أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَزهر 12















المزيد.....


الأولى والآخرة : مَزهر 12


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3109 - 2010 / 8 / 29 - 18:58
المحور: الادب والفن
    


" في هذا العالم، لكلّ شيء غلّة ٌ تقترنُ معه "
ابتدَهنا الأفندي بقوله، حالما أنصتَ لما كانَ من أمر وَرقة الكناش، المَفقودة. وتابعَ القولَ مُشيراً إلى الرقّ، الجلديّ، المَبذول لعينيْه: " إنّ حذاقَ القوم، إذ يجعلونَ أغراضهم المُهمّة، الأكثر سرّية، في حرز من أعين الطمع والفضول؛ فإنهم يتركونَ مع ذلكَ علامات، مُعيّنة، من المُفترَض ألا يتمكّن غيرهم من إدراك ماهيّتها ". ثمّ تناولَ الغرَضَ، المَعلوم، من على الطاولة المَوجودَة أمامه، وصارَ يُقلّبه بين يَدَيْه. الحيرَة، كانت ما تفتأ تتلبّسُ ملامحُ المُضيف، حينما واصلَ كلامه: " إنّ حجمَ أوراق الكناش، كما أذكر، ليُماثل تقريباً حجمَ الرقّ. على ذلك، فإنّ هذا ليبدو كما لو أنه حافظة جلديّة للكتاب، شبيهة بتلك التي تجلّد نسخ القرآن الكريم "
" يبدو لي، من ناحيَة أخرى، أنّ المَملوك الصقليّ كانَ قد احتفظ بالرقّ، سَهواً، عندما أعارَ الكناش لياسمينة. فلما تورّط في العلاقة مع القاروط، فإنه أضحى بالتالي على بيّنة من حقيقة أكيدَة: وهيَ أنّ مُخطط مَوضع الكنز، المَطلوب، غير مُحتمل وجوده في الكناش أو في حزمة الأوراق المُنتزعة منه. إنّ المَملوك كانَ لامعَ النباهة، حقا، لكي يُدرك تلك الحقيقة؛ طالما أنّ مالكي الكناش والحزمة كانوا ما زالوا يَتخبطون هنا وهناك بحثاً عن المُخطط "، قلَتُ ذلك ثمّ جَذبتُ الرقّ بلطف من يَد الأفندي، ورُحتُ أتمعّنُ فيه بدَوري. وإذا بالنور يَعشُ فجأة وَجهَ الرّجل، فيهتفُ مُتهللاً: " آه، إننا نستطيعُ أيضاً أن نأخذ من تلكَ الحقيقة قرينها؛ وهوَ أنّ الرقّ بنفسه عبارَة عن وَرقة من أوراق الكناش ". فلما نطقَ كلمتهُ، كانَ على أعيننا ، أنا والطبيب، أن تتلاقى في نظرة مُتسائلة. فإنه استعادَ الغرَضَ مني، ثمّ عمدَ إلى فرده أمامه على الطاولة وتمزيق بطانته، الخلقة.

إذاك، تجلّتْ قدّامَ أبصارنا المَبهورة صفحَة ُ الرّق، الداخليّة، وهيَ ذاخرَة بخطوط مُتشابكة ورموز عَسرَة وكتابات مُبهمَة: " إنّ الرقّ ربما كانَ مُقتطعاً من جلد غزال؛ من طريدَة مثلى لصيّاد مُحنك. ثمّ تسلّمتهُ يَدٌ دَربَة لصانع؛ غسلته جيّداً ثمّ أزالت عنه الوَبرَ، وغمَسَته في الجير السائل لتزيلَ عنه الموادَ الدّهنية. بعدئذ تناولَ الجلدَ دبّاغ ماهرٌ؛ جففه لكي يدلكه من ثمّ بحجر الحفاف حتى يُصبح ناعمَ الملمَس، وليُضحي أخيراً كصفحة بيضاء، ناصعة، بفضل الطباشير المَنحوتة من صخر قاسيون، الكلسيّ " أفادنا الأفندي وليسَ بقليل من الزهو. بيْدَ أنّ فرحتنا أجيز لها أن تبترَ سريعاً، عندما أردَفَ المضيفُ قائلاً: " إنّ هذا المُخطط، على فرَض أنه يُشير فعلاً لمَوقع الكنز، ليسَ له تصريفٌ إلا بوجود الكناش ". من جهتي، لم أكُ بحاجَة لشرح، ما دمتُ قد أدركتُ مَقصدَ القول. فعقبتُ وأنا أغلي من الحنق والإحباط: " ومَن سرَق الكناشَ، فإنه بدَوره لن يَفيدَ منه شيئاً دونما وَصل كلماته بهذا المُخطط "
" ولكن، يبقى ثمّة سؤالٌ مَطروح على منبَر المَسألة؛ وهوَ أيّهما الثمينُ، حقا، المُخطط أم الكناش؟ "، تساءلَ الأفندي وعلى شفتيه ابتسامَة غامضة. إنّ هذا السؤالَ، كانَ جديراً أن يَجعلني خجلاً من نفسي عندئذ؛ أنا مَن دأبَ على مُلاحقة كتاب الشيخ، البرزنجي، ولغايَة وَحيدَة: كشفُ ستر القاتل، المَجهول.
" ويُمكن كذلكَ، يا سيّدي، تثمينُ المَسألة بسؤال آخر؛ وهوَ ما إذا كانَ بالوسع استخدام المُخطط في إثبات جرم القاتل "، قلتها بشيء من الإحراج. فلما استفهمَ ميخائيل عما أعنيه، فإني استطردتّ مُتوجّهاً بكلامي إليه: " إن انتجاع البك الماكر بالدّم، على أيّ حال، قد آنَ أوانُ نهايته. فإنه يُجَرجر الآنَ أخفافَ الخيبَة، مَطلوباً من لدُن الدولة بجرم الخيانة. وعلى رأيي، فإننا نستطيع مُقايضة المُخطط باعتراف صريح من الماكرَ؛ بأنه مَن كانَ وراء الجرائم تلك، المُلغزة،علاوَة على جرائمه الأخرى، الجليّة ـ كالتسبّب بمَقتل قبجي السلطان ووزيره وتحريض سيّده، العزيز، على احتلال الولايَة وتقويض مَجلس العموميّة ". وأكملَ المضيفُ ما سَهوتُ عنه: " والوشايَة بالشاملي والعريان عندَ الوالي، بهدَف التخلّص من آخر رموز العامّية. وإلا، فكيفَ صَدَفَ أن غادرَ البكُ قصرَه في العشيّة ذاتها، التي كانَ فيها الجندُ بطريقهم إلى اعتقاله؟ "
" إنّ اقتراحكَ، يا صديقي، غير واقعيّ بالمَرّة "، خاطبني الطبيبُ على غرّة ثمّ أضافَ " إنني لقادرٌ على جَمْعكَ مع البك، متى شاءَ هوَ الاتصال فيّ ثانيَة ً. ولكنه سيتمكن بطريقة ما، خبيثة ولا رَيب، من انتزاع الغرَض منك، دونَ أن يَعطيكَ بمُقابله شيئاً "، قالها بنبرَة واثقة. على أنه كانَ مُبالغاً بقدرَة القاروط، كما فكّرتُ وقتئذ.

اجتماعي مع البك، المصري، كانَ عليه أن يتأخرَ لثلاثة أشهر أخرى.
كنتُ قبلَ ذلكَ اليوم، المَشهود، في طريقي إلى مَكان عملي في القلعة. وبالرغم من الوقت المُبكر وعدَم حلول القيظ بعد، فإنّ هذيانَ الطيور والزنابير والنحل والزيزان، المُتصاعد من فراديس الله الكائنة على جانبَيْ الطريق، عليه كانَ أن يُرافق بَدوره خطوي. فصلُ الصّيف، كانَ إذاً قد بدأ للتوّ في انتساج خيوط الحرّ على أبدان وأرواح البشر ـ كما لو أنه عنكبوتٌ من العماليق، خرافيّ.
نعم. كنتُ يومئذ خال من أيّ هاجس، مَنحوس، حينما دَلفتُ إلى داخل المَكتب. طاولتي الخشبيّة، المَنحوتة من العرعر ذي المَشام الحرّيف، كانت خاليَة ما تفتأ من الأوراق. فإنّ البريدَ، الهمايونيّ، ما كانَ قد آذن بعدُ في قدومه. إنّ عربات البريد، المشدودَة إلى الأحصنة الأصيلة، أضحَتْ هيَ مَصدر الرسائل في مُعظم ولايات السلطنة. " لم يَعُد الحَمامُ الزاجل، الدّربُ، سوى صنيعة للمُطارَدين والمُتآمرين والمَهووسين "، قلتُ في نفسي مُتمثلاً سحنة الصقليّ. وتساءلتُ، عما أخرني عن تفقد مَدرسة الحديث، طلباً لمَعلومات مُباشرَة من كبيرَة حافظاتها تتعلّقُ بحركات المَملوك ذاك، الراحل. لقد سبقَ للشاملي أن اقترَح عليّ مرّة ً، وليسَ بدون دهاء، أن نقومَ معاً بزيارَة المرأة الكبيرة، الطيّبة، كي نشكرها على تجشمها أمر إيوائنا لديها: أكانَ يُريدني آنئذ أن أكتشفَ، بنفسي وبشكل ما، سرَّ صارَة الحَمام؛ هناك، في سطح الدار؟ فما أن أخذتُ بتقليب الأمر في ذهني، حتى طرَق أحدهم بابَ الحجرَة.
" أسعدَ الله صباحكم، يا سيّدي. إنّ جنابَ آمرَ القلعة يَنتظرُ تشريفكَم لدَيه، ثمّة في مَقرّ الحمايَة "، خاطبني حاجبي باحترام بالغ. أخذتني على غرّة هذه الدَعوة، الغريبَة، حتى أنني نسيتُ أن أسألَ الفتى عن كيفيّة لقائه بالآمر. دونما نأمة، مَضيتُ من فوري نحوَ مقرّ حاميَة القلعة، الواقع إزاءَ برجها الأيوبيّ، التليد واليتيم في آن. ردّدتُ في سرّي أكثر من مرّة، فيما كنتُ أمرقُ من تحت البواكي والقناطر، المُتعدّدة والمُتواترَة: " فلنرَ ما خطب صاحبنا، في هذه الساعة الباكرة؟ ".

مقرّ الحاميَة، المُنيف، كانَ يَشغلُ الدورَيْن العلويَيْن لإحدى قاعات القصر القديم، شبه الشاغر، الذي كانَ فيما سَلف مأوى السلاطين والنوّاب والولاة والقادَة. إنّ المَقرّ، ولا غرو، يُشرف على قشلة الجند كما ومواقعهم الدفاعيّة؛ الكائنة ثمّة، عند الأبراج وبدَناتها ورَواشنها وسَقاطاتها وشراشيفها. إنّ آغا القلعة، حينما يَحضر لمقرّه، فإنه عادَة ما يَلجُ خلل ذلكَ باب السرّ، المُوصل داخل القلعة بخارجها بوساطة جسر مُتحرّك من الحجر المَنحوت. وكنتُ عندئذ أسيرُ بمُحاذاة الجسر، القائم فوقَ خندق القلعة، الغربيّ، المُثير للنفور بسبب فضلات الطعام والقمامة التي تتراكم فيه بالرغم من همّة الجياع من بشر وكلاب.
" أهلاً بصديقنا، الآغا العطار.. "، هتفَ آغا يقيني بترحاب. وإذ كانَ يَجلسُ على مَقعده، وَحيداً في الحجرّة، فإني أدركتُ بأنه كانَ ينتظرني. إذاك، كانَ قد نهض من مَكانه مُجاملة ً، ثمّ ما لبثَ أن أغلقَ الباب خلفي داعياً إيايَ للجلوس على الديوان. لم أكُ لجوجاً في التساؤل عن لغز الدَعوَة، حتى أنني استرخيتُ في مَجلسي ثمّ شرَعتُ بالحديث عما لحظته من مَشاهدَ: " يبدو أن سَعادة الوالي غير مستعجل، فيما يَخصّ عودَته للسراي؟ ". فتبسّمَ الآمرُ وأجابَ: " لا، إنّ ذلك المَقرّ، السابق، ما زالَ على حاله تقريباً من التداعي والخراب "
" وإذاً فإنه اقتدى ببعض أركان العموميّة، الذين استنكفوا عن ترميم منازلهم، المَحروقة، طالما أنّ داعي الخطرَ ما يفتأ على حاله "، قلتها مُتضاحكاً. هزّ رأسه بمَرح، ثمّ عقبَ بالقول: " أجل، لو كانت لدَيه الرغبَة في الإقامَة يالسراي، لكانَ قد تمّ تجهيزه في شهر واحد. لنتذكّر أسعد باشا العظم، الذي لم يَتورّع في سبيل بناء قصره، الجديد،عن الأمر بتخريب مدرسَة الحديث الناصريّة، الأيوبيّة، لأجل أن تستخدَم مادّتها الحجريّة والرخاميّة في عمارَته "
" أهوَ على غير عجلة، أيضاً، في أمر تحريك الجيش من حمص وإرساله إلى حدود ولايتنا صدّاً للغازي، المصريّ؟ ". فتردّدَ الآمرُ لوَهلة، ثمّ شرَع يقولُ بحَذر: " لطالما دأبَ موظفو الباب العالي، هنا وهناك، على الكيد لبعضهم البعض. والحال، أنّ القبجي ونكايَة ً بسعادتلو فإنه يَصرّ على قيادَة الجند إلى المَعركة، المُوشكة "
" الموشكة؟ ".

" وماذا تعتقدُ أنتَ، يا آغا؟ "
تساءلَ الآمرُ بنوع من اللامُبالاة، ثمّ أضافَ " لقد سقطتْ، أخيراً، قلعة عكا الحصينة؛ التي ردّتْ بونابرته العظيم. فهل من المُمكن أن تصمدَ قلعتنا هذه مُقابل مَدفعيّة الخصم، الحديثة والجبّارة ؛ وهيَ الضعيفة التحصين والرثة التجهيز؟ "
" بيْدَ أنكم، يا جناب الآغا، لن تنتظروا الجيشَ الغازي لكي يُحاصركم هنا، في القلعة؟ "
" لا، بطبيعة الحال. سنخرجُ غداً أو بعدَه، إن شاء الله، إلى حدّ البقاع كي نعدّ الدفاعات اللازمَة. وإذا ما نحَينا جانباً بقايا الوجاقات وحرس العموميّة، فإنّ قوات الأورطات حَسْب هيَ مَن سيكون عليها ردّ المصريين عن شامنا، الشريف "، قالها شاداً المُفردات بين نواجذه. وإذ اخلد بعدها للصمت، فما كانَ عليّ سوى احترام حزنه وكربَته. إنّ آغا يقيني، ولا شكّ، رجلّ شهمٌ ونادر المثال. لستُ بمَعرض هذا القول ، فقط بسبب ما كانَ من إنقاذ الآمر لحياتي؛ بل وأيضاً لإخلاصه لقضيَة الولايَة وتفانيه في الدفاع عنها وعلى طريقته. إنّ تشديدي على الكلمة الأخيرَة، إنما لكون أحداث الغدّ ستحملُ مفاجأة غير مُتوقعَة. ولكن، لندَع مآلَ الحكايَة تلك لوقتها المُناسب، المَوقوت.
" والآن، عليكَ يا صديقي أن تنصت إليّ جيداً. إنّ سعادتلو في تخبطه مع حاشيَة السوء، أجاز لنفسه الإنصات لكلّ نمام، خسيس. وبعد مَوضوع الرسائل، المُوقع جهلاً واعتباطاً بكلّ من كبيرَيْ القنوات والعَمارة، جاء الدّور عليكَ أخيراً "، قالها برنة الحزن عينها وأستأنف على الأثر " يبدو أنّ أحدهم قد كتبَ للسلحدار بحقكَ؛ على أنكَ تأوي في منزل الأفندي، المَكفول من لدُنكَ، بعض المَطلوبين من جماعة أحمد بك المصري. إنّ أمراً بتفتيش المنزل قد صَدرَ، وسيتمّ تنفيذه بعيدَ صلاة العشاء. وإذاً، فإني أخوكَ وناصحُكَ في آن: فاعمَد أولاً إلى تحذير أولئك القوم، بطريقة أو بأخرى، ثمّ اختف أنتَ بدَورك في مكان أمين ولحين انجلاء الوَضع ". رفعتُ وجهي إلى سويّة عينيْه وطفقتُ أتأمل في ملامحه. لوَ أنّ شمّو آغا، فكّرتُ حينئذ، هوَ من كانَ مُقابلي لكنت ربّما استرَبتُ في الأمر.
وكأنما آمرُ القلعة كانَ إذاك على صلة ما بفكري، فإنه ما عتمَ أن هتفَ على فجأة: " وأنصحُكَ، أيضاً، بألا تلجأ إلى حمى صديقنا؛ زعيم الصالحيّة ". وأضافَ بعيدَ مهلة صمت " لا أقول ذلك تخويناً له، لا سَمحَ الله، وإنما لأنّ علاقتكما الوَثيقة قد تكونُ في خاطر من سيتعقبونكَ ". عند ذلك، نهضتُ على قدميّ مُوّدعاً وشاكراً، ثمّ قلتُ له أمامَ الباب بصدق: " إنني لم أكن أحمي سوى الدكتور ميخائيل؛ لأنه كذلك بمَثابة الأخ. أما ذلكَ البك، المصري، فإني أبحثُ عنه فعلاً. ولي لقاءٌ معه، قريبٌ، على أغلب ترجيح ".

كمألوف عادَتي في أيام العَمَل، غادَرتُ المكتبَ عند صلاة العصر. عند خروجي من باب القلعة، الرئيس، شئتُ الانعطاف يساراً نحوَ جهَة سوق الأروام، المُحاذي. وقلتُ في نفسي، مُتفكّهاً، ما أن وطأتُ أرضيّة السوق المُبلطة بقطع البازلت، الصغيرَة: " فليتهيأ مَنْ يَتعقبني لجولة من المَشي، مَديدة ". على ذلك، هممتُ بالسير في زحام المُشترين وجلبَة صبيَة الباعَة. أحياناً، كنتُ أخفي أنفي بكمّ سترتي، الإفرنجيّة، المُعبّقة بأريج العطر تجنباً لرائحَة عرَق الآخرين أو الغبار المُثار بفعل العربات والدّواب. ثمّة، عندَ مُنعطف المسكيّة، رفعتُ رأسي إلى الأعلى: كانَ برجُ القلعة ذاك، المَزعوم، مُتداخلاً في نهاياته وحواف السور حتى لقد ظهرَ وكأنما هوَ جزءٌ منه. ولكن، لمَ كانَ عليّ الارتياب عندئذ بماهيّة ذلك البرج، الثالث عشر؛ ما دامت قرائن عدّة قد أفادَتْ بحقيقة وجوده؟
" لأنني أتمنى، حقا، لو أنه ليسَ كذلك؛ لكي لا يَهنأ القاروط بثمرة جرائمه "، عدّتُ أخاطبُ داخلي دونما أن أعبأ لحقيقة، أنّ الفكرَة ساذجَة ٌ. أما وقد رأيتني أحثّ الخطى باتجاه المَسجد الأمويّ؛ أينَ قهوَة النوافر، القريبة من بيتي؛ فإنني تيقنتُ بأنّ هذه الجولة هيَ فاتحَة وداع. نعم. كنتُ إذاك أهجسُ بأني لن أرى الشام ثانيَة ً، أبداً. لن يُتاح لبَصري، من بعد، أن يُعاينَ شموخ مَسجدها وعظمَة قلعتها؛ إفرندَ دربها المُستقيم وصلصالَ أسوارها؛ ذخائرَ أسواقها وعمائرَ قصورها؛ رقائق أبوابها ولجَيْنَ أنهارها؛ رياضَ أرباضها وأغراسَ غوطتها؛ خزفَ بحراتها ومَرْمرَ باحاتها: " صدَقتَ، يا مولانا؛ إنّ جهنمَ لهيَ عُذوبَة لا عَذاب "، هتفتُ في وَجْد و لوعَة.
حالما صرتُ بمقابل منزلي، المُندثر. ثمّة، على مَبعدَة من عياني، كانت أطلالُ الحَريق تطلّ كامدَة، فيما الحديقة ما تفتأ مُزدهرَة بمَزهر من زنابق الربيع، المُتأخر، ونرجسه وأقحوانه كما وبأشجارها المُثمرَة من رمّان ودرّاق وأفندي وأكيدنيا وكرَز وتفاح وتين وتوت. عندئذ وعلى أطرَاف المَكان، الأربعة، كانت ذكرياتي تحبو كغلام غرير .

كان لديّ وقتٌ كاف، لحين حلول صلاة العشاء.
وبالرغم من عسر ساعة الخطر، المُهلك، فإنّ رغبَة بالكشف، مُلحّة، كانت ما تني تداعبُ ذهني. وعلى إيقاع هذه الرغبة، رأيتُ خطوي يَمضي بي نحوَ مَدرسة الحَديث، البرانيّة. على أنني إذ لم أكن مُتعجّلاً عندما تركتُ القيمرية خلفي ، فقد فضلتُ العودَة من طريق آخر. تحتَ شمس غير خامدَة بَعدُ، سرتُ إذاً باتجاه الكلاسة مُلتفاً حولَ المسجد الكبير وأسوار القلعة. ولما لاحتْ عن بُعد هامَة باب العمارَة، فإني التففتُ من هناك إلى جهة السويقة مروراً بحمّام الوَرد. حتى رأيتني قدّام مَدخل المَدرسة، المَطلوبة. أحجارُ مَداميك البوابَة، شاءتْ عندئذ تحيّتي بألوانها الثلاثة، المُتناوبَة. إلا أنني كنتُ غائباً عن كلّ ما يُحيطني، مذ الهنيهَة التي أعلمني فيها آمرُ القلعة بالخبَر الداهم. على ذلك، فما أن وَلجتُ خلل بوابَة المَدرسة، المُثلثة المَداخل والتي تعلوها العقودُ، حتى بعثتُ من يُعلم كبيرَة الحافظات بحضوري. ثمّ أذنَ لي بالتوجّه إلى الإيوان والانتظار ثمّة، لحين فراغها من استقبال أحد الضيوف. حينما أجَلتُ نظري في المَكان، استعدّتُ بلمحَة مَشهدَ جَمعتنا بُعيدَ تخليص الحيّ من براثن الانكشاريّة؛ المَشهد المُهيب، الذي كانَ شيخ الشام نجمه ولا ريب. ليستْ ملامح الشيخ النقشبندي، الناصعة، بل مثيلتها الكامدَة؛ هيَ من عادَتني عندئذ: مَلامح اليَرلي باشي، التعس، في ساعات حياته، الأخيرَة.
" مَرحباً بكَ، يا جناب الآغا "، حيّتني كبيرَة بودّ دونما أن تمدّ لي يَدها. وكنتُ اللحظة قد دَخلتُ للتو إلى الحجرَة الفسيحَة، الخاليَة إلا من جرم صاحبتها، الضخم. إنّ بشاشة كبيرَة، المُبالغ فيها قليلاً، أحلتها لما كانَ من مَعرفتها بمَركزي المهمّ في القلعة. ولم تكُ المرأة تدري ، بطبيعة الحال، بأني جئتُ إلى هذا المَكان وكنتُ مُتيقناً بأنّ مَصيري أيضاً كانَ قد كتبَ هناك، في القلعة. بعد مَرور عبارات المُجاملة، المألوفة، رُحنا نتكلّم عن وَضع الشاملي وأهله. وكانت المرأة ولا غرو مُتأثرَة كثيراً بما حصلَ لصديقها، كما عبّرَتْ عنه مراراً بهزّ رأسها أسفاً. إلا أني شئتُ سؤالها، أولاً، عن نرجس: " هل حَظيَ أهلُ الزعيم برؤيته، قبيل حضور الجند للمَدرسة؟ "
" نعم، إنّ ابنته كانت هنا، في ذلك المَساء. إنه هوَ من دَعاها يومئذ؛ وكأنما كان يَحدُس بما سيَجري معه لاحقا ". إذاك، لاحظتُ من كلمات كبيرَة الحافظات، المُنتقدَة لأوضاع الولايَة، أنّ الخلق عموماً كانوا ما يَفتئون يتنسّمون هواءَ الحريّة، على اثر زوال سَطوَة الوجاقات ودونما كبير اهتمام بشدّة الوالي الجديد وهيبته: " لأوّل مرّة مذ نهايَة عهد الجزار، المَقبور، يُجاز مُساواة الأعيان والعَوام في سوء المُعاملة وقلة الاحترام. وكم أخشى أن يُعلق على أبواب الشام هاماتُ الأكابر، الشامخة، بمَحل جثث مَماليكهم "، قالتها باستياء. فرأيتها سانحَة للدخول في الأمر، المَعلوم، الذي قدمتُ من أجله.

" أجل، لقد سُعدنا بانتقام سعادتلو من طغاة الانكشارية "
علقتُ على كلامها، ثمّ استطردّتُ بالقول " إلا أنّ نيله من وجهاء المَدينة غير مَقبول، بتاتاً. وبمناسبَة الإشارَة إلى المَملوكيْن، المَعدوميْن، فإني بحاجَة لبعض المَعلومات عن طبيعة حرَكتهما في الدار خلال فترَة مكوثنا هنا في ضيافتكم، الكريمَة ". فسألتني المرأة باهتمام: " هل إنّ تقصّيكَ عن الأمر، من المُمكن أن ينقذ صديقنا، كبير الأعيان؟ ". كانت المرأة، الوَفيّة، مثلها في ذلك مثل الكثيرين، ما تزالُ على دأبها في مَحض الشاملي ألقابه السابقة، المُضمَحلّة. وإذاً، أجبتها بهزة إيجاب من رأسي، ثمّ ما عتمتُ أن استفهمتُ منها عن سرّ صاريَة حمام الزاجل؛ ثمة، على سطح مبنى المَدرسة. عند ذلك، نهضتْ بهمّة مُستأذنة، لكي تجلبَ من له صلة بالأمر. بعد قليل، حضرَت كبيرَة رفقة إحدى نساء الدار. هذه الأخيرَة، المَشمولة بنقاب ثقيل، أجابتْ عن أسئلتي باقتضاب ثمّ ما لبثتْ أن مَضتْ إلى شؤونها بإشارة من الرئيسة.
" وإذاً، فإنّ الزعيمَ، في الفترَة التي سبقت اعتقاله مع العريان، كان يَستخدمُ الزاجلَ في المُراسَلة. أما المَملوك، الصقليّ، فإنه كانَ يفعل ذلكَ من باب التسليَة على ما يبدو ؛ طالما أنّ الفعل كانَ على مَرأى ومَسمع من الآخرين"، غلقتُ في نفسي على مَعلومات تلك المُشرفة. مُبلبلاً على الأثر، ما عتمتُ أن التفتّ إلى مَوضوع مَصرع العشّاب: " عذراً، يا سيّدتي المُبجّلة. ثمّة أخيراً ما أودّ سؤالك عنه، بخصوص مَوت المَرحوم العشّاب "
" آه، بكلّ طيب خاطر "
" إنني بحاجَة إلى تفحّص الخنجر، الذي طعنَ به الرّجل ". فلما أخبرتها بطلبي، فإنها رَفعتْ حاجبيْها مُستغربَة: " الخنجر؟ أعتقدُ أننا فقدنا أثرَه من بعد.. "
" ولكن، المَعذرة مرّة أخرى. ألا تذكرين يا سيّدتي شكله؟ "
" إنه إذا لم أكُ مُخطئة شبيهٌ بالخناجر العاديّة، الدّمشقية "، أجابتني بشيء من الحيرَة. إلا أنها ما لبثت أن هتفتْ على غرّة، مُستدركة ً " بلى، إنّ المَرحومة شمس، الرّسامة، طلبتْ من مَملوك الشاملي إحضار ذلكَ الخنجر لكي تصوّره "
" وهل الصورَة تلك، ما زالتْ بحوزتكم؟ "، قلتُ مُقاطعاً في لهفة. فأقرّتْ عندئذ كبيرَة بعدَم علمها بذلك. إلا أنها سَرعانَ ما عادَت تقرع الجَرس الدقيق، النحاسيّ، طالبَة لحضرتها إحدى مُساعداتها. ولم يمض كثير وقت، حتى كانت اللوحَة بين يديّ: كانت تصوّرُ أداة القتل بحَجم كبير على خلفيّة بلون الدّم، القاني. أما الخنجر نفسه، فلم يكن سوى أحَد أسلحة الزعيم ـ كما حقّ لي مَغرفته من قرينه ذاك؛ المُستخدَم في جَندَلة الوَصيف، العجوز.

عند ذلك حَسْب، أبدَيتُ رغبتي في مُغادَرة المَكان. كنتُ عندئذ في حاجَة إلى استعادَة أنفاسي، خارجاً، كما والقدرَة على تنظيم ذهني. إلا أنني كنتُ كالمُسرنم، حدّ أني لا أذكر ما كانت قالته كبيرَة لي لدى توديعها إيايَ. إنها تلكَ الصّرخة، التي أصدَتْ في أذني بُعيدَ تسلل شمس من حجرتي، من كانَ عليها أن تمدّني بلدغات أسئلتها.
لمَ شاءَتْ المَرحومة أن تصوّرَ أداة القتل؟ ولمَ غضّ الزعيمُ الطرفَ عن هربها من دار الحديث بتلك الطريقة؛ وكانَ من المُتعيّن عليه أن يُعيدَها للفور احتراماً لصداقة كبيرَة الحافظات؟ فهل أنّ تجاهل الزعيم ذلك، كانَ بسبب علمه بأنها سترافق ركبنا المُتجه إلى إمارَة الجبل؟ أكانَ سعيداً بإبعاد الرسّامة، ما دامتْ هيَ الوَحيدة التي من المُمكن أن تكونَ صَدَفته عند مُغادرتها حجرتي في فجر جريمة مَقتل العشّاب؛ هوَ المُفترَض أن يكونَ قد غادرَ الدارَ في الليلة الفائتة، توارياً عن عينيّ شيخ الشام، السابق؟ وبهذه الحالة، أكانَ الزعيمُ قد تخلّصَ من شمس طعناً بخنجره في حُجرَة مُحترفها، ثمّ غطى على جريمته بالحريق لكي يُعزى اقترافها لأنفار الانكشاريّة؛ تماماً، كما تمّتْ إحالة اقتراف جريمة قتل عصمان أفندي، الحاصلة في اليوم نفسه، إلى آغاواتهم المَحجوزين في القبو؟



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : مَزهر 11
- الأولى والآخرة : مَزهر 10
- الأولى والآخرة : مَزهر 9
- الأولى والآخرة : مَزهر 8
- الأولى والآخرة : مَزهر 7
- الأولى والآخرة : مَزهر 6
- الأولى والآخرة : مَزهر 5
- الأولى والآخرة : مَزهر 4
- الأولى والآخرة : مَزهر 3
- الأولى والآخرة : مَزهر 2
- الأولى والآخرة : مَزهر
- الفصل السادس : مَجمر 11
- الفصل السادس : مَجمر 10
- الفصل السادس : مَجمر 9
- الفصل السادس : مَجمر 8
- الفصل السادس : مَجمر 7
- الفصل السادس : مَجمر 6
- الفصل السادس : مَجمر 5
- الفصل السادس : مَجمر 4
- الفصل السادس : مَجمر 3


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَزهر 12