أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نصيف الناصري - مجموعة جديدة { في سطوع نذورنا تحت ضوء الأصداف }















المزيد.....



مجموعة جديدة { في سطوع نذورنا تحت ضوء الأصداف }


نصيف الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 3110 - 2010 / 8 / 30 - 23:49
المحور: الادب والفن
    






مجموعة جديدة

اهداء / الى برهان شاوي .
صديقي العزيز المبدع برهان شاوي . أعرف أن المبادىء التي تعلمتها منك
والمواقف النبيلة ، هي التي تدفعني الى أن أهدي لك هذا العمل باعتزاز كبير ،
تحية صداقة عالية ورفقة نبيلة مع عذاب الكلمة .


1

الأشجار ساخنة مثل أحلامنا في الظهيرة، لكنها صامتة في الظلام المضاعف
للزمن، واللحظات ترتجفُ مطمئنة خلف الأبواب الضبابية للموتى . لا خلود
لسهر الانسان وقربانه المعذب في العطاء الحلو للصيف، والجزر التي حفرناها
لنوم العصافير، تعبر الفضاء مترنحة في الريح المجهولة، ثابتة واهتزازاتها
ترهن نومنا وضوء الحقول . لحظة لانجماد الأعياد . لحظة لبريق البشارة
كل تماثل في هذه اللحظات المتشققة، تطفئه السُفعة الملتوية والمندفعة لتنفسات
أفعى الزوال . الخريف أسير عاداتنا، والبجعة مغرمة وتشهد ضد النسيان حين
نترك أشيائنا بين الممرات المتقرحة ونمضي مثل العميان باتجاه الشرارة الأخيرة
لموتنا . كل شرخ في مرايا الشجرة التي نمتحنها، علامة احتضار لضفائر الرغبة .

2

يريدون أن أتحدث لهم عن عطر القرنفل في الينبوع
لكن كلمتي تتراخى محتضرة في النسيم الجاف للعزلة
ولا أمل لي في سنبلة قادمة . الصمت والجليد يغلفان
أغنيتي، وأقصى ما أطمح اليه هو الوصول الى قمامة
موتي بلا عكازات وأقراص كارتيزون . لا يخلصنا شذى
الهلال من الرماد المقيم للبلوى، ولا خرائب النهد تظللنا
بغيومها الخفيضة . كل أحلامنا تنطمس في الجرح المتلطف
لحليب النهار، وانتظاراتنا تخشخش مغضوطة بفراغ أيامنا .

3

أنغام النعمة ذابلة في تنهداتكِ المنغلقة على الظلام، ولا نسمة
حرّة تعينكِ على عبور قبو سجنكِ المنغلق على الفضاء، الحبّ نصب
عجائب لعطور الموسيقى ويعلو دائماً في كستناء الزمن، وابتهالات
نحل تُسمع عبر المرآة المزدوجة للحقيقة الانسانية . طروادة انتهت
الآن، وايكاروس الغجري طار وحطّ متوسداً جروحه في الندف الثلجية
العميقة في أرض السويد، وأنتِ تنتظرين الآن الانتحار ببطء تحت ثقل
خنزيركِ العجوز المريض . في أرض الصيد، نقيم شعائرنا ونواصل
العيش مع الماضي . لا يقطن النسيم القليل للحبّ في الظلمة، ولا الذكرى
تتنفس الضباب في فناء الهيكل العظمي لشجرة الزمن . يمتد النور بلا
مؤاساة دائماً، ومذاق القبلة سهم موسيقى في الليلة التي يتجمد فيها الوعي
حين تعبر الغزلان شاطىء الخزف الصيني . كانت لحظة مباركة حين
التقيتكِ في ذلك اليوم الذي خرجتُ فيه من سجن { الموقع } بأربيل وأنا
أعاني من عقابيل داء الجرب . كنتِ جميلة جداً في ذلك اليوم المشؤوم
ولا تشبهين أيّة امرأة أخرى في العالم . كنتِ مضيئة كمعراج دافىء يصعد
من ليل السنبلة الى رتاج الشمس في الأحلام . كتبتُ لك رسائل كثيرة من
جبهة الحرب، وكنت تقرأين عسلها للسحالي في صخور أعماقكِ .
هل كنتِ شفيعة حقاً في بلد يلتزم الناس فيه الصمت وسط ليل الطروادات ؟

4

أصوات منعمة كثيرة سمعناها تعبر تحطمات الليل في زحام الموتى
على الجسور، والعظام لا تحفط عفتها في غياب الآلهة . فجوات عميقة
بين أملاح الوزن وهرطقات نار الفراشة . خلف كل ساحل يتظاهر الموتى
بالنوم، لكننا نعرف انهم يرفعون أصواتهم ويتدرعون برماح الطفولة .
هذه اللحظة المدوخة معزولة الآن عن النور المختبىء في منحدرات
الغروب، واخوتنا الغرباء يضيّعون آلات الصيد في الحشائش الذابلة
لغابات القرون الوسطى، ويتركوننا نترقب مجيئهم الى الفجر . التعري
الآن ليس سهلاً أمام السقّالات المحمولة في جندول الحزن، ولا صعود
رغباتنا أكثر حرارة في القناديل التي تلفها الترنيمة الكريمة لأغصان
السرفيل الأبيض . تنتظرنا الآن ونحن ننرقبُ وصول الموتى، آلات
حادّة تسري بين العظم وبين الكلمة، وفي الجنائن التي أعددناها لضيوفنا
تضطجع الموسيقى مقروءة في توهج لحظة العودة .

5

رجل مشجوج الجبين، يحدقُ في فراغ أيامه ويتلمسُ باب صنوبرة سوداء .
الخطيئة هي ما تفزعه، لكن المحاذير تعلو على أيّة اشارة منه في الانتحار .
لو كانت له القدرة على الفعل، لما بقى لصوص في المدينة . ثلاثة عشر
عاماً تحت ثمار سماء السويد، مخفياً موعظتي، أفكر بالعودة الى بيت
العنكبوت، لكنني بعد قرابين كثيرة سفحت خمورها في تعبدي ونجواي
تذكرت أيام شبابي التي قُتلت بسوط محبتي لذلك البيت الذي طُردت منه .
لا صفصاف للفاني، ولا رجاء للشريد . كل دمعة هي لطخة جحيم في
رخام الذكرى، والوطن سكنت أنهاره اليابسة ذبابة المزابل وذئاب الخراب .

6

للحفاظ على القانون يلزمنا أن نزيل الأشجار عن الطريق . كل تعثر علامة
انحطاط في القيّم التي نؤمن بها . أحلامنا المريضة تفسدها أصوات الصراصير
في ليالي الربيع، ولا أمل لنا في الظل المتصدع للمومياء التي ننتظر وصولها
في العتمة المحلوقة . كل ما نؤمن به، يدخن دائماً في رماده، وما ينتظرنا
يدمر كل ارادة وكل شراع للطموح البشري . يتوجب علينا الآن أن نحطم
الأصنام في المستشفيات، ونحرض المرضى على الموت . تطالبنا الالوهة
بالحفاظ على ادامة الطقوس والشعائر لها، وعلى ما تبتغيه وما يشبع نهمها
لكنها تتجاهل باستمرار شقائنا في البحث عن مخرج للطوارىء ونحن نتعذب
وسط حقول الألغام الكثيرة التي نصنعها بأنفسنا عبر أوهامنا الدينية عن خلاص
ما . لحظة قصيرة من الصمت بين المشعل والشاطىء . تخفف عنّا ثقل المحنة
الصائتة في التلاقي العذب للحظة موتنا .

7

كنتُ أرافقهم في الخنادق خلال القصف المدفعي الكثيف، وكانت منازلهم
وأيامهم تدمرها الطائرات . كانت لهم أحلام فقيرة وزوجات ينتظرن مجيئهم
وكانوا يتساقطون الواحد تلو الآخر في تلك اللحظات المؤلمة . أحمد نعيم كان
بحاجة الى الحبّ، نثرت أشلائه قذيفة ثقيلة . رياض نوري كانت عنده آلة
موسيقية، بترت يده اليمنى أثناء محاولته ازالة لغم في الطريق . جبار عسل
كان يتذكر ساعة ولادته بلهب أخضر، لكنه في تلك الحظة ملأت روحه
التجاعيد، ولا يريد أن يموت في الحقول الخرافية لسخرية القنبلة المشدودة .
انظرُ الآن الى صورة تلك السنوات، وأفكرُ بأولئك الرفاق الذين ماتوا ولم
يأكلوا الثمار الصيفية، ولا شربوا النبيذ في حانات بغداد، وأتحسر على
مصائرهم ولطافاتهم التي تساقطت في غبار الحرب، وأبكي على شبابهم
وحيواتهم التي ذهبت هدراً .

8

في السنوات الأخيرة من حياته ركّب الشاعر الجميل سركون بولص
طقم أسنان كامل، ودفع 10000 دولار الى الطبيب من ماله الخاص
. في لحظة موته المؤسفة ببرلين وأثناء احتضاره . جاء ناشر كتب جشع
الى المستشفى وطلب من الأطباء والممرضات أن ينتزعوا له طقم الأسنان
من فمه الذي يطلب النجدة . كانت حجة هذا الناشر، انه سيطبع في
المستقبل كل أعمال سركون، واذا طالبه ورثته بالحقوق، سيقول لهم :
{ لا حقوق لكم عندي . أنا دفعت له 10000 دولار ثمن طقم أسنانه هذا } .
سركون شاعرنا الساحر النبيل عاش حياته من دون بيت أو وظيفة .
سلبته الحياة والأسفار الراحة، وسلبه الابداع النوم، وسلبه الناشر السافل
أثناء لحظة احتضاره الأليمة أسنانه .

9

{ غراب يحمل بمنقاره قشة من أجل أن يبني له عشاً . رأى في مرآة دكان
حلاّق، ظلاً يشبهه . أراد التقاط قشة أخرى، فأضاع ما كان يحمله } .
لو كان هذا الغراب حصيفاً، لتخيّر شجرة مفعمة بالعافية، لكنه لا حدس
عنده، وزبائن الحلاّق لا يتحرك النسيم في عظامهم الرخوة . عيوب الجاهل
مستورة دائماً في تخبطاته، ونحنُ ننسى في المعاشرة كل الاستفسارات .
من الصواب أن نؤخر نضوج الثمرة، لأننا في ساعات الاحتضار يطيب
لنا المقام تحت ظلال الصخرة السلطانة للهلاك .

10

{ في بغداد العصور الوسطى، كان الخليفة والفقهاء يضطلعون بمهمة كل شيء
في الحياة اليومية للمدينة، وكان الأمراء طبقة بربرية متوحشة تحافظ على
اقطاعياتها الكبيرة . كانت ميولها العدوانية الحربية تنحصر في الدفاع عن
لصوصيتها وزيادة ممتلكاتها . فيما بعد، حين سقطت دولة الخلافة وأعدم هولاكو
آخر خليفة عباسي . تغيّر مفهوم البطل في تلك الفترة الحالكة من تاريخنا المأساوي
، وأصبح العيّار أو الشاطر يتصرف وفقاً لقانون الشهامة والنخوة، ووفقاً لضوابط
اخلاقية جديدة . هذا الفارس الجديد العيّار . الشاطر . كان هو حامي الضعفاء وحارس
المدينة من الأعداء . الحروب من أجل هدف جماعي، انتهت تحت تأثير النزعة
الفردية، وانحصرت في المغامرات العاطفية، وفي تحقيق المجد الذاتي }.
أخيراً – انتصر الحبَ واللهو والترف، لكن حين احتل العثمانيون بغداد وفرضوا
رطانتهم، احترقت وردة التاريخ وما زالت نارها مشتعلة الى الآن .

11

أنتَ مريض وأنا مريض
فأيّنا يقود حصان الربّ
الى اسطبله حين يجيء
متعباً في المساء من ترحاله
الطويل في ممالك الأرض ؟

12

أضعتُ لويس في شوارع كوبنهاكن تحت قناديل الأشجار، وكانت الكثير
من الحشود تغرق في أمطار الحانات . بحثتُ عنها تحت أقمار العمارات
وفي الشواطىء الرملية، وفي الأفياء الزرق لصيف طروادة . لا الربّ
أعانني في الوصول الى صمتها، ولا الأنهار دلّتني على عسل شفتيها الذي
ينير ظلمة الأدراج في ساعات النهار . كل القطارات ذرفتها دموعاً، والريح
أوثقت نفسها من أجلها بالأغلال . كان حبّها هو من يصهر موتي بتألقات الربيع
وكانت قطرات المطر المتألقة في شعرها الفيروزي، هي مثواي الأخير في
ليل محنتي، ولحظة نجواي .


13

على الشاطىء الرملي الأزرق بين مالمو وكوبنهاكن ، يأتي أهل كهف أعرفهم
يحاولون العثور على مفتاح لظلام حيواتهم في نسيم البحر . لا يخلعون
أرديتهم الثقيلة ، وينظرون بشهوة الى أجساد النساء السويديات العارية .
قدور طعامهم المتنوعة واللامعة في الشمس . تعرض غيومها ، التورمات
الدائمة لصبّار أيامهم المتشابهة . يتحدثون بهمس بعيداً عن نساءهم
حول الجمال السويدي والسياسة وسعر صرف الدولار ، وينسون في شذّة
الحرّ تعرق أجسادهم وانتفاخ كروشهم . فتاة جميلة شقراء تصعد النجوم
في ليل المياه . تعلق المراكب والأسرار في حمّالة ثدييها ، وتتقافز الكنوز
ناثرة المال والجواهر على الغرقى . كل نصر يقوّض سعينا في الوصول
الى خلاص ما ، وبلور أحلامنا ينطفىء في الظهيرة المظلمة ، ولا يمكن
انقاذه . يلزمنا الآن أن نلقي ببذور موتنا في العطور الصائتة للشواطىء
المطمئنة على مزاميرنا وفطريات ذكرياتنا المستلقية على الحافات الصدئة
لخريف محنتنا . الموت عسل في الصخرة التي نغطيها بأشواك أفعالنا ،
وطوابع أسرارنا يغطيها الصقيع في النهار . تتحدث ثعالب الماء لغة نعرفها
لكنها تغيّر نبرتها قبل وصول أصواتنا الى ليل الينبوع . تغيض فراشات
جرحنا العادلة في طيرانها الزمن ، وتصعد النهد اللامع لاهرامات الصيف .
انخيدوانا في برلين تجلس في المقهى وحيدة وتصبغ أظافرها ، مجهولة عبر
حقول النهار ولا أحد يكترث لوحدتها وحزنها الشفيف . هي تعرف أن أشياء
جوهرية كثيرة قد تغيّرت الآن في طقوس وشعائر الحبّ ، وتعرف أيضاً أن
المستشفى حلّ مكان المعبد ، لكنها لا تعرف أن صلواتنا الآن ، مجرد
تجديفات مغتاظة ضد الجمال والحبّ . الوردة جلدة ألمنا ، ولا شعلة منسوجة
في ساعات نومنا ، ولا أغنية تربض مصانة في سنبلة زفافنا الدامية . كل
تخميناتنا حول سهم كيوبيد خاطئة دائماً ، ولا يدلنا طائر البطريق على
أفق السرّ . تنتظرنا في الباص ، وتحت الشجرة اليابسة ، العناكب وعطونة
الفصول ، ولا ربيع يزيح الغبار عن حراشف كلماتنا المتغضنة . سرب
أصوات مختنقة يحلّق في أركان مداخن بيوتنا ، والاشارات تذوب في ليل
لهفتنا . لا توقظ مصابيح نوافذنا النسمة المهفهفة ، ولا تعبر أسرارنا الايماءة .
صدى خطوات بطيئة يعرض خصوصيته للفراغ ، ويطبق على الهسهسة
الخفيفة لشواطىء لحظاتنا المرتجفة .


14


قالت لوليتا متمنعة وهي تشهقُ وتتنهدُ عارية الى جانبي في فضاء السرير .
: { ابعد شفتيكَ عن نهديّ } . جلستُ أدخنُ وأداعب القنفذ في ليل الشرفة .
أيّة لذّة حين نؤجل فتح القلعة لحظات قصيرة ، كموتٍ مفعم بأريج الهاجرة ؟



15


رجلٌ وامرأة يجلسان في الحديقة العامة ويستمعان الى أغاني الراب
الرجل يشربُُ ويفكر في الثورة والحرب
والمرأة تطعم الطيور وتحلم في الحبّ
وأغاني الراب متبجحة وتحرّض على القتل والكراهية والانتحار .
عندما انتهت الحرب وخربّت أسلحتها الابتسامة في البلاد
كانت المرأة بعطرها النفاد تنزل السلالم وبيدها زهرة قرنفل .
تفكر في الرجل الذي قُتل ولم تخل جثته لقربها من مواضع العدو .
ينبغي على الجبابرة التعلم من كل المجابهات التي تحدث في التاريخ .
كان يمكن لهذا الثوري أن يصبح جنرالاً عظيماً في جيش الحبّ
لولا النظام الضيّق والواجب الشيطاني الذي فرضته عليه أغاني الراب .


16


قلتِ لي أثناء الغارة الجوية ونحنُ نتمشى تحت ظلال الرماد الذي يحيط المدينة
: { الى أين يتجه سرب البجع هذا ؟ } وقلتُ لكِ : { ارفعي رأسكِ حتى ترين القنابل
ناضجة فوق أشجار البرقوق } . مستقبلنا كساعة يحركها العفن في الفراغ ، والنوم
على حشائش الرغبة ، يمكننا تعويضه بقرميد عدم الجدوى . كل لحظة ارتياب ،
تخسف الصقيع العميق للصيف ، ولا ثراء لفضائلنا التي تتمزق توهجاتها أثناء
ازاحتنا للحطام الذي خلّفته سنوات الحرب . ما الطابع الجميل لترميم الأشياء التي
تهدمت ونشعر بفقدها ؟ انه الاستشفاء من ايماننا بقوة الحاجة الى تغيرنا في الزمان .


17


أود دائماً أن أسند في لحظة موتي ، جبيني على أيّة صخرة في الأرض التي
أعيش عليها . ما هو وطن الانسان ؟ انه غصن قبره ، والتبدلات الحقيقية لا تهوّن
علينا العيش في جحيم اللحظة المجردة . كل باب مجهول ، جسر نعبره الى
خريف الأيام في بستان المستقبل . يسقط النور على ما نتأسف عليه دائماً ،
وعظمة الانسان لا تحتاج الى شهادة المنفى . ذكرياتنا تتخلى عن تغضناتها
بسبب ارتيابنا من فراغ ماضي حيواتنا ، ولأن المعجزة تسخر من ما نأمله
وما نعوّل عليه . يرقد الانسان في مسعاه الأخير ، تحت الخرائب التي نذر
نفسه لحجارتها المعذبة .


18


يحتفظ الموتى في { الماوراء والمابعد } بأسماء جديدة ، تصعب علينا
تهجئتها حين نقيم على أرواحهم القرابين . نريدُ نحن الذين لا نعلم شيئاً
عن مصائرهم ، من الآلهة أن تشاركنا الاحساس بالفقدان ، وأن تخفف
عنّا ثقل خساراتنا الفادحة على مَن أحببناهم ورحلوا الى حيث أطبقت
عليهم البوّابة الفولاذية للغياب . لا نريد مغفرة ، ولا وعد بمكافأة .
ما سوف نخسره ، سنحصل عليه عبر سيرنا أشواط طويلة في ليل
الحلم الانساني . أنهار آمالنا مضاءة في الصمت الذي تتسلق حجارته
أصداف أحلامنا الملأى بالألم والجروح . ما نحتاجه الآن هي لحظة صيد
خضراء ، نشعل فيها النار على الشاطىء ، ونذرف الدموع بلا اكتراث
على من رحلوا بلا ذخيرة ولا مؤونة صوب صحراء العالم الآخر .


19


تستمرُ الحروب في العالم وتتكاثر ولا نهاية لها
يستمرُ الكذب والرياء وأعمال القرصنة
ويتعاظم الفجور وزنا المحارم ومضاجعة الموتى
ولا شيء يردع اللصوص عن السرقات في ضوء النهار .
أيهاب الشاب الصغير
لا أريد أن أعظك
لا تنصت الى الهذيان الفارغ للمواعظ الاخلاقية للشيوخ
لن يصلك من حكمتهم التافهة إلاّ ايصال بخدعة .
هم سرقوا في أيام حياتهم الماضية ، وزنوا بالمحارم
وأشعلوا الحروب العدوانية ، وتجسسوا ، وامتهن البعض
منهم الدعارة وسرقة الأطفال وضرب النساء.
ما جدوى نصائحهم الكاذبة ومواعظهم الشريرة ؟
سر في حياتك مستقيماً كالسنبلة ، وتجنب ما فعله هؤلاء
الأوغاد الحمقى ، ولا تنصت الى ترهات أمك وأبوك
ولا الى حماقات جدّك أو معلم مادة التربية الاجتماعية
في المدرسة . زمانك لا يشبه زمانهم ، وما تطمح اليه
غير ما طمحوا هم ووصلوا اليه .
لا أريد أن أعظك
أيها الشاب الصغير .


20


مهمات عظيمة وصعبة كان يقوم بها السلطان العثماني سليم الثالث
في حياته التي توزعت بين الحبّ والحرب ولعب الشطرنج والبستنة
كان يشن الغارات باستمرار ضد مدن الامبراطوريات الغربية من أجل
تدميرها وفتحها ، وكان يبّجل ويعشق النساء . حين مات وتكسرت
أغصان حياته ، كان هناك 100 مهد يُهز لاسكات الأطفال الرضّع ،
وكان الخازندار { أمين الصندوق الأساسي } في عاصمته اسطنبول
يسجل كل مضاجعة في دفتر يوميات لكي يعيّن ولادة الأطفال
وشرعيتهم . السلطان الآخر سليمان العظيم كانت له نفس الأعمال
الخطرة والجليلة . الفتوحات الكبرى والتشريعات القانونية التي اشتهر
بها ، لكنه كان متسلطاً ومتعجرفاً في الحبّ . أعدم الزوجة { غوليم }
لأنها باعت دورها في المضاجعة الى زوجة أخرى . بعد موته
لم يعد السلاطين الأتراك يقودون الجيوش في حملات أو معارك ،
فضلوا قضاء أوقاتهم في { الحرملك } والغارات على النساء كل يوم
واعتبروا أنفسهم في حلّ من مشاغل العالم .


21


لا الدين ولا السياسة يمكن أن ينقّيا المجتمع من فطريات وطحالب الطائفية .
اهتمامنا بالعاجيات والتماثيل التي نشيّدها لما نعتبرهم رموزاً ، أفكار شريرة
ينبغي احراقها ورميها في البالوعات . ما نتخيله ونضفيه على المقدس ، ضرطة
ابن عرس في اللحظة المخربة . الظلال الذابلة لريش الطوطم المقدس ، اشارة
واضحة للخوف الذي يتقلب في أسرتنا . ينبغي أن نعطي تعهدات ملزمة في
نقض الشرائع القديمة والخبيثة ، حتى لا تهجر العصافير فضاءاتنا الصفصافية .


22


يريدون أن يخترعوا لهم إلهاً جديداً غير الاله الذي آمنوا به وخذلهم .
إله يشبههم وعلى طراز تفكيرهم . يحنو عليهم وعلى ذريتهم ويبارك
أعمالهم الصالحة ويشفي مرضاهم ، ويكّثر محاصيلهم الزراعية ،
لكن فكرة اختراع إله جديد والايمان به وباسطورته ، تتطلب الخضوع
له أولاً ، ومحاولة تقديسه والخوف منه ومن أفعاله الشريرة
ولحظات غضبه التي لا يمكن اكتناه مغزاها . العفة والعدل
والرحمة ، لا تشكل رمزية اخلاقية معينة ، وعلينا ايجاد رؤيا لا
تتعارض مع شعورنا بكرامتنا الانسانية . تشكيلنا للمفاهيم الجديدة
والافتراضات التي نرغب بها ، ينبغي أن لا تسيطر عليها التحولات
التي تطرأ علينا بعد الموت في الطبيعة العليا . تعاطفاتنا الدرامية
في عباداتنا لآلهتنا ، تدمر كل طاقة في حية في عالم انسانيتنا
الذهبي ، وعلينا ايجاد مخرج من هذه المتاهة الايديولوجية الشائكة .



23


ماهي جرثومة الحرب ؟
انها الدمار الشامل والخراب وآلاف الضحايا
لكنها ضرورية لحياة اللانظام واللاعدالة الرتيبة في حياتنا .
في كل حرب جديدة تنهض شعلة المجتمعات من استكانتها
وتزهر براعم عالم جديد ، وتستعاد الحقوق المستلبة .
ليس الهدف والغاية الأساسية من الحرب ، سواء
كانت عادلة أو عدوانية ، نبل مقاصدها وأهدافها
التي نطمح الى تحقيقها ، والبطولات التي ننشدها ،
بل المهم هو نتائجها النهائية مهما كانت . بعد الفوضى
والدمار والخرائب العالية والخسائر الجسيمة ، ينهض
عالم جديد من الجمال والتناسق التام ، ويختفي الظلم والعدوان .


24


أنا التلميذ العزيز لأبي العلاء المعري
وشيعة أيام حياتي مروّعة ومتصدعة
وفي لحظات الانتحار ، تهيمن عليّ مشاعر اذلال مقيتة .
فورات الرغبة كثيرة عندي ، لكنني أفضل الجلوس وحيداً
تحت خيمة النهار ، أقرأ المخطوطات الدينية وأسخر من
كل الفضلاء ومن اعتقاداتهم وتبجحاتهم البغيضة .
أسخر من العشق والعشّاق
ومن تربية الأطفال
ومن الشراب مع الخلاّن
وأكره المشاركة في رحلات الصيد الجماعية .
أنا مريض وساخط دائماً
في لحظات التأمل الطويلة ، أفكر في التوشيات
اللطيفة للقصيدة التي أود أن أختم بها حياتي
لكنني أعتقد أن كل التناظرات والصيّغ والأشكال
في الشعر لا طائل من وراءها .
الليلة الفائتة ذهبتُ الى الصيد وحدي .
وسط جلال الغابة المعتمة التي تصفر فيها الرياح
وتعوي بنات آوى والذئاب
في الجوّ الماطر
تهرأت رغبتي تحت صخرة فضولية
ابتعدتُ عن اخوتي الجياع
وعدتُ الى المدينة
أوزع البندق على السناجب تحت الأضواء
وأرمي لحوم البشر الى الفهود والخنازير البريّة .


25


نريدُ الرفعة دائماً فوق خرائب حياتنا البهيمية ، لكن التقييمات المضادة لأفعالنا
وأحلامنا ، تدفعنا الى قبول اللامتعين في الارادة . كل شهادة عن قنديل الحقيقة ،
تلزمنا بالانصياع للرضوخ الى العدم ، ولتحقيق فكرة عظيمة تنقذ البشرية من
بؤسها ، يتطلب ارتكاب جريمة . فعل مشروع يحرضنا على التحرر والانعتاق
من رماد العادة ، ويدفعنا الى تجاوز حدود { الخير والشر ّ } . ينبغي للمجرم
الجميل أن يسمو فوق مستوى ضحيته ، وهو يعبر تعفن الجثة من أجل ضياء
فجر جديد على العالم .


26


انتظرنا في المعبد ، النغمات الشجية لموسيقى الموتى طوال الصيف .
عبرت بحيرات وأشجار
وهاجرت شعوب
وانقرضت لغات وممالك
ونحنُ نترقبُ في المذنب الصافي للأحلام ، الايماءة المحترسة للموتى .
لحظات التأمل في الجبال انقضت الآن ، ولم يصلنا من الاعصار
إلاّ التحطمات الكبيرة لحيوات الأجداد ومغامراتهم وحمائمهم المتلصصة.
أشجار مانغو صلواتنا الملأى بالفراشات واليعاسيب والتغريدات
المتضادة للطيور ، تظللنا ساعاتها المتنفسة في خلسة من نظرات
بوذا الوادعة ، ويصعب علينا ونحنُ في خدرنا واندفاعنا صوب صفصاف
النوم ، اغماض أجفاننا المتراخية وترك أجدادنا الأعزاء يأتون من دون أدلاء .


27


سنوات طويلة . كل يوم بعد الساعة العاشرة صباحاً ، أترقبُ جحيم البريد من
فتحة الباب بارتياب شديد . لا نهاية للحظات القلق المستمرة والتي تدمر
أعصابي . تحمل الرسائل دائماً عذابات واشارات ملغمة تستعصي على كل
نقاط الطوارىء . كل مهاجر وكل عاطل عن العمل ينتظر النزيف الدماغي
والشلل في الجزء الأيمن من جسده . القرارات ملزمة ولا أمل في تفتح شقائق
نعمان المستقبل لي ولأمثالي من المهاجرين . : { عثرنا لك على وظيفة عامل
تنظيف في المستشفيات . يتوجب عليك مباشرة العمل يوم الاثنين القادم وإلاّ
سنقطع عنك مساعدة الضمان الاجتماعي الشهرية } تكتب لي مسؤولتي في
مكتب العمل . { تتوفر وظيفة قاطع أخشاب في غابات " كيرونا " . يجب عليك
الانتقال من " مالمو " والعمل والسكن هناك } أكثر ما يقلقني هو اجباري على
قبول وظيفة لا أريدها والانتقال من جنوب السويد الى شماله الذي تقطنه الدببة
القطبية ، ولا تتحرك فيه إلاّ حفنة قليلة من الحطّابين والكحوليين . كل رسالة
هي أفعى تفتح الجرح المضمّد ، وتشعل في رماد أمراضنا النفسية أغصان
الألم المتراصة ، وكل فاتورة متأخرة تصل اليوم ، تركن أثقال الحجارة المهشمة
فوق الدماغ وتشل التفكير . حتى أفعال النهار تنكتم متحجرة في عتادها الضخم
، ولا تهمس النافذة المضغوطة للفراشات في الأعماق المطوقة للحاضر الكئيب .


28


أعيش حياتي سجين لوعات الزمن بانتظار رجاء ما
وما بين الحاضر والماضي ، تسيل قطرات السنوات التي عشتها
مجسّمة وندية . كل حجارة سنة تجمّدت فيها صفائح أعمال
امحت رموزها ، أو ظلال حبّ انزلقت وتدحرجت في أعماق السرّ ،
أو مأساة شخصية ، لا تريد أن تختفي من مشهد جنازة اللحظة
الراهنة . هل لي أن أخرج من كهف الزمن ؟ كيف يمكن أن
أحيا في الحاضر الأبدي للطبيعة ؟ كل تذكر لغبار أصوات الماضي
يحجب عنّا الأضواء والقمم العالية لصيف المستقبل ، وكل تمثل
لّلحظة ، يدفع الكينونة الى الاقامة تحت شمس الديمومة .


29


يتمايلُ الخوخ في الصيف سهران بأسرّته
كمراكب تعلوها الأقمار
ورجال جيلي الأراذل المتعجرفين
يشبهون ذوات الأربع أيدي ،
مرضى انحطاطات وقطران غرائز قطيعية ،
سخر منهم وخدعهم وامتطاهم السياسي
والحزبي
والقصخون
وشيخ المسجد
ورئيس القبيلة .
تلوناتهم سحالي تعبر خط الاستواء بخفة ، وتنسى تعقب أثر الفريسة .
وأصواتهم مجوّفة
ولا تحرك الريح حجارة نومهم في الظهيرة القائظة
ولا تدفع صقيع تبجحاتهم نار المنجنيق .
تبيض الحشرات اللزجة في طحالب ساعاتهم المخدرة
ويتحاشون مجيء الطوفان وجمال القنبلة النووية . يمضغون بلذاذة عسل
انصياعهم لقوانين الترهات الفاترة ، ويعيشون في نسيم المخازن الخربة ،
يتحتم علينا أن نقوم بمصادرات كبيرة للمخاوف والانحطاطات التي ينام
تحت أفيائها هؤلاء العجائز الحمقى ، خمائر العصاب الايماني والفضائل
الممسوخة لثقافاتهم المنحطة . تحكيمات متبادلة بين الرماد وحرية الارادة .


30


في حرب { الكل ضد الكل }
السلطة ضد المعارضة
الغرب ضد الشرق
الهند ضد الباكستان
امريكا ضد امريكا
الشرطي في العالم العربي ضد المواطن
الوهابية ضد كل مذاهب الاسلام وأديان العالم
البترول ضد الطاقة الشمسية
ستزول قريباً عبادة الاله الواحد الجبّار
والرؤوف من عالمنا المريض والمتوحش ،
وستخترع البشرية آلهة قومية جديدة متعددة .
آلهة تشبهها وعلى نفس طراز تفكيرها كما في الماضي .
تعمل ساعات اضافية ، وتلعب كرة القدم ، وتتأخر في دفع الفواتير ،
وتأكل الهامبرغر وتحب أغاني الهب هوب وأفلام الجنس وتكذب ،
وتراهن في اللوتو وتعمل في البورصة ، وتفجر القنابل
النووية ، وتعاني من أورام السرطان ، وتموت وحيدة في محطات المترو
وتتجسس وتأخذ الراتب الشهري من الحكام والمحافظين
وستزول كل أوهامنا وخرافاتنا التي ترسخت عبر كل عصور التاريخ .
في { الكونغو القديمة كانت كل الآلهة فطس الانوف
ولهم شعور شبيهة بشعور الشعب }
وفي السويد قبل المسيحية ، وفي رومانيا والجزر
البريطانية ، كانت الآلهة زرق العيون
وشقراء الشعر . حين انفصلت السياسة عن الدين
وانتهت الى الأبد حروب
القبائل والشعوب في الصحارى والمراعي الفقيرة
اخترع الانسان فكرة الاله الواحد العادل الرحيم
وعبده في لحظات السلم والسكينة بخشوع وحرارة .

سترسل لنا آلهتنا الجديدة في المستقبل بالطائرات المقاتلة
والصواريخ وشبكة الانترنت ، الرسل والملائكة اللطفاء الأطهار .
كل رسول جنرال كبير أو عضو في الحزب الحاكم لرئيس البلاد ،
وكل ملاك رئيس بلدية كبيرة أو محافظ بنك .


31


كل جميل يتناقض مع نفسه ويخلو من الفائدة .
صغار السمك
وأطفال المدنية المعاصرة
يعيشون بشناعة وتفحمات يتطاير منها
الأريج المتلطف للطبيعة .
فصائل أسماك بالملايين ، تضع بيوضها تحت الصليات
الطويلة للمياه وتغادر المكان شاحبة وبلا عاطفة .
حين تفقس البيوض تحت صلابة شمس الملهاة ، يخرج
الصغار ويعتمدون على أنفسهم بلا أب ولا أمّ .
نساء كثيرات في مدن العالم الرمادية والكبيرة
يلدن أطفالهن ولا يعرفن الآباء ، أو يتطلقن وهن حاملات .
يكبر الأطفال في ملاجىء الأيتام أو رياض الأطفال وفي البيوت
أمام أفلام الأكشن بعيداً عن الآباء ، وكل طفل يعتقد
أن والده هو سلفستر ستالون .



32


أعرف أشياء خطرة كثيرة
وكل حقائب الدولة عندي .
الكهنة الذين يتجسسون على الملائكة بين الورود والمنعطفات
ومحاولات الجواميس في طموحها الى اختراق قانون الجاذبية
ومؤتمرات القراصنة السرّية التي تعقد في جزر غاطسة .
كل اشارة مزنرة بفوهة بركان ، التقطها وأعرف دندنتها .
شاعر مسخ من السبعينيات ، أعطاه الطاغية صدام شقة فارهة
في قلب بغداد . زوجته سعلاة لها لحية حرشفية ، سوداء مثل
نكبة ، لوّحتها نار نذالاته . حين تذهب الى النوم ، يفتح هذا الدعلج
المعتق الكومبيوتر ، ويمارس العادة السرّية عبر شبكة الانترنت
مع امرأة مهجورة وممسوخة ، تستمني مثله ويقول لها :
{ زوجتي باردة } . هو فخور بفعله لأن اهانات كبيرة ترفرف
فوق قضبان حياته . الدعلج وأمثاله لا يتراجعون عن ايمانهم ،
ويحتاجون الى مضخة لغسيل ماضيهم وارثهم الطويل في الحقارة .


33


وصف جان دمو باريس الى عقيد شرطة شاعر متقاعد ، يجلس الى جانبه
في الحانة وينوي قضاء فصل الصيف في اوروبا : { حدائق يجتازها
المسيح مرة في النهار ومرة في الليل . لا عنقاوات فيها ولا أسرّة للصوص .
الأعشاب فوق الأرصفة تشبه الساعات ، لكن أبواق السيارات
متجمدة طوال الوقت . في نيسان يخلون الصيدليات من أقراص
الاسبرين ، ويعوّضون عنها ببطولات حربية من أيام الجزائر .
يغسلون الملابس في أوقات الزحام ، وفي الغروب يفتحون السجون
حتى لا تدخل الفراشات الى العنابر . الشعراء فيهم الراديكالي وفيهم
ابن العاهرة ، وأغلبهم يحاول الاصطياد في المياه العكرة ، ويحلم في
الهجرة الى جزر الهند الغربية } . الوصف الدقيق والمعبر لجان ، شجّع
العقيد الشاعر الذي كان ينصت بتأثر وشوق أن يكون كريماً وأريحياً معه .
طلب قارورة عرق اضافية ودفع ثمنها وثمن الأولى مع المتعلقات الأخرى .
حين أنهى جان القارورة الثانية ، التفت الى مضيفه مترنحاً ومتلمظاً
وقال له : { طوال حياتي أحلم في السفر الى باريس . هل زرت أنتَ باريس ؟
أنا لم أزر باريس حتى الآن . ممنوع من السفر وفارّ
من الخدمة العسكرية } . لم تنفعه كل توسلاته الى العقيد حين جاءت الشرطة
واقتادته الى السجن ليحاكم على فراره من اداء الخدمة الالزامية .


34


الحرب والفقدان والأيام السطحية في الخنادق والسجون . الهروبات المتكررة
من المعارك ، وتجربة الحبّ المريرة واكراهاتها . أشياء تجعل مشهد الجنازات
أخضر لا ينتهي ، وانفجاراته طويلة كلمعان صوان في شمس الريف . رسائل
كثيرة بعثتها الى موتى في النجوم ، لكن لم تصل ولا رسالة واحدة ، وأجراس
كثيرة تجرعتُ ضجيجها من أجل التخلص من ذكريات الاجرام ، لكنها كانت كلها
مثل أردية المشلول على حائط السجن . هل يمكنني عبور حواجز حياتي التي
تسيّجها تنهدات قتلى الحروب ؟ جرّبتُ أساليب كثيرة في العيش ، وصبغتُ
كلماتي مرات طويلة ، وأبعدت الغمامات عن جماجم الجرحى في الطرق النيسمية .
لا صلّت لي شظايا جروحي الهامسة ، ولا تزاحمت حول موتي الفهود . رائحة
اللحم البشري المحترق بفعل قذائف المدفعية ، لا تزال ضرباتها القوية تطرق أبواب
أحلامي على الشطآن ، وفي بلاد المداخن الموقدة دائماً مثل جحيمات في أشجار النخيل .
كيف الخلاص من الزنزانات
والنسيم السام لأيامي المعاقة ؟


35


ها أنا في مالمو
أعيش ببغداد
أتحدث السويدية
وأفكر بالعربية
أدخل حانة جميلة على البحر
وأحسبها مقهى { حسن عجمي }
تذكرني الألعاب النارية
بانفجارات القنابل في الحرب
ومترو المدينة يعيدني
الى الخنادق في الجبهات .
في حياتي هنا مرايا عالية
تعكس كل أشياء الماضي
ولا أستطيع التحرر من
التحطمات الهائلة .


36


اقتادتني الى المخفر في { عمّان } خائفاً وذليلاً سيارة شرطة أجلاف
كنتُ أدخن في طريقي الى المقهى ، في اليوم الأول من رمضان
واقتادتني الى المخفر مهدداً بالطرد والابعاد سيارة شرطة أخرى
كانت جريمتي هي أن شعر رأسي طويل : { أنت مره يا عرس ؟
أدعس شاربك بالبسطار يا حيوان } قال لي الضابط مسؤول المخفر .
من ينقذني من هذا الجلف الديناصور المطّاط ؟
لماذا يشتمني ويهينني حيوان الصحراء المحتاط ؟
هل كان يهين نفسه ومهنته حين يستذئب عليّ ؟
يدي الآن خالية إلاّ من هيكل عظمي لتمساح
سأقذفه صوب إليته المثقلة بحمولة غطرسته .


37


عرفتُ رجال دين متقيّحين ، مشاعرهم المتبلدة وأفكارهم
أسيرة انصات دائم لتعليقات الشيطان .
العقائق في الأحلام ، وفي تحطمات الكراهية الثقيلة
تقود الدرّاجات
وتخرجُ في تظاهرات عارمة
وهؤلاء الذين عرفتهم في الهيجان الضحل
لأرض السواد التي تنحشرُ بعيداً عن المطهرات
لا يتكلفون بازاحة ورم ما من ساعة الشمس في الظهيرة .
اللاتقوى مرآة كبيرة متصدعة ، تعكس التكشيرات
في أعماقهم المسودّة بفعل النفخ في الفؤوس اللاسلمية
لحيواتهم المخضوضرة في بالوعات الكذب والرذيلة .
ترتعش الأعصاب المفرقعة للموت في طنين النحلة
الطائرة في مركب الزمن ، وتأتي الأمراض بخشخشتها
المتراّصة ، وتصاهر { خلايا النحل القاتل } *
منزلة طوربيدات الغوّاصات على غلاصمهم الغليظة .


* توماس ترانستومر . من قصيدة { هجائية }



38


يلزمنا الآن انشاء بحيرات اصطناعية في منازل جروحنا
من أجل ابعاد الحرباوات والصراصير عن ثمار أشجارنا
ومُناخات أيامنا الاستوائية . ننتظرُ في النهار هدير نوم
في الأنفاق المتكلسة لمستقبلنا الأصم . لا أجراس متوترة
توقظنا في العتمة ، ولا موجة مغبرة تنتشلُ نغماتها فظائع
نظراتنا الشاحبة . صمت الموتى يترنح بذهول في قطارات
شفاههم المتلألئة ، ولا شيء أضعف من الوريقات المصطدمة
بدروعنا ؛ حين نقتحم أرض الفراشات في الفجر .
الابتزاز
ماكنة ضخمة يقطعها جهلنا في مكافحة المعاناة
والازدحام في عبور المنافذ .
استراتيجية واحدة معينة ومجهولة
تفصل صوت الوقواق عن دراسة الجيولوجيا
تسمح للكبار بالانبطاح على رمل القانون .
النفايات ضرورية في كل وقت للسلطة
من أجل ادامة مجدها المصاب باللاطاقة
وطردها للخطّافات من أجفاننا التي لا تقوى
على النظر الى المربعات المتجمدة للموت .
الفراغات التي نتبادل معها الأقنعة
تنسحب في التحرك الكبير لأصوات القناديل
شأنها شأن كل التعصبات في العصور الجليدية .
النسيان يتوحد دائماً مع تناقضاتنا العتيقة
وقبل النهاية نقدم ايصالات غير مؤمن عليها
ونطلب من الرحمة أن تكف عن توترها
في صمت ايماننا المتصلب .



39


تغني انخيدوانا في قبرها طوال الليل ، ولا تكترث لنكوص
النجوم التي تتفطر تحت البحيرات وأشجارها التراجيدية .
يسحب الحبّ لهفته ويتماسك في الهدير الواهن للطاقة .
ليس في تاريخ الرهونات ما يشي بالسرقة ، وحدها كتابة
الحبّ تتلألأ وتسهر تحت الظلال المنهمرة من غناء الشفيعة
في قبرها التائه بين الكريستالات المدمدمة لأجنحة الفراشات .
أزمان كثيرة عبرناها نحمل مصابيح حبّها في التطايرات
العملاقة للهفة ، ولم نتعادل مع موتنا في انفجارات الرغبة ،
حتى ذلك الماضي الذي خلّفناه يصارع التنّين تحت غيوم
غيابها العملاقة ، فاقت في تهشماته كل تصوراتنا عن الأمل .
لا جدوى من لحظات الأحلام ، ولا ربح في طلاء الوعود
المتمايلة للغانية الجميلة . كل ما يواسينا يصعد الصيف
ويمزق أشرعته في الضفاف المهانة للرغبة الانسانية .



40


نازلاً في هاوية الكابوس ، أكافح أعياء الشمس والخسارة .
علامات استفهام كثيرة تضيع مني ، وتتجمّد في صمتي
وفي الشجرة التي لا يمكن الابلاغ عن انعكاسات مرضها
على البلد المجهول ، خشخشة عظام قتلى عرفتهم في
الماضي . الجادّات التي عبرتها تحت النسائم
الضارّة للحرب ، والدخان يسقط على نوافذ أحلامي ،
نسيتها في تعاقب التفحمات المكتظة بأجساد الأهل
والأصدقاء . القذائف المغيرة في سماء نومي القاحلة
حمّالات قضبان تهتز وتعريني من قماشات المستشفى .



41


مالت الرقبة
مالت واضمحلّت .


حين جاء السيف ورآها
أطال النظرات ورفع السلالم
وزاد في الاعطيات .


تعافت الحشود
وكثرت المهود .

سمنت الأغنام
ونضجت الثمار .

تهدمت العدالة
ووُطأت الحدود
واحُتلت المملكة .

قُطعت الرقبة
وتوّج السيف ملكاً .


تهاوت الحشود في أعالي
المشانق ، قردة مطيعة
وقوائمها تنزلق منقوشة في
زمهرير القضبان الجوفية .



42



تشكو الانتلجنسيا العراقية دائماً من خفّة السياسي وظلمه لها ،
وتغض النظر عن ماضيه الهتلري ، وتسلله في الليل للسيطرة
على الثكنات ومفاتيح القانون ، وتقريبه لعصابات حزبه وعشيرته .
كل الشعراء والكتّاب الذين ذهبوا الى نادي اتحاد الأدباء ،
سقطوا من دون اوكسجين في مجاريه العميقة ولم يشاركوا
في وضع حجارة صغيرة في صرح الدولة العتيدة .
رأيت عنادل تغرد على أشجار السجون في الريح المنعشة
ودخلتُ غرف الجلادين للاطلاع على أشجار الورد المتدلية
والفحش في الاملاء ، وزمجرة الأنهار المحتشدة في ملاحتها
وعرفتُ أسرار النسيان على وجوه الموتى ، والصرامة في تحنيطها
ولم أر الباشوات يتركون عملهم في الجيولوجيا ويذهبون في الظهيرة
السمراء الى ثعابين الحانات .
كل حانة تسدّ الصراعات المبالغ في ثقلها على الثقافة ، وباشواتنا
المضحى بهم ، أسرى خنوعهم وحسراتهم المقيتة على حياة ضعيفة
يرهنها اللصوص القتلة بوعودهم الكاذبة . ينبغي الآن القيام بحفر
البركان في الضمير ، وتحويل الصمت الى جحيمات تحرق
وحيدات القرن المقدسة ، ورجال الدين أصهار الديناصورات وبطانتهم
محترفة القتل والخرافة .



43



غفرتُ لكِ تجديفات كثيرة تحت هياكل الماضي ،
ومحوت كذبكِ دائماً من غصون الصيف .
كل كلمة في الحكاية تنحلّ وتنشر عدلها فوق رأفتنا المتصالحة .
موجة واحدة على السرير الأخضر للفجر ، تفتح العروق المجهدة
لهواء الحبّ ، وأنتِ في أغنيتكِ النابضة والشفّافة ، تنسلّين من
الذكرى العطرية لأرض الجرح ، وتطبقين هدبكِ على غصن الموت .
نيران معسكرات نرصدها من بعيد ، ومرايانا شبيهة بأثداء أشجار
الربيع . هل تنبغي الآن التضحية بكل ما يتعفن خلف القناع ؟
السلطة لحبكِ ، وقرابيننا تستيقظ متزينة وتسير صوب خلجانكِ
التي تمحو جزر المال في الوحشة المعتمدة لرسوخ الندى في المشعل .



44



رغيف ونهد غيمة وامرأة تصرعها شمس الرغبة
هذه هي حياة الانسان التي يحياها بشظف بين مخالب
الزمن . أن تحيا أو تموت . لا جديد تحت الشمس
الشعلة الوسنانة للعالم تسقط نورها على الصخرة وفي
الينبوع ، ولا تبالي بمحنة تمثال الملح المحكوم بالاهمال .
نقضمُ أغصان موتنا في الأنفاق التي تنغلق على المستقبل
ونطلب علامة بين مشنقة الميلاد وتعفن شجرة النهاية .
مجابهة خاسرة ضد صنونا الذي يركن آلات التعذيب فوق
أعناقنا المحنية على الهاوية ، وأولادنا يغيبون في جلود
أفاعي الزمن . الى متى نظل نصقل شواهد قبورنا في ليل
القرون ؟ لماذا نضطهد فراشات موتنا في لحظة الاحتضار
من أجل البقاء أسرى براثن كهولتنا المسيجة بالثوباء ؟
لكن قطرات الزمن تنساب وتحطم المسلات والوردة
والعظم . ينبغي أن نرتوي في كل ماهو رحب ، وماهو
أكثر زرقة من الظلمة ، ومن الامتداد المشرق في الغياب .
تنغلق حياة الانسان متنفسة في الشهب المتعاقبة على الأرض
والحضور ينبضُ في الأفياء التي تحنو على نعاسه .
رغيف ونهد غيمة وامرأة تصرعها شمس الرغبة ، هذا هو
ميراث الانسان ونصيبه الذي له عقيق شبيه بالتعفنات .




45



عارية الى جانبي في حشائش صيف الموت
يلمعُ فمي في عسل نهديكِ المضطرمين ،
والوميض الالهي لجسدكِ العاري ، يغمر الليل
الذي أبحرنا فيه صوب شواطىء الفصول
الأربعة ، حتى واللحظة تنزوي في الماضي ،
تتحرك الرغبة في أشجار الدفن العالية ، وفي
حقولكِ اللهبية ، في غلالها التي تنوّرها الرعشة
الدينية ، يتمدد الزمن في رغبتكِ الفخورة ويركن
أبوابه المرهقة . أزهار صاعقة الوثنية منخفضة
وتتكىء على رهزكِ الذي يكافح طوال الدمدمة
في المعركة . تغريدات طائر تتهاوى ليونتها في
الهياج البروتوكولي للتنهدات الدائخة وسط الحمّى .



46



نساء كثيرات يكتبن وينشرن تأوهاتهن في شبكة الانترنت
- لديهن مشكلة واحدة ولا يجهرن بها .
الأولى مطلقة والثانية مهجورة والثالثة ترغب في الجنس وتخشاه .
هل رأت واحدة منهن التزيينات الحقيقية لقوس قزح المضاجعات
الحارّة والطويلة ؟ يكتبن صدى ارتعاشاتهن المختنقة ، ويتأوهن في
مراحيض التمتمة ، خجلات من رغباتهن المتكلسة ، ويصخبن في
مستشفى الابادة الكبير . تنفتح البويضات زرقاء وتتنفس شمس الرغبة
والكواكب لا مرئية وتحمل مراكب العسل بنعومة ولطافة . لماذا تغلط
المومياء في تهجئة الانصات الى رغبتها ؟ على المتجمدة الشريرة أن
تنزع بعنف رباط محنتها الفولاذية ، وتكرس كتابتها لأشياء أكثر واقعية .



47



مداعباً قضيبي أمام المرآة ، أفكر في امرأة خنتها فهجرتني
وأعد أيام حياتي التي عشتها في الجحيم : { نصيف ، أنا أيضاً
أحتاج الجنس } لكن حاجتنا الى الجنس أكثر اثارة من مشكلة
مرقعة بجلود حيوانات من موزمبيق . من يريد ادامة الحبّ
عليه أن يوقظ موته ويسهر عليه دائماً ، ويصعد أسوار الأندلس
حتى آخر الأنفاس . لا دفء في فرو الصخرة وليونتها المكافحة
ولا نحافة في الطريق القاتم الموصل الى الحديقة . كل التوترات
علينا أن نعينها على التقدم في اشعاع الثمار المرتفعة . تاريخ
الريح يعلمنا أن المراكب لا تتحالف مع تضاريس الجزر في دخان
القرصنة . أبجدية أكثر اشارة من طنين النحلة في شجرة الكرز ،
تختلط باشارات الهية مختومة وتدلنا على عاصفة المصابيح التي
تعبرها الأشباح في الأروقة المغلقة للعالم .



48



لا تخيفنا الضجّة المتواصلة لمحراث الشيطان بين سنابل ايماننا
المجدولة ، ولا تحترق فتائل نومنا في الهاوية التي نرمّمها كلّما
أحسسنا بتضخم الغدد الدرقية للسأم في الغيوم الصافية للوجود .
كل حجر كريم ينفصل عن استراتيجيته الأثيرة ، ويعكس ظلال
توهجاته على القمم العالية لصلواتنا تحت تلسكوب الأشغال الشاقة .
آلهة كثيرة لوّحنا لها في سهول التقوى ، ولم تنجدنا في انسياب
البركان والتحركات الثقيلة للجذام الذي ينزل على نفخنا الاصطناعي
في جذوع الأشجار . ينبغي الآن أن نتحاشى الاحتكاك بقناديل الكمثرى
والخطوط المستقيمة للزمن التي ما آوتنا تحت الشمس اللاهبة للوحشة .



49


معلقة ً ترفرفُ تحت شمس الرغبة ، فروج نسائنا فوق حبال الغسيل
والرجال في الحرب يحرثون في نسيم موتهم .
مياه الأمطار تسقطُ متفسخة على زروعنا المنطفئة ، وأبواب السنبلة
موصدة في رماد الظهيرة . نريدُ اشارات حركة نستنشقُ فيها عطور
الزمن . لغة تسافرُ عصافيرها في دخان تلعثماتنا ، وفي تصدعات
رؤوسنا تحت ظلال أشجار تفاح الضواحي . الغرف تسيلُ من شدّة
القصف والانفجارات ، ونحنُ نخفي الهمسات في انعطافة كل قنبلة .
المصاطب مهجورة ومتهدمة في المتنزهات ، ولا شيء يتحرك تحت
اللمعان الأسود للأقمار في المدينة . تهدمات حياة بلا نبض ، نملأها
كل يوم بانصاتٍ يضغطُ على جثة الصباح المثقبة .


50


يومىء ماضييّ في الحركات العليلة لذكرى القتلى ، ورداءة الطقس لا تعينني
هذا اليوم على تذكر الأشياء التي أضعتها في وقوفي على فوهة البركان .
سنوات طويلة أتتبعُ خيط موتي من أجل الوصول الى صخرة الحاضر ،
وأعرفُ أن أنظمة فصول عديدة تمّحي تحت التكسرات الحادّة للزمان .
ظل سقوط يشحذ نفسه على شرفات أحلامي ، ويحاصرني في نومي المفتوح
على القبر . سلالم كثيرة صعدتها في ضوء الفجر ولم أصل الى لغط الثمرة
ولا الى صمت الموسيقى . كل أهداف حياتي تتمهلُ في الترنحات الطويلة
للماضي ، ولا نسمة تنبضُ تحت غطاء اللحظة الراهنة . أمام أشجار مهدمة
تكتم أنفاسها أفاعي الذاكرة الهائمة بين الحجارة والاغماضة ، أوسد مرثيتي في
عطش العندليب ورقصته المترنحة ، وتستبسلُ صرخة موتي في الريح
المتعاظمة ، أكثر شراسة من غصن يتدحرجُ في الصفصافة المأتمية للرعد .



51


كنتُ أشربُ من بئر حين هجم عليّ ايل الافلاس .
في حانة بأربيل تعجُ بالجنود والمهربين
جاءت إليّ صبية تبيع السجاير
أعطيتها غيمة زرقاء ومشطّتُ شعرها .
الى الآن لم تكبر الصبية
ولم تتشرد الغيمة .
ملايين البشر يترنمون في الليل النائم فوق جباههم
ويخافون العاصفة في السماء المريضة . أريد الآن أن
أحطم شعورهم بالوحشة ، لكنني أسير رمال صحراء
طويلة من الحزن والخسارة ، وترتعش غصون آمالي
مستعرة في اللهب الحاقد لجروح أيامي المشققة . أريد
أن أسحب البحر الى فجر الأحلام ، حتى يدوم جمال
الانسان في أشرعة الكواكب ، وفي ممالح موته المقفرة .
في ضجيج الرائحة المحلولة للوردة ، وفي ضوء القنديل
الخفيف للدمعة ، محاطاً برأفة الحبَ الحارّة ، أتقدمُ صوب
موتي حاملاً معي مبخرة الله ومصبّات الأنهار . قرابين
حياة عشتها بوثبات كبيرة ما بين الكثبان الرملية لجروحي
والخلجان المجهولة لأسماك المدفعية في سنوات الحرب .


52


رجلٌ كحولي ينفخُ في أصفار حياته تحت الشمس المظلمة
ويعصبُ رأسه تكريماً لألغاز الصدقات . يلزمنا الواجب
الآن أن نبطل التمييز العنصري ، ونوقظ الموتى من أجل
مساعدة الحشرات في ايجاد طرائق عيش أكثر جدوى .
كل تهديد بالسلاح ، يجب أن يتراجع . الينابيع مأهولة
بفراشات تموت معصومة عن العطش . لا ميزان للايمان ،
والموت يستدعينا ويتواطأ مع النجوم فوق مستنقعات
محنتنا ، من أجل أن لا نذهب الى تغنجات شجرة الدفلى
الحانية أنفاسها على دخان المجد الهادىء لملاحم أسلافنا
وتناغمات طقوسهم في ملح المدارات . أشياء كثيرة نسمّيها
في لغتنا الهيروغليفية لحظة الاحتضار ، لكننا ننسى أن ننتزع
اشاراتها حين يخضرّ الوادي الذي غابت فيه أسلحة أولئك
الأسلاف . لا أحد منّا يتكهن الآن عن المعادلات التي تطرد
الغيلان في الجزر المرجانية لنومنا ، والنمور لا تروّض في
أرض الشعب الذي ضربته الصاعقة .



53


ليس من طبعي الغدر بأحدٍ ما . لحظات صمتي تنتصبُ سلالم
طويلة ، وتنسيني التفريق بين العرس والجريمة . في الضفاف
التي عبرتها صعوداً الى فخاخ أعدائي ، رأيت ذلك السم الذي
يحطم جمال الروح البشرية ، وتخليتُ عن الحقد ووعظته بمحاذاة
حانة تنفتحُ على المتحف العجائبي للطبيعة . لا يجرؤ الحبّ على
تبادل الملامح ، ولا يصبغ النظرات حين تمرّ التوابيت من أمام
بوّابة حلم النائم ، والتنويمة الخفيفة للثمرة ، توّسع لنا ليل الشجرة
وتمنحنا فرصة الصعود الى أعالي الصاعقة . في داخل كل انسان
فص ثوم مريض ، ويتوجب دائماً ازاحة الفأس من فم المتكلم .



54


المنتحرون والكحوليون يفشون أسراراً تغفرها لهم الملائكة ،
وأعصابهم التي تتلوى في العالم الفارغ من الأوكسجين ، تسقطُ
فوقها قناديل البحر الميتة . أن تكون منتحراً ، يعني انك ستحيا
في القفزات الصريحة التي تصوّرها الشمس ، وتحرّض التنفسات
المتعاقبة على الهيجان الدائم في بلاد الأقلية . أيّاً كان فعل الموت
نتحلقُ بعيون نصف مفتوحة ، ونحملقُ في الهواء الفائر لجثة الميت ،
وأفكارنا العصابية تتهدمُ مثل منزل الحلزون ، حين يتدحرج الفراغ
ويُسقط فوق فضائلنا أقنعته المصابة بالهوامش . التقوى والاخلاقيات
التي يتبجح بها الانسان ، هي ما يجعله أكثر تعصباً في أن يموت ميتة
مختارة وجميلة .


55


ننسى في قنصنا للخنازير البرية في المستنقعات المليئة بالقصب ،
نعومة لغات دفنّاها تحت غلال السنة الماضية ، ونعددُ مناقب موتانا
في التجمعات الكبيرة للأعياد ، بمنأى عن ارثهم المخزي . كلّ مولود
لنا يزاحم الجثث التي نتركها منتصبة في العراء ، ومدائحنا البطولية
تفرغُ الوردة من عبيرها . هل لنا أن نستعيد لحظات تأملنا القديمة
أمام زئير أسد مناجم الفحم التي أضعنا فيها شارات نصرنا القرمزية ؟
حياتنا تتشكل بخفّة وقورة ، لكنها تتهدم في شغب الدعسوقات وفي
سعينا للنوم تحت الأشجار الحامضة لصيف مخاوفنا الأمومي .
الأفاعي تبدل جلودها في الظلمة المؤنسة ، غير مكترثة لميزان الفصول
ونحنُ ننتظر الأسرى في مرافىء لا رياح فيها تدفىء طفولة الثمار .



56


حين كنّا في السجن ، كانت المذنبات الرحيمة تظللُ صيفنا بأشجار
الخيزران ، وكانت الملائكة تعالج التورمات وتدفنُ آثار القنابل
العنقودية في البراري . ما لا نستطيع كتمانه الآن ويضيّق علينا
الخناق ، هو هذا الألم من الموت الجماعي للشعب ، والتدمير المنظم
والفاشي للثقافة والتاريخ والطبيعة . نريدُ من البروق والرعود التي
ادخرها بدر شاكر السيّاب في وديان العراق ، أن تحنو على سهرنا
في التوحشات الكبيرة للكراهية ، وأن تطلق سهامها المصلصلة صوب
من شرّعوا القتل والخراب ، وأضاعوا البوصلة . الأحقاد الحرارية
لمشرعينا وحكّامنا اللصوص تحت رايات ميليشياتهم الواطئة ، أضاعت
المآثر الجميلة لعروس الزمان .




57


في خرائب منطقة للفايكينغ السويديين ، تمشيتُ بين جدران الثكنات
وتذكرتُ الأبنية المهدمة في وطني . حقيبتي مليئة بأصوات ماض لا
يتنفس تحت حرارة حلم السائح ، وفراشات البحر القريب تطير فوق
أغلال الذكريات الغليظة التي أحاول استعادتها وتختفي في الفراغ .
هل يتعيّن عليّ الآن أن أغرق في انفجارات النجوم التي تحرس هذه
الاطلال المهيبة ؟ في أمثالنا الشعبية ، تكتظُ الثكنات ب 25 مليون
شيطان يتكومون في باب الربيع بلا تقوى ، ويغلقون علينا بساتين
الموسيقى ، وأول الخاسرين هم ملائكة الشعب . في نهاية كل معركة
هناك أحواض أسماك تتهدم ، ومراكب شراعية يقل ايمانها فتغوص
في الأعماق . لا نريد لضوء الشمس أن ينعطف صوب منازل المستقبل ،
ما يهمنا الآن هي التماسكات العتيقة للقناديل الموشوشة فوق أشجار لحظتنا
الراهنة . الجنرالات وزّعوا الجثث في أنفاق الليل ، ونسوا صلاتهم وانهزموا
بحرقة . ما نسمعه عن الحقيقة ، اصطدام حرباوات نفخت نفسها وانفجرت
في الاهانة المتقيحة لكراهية السلطة .



58


بوارج حربية كثيرة يقودها محبطون حول كوكبنا . تقصفُ جنان الشواطىء
وتهدم الكاتدرائيات القديمة . كل بحّار وله مهارة التمساح ، وهوية الانسان
تمحي في الأمكنة المقطوعة عن أعاصيرها . للتشاور حول التجذيف في
الممالح اللامعة للجزر ، يتوجب علينا أن نتحرر من رماد المعانقات الطويلة
ومن الأسرار التي تكبّل خزانة القانون . بعض الغرقى يستعيدون أصواتهم
في النوم الأثيري ، ويصعدون السلالم الى شمس الاهرامات . في أيّة أرض
يمكننا أن ندفن الموتى الذين كمنا لهم ونحن نتعقبُ الثعالب النوبية بين أشجار
الصفصاف ؟ نتحدثُ باستمرار عن فضيلة الانفجار في الحلم ، وننسى النحيب
المهيب لطيور مصائرنا فوق الغرانيت المحتضر . فقاعة من هواء الكارثة كافية
لتجعلنا أن نتقمص نار البرق المخلصة للقيثارة . لم يعد اكتشاف النجوم مهمة
وقائية بالنسبة لنا ، لأن الخير ينزوي كلما تداهمنا رياح الهلاك في الردهات
العميقة لجشعنا .




59


متعثراً بين الحجارة المتكسرة لماضيي ، أبحثُ في ضوء الحباحب عن شفرة
الزمن التي أطفأتها أثقال الأحلام ، وأدفنُ أقنعة جلادين عذبوني طويلاً ، وسدّوا
عليّ أسرار الأفق . كل اشارة ، نصل حادّ يرفض المصافحة ، والجرح في باب
الساعة يتلوى ويطلق الفطريات على عظام الموتى . المسالك الغريبة التي عبرتها
في الليل ، بعد أن أحرقتُ شباك الصيد وأضعت البوصلة ، نقشتُ على حجارتها
ندوب جروحي ، وأتلفتُ في ظلامها نذوري الى آلهتي . لن تصل البذرة الى علوّ
الصيف ، وأسراب الطيور تتعرف في هجراتها على لحظات موتها وتعتزل أشجار الغابة .




60


في جامايكا ، قبل عشرة أعوام ، حلمتُ انني أضاجع فتاة هبطت في متنزه
بمنطاد من النجوم . كان عطرها الغريب له أصداء شبيهة بمخالب اللبوة
وكان عطشها للأعراق الأرضية مأثرة محمّلة بآلات الاعصار . انقضت
لحظات ووجدتُ نفسي أنفخُ في عظم مضروب بصاعقة . اشتركتُ في حرب
طويلة ضد شعب مجهول ، واختنقتُ في دخان عذابات ، وجرحتني شظايا
تمائم معبودات منقرضة ، وللخلاص من حشرجاتي في تلك الفظائع الغريبة
كان يلزمني التعرف الى دليل يقرعُ لي الناقوس في الكلمة . لعبور الخشخشات
بين الأشجار المحترقة ، وخطوط الذعر الصامتة ، رافقتني آلاف الكائنات
الزاحفة ودارت حولي ، والكوكب صامت في غيبوبة ثلجه . كل نشوة في
الأحلام ، تنفس بطيء يرفع النار عن شمس قبورنا المائلة الى المغيب .




61


أغني غيابكِ في الظلمة المضحيّة ، وصلاتي تنغلقُ على الضفاف المشتعلة في الذكرى .
سنوات طويلة يوقظني نسيم غرقكِ المتأرجح بين الأمل وبين الهجران، وحجارة الزمن
الكريمة تلمعُ في فضاء موتي . تسهرين الليل محاطة بثمار يهجرها الخريف ، ودفء
صوتكِ يتكىء على فراشة جروحي . انفجارات داخلية تصعد وتترصع بالذهب ، وتطهير
كامل لرماد المفاجأة في ضفائر البرق الخائنة . في زحفنا صوب المنارات التي يحرسها
العشّاق المقتولين ، تغني الصحراء يأسها من البراهين ، وينام الكهنة البرابرة مختونين
بين العلامات الخادعة لزواج الأفاعي . أغني غيابكِ في موعظة النيازك ، والأمل تختطفه
العقبان في هجرات السحرة . لا نشيد في الصحراء . ظلكِ الجاف يكبرُ ويغطي ينبوع
الأسلاف الذين أسسوا شقائق نعمان الطقوس .




62


في ليل ثقيل الأشرعة يضيق على آمالكم ، ويطبقُ على أضلاعكم ، ينبغي لكم أن
تحتاطوا على السرّ دائماً . كل ما يترصدكم في الطرقات المنخفضة ، يتنفس في
الغنيمة الضخمة للمتاهة . ملاجىء كثيرة تحلق فيها النسور ، ولا ينزفُ الموت فيها
في التوترات الرخوة للكائن . كل دلالة في شجرة الفعل ، تحني رأفتها في الانعكاس
المباغت لطيران الملائكة فوق شواطىء العالم . الألم خالد في حركته ، والسأم
يعتصم في كينونته ويفتك بكلمة الانسان . الرياح مفصولة عن تشابهاتها ، تقصفُ
بذوركم وتتوسد الصخر في خلو الزمان من ليله ونهاره .




63


متحرراً من طحالب الصمت وأغلاله الثقيلة ، أرتلُ كلمتي في ضوء الكتابة
وأمتحن الحلم في نكوصه . بروق عظيمة تتلألأ وتصدّ الغبار في تهشم الكون .
لا مكان الآن للهزيمة ، والتوقف يفجّر الصخور الصلدة للنسيان ، لكن عليّ أن
أطيل التفكير وأطعن الاسطرلاب في خلوده للنوم . كل شجار مع جلجامش
يترك لنا علامة سير على حدائق تقاوم سقوطنا . بحيرات كثيرة ترنحت في
أعماقها غوّاصات أحلامنا ولم نصل الى بوّابة المستقبل . الكلمة المفجرة تعيننا
على الصعود في فضاء الاشارة ، وتحطم كل تهديد لمراكبنا في توغلها صوب
الأنهار التي تسندها النجوم .



64


طائر العقعق يأكلُ تحت شجرة التفاح ، والنجوم تستترُ في الضفة الأخرى من النهار .
تسلبنا المصادفة خبراتنا الأساسية في رصد الأشباح واشاراتها للموتى . نحنُ أيضاً
نعبر سراج الموعظة في الظلال المغبرة لمخاوفنا ، وترفرف فوق رؤوسنا أشواك الغيوم .
من أجل ما نود القبض عليه في نضوج اللهب ، نصعد الى المعبد في ثيابنا التي من
فاكهة الصيف ، ونضع قرابيننا فوق الصخرة السوداء للمغفرة . الحبّ دوحة ابر تتعجل
الكلمات ، والهجران فضاء في المعاصم . في الأرض الغريبة سمعنا الريح تحرك المنجنيق
واستترنا أكثر تنفساً من جرس في المخاض . كل حمامة تحك مخلبها في كوكب الشجرة
وتطير بلا نصل في سفينة الطوفان ، والخطيئة تتدرج في ضوء رجائنا ، وصلواتنا تتفكك
في الاقامة النيّرة تحت تلألؤ الرغبة . عبر الاشارة المصونة ، ننشد الفراء الأزرق للناي
ونوقظ المديح من فوسفوره المرهق . قمح كثير يزيد عطاء الانسان في الصيف ويصغي الى
نبع شفة تائهة . الوعود واثقة من ملح الله وغفرانه ، ننحني عليها ونطيع صرخاتنا تحت
الأنقاض ، وفي الحجارة الغرابية التي يخضرّّ فيها سم الفناء .



65


توقظني في شواطىء الفجر مراكب شراعية ، وتحرضني على الابحار في بحر البلطيق .
رحلة طويلة عبر ممالك تتلاقى فيها الأجناس ، هي ما يفتح لي الباب للصعود الى أرض
الشمس . كلمة التقوى تسقط من يدي في النزهات المسائية ، ولا شراع يلامس صخرة
نومي . أصدقائي القدامى أضاعوني في الضفة المتهدمة للذكرى ، وغاصوا بعكازاتهم في
ليل شطرنج المتاهة . مرتعشاً تحت مرايا أغصان جروحي ، أحلم بصداقة الوشق على
امتداد جغرافيا الليل . كل نصل أطلقه باتجاه الموتى ، يرتطم بالقضبان التي علّقت عليها
اشارات حياتي ، والكلمات لا تطيعني في الاسلوب المريض . أشياء كثيرة ترقد في أعماقي
مضمومة باكراهات ، وتصطدم بالسلالم التي أريد صعودها . السنوات ثقيلة بتحطماتها
المستمرة ، وينبغي اجتياز الصخور التي توصد أبواب الزمن .




66



نزيحُ في انهيارات الأرق عن حيواتنا ، طحالب ضغائنها المتداعية ، ونحمل الجثث
المشنوقة فوق رؤوسنا التي لا تحميها الأفكار . تشنجات هذيانية كبيرة في مدائحنا ،
وأفعالنا الشائنة تتحطم وتتبعثر مثل الحشرات في الظلمة المرتجفة لأحلامنا . يا بحر
الأرق . يا تألقات النعمة ووميضها في غرائزنا المطقطقة . يا ظلال التحطمات االكبرى
لخزائن الأمراض . نريدُ الآن أن نصغي الى الانحلال العظيم لموتنا بين القشور التي
تمتهن كرامتنا ، وتضيّعنا في الترقبات الصقيعية لرماد الأمل . كل عبور لا يوصلنا
الى سهادنا المتشظي ، والحشرجة تغمرنا بحراشفها وتسقط صادحة في الظلمة المدوّمة .




67



يمكننا التحرك ما بين أدغال النجوم ، في لحظة صعود الصقر الى كاتدرائية
الشجرة . كل جريمة حرّة في اصطفافها مع الفضائل الأخرى ، والقانون رغم
افتقاده الى واعظ ، يغوص في بحيرة الصمت ولا يضيف للحريق ممرات أو
مطهرات . كثيرون يتهدمون في نومهم مثل مومياوات مكسيكية ، ولايزحفون
على أرصفة السنة وعتباتها التي تلمعها اعصارات الشمس . نخفي في جباهنا
آبار الصباح ، ونتبادل بذور الحصاد مع الملائكة في فضاء الرغبة . كل سنبلة
تغادر أرضها ، تمهد لنا الطريق الى شراع المرض . المجهول والواضح يتناوبان
على حمل رسائلنا الى سفينة النسيان ، لكننا مع الأرباح التي نجنيها من تجارتنا مع
الأعراق الميتة في فراغ الزمن ، نصبح أكثر قداسة مع مَن تاجرنا معهم بعدالة .
المستقبل كوخ يمرض فيه الجميع ، والشمس طلاء الغوّاصة .



68


واقفاً تحت ضباب قبركِ في الرياح التي تشحذ صخرتها ، أرثي كل أعمال الجنس
البشري . كل ميتة لها علامتها الجديدة في امتداد الظلمة ، والاذعان للشروط
القاسية لمصيرنا هو ما يحرضنا على الانحدار صوب التفجرات العظيمة للبركان . هذا
الموت – الأب الكهل الحنون ، يصافحنا بعصمته في كل حين ، ويستلب منّا انسانيتنا
في الذروة من رغباتنا . كل كائن في هذا الكوكب الذي تغربل حجارته الازهارات
المتوالية للصاعقة ، يسير في الليل حاملاً مرآته المتصدعة ، والصخور لا تحرك
أجفانها في الصمت وفي الحركة . سنوات قادمة تتعفن في جباه الذين سيصبحون آباء
والزمن شجرة تفاح نحيفة يثقبها طائر السنونو بابرته الزرقاء . التفسخ لحظة لتلمس
ما ينطفىء من حواسنا في { الما قبل والما بعد } وأحلام تتهرىء في الاندحارات
التي يطلقها الأب – الموت .



69



كلمة في يدي ، كلمة منطوقة تعريني من الزمن وندائفه الشائخة . لآلئها المحرّمة
تكتنز بحمولة اجابات كثيرة ، وتحرمني من الانتفاع بشرائع موتي في ليل الفصول .
هل لي أن أعقب الخيانة وأبعثر ركيزتها في تغريد طائر نقّار الخشب ؟ نعوش كثيرة
يطلقها البحر لتحنو على مصابيح رموشنا في الأمطار الفائرة ، والأمواج تغزل بأثدائها
الكبيرة أضرحتنا الشكسبيرية في تهدم القارات . في ضمور الصلصال بين الينابيع التي
نهجرها ، ندرك ما كنّا نضيّعه ، وما كنّا نكسره في السواحل التي هي قبورنا ، وننسى
استنفادنا للوسائل التي تعيننا على الامساك بانحناءات الهاوية . يشرئب الصباح في سطوع
نذورنا تحت ضوء الأصداف ، وانشادنا لقداساتنا بأرض الحصاد ، يعلو بعذوبة في الليل .



#نصيف_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبواب الزمن
- في خرائب الفايكينغ
- الأشجار الحامضة لصيف مخاوفنا الأمومي
- أشجار الدفن العالية
- حوار مع نصيف الناصري { وكالة كردستان للانباء( آكانيوز ) }
- تحطمات هائلة
- تعهدات ملزمة
- مخططات للحفاظ على القانون
- الحبّ . الزمن
- بلدي السويد
- ايمان الحيوانات
- الصيرورة المتعاقبة لمرايا التاريخ
- مقدمات في الكلام الجسماني عند أهل البصرة
- طقس ختان القنبلة النووية
- مدينة الفيل
- قداس جنائزي الى السيدة الشفيعة
- الشواطىء المهدمة للزمن
- النوم الأبدي
- تجربة مع الموت
- كتاب { العودة الى الهاوية } في الشعر العربي الراهن


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نصيف الناصري - مجموعة جديدة { في سطوع نذورنا تحت ضوء الأصداف }