيقة ) والهرمونات المتخصصة قامت بربط أجزاء المخ القديمة بالجديدة الناشئة لاحقاً حسب المسار التطوري لمخ الإنسان .
وأدناه خلاصة البحث العلمي التي وصفها لنا كولمن بتبسيط شديد :
قبل مئات الملايين من السنين ، كان أجداد الأجداد من أجدادنا مجرد زواحف صغيرة لا تتجاوز في الطول تلك الأسماك الأسطورية التي خرجت من الماء زاحفةٍ على زعانفها فوق رمل الشواطئ .
لم يكن المخ في تلك الرؤوس المدببة الصغيرة متطوراً ، بل كان بسيطاً للغاية وكان مصدر معلوماته الأنف كحاسة وحيدة في ذلك الوقت .
كان منشغلاً حسب بتلقي معلوماته من الأنف ومن خلالها كان يميز الروائح لما يصادفه من مواد حية أو ميتة ، متساقطة على الأرض من بقايا الأشجار أو الثمار أو دواب الأرض الصغيرة ، أو كائنات أخرى أكبر حجماً ، وبالتالي تلك الروائح كانت دليل تمييز الأشياء لغرض إنتاج موقف ذهني ثم سلوك عملي ، فهذا الذي يؤكل يمكن التهامه بأمان وهذا الذي يحمل كذا رائحة ، يجب الهرب منه ، وتلك التي لها رائحة خاصة متميزة ، يمكن أن يتزاوج معها .
هذا المخ الذي يسمى علمياً المخ الأنفي ( يسمى في اللاتينية - Rhinencephalon ) ، هو السلف الأول لمخنا الذي يتجاوز وزنه
اليوم الكيلو غرام من المادة الرمادية اللون .

متسلقو الأشجار والمخ الذي أستمر بالتطور والنمو:
___________________________

حين شرع أجدادنا اللاحقون بعد بضعة عشر من الملايين من السنين بمغادرة سطح الأرض وارتقاء الشجر أو التعلق بالأغصان الطويلة والقفز من هذه الشجرة إلى تلك ، تطور المخ بطريقة أثرت فينا لغاية هذا اليوم .
طبقات المخ بدأت تتشكل فوق نواة المخ الأنفي الصغيرة ، وهذا ما أعطى متسلقو الأشجار قدرات جديدة لم تكن موجودة حين كانوا على الأرض …!
الذاكرة و القدرة على التعلم .
قبل هذا اليوم المبارك ، كان الصبي منهم يلعب مع هذا الكائن الصغير الرشيق بفرائه المخطط بالأبيض أو ذو اللون الواحد ، وكان اللعب غالبا ينتهي بأن يبتلع النمر أو الدب هذا الفتى بعد أن يمزق أشلائه على مسافةٍ غير بعيدةٍ عن الأم أو الأب ، اليوم يستطيع الفتى أن يتذكر ما سلف أن رآه من أفعال هذا النمر أو ذاك الدب فيتحاشى اللعب معه .
في الخطوة الثورية التي سلفت دخل البصر بقوة على الخط كحاسة مهمة يمكن للمخ أن يفهم إشاراتها ، بعد أن كان سابقاً مخاً أنفياً ، لا يميز إلا انعكاسات حاسة الشمّ ، ونمت احتياجات المخ بعد أن حصلت كوارث عديدة أخرى .
صار الإنسان يعتمد كما قلنا على أغصان الأشجار للتنقل من واحدةٍ إلى أخرى إثناء الهرب أو اصطياد الحيوانات التي هي أضعف منه ، وعملية انتخاب وتمييز الغصن عن ورقة الشجر الكبيرة مهمٌ جداً وإلا فأنه ( وقد حصل مثل هذا كثيراً ) يمكن أن يتعلق بورقة سرعان ما تنقطع من غصنها لتلقي به إلى الأرض فيكسر عنقه ، إذن فهو يحتاج إلى طبقات أخرى من المخ وحواسٍ أخرى وظهرت حاسة اللمس …والتمييز عبر الملمس .
وهكذا تطور المخ ، ونشأت الذاكرة ونشأت بدايات إعادة تصوير الأشياء واستذكار الصور التي سبق رؤيتها ، ووصل المخ إلى هذا الذي نسميه اليوم ، المخ المفكر " NEOCORTEX " .
وهكذا وفي ذات صباح جميل مبارك نشأ ما نسميه اليوم " العقل " …!
وتدريجياً مع تطور هذا الحيوان اللبون ، تطور المخ أكثر وأكثر وصار أكبر فأكبر وأحتفظ أسلافنا القريبون بما ورثوه من البعيدون من قدرة على اتخاذ القرارات بالاعتماد على ما سلف تصويره من الظواهر الخارجية وما هو مختزنٌ في الذاكرة ، مشهد النمر الذي يأكل صبياً أو البرق الذي أحرق شجرة أو غير ذلك .
طبقةٌ عميقةٌ جداً من طبقات المخ مسؤولة عن وظيفة الهجوم أو الفرار ، متى تهرب وممن ، ومتى تقاتل وضد منْ …!
لو إنك لعبت مع النمر لألتهمك أما لو إنك هربت من الأرنب لفاتتك وجبة غداءٍ شهية …، ولو إنك حللت الموقف من جديد واعتمدت الحواس لما لحقت على النجاة أو لفرّ الأرنب وفاتتك الوجبة ، هنا يجب استخدام الموروث المحفوظ في الذاكرة ، الصور المختزنة من التجارب السالفة …!!

هجوم أو فرار :
______

تؤكد البحوث الحديثة في علم لغة الأعصاب في يومنا هذا على إن الطريقة التي طور المخ بها نفسه عبر العصور ، هو ما يدفعنا اليوم على أن نقوم بردود أفعال على شيء غير حاصل عملياً بعد ( فكرة ما أو صورة خيالية ) وكأنها حاصلة حقاً ، فلو إننا مثلاً وفي الهزيع الأخير من الليل خرجنا إلى غابة أو طريق شبه معتم فإن الكثير من الصور الغريبة ( من قبيل أن يخرج لنا حيوانٌ ما أو قاطع طريق أو حتى شبح ما ) ستنتج في المخ وتؤثر فينا بالتالي فسيولوجياً وكأنها حقيقة واقعة ، بحيث أن الجهاز العصبي يتهيأ لرد الفعل ويجهز كل مخزونه من القوة والطاقة متمثلةٍ بازدياد إنتاج هرمون الأدرينالين وارتفاع دقات القلب وارتفاع ضغط الدم ، إنها ذات الحالة التي تنتجها الطبقات السفلية من المخ لدى أسلافنا قبل ملايين السنين " حالة الهجوم أو الفرار " .

ردود أفعال بدون تفكير :
____________
كل هذا يحصل غريزياً ويتم معالجته وإنتاج ما يناسبه من ردود أفعال ، بشكل غريزي من قبل هذه الطبقات القديمة جداً والبدائية من المخ الأنفي ( مخ أجدادنا أيام عصر الديناصورات ، المخ الذي تحكمه حاسة الشم حسب وينتج ردود أفعاله على أساس الشم ) ، لا بل ويبدو وكأن المخ القديم هذا لا زال مرتبط عضوياً بمنظومة إنتاج الهرمونات والعضلات بحيث يحصل رد الفعل وانعكاساته الفسيولوجية بشكل غريزي وبلا أدنى تفكير تماماً كما كان الحال زمن الأجداد القدامى ، بمعنى أن رد فعلنا الفسيولوجي يستند على حوافز تأتي فقط من تلك الطبقات العميقة جداً في المخ والعائدة لزمن بدائية الكائن الإنساني ، وليس من طبقات المخ الحديثة التي تعود لعصر الحضارة حيث العقل في قمة رقيه وحيث الأفكار المنطقية قائمة والعقل مستمر في إنتاجها .

هجومٌ أم فرار … في الذاكرة :
________________
تشير بحوث لغة الأعصاب أيضاً إلى أن ذكرياتنا عن الأحداث المهمة يمكن أن يتمخض عنها ذات ردود الأفعال الفسيولوجية التي يمكن أن تتمخض عن الأحداث الحقيقية التي تقع فعلاً ، ربما كبقايا أثرية من تلك الطرق القديمة جداً في التذكر والتعلم ( حين شاهد مرة النمر أو الدبي يلتهم صبياً يلعب معه ) ، وبالتالي فالتفكير بشيء ما عشته مرّة يمكن أن يعيد إنتاج نفس ردود الأفعال كما لو إن هذا الشيء كان حقيقياً هذه المرة أيضاً ، فتتوتر العضلات ويزداد تدفق الأدرينالين ويرتفع ضغط الدم وهكذا .
المدهش أن طبقات المخ الأقدم تاريخياً والموروثة جيلاً أثر آخر من إنسان عصر الديناصور ، يمكن أن تتصرف قبل الطبقات العليا التي تكونت لاحقاً حين نضج العقل وصار المخ جهاز تفكير وتحليل واستنتاج ، ولهذا نرى أن ردود الأفعال الفسيولوجية تحصل قبل أن يشتغل الجزء العلوي المفكر من المخ فيردعنا باستنتاجاته بأن ما نراه أو نتخيله لا أكثر من وهم .

الحياة مع جملة ضغوط دائمة :
_______________

التفكير بحرب نووية ، ذكرى لحادث مروري أو زواجٍ سابق مع شريك سيئ ، علاقة حب خائب أو صداقة تحطمت فجأة مخلفةٍ مرارة وخوف ، مشروع تجاري فاشل أو التعرف على شخص في موقفٍ ما وإذ به يغدو عنصر إزعاج غير منقطع ، جميع هذا وغيره ( وكل ما يشبهه لاحقاً ) يمكن أن يدفع الجسم إلى أن يقوم بردود أفعال مع ذات المنطق ما قبل التاريخي لمخ الأجداد القدامى جداً جداً ( منطق الهرب أو الهجوم ) ، ولهذا ليس غريباً أن تجد الواحد منا يستهلك قسطاً من وقته كل يوم في الاستعداد للقتال أو الهرب .
لا نشك في أن منطق أجدادنا الساذج زمن عيشهم وسط الديناصورات والأسود والحيوانات الخرافية الحجم والمرعبة ، لا نشك في أنه منطقٌ يمكن أن نفهمه ونستوعبه إذ لولاه لما كنا اليوم على قيد الحياة ، بلا لقد كان ضرورياً في حينه ، لكن هل هو ضروريٌ في زماننا هذا …؟
خصوصاً وإننا نملك نظم قانونية ودساتير وقدرات واسعة عن التعبير عن ذواتنا ولدينا إمكانات هائلة للدفاع عن وجودنا دون أن نحتاج للهرب أو الهجوم المباشر …!

اختطاف الأعصاب والتشتت الذهني
___________________
هذه الحالة التي أعتاد المخ على التعامل بها تحت قوانين وإمكانات المخ زمن الديناصورات والتي وُرثت وترسخت في الطبقات السفلية من المخ ( حالة الهجوم أو الهرب ) ، تسبب للمرء إشكالين مؤلمين الأول هو اختطاف أو ارتهان الأعصاب ، حيث يقوم الجسم بردود أفعال فسيولوجية غير منطقية وغير معقولة ومحرجة للغاية للعقل المفكر لأنها تسبق أي تفكير أو استنتاج منطقي يمكن أن ينتج في الجزء المتحضر من المخ ( الجزء الأعلى من طبقة مخ إنسان العصر الديناصوري ) ، وبالتالي فحالة الهيجان والغضب والانفجار بالشتائم والتعرق والتلعثم أو ربما الفرار الفجائي من المكان الذي حصل فيه احتكاك غير مرغوب فيه مع شخص آخر ، جميع هذا يحرج المخ الضاري والعقل المفكر وبالتالي يسبب لنا لاحقاً الشعور بالأسى والعار والخجل ونتساءل لماذا لم نضبط أعصابنا ولماذا سببنا لأنفسنا هذا الموقف المخزي وهكذا …!
والأمر الثاني المؤلم أيضاً هو حالة التشتت الذهني ففي الوقت الذي تريد فيه أنت أن تفكر بشيء ذو بعد مستقبلي وقيمة هامة ، فجأة تجد تركيزك يتشتت ويتوجه صوب أفكار عاطفية قد لا تكون لها قيمة في حينها وبالتالي فإنك تهدر قوى وطاقات هائلة سواء في تبنيك سلوك ( الهجوم أو الهرب ) أو في حالة ضياعك بين الأفكار العاطفية والأخيلة الشعورية التي قد لا تكون لها قيمة عملية في حينها ، طبعاً هذه الحالة أيضاً يسببها لنا المخ الديناصوري الذي كان يحتاج لخلق صور عاطفية وشعورية لكي يحافظ على حالة الهجوم والهرب لديه .

لماذا نتأمل :
______
مضافاً إلى متاعب ارتهان الأعصاب وتشتت الذهن في أفكار وأحلام وصور شعورية وعاطفية ، ثم تأثير ذلك وهذا في اضطراب الفسيولوجيا ، بسبب المخ الديناصوري ، فقد لوحظ المزيد من الآثار الغير صحية من الضغوط المبالغ بها الناتجة من ذات المخ الديناصوري العتيق ( هجوم أو هروب ) ، مثل الكآبة والخوف المبالغ به و…و…و… الخ .
رغم تلك الصورة القاتمة لعقولنا بفعل هذا الجزء القديم من المخ ، رغم هذا فلحسن الحظ هناك رد فعلٍ آخر إيجابي هذه المرة وناتج من ذات المخ القديم وهذا الرد من الفعل يسمى " الاسترخاء " ، وهو يعاكس الأول ( السلبي ) ويوازنه بالكامل ، من خلال تهدئة الأعصاب وتخفيض توترها .
لقد أتضح علمياً أن نوع معين من التأمل والذي يدعى ( تأمل السيطرة على المخ ) ، هو الطريقة الأكثر فعالية لتحقيق الاسترخاء ، ومثل هذا التأمل تأكدت قيمته عبر بحوثٍ ودراسات علمية عديدة ، ويمكنك الحصول على المزيد عن هذا الشأن بالمرور على كتاب الدكتور هيربرت بينسون والمسمى " The Relaxation Response " .
رد الفعل الإسترخائي Relaxation Reaction هو واحدٌ من المنافع التي لا تعد للتأمل ، وكما سلف أن قلت ، رغم إن أفكارنا تملك مقدرة وتأثير عظيم على أفعالنا وأنشطتنا وردود أفعالنا الفسيولوجية ، فإن ليس من الضروري دوماً أن يكون هذا التأثير سلبياً ، ولو إننا أمكن لنا أن نتعلم كيف نفهم ونراقب ومن ثم نسيطر على أفكارنا والتي لا تكف عن التدفق ليل نهار من خلال عقولنا ، فإن بإمكاننا أن نحول السلب إلى إيجاب وبمقدورنا أن نخفض تأثيرات العقل الديناصوري من قبيل ارتهان الأعصاب والشرود الذهني وتشتت الفكر والضغوط السيكولوجية المبالغ بها كالخوف والرعب وغيرها ، وبالتالي محافظ على صحة عقلية وسيكولوجية وجسمانية أكبر من خلال التأمل .

حسناً …نكتفي الآن بهذا القدر من هذا الكتاب وفي الفصل القادم سندخل في صلب تقنيات التأمل ونتعلم العديد منها قبل أن ننتخب ما يناسبنا لكل ظرف ووضع .



#كامل_السعدون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لن تأمنوا يا عراقيين فجيش المهدي لم ينتهي بعد ...!
- جاء البابا فهرولوا ورائه أيها الحفاة العراة....!!!
- الإنتحار الجماعي للشيعة في العراق
- قوة بلا حدود
- الزائرة - قصة قصيرة
- بمقدورك معالجة وإصلاح حياتك بنفسك - الفصل السادس والأخير
- الضيف الغريب - قصة مترجمة - تأليف ليو تولستوي
- منهاج السيلفا للسيطرة على المخ - الفصل الرابع ويليه الخامس
- رحيل - قصة قصيرة
- بمقدورك معالجة وإصلاح حياتك بنفسك الفصل الرابع ويليه الفصل ا ...
- بمقدورك معالجة وإصلاح حياتك بنفسك - الفصل الثاني & الفصل الث ...
- بمقدورك معالجة وإصلاح حياتك بنفسك
- هذا العابث القميء من يردعه ؟
- منهاج ال ( سيلفا ) للسيطرة على المخ - الجزئين الثالث والرابع
- قوانين النجاح الروحية السبع - قانون التباعد المحسوب عن الهدف
- متى تتحرر المرأة عندنا ...كشقيقتها الأوربية ...؟
- قوة بلا حدود -أستنساخ القدرات المتطورة لدى المتفوقين
- قوة بلا حدود -الفصل الأول
- من ليس لديه أزدواجية ولاء فليرمي الشيعة بألف حجر
- شهداء الكلدان ...شهداء العراق الأبرار ...!


المزيد.....




- -بعد فضيحة الصورة المعدلة-.. أمير وأميرة ويلز يصدران صورة لل ...
- -هل نفذ المصريون نصيحة السيسي منذ 5 سنوات؟-.. حملة مقاطعة تض ...
- ولادة طفلة من رحم إمرأة قتلت في القصف الإسرائيلي في غزة
- بريطانيا تتعهد بتقديم 620 مليون دولار إضافية من المساعدات ال ...
- مصر.. الإعلان عن بدء موعد التوقيت الصيفي بقرار من السيسي
- بوغدانوف يبحث مع مدير الاستخبارات السودانية الوضع العسكري وا ...
- ضابط الاستخبارات الأوكراني السابق يكشف عمن يقف وراء محاولة ا ...
- بعد 200 يوم.. هل تملك إسرائيل إستراتيجية لتحقيق أهداف حربها ...
- حسن البنا مفتيًا
- وسط جدل بشأن معاييرها.. الخارجية الأميركية تصدر تقريرها الحق ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كامل السعدون - لماذا نتأمل - دراسة في التأمل وتقنياته