أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - بوابة التمدن - عبد الصمد الديالمي - الإجهاض بين التجريم والإباحة















المزيد.....



الإجهاض بين التجريم والإباحة


عبد الصمد الديالمي

الحوار المتمدن-العدد: 3107 - 2010 / 8 / 27 - 08:49
المحور: بوابة التمدن
    



من المعطيات الأساسية التي يجب التذكير بها أنّ عدد وفيات النساء الحوامل من جرّاء الإجهاض هو 330 في كلّ 100000 إجهاض في البلدان التي تجرم الإجهاض. ويتقلّص هذا العدد إلى ما بين 0,2 و 1,2 وفيات في كلّ 100000 إجهاض في الدول التي تبيح الإجهاض وتنظّمه (وهي 54 دولة). وهي أرقام تدلّ على أنّ خطر الموت المرتبط بالإجهاض يرتفع كلّما كان الإجهاض ممنوعا ومجرّما، وعلى أنّ التجريم لا يؤدّي إلى تقليص حالات الإجهاض بقدر ما يؤدّي إلى حدوثه في ظروف سيئة غير سليمة وخطرة على صحّة المرأة الحامل وعلى حياتها. ومن الأمثلة العينية على هذه الإحصاءات، المثال المغربي. فرغم الترسانة القانونية المغربية التي تجرم الإجهاض، تتم يوميا ما يقارب 800 عملية إجهاض سرية، تموت بسببها يوميا امرأة رغم أنّ معظم عمليات الإجهاض (600 حالة) يقوم بها مهنيو الصحة من أطبّاء ومولّدات محترفات. أكثر من ذلك، يبقى التجريم القانونيّ حبرا على ورق إذ أنّ الحالات المجرّمة فعلا على الصعيد القضائي المغربي لم تتعدّ 35 حالة سنة 2008 و46 حالة سنة 2009.


أمام هذه المعطيات، يكمن هدف هذه الورقة في ثلاث نقاط كبيرة هي : أوّلا عرض موقف القانون الجنائي المغربي (المجرّم للإجهاض)، ثانيا تقديم موقف المنظمات الدولية التي ترى في منع الإجهاض خرقا لحقوق الإنسان الخاصة بالنساء، ثالثا التعريف بمواقف بعض جمعيات "المجتمع المدني" في المغرب التي تتبنّى المنظور الحقوقي الشمولي الدولي وتحاول توطينه في مجتمع جعل من الفقه المالكي مرجعه الإسلامي الوحيد في التعامل مع الإجهاض.


الإجهاض في القانون المغربي :

يمكن رصد موقف القانون المغربي من الإجهاض في القانون الجنائي الذي ابتدأ العمل به سنة 1963 والذي يخصص عشرة فصول للإجهاض في بابه الثامن. وهو الباب المخصص للجرائم ضدّ نظام الأسرة والأخلاق العامّة. وقد عدّلت بعض نصوص هذا الباب بمرسوم في 01/ 07/ 1967، على رأسها تعديل الفصل 453 المتعلق بحالات عدم تجريم الإجهاض وتعديل الفصل 455 المتعلق بالتحريض على الإجهاض. وألغى هذا التعديل ظهير 10يوليوز 1939 الذي كان يعاقب على الدعاية والتحريض على التقليل من الإنجاب والتناسل (للسماح باستعمال وسائل منع الحمل)، لكنه يجرّم الإرشاد إلى الوسائل التي تحدث الإجهاض ولا يعتبرها من وسائل منع الحمل.


ومنذ 1967، لم تخضع نصوص القانون الجنائي المتعلقة بالإجهاض إلى أيّ تعديل. وأهمّ فصول هذا القانون هي التالية:
-الفصل 449: "من أجهض أو حاول إجهاض امرأة حبلى أو يظن أنها كذلك، برضاها أو بدونه سواء كان ذلك بواسطة طعام أو شراب أو عقاقير أو تحايل أو عنف أو أية وسيلة أخرى، يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم. وإذا نتج عن ذلك موتها، فعقوبته السجن من عشر إلى عشرين سنة".


-الفصل 453: "لا عقاب على الإجهاض إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحّة الأمّ متى قام به علانية طبيب أو جرّاح بإذن من الزوج. ولا يطالب بهذا الإذن إذا ارتأى الطبيب أن حياة الأمّ في خطر غير أنه يجب عليه أن يشعر بذلك الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم. وعند عدم وجود الزوج أو إذا امتنع الزوج من إعطاء موافقته أو عاقه عن ذلك عائق فإنّه لا يسوغ للطبيب أو الجرّاح أن يقوم بالعملية الجراحية أو يستعمل علاجا يمكن أن يترتّب عنه الإجهاض إلا بعد شهادة مكتوبة من الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم يصرح فيها بأنّ صحّة الأم لا تمكن المحافظة عليها إلا باستعمال مثل هذا العلاج".


-الفصل 454: "تعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم، كلّ امرأة أجهضت نفسها عمدا أو حاولت ذلك أو قبلت أن يجهضها غيرها أو رضيت باستعمال ما رشدت إليه أو ما أعطي لها لهذا الغرض."


من الفصل 449 يتبيّن أنّ الإجهاض (أو حتى محاولته) فعل مجرَّم بقوّة القانون. واعتبر القانون أنّ الجريمة قائمة منذ تلقيح البويضة داخل رحم المرأة. أيضا، لا يعتبر القانون أن اختيار المرأة للإجهاض حقّ لها. فبمجرّد وقوع الحمل، لا يبقى للمرأة الحقّ في اتخاذ قرار توقيفه عندما يكون الحمل عاديا لا يشكّل خطرا على صحتها أو على حياتها، وذلك بغضّ النظر عن حالتها الزوجية. بتعبير آخر، يعمل القانون على الحفاظ على الحمل الحاصل وإن كان غير شرعيّ، أي غير ناتج عن علاقة زوجية. في هذه الحالة، يصبح الحمل دليلا ماديا على "الفساد" الجنسي، على فساد المرأة بالأساس لأنّ فساد الشريك أمر يصعب إثباته. وبالتالي تنال المرأة عقابين، الأوّل خاص بالفساد الجنسي والثاني خاص بالإجهاض أو محاولته. إنّ رضا المرأة وموافقتها على الإجهاض يعتبر مساهمة في الجريمة وبالتالي أمرا يعاقب عليه القانون. من جهة أخرى، لا تهمّ الوسيلة التي تستعمل لإحداث الإجهاض بمعنى أنّ العقوبة لا تختلف حسب طبيعة الوسيلة المستعملة ودرجة خطورتها. فالطبيب الأخصائي في التوليد (سواء استعمل الجراحة أو الدواء) ينال نفس العقاب الذي تناله "القابلة" أو يناله بائع الأعشاب.


أما الفصل 453، فيبيح الإجهاض في حالة ضرورة المحافظة على صحة المرأة الحامل وذلك بموافقة الزوج (دون أن يحدّد أجلا يكون فيه الإجهاض مسموحا). من هنا، يتضح أنه لا يمكن للمرأة الحامل غير المتزوجة أن تستفيد من هذا الفصل، ولا يمكن أن تطالب بالإجهاض حفاظا على صحتها ما دامت لا تتوفّر على زوج يأذن لها بذلك. والفصل نفسه يبيح الإجهاض في حالة خطر موت المرأة الحامل رغم عدم موافقة الزوج. فهل يعني هذا أنّ الإجهاض مباح لغير المتزوّجة في حالة تعرّضها لخطر الموت؟ رغم "إيجابية" الفصل 453، وهي إيجابية نسبية جدّا، فالمعنى المعطى لمفهومي الصحة والموت معنى بيولوجيّ محض. إنّ المقصود بالحفاظ على الصحة هو ضرورة تجنيب المرأة الحامل مجموعة من الأمراض الفيزيقية.

ومن ثمّ لا وجود لمكانة صريحة للصحة في بعديها النفسي والاجتماعي. فالقانون لا يأخذ بعين الاعتبار المضاعفات النفسية (القلق، الميلانخوليا، محاولة الانتحار…) ولا التبعات الاجتماعية للحمل غير المرغوب فيه مثل التشرّد والعمل الجنسي إن كان حملا غير شرعيّ. كما أنّ المقصود بخطر الموت هو خطر الموت البيولوجي الناتج عن تعقيدات الحمل نفسه. بتعبير آخر، لا يأخذ القانون بعين الاعتبار خطر الموت الناتج عن الحمل غير الشرعي، والذي تتعرّض له إلى اليوم المرأة غير المتزوّجة، وعلى وجه الخصوص الفتاة العزباء باسم "الشرف". فالحمل غير الشرعيّ يؤدّي إلى خطر الاغتيال (من طرف أفراد العصبة)، وعلى الأقلّ إلى خطر الموت الاجتماعي من خلال التمييز والإقصاء والتهميش والتشريد والضياع. كلّ هذه المعاني ملازمة في العمق لمفهومي "الحفاظ على الصحة"، لكنّها معاني مغيّبة من خلال التطبيق الآليّ والحرفي لمقتضيات القانون الذي يميّز الممارسة القضائية بهذا الصدد.

ألا يمكن أن تكون هذه الأبعاد "الجديدة" لمفهوم الصحة، والتي تبنّتها "المنظمة العالمية للصحة" في تعريفها للصحة، أساسا ومنطلقا للاجتهاد القضائي؟ بتعبير آخر، أليس بالإمكان عدم تجريم فتاة عزباء (عند إقدامها على الإجهاض) حفاظا على صحّتها النفسية والاجتماعية؟ ألا يجنّبها الإجهاض الرغبة في الانتحار أو السقوط في العمل الجنسي (قصد إعالة نفسها وإعالة مولودها في حالة عدم الإجهاض)؟ أم أن المجتمع الأبيسي يجرّم الإجهاض بالضبط ليدفع كلّ فتاة عزباء حامل إلى الانتحار أو إلى العمل الجنسي، أي إلى الموت البيولوجي أو الاجتماعي؟ ألا يزال المجتمع المغربي اليوم في حاجة إلى تجريم الإجهاض كآلية أبيسية لمنع الفتاة من الجنس قبل الزواج؟ إنّ نجاعة هذه الوسيلة في تحقيق هذا الهدف ضعيفة جدا بالنظر إلى ارتفاع تكرارية النشاط الجنسي قبل-الزوجي لأسباب وغائيات متعددة (عرضناها في مختلف أعمالنا). أبعد من ذلك، لم يبق رفض الجنس قبل الزواج المعيار الوحيد الذي يوجّه السلوك الجنسي إذ أصبح مزاحما من طرف معيار حداثي إنسي يعتبر الجنس قبل الزوجي فعلا أخلاقيا عند حدوثه بين راشدين راضيين. وبالتالي لا بدّ من وضع "تربية جنسية" حداثية تفسّر أكثر المعايير الجنسية الحداثية وتصاحب السلوكات الجنسية الراهنة لتحميها من خطري الحمل غير المرغوب فيه والأمراض القابلة للانتقال جنسيا


الإجهاض في التشريعات الدولية:

في منطق الأمم المتحدة، لا يتعارض منطق الحفاظ على حقوق النساء مع منطق الدفاع عن الحقّ في الحياة الخاص بالطفل والمنصوص عليه في "معاهدة حقوق الطفل". إنّ حقّ الطفل في الحياة لا يؤخذ بعين الاعتبار إلا بعد ولادته. أمّا حماية الحياة منذ الإخصاب أو منذ مرحلة معيّنة من الحمل فمبدأ لم يقبل على الصعيد الدولي. وسارت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في هذا الاتجاه بحيث أنّها رفضت اعتبار الجنين "شخصا" أو "مواطنا" له حقوق. وقد نصّت اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان على أنّ عبارة "كل شخص" لا تنطبق على الطفل الذي سيولد.

بالنسبة للجنة الأمم المتحدة الخاصة بالقضاء على كلّ أشكال التمييز ضدّ النساء، يدلّ منع الإجهاض على تمييزٍ ضدّ النساء وهدرٍ لحقّهن في الحياة والصحة. فمنع الإجهاض يعني شيئا واحدا هو دفع النساء إلى الإجهاض السرّي، أي إلى تعريض أنفسهنّ إلى خطري المرض والموت. فحين تضطرّ المرأة الحامل للاحتفاظ بحملها رغما عنها، فإنّ الحمل لا يمرّ في ظروف سليمة وتحت المراقبة الطبية، كما أنّ الولادة تتمّ بدورها في "سرّية غير شرعية"، وكلّ ذلك مصدر مخاطر. ولا شكّ أنّ الظروف التي يتمّ فيها الإجهاض السرّي تضاعف من خطر الموت من جراء النزيف الدموي أو الإصابة بجرثومة أو التسمّم.

إنّ الأمومة اختيار حرّ، وذلك حقّ أساسيّ من بين حقوق الإنسان الأساسية. فـ "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة" التي اعتمدتها الجمعية العامّة وعرضتها للتوقيع والتصديق والانضمام بقرارها 34/180 المؤرّخ في 18 كانون الأول / ديسمبر 1979، تنصّ في المادة 16 على أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية. وعلى أساس المساواة بين الرجل والمرأة، تضمن الاتفاقية للمرأة:
"
(أ) نفس الحقّ في عقد الزواج،
(ب) نفس الحقّ في حرية اختيار الزوج، وفي عدم عقد الزواج إلا برضاها الحرّ الكامل؛
(ج) نفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه؛
(د) نفس الحقوق والمسؤوليات بوصفهما أبوين، بغض النظر عن حالتهما الزوجية، في الأمور المتعلقة بأطفالهما وفي جميع الأحوال، يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول،
(هـ) نفس الحقوق في أن تقرر، بحرية وبإدراك للنتائج، عدد أطفالها والفاصل بين الطفل والذي يليه، وفي الحصول على معلومات والتثقيف والوسائل الكفيلة بتمكينها من ممارسة هذه الحقوق؛
(و) نفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنّيهم ، أو ما شابه ذلك من الأعراف، حين توجد هذه المفاهيم في التشريع الوطني، وفي جميع الأحوال يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول؛
(ز) نفس الحقوق الشخصية للزوج والزوجة بما في ذلك الحق في اختيار اسم الأسرة والمهنة ونوع العمل؛
(ح) نفس الحقوق لكلا الزوجين فيما يتعلق بملكية وحيازة الممتلكات والإشراف عليها وإدارتها والتمتع بها والتصرف فيها، سواء بلا مقابل أو مقابل عوض".
واضح من النقطة (د) أنّ للمرأة نفس الحقوق على أطفالها وعلى حملها بغضّ النظر عن حالتها الزوجية. وواضح من النقطة (ه) أنّ الإجهاض يدخل ضمن الوسائل الكفيلة التي تمكّن المرأة من اختيار عدد أطفالها.
تمديدا لهذا الموقف، ألزم المؤتمر الدولي للسكان والتنمية (القاهرة 1994) كل الدول بضمان العلاج والمعلومات الضرورية لكل النساء اللواتي يلجأن إلى الإجهاض. وأقرّ "برنامج العمل للمؤتمر الدولي للأمم المتحدة للنساء" (بكين 1995) في الفقرة 97 تمكين النساء من التحكّم في خصوبتهنّ. أكثر من ذلك، اعتبر هذا التمكين قاعدة مهمّة للتمتّع بحقوق أخرى. ذلك أنّ إخصاب النساء ضدّ إرادتهنّ لمن آليات المجتمع الأبيسي في التحكّم فيهنّ وفي مراقبة جنسانيتهن (قبل الزواج بالخصوص). أما الفقرة 223، ففيها تنصيص على أنّ لكلّ شخص الحقّ في التمتّع بأكبر قدر ممكن من الصحة الإنجابية والجنسية، وفي اتخاذ قرارات في ميدان الإنجاب دون أن يكون موضوع تمييز أو إكراه أو عنف". وهذا ما ينطبق بالضبط على حقّ المرأة في الإجهاض إذا كان الحمل غير إراديّ وغير مرغوب فيه. وفي توصياته، ألزم "برنامج العمل" الدول بمراجعة كل القوانين المجرمة للنساء اللواتي يلجأن إلى الإجهاض قصد التخلص من حمل غير مرغوب فيه.

وبدوره يوصي الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الخاص بحقوق المرأة في إفريقيا (الاتحاد الإفريقي 2003) بتمكين النساء من الإجهاض المطبّب في حالات الاعتداءات الجنسية (اغتصاب) والعلاقات مع محرم، وكذلك حين يشكل الحمل خطرا على صحة الأم البيولوجية والعقلية أو خطرا على حياتها.

ماذا يعني اعتراف المنظمات الدولية بحق المرأة في الإجهاض؟ أساسا، يعني أن الأمومة ليست فعلا بيولوجيا آليا يفرض نفسه على المرأة جراء علاقة جنسية. "إن الأمومة ليست معطى مباشرا للأنوثة" حسب الأنتربولوجية نيكول ماتيو، والإجهاض بالضبط يشهد على ذلك. فإمكانية التوقيف الإرادي للحمل، سواء أكان التوقيف شرعيا أم لا، تبين بشكل لا يدع مجالا للشك أن الأمومة فعل إرادي وثقافي. ويترتب عليه أن"الإجهاض رفض ثقافي لفعل بيولوجي ابتدأ" ، فهو شبه-طقس كانت تلجأ إليه بعض القبائل الإفريقية لمنع الفتيات العازبات من الولادة ومن التحول إلى أمهات عازبات. وفي حالة تعذّر إجهاضهنّ، يتمّ قتل المولود مباشرة بعد الولادة (إذا لم يصح). أما إذا صاح، فإنه يتبنّى من طرف امرأة لها الحقّ في الأمومة، أي امرأة متزوّجة. من ثم، يتبين أن موقف المنتظم الدولي من الإجهاض موقف عقلاني للغاية : لا داعي للاحتفاظ بحمل غير مرغوب فيه (من طرف المرأة) وغير معترف به (من طرف المجتمع والقانون). فالطبيعة لم تعد تفرض منطقها على المجتمع، بل المجتمع (الإنسان) هو الذي أصبح يفرض منطقه على الطبيعة. ألم يصبح الإنسان سيد الطبيعة ومالكها بفضل العلم؟

الإجهاض أمام "المجتمع المدني":

ما موقف المجتمع المدني من القانون الجنائي المغربي المجرم للإجهاض؟ إلى أي درجة تتبنى بعض الجمعيات الطرح الدولي القائل بإباحة الإجهاض بصفته أحد حقوق المرأة الأساسية؟ هل يضطلع المجتمع المدني بمهمة المثقف النقدية التي تكمن في تنوير المجتمع وفي مساعدته على التقدم إلى الأمام؟

أول ملاحظة يجب تسجيلها في هذا الصدد أنّ الجمعيات النسوية (féminines) والنسائية (féministes) المغربية التي تدافع عن حقوق النساء لم تثر قضية الإجهاض ولم تطالب السلطات العمومية بإباحته وشرعنته. في عزّ نشاطها في ظل حكومة التناوب (1998-2002)، وفي إطار "مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، لم تطالب الحركة النسائية سوى "بالتكفّل بحالات الإجهاض والحمل خارج إطار الزواج الشرعي". فالمطلب يقف عند المستوى العملي الاجتماعي الإنساني، ولا يرقى أبدا إلى ضرورة معاودة النظر في القوانين المنظمة للحمل والإجهاض. وتعترف نزهة الصقلي، وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة، وهي المناضلة في "حزب التقدّم والاشتراكية" وفي "الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب"، "بأننا لم نستهدف مسألة الإجهاض بشكل خاص". وفي نفس الاتجاه، تؤكّد بشرى عبدو من "الرابطة الديمقراطية للنساء المغربيات" أن "هذه المسألة ليست أسبقيتنا". فبالنسبة لهما معا، ينبغي أن يتركز الاهتمام على توسيع استعمال وسائل منع الحمل. أما شرعنة الإجهاض في انتظار ذلك التوسيع أو أمام فشل منع الحمل، فلا جمعية مغربية نسائية تطالب بها. للحركة النسائية في المغرب حدود لا يتمّ تجاوزها حفاظا على صورتها الاجتماعية وعلى مصداقيتها أمام جماهير النساء وهجومات الإسلامويين. رغم ذلك، طرحت نزهة الصقلي سؤالا في البرلمان عن مشروعية الإجهاض بالنسبة للفتيات الحوامل جرّاء الاغتصاب أو من جرّاء الجنس مع محرم. وكان ردّ فعل الإسلامويين المندمجين في البرلمان (وفي اللعبة السياسية) ردّا عنيفا ذكّر بشريعة الله التي تحرّم الإجهاض. ولم تستغلّ نزهة الصقلي هذه الفرصة لتنبيه الإسلامويين إلى أن شريعة الله لا وجود إليها دون وساطة بشرية فقهية، وأنّ الوساطة الفقهية المالكية وحدها تحرّم الإجهاض منذ بداية الحمل في حين أن الوساطة الحنفية تبيحه إلى حدود نهاية الشهر الرابع من الحمل. عوض أن تفند الحركة النسائية الحجة الإسلامية بالحجة الإسلامية نفسها، فضلت مناضلة نسائية أخرى وهي خديجة الرباح (رئيسة "الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب") الاختفاء وراء غياب معطيات علمية حول النتائج الوخيمة للإجهاض السري لتبرير عدم تركيز الحركة النسائية على معركة الإجهاض. هذا مع العلم أن الدراسات الإبديميولوجية بينت أن 13% من وفيات الأمهات ناتجة عن الإجهاض السري أساسا من جهة، وأن الدراسات السوسيولوجية المغربية أظهرت بدورها أن الحمل غير المرغوب فيه يدفع الأمهات العازبات إلى التشرد وإلى العمل الجنسي وإلى الأطفال المتخلى عنهم وإلى أطفال الشوارع…

إن المطالبة بخوض معركة الإجهاض تأتي من جمعيات أخرى، غير نسوية (féminines) لكن ذات نسائية موضوعية (féminisme objectif). خلافا لجمعيات الحركة النسائية، تنادي "الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة" بحوار وطني هادئ وواقعي حول الإجهاض. وقد أنجزت الجمعية سنة 2007 بحثا استطلاعيا حول الإجهاض ذي المخاطر، مما دفعها إلى طرح السؤال التالي: لا ينبغي للحوار الوطني أن ينصب عن الموقف تجاه الإجهاض، بمعنى أن نكون معه أو ضده. عوض ذلك، السؤال الجيد الوحيد الذي ينبغي طرحه هو: هل نحن مع أو ضد صحة النساء، مع أو ضد آلامهن، مع أو ضد المخاطرة بصحتهن وبحياتهن"؟ ومما لا شك فيه بالنسبة للجمعية أن "هذا الحوار سيفضي إلى تبني إستراتيجية للتكفل بالتوقيف الإرادي للحمل. وهدفه أيضا كشف القناع عن الظاهرة وفهمها الأحسن وكذا تشخيص موقف وسياسية إجماعية".

هنا نتساءل : هل يمكن الإجماع بصدد هذه النقطة الحساسة جدا؟ نعم إذا تحرّر الإسلامويون ومدبّرو الحقل الديني من هيمنة المنظور الفقهي المالكي على القانون الجنائي ودفعه إلى اعتبار الإجهاض جريمة. وهذا أمر يبدو في المتناول انطلاقا من النموذج المهيمن على الحياة السياسية المغربية، وهو نموذج الإجماع بالضبط. بتعبير آخر، لم يرق المغرب بعد إلى مستوى تمكين قوة سياسية معينة من فرض سياستها الخاصة في تدبير شؤون الدولة ومحاسبتها عبر الآليات الديمقراطية المتعارف عليها. ففي أمر حساس للدين رأي فيه مثل الإجهاض، تظل "الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة" سجينة "براديكم" الإجماع. وهنا لا بد من التذكير بأن الإجماع الفقهي الوحيد بصدد الإجهاض هو تحريمه بعد أربعة أشهر من الحمل، أما في الشهور الأربعة الأولى فلا إجماع بين فقهاء الإسلام على تحريم أو إباحة الإجهاض. لماذا إذن البحث عن إجماع هنا؟ أليست نتائج سياسة إباحة الإجهاض هي المحكّ الأخير وبامتياز؟

أما "جمعية العفو الدولية فرع المغرب" (Amnesty International Maroc)، فترى أن أساس كل سياسة صحية إنجابية لا بدّ أن يقوم على حقّ كل امرأة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالإنجاب. ومن ضمنها الحقّ في اختيار الاحتفاظ بحمل أو توقيفه، وذلك دون أيّ شكل من أشكال الإكراه أو التمييز أو العنف. وعليه، فإنها ترى أنه من الواجب التوقف عن تجريم الإجهاض لكي لا يبقى الإجهاض سريا وخطيرا. وفي نفس السياق، تطالب أمنيستي-فرع المغرب بتقديم خدمات جيدة لمعالجة المضاعفات الناتجة عن كل إجهاض.

أما "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان"، وهي الجمعية المغربية الوحيدة التي تتبنى العلمانية وتدافع عنها صراحة، فإنها ترى أن منع الإجهاض وتجريمه لمن أسوأ التدابير للحفاظ على الحياة. فالمنع يقود حتما إلى الإجهاض السري، أي إلى المخاطرة بصحة المرأة وحياتها. وبما أن للنساء الحقّ في الحياة وفي بلورة شخصيتهن، لا داعي لتضحيتهن باسم حقّ النطفة أو العلقة أو المضغة في الحياة. فحماية الحياة لا يمكن أن تتمّ ضدّ النساء بل ينبغي أن تتمّ بمشاركتهنّ. ومن ثم يتضح أن المخرج الوحيد للإشكال هو احترام قرار المرأة الحامل حين يكون قرارها واعيا ومسؤولا. إن حماية الحياة لا تعني أبدا إجبار المرأة (قانونا) على الاحتفاظ بحملها خوفا من العقاب. ويعني ذلك الجبر خرقا صارخا لحقوق المرأة الأساسية. انطلاقا من تبنيها للمنطق الإنسي العقلاني الدولي، توصي "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" بالمراجعة الفورية لقانون منع الإجهاض وضمان خدمات إجهاضية سليمة وفي المتناول. وتنص بالخصوص على ضرورة إعطاء كل المساعدة للفتيات الحوامل غير المتزوجات إما في اتجاه الإجهاض أو في اتجاه الاحتفاظ القانوني بالحمل.

وأخيرا، سنة 2008، تأسست جمعية تحت اسم "الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري تتلخص أهدافها فيما يلي: 1) كسر الصمت الرسمي عن الإجهاض السري، 2) نشر وسائل منع الحمل غير المرغوب فيه، 3) إشعار النساء بالمخاطر الملازمة للإجهاض، 4) إشعار السلطات العمومية بالممارسات الإجهاضية الوحشية ذات المضاعفات الوخيمة، 5) إقناع القوى السياسية والدينية بتقديم مقترح قانون في البرلمان يكون ملائما للمحيط الطبي-الاجتماعي الراهن. بالنسبة لهذه الجمعية، إنه لمن المستعجل أن يتم ترطيب القانون المتعلق بالإجهاض وأن يتم السماح بالإجهاض في الشهرين الأولين من الحمل عندما يكون الحمل ناتجا عن اغتصاب أو جنس مع محرم وفي بعض الأوضاع الاجتماعية الخاصة. والمقصود بهذه الأوضاع دون شك حالة الفتيات الحوامل العازبات. وقد استطاعت الجمعية تنظيم ندوة حول الحمل غير المرغوب فيه، وهو العنوان الفعلي الذي سمح بعقد أول ندوة فعلية حول الإجهاض السري في مارس 2010.

خاتمة:

أمام التناقض القائم بين تقليدانية القوانين الوطنية الزجرية وبين الاتفاقيات والمعاهدات والتوصيات الدولية "المبيحة"، لا بد لكل الجمعيات التي تؤمن بحقوق الإنسان (في مدلولها الدولي) أن ترفع من وتيرة الاحتجاج والمطالبة بإباحة الإجهاض حفاظا على صحة النساء وعلي الصحة العمومية بشكل عام. فما جدوى تجريم الإجهاض عند ما نعرف أن الحالات المجرمة فعلا على الصعيد القضائي تشكل نسبة ضئيلة جدا من العدد الإجمالي للإجهاضات التي تقع؟ يدل الفرق الشاسع بين التجريم القانوني النظري والتجريم القضائي الفعلي على أن تجريم الإجهاض في القانون وبه يبقى غير ذي فعالية، فلا هو يمنع فعلا ارتفاع الظاهرة ولا هو يقي المرأة من المخاطر الصحية بل يزيد في تكريسها. ونظرا لأن حالات الإجهاض المعروضة على القضاء نادرة جدا، فإن الاجتهاد القضائي في الموضوع نادر بدوره. ذلك أنه لو تراكمت فعلا تلك الحالات على القضاء لواجهت القاضي حالات تحثه على الاجتهاد، وعلى عدم المتابعة بالخصوص. لكن بما أن عدم المتابعة سائرة المفعول بالنظر إلى عدم وصول حالات الإجهاض إلى القضاء، يجد القاضي نفسه مضطرا للوقوف عند ظاهر النص في الحالات القليلة التي تعرض عليه. فالقانون لم يحدد مدلولا خاصا للصحة، وبإمكان القاضي، لو تراكمت الحالات المعروضة عليه، أن يوسع مفهوم الصحة ليأخذ بعين الاعتبار مدلوليها النفسي والاجتماعي. لكن هذا الطريق غير موثوق به إذ لا شيء يضمن وجود إرادة الاجتهاد في الموضوع في أوساط الجسم القضائي.
على العكس من ذلك، ما يميز الجسم القضائي هو إرادة الحفاظ على الوضع القائم لأن الممارسة القضائية بطبيعتها تطبيق لقانون يعكس إرادة الحفاظ على العلاقات الاجتماعية القائمة (والتي هي في صالح الرجال وفي صالح المتزوجين). فلا أمل كبير في أن يأتي الإصلاح من داخل الجسم القضائي باعتباره جهازا غير مستقل، بل ومن الأجهزة القمعية للدولة. ومن ثم، يبقى الحل الوحيد هو تعديل فصول القانون الجنائي لتشمل مدلولي الصحة النفسية والاجتماعية، أي لتسمح بالإجهاض في حالات الحمل التي تعرض صاحبتها إلى الموت الاجتماعي من جراء النبذ والإقصاء. لذا لا بد من الضغط على الهيئات التشريعية (الملك والبرلمان) في اتجاه تحيين وتكييف الفصول القانونية المتعلقة بالإجهاض مع المعطيات الجنسية والاجتماعية الراهنة، ومع تطلعات كل القوى التي تريد للمغرب أن يكون حداثيا. طبعا، لا تعني إباحة الإجهاض تحويله إلى وسيلة من وسائل منع الحمل، بل تعني فقط أنه يظل وسيلة آمنة عند فشل منع الحمل لتوقيف حمل غير مرغوب فيه. ومما لا شك فيه أن شرعنة الإجهاض (بغضّ النظر عن الوضع الزوجي للمرأة الحامل) تجنب المضاعفات الملازمة للإجهاض السري وتسمح (عند حدوثها) بمعالجتها في الوقت المناسب وبالوسائل المناسبة. إنّه إجراء عقلاني حداثي يحمي المرأة الحامل والصحة العمومية في الوقت ذاته، وخير دليل على ذلك انخفاض نسبة وفيات الأمهات في الدول التي عملت به.




الاوان



#عبد_الصمد_الديالمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فن الغرافيتي -يكتسح- مجمّعا مهجورا وسط لوس أنجلوس بأمريكا..ك ...
- إماراتي يوثق -وردة الموت- في سماء أبوظبي بمشهد مثير للإعجاب ...
- بعد التشويش بأنظمة تحديد المواقع.. رئيس -هيئة الاتصالات- الأ ...
- قبل ساعات من هجوم إسرائيل.. ماذا قال وزير خارجية إيران لـCNN ...
- قائد الجيش الإيراني يوضح حقيقة سبب الانفجارات في سماء أصفهان ...
- فيديو: في خان يونس... فلسطينيون ينبشون القبور المؤقتة أملًا ...
- ضريبة الإعجاب! السجن لمعجبة أمطرت هاري ستايلز بـ8 آلاف رسالة ...
- لافروف في مقابلة مع وسائل إعلام روسية يتحدث عن أولويات السيا ...
- بدعوى وجود حشرة في الطعام.. وافدان بالإمارات يطلبان 100 ألف ...
- إصابة جنديين إسرائيليين بجروح باشتباك مع فلسطينيين في مخيم ن ...


المزيد.....

- حَمّاد فوّاز الشّعراني / حَمّاد فوّاز الشّعراني
- خط زوال / رمضان بوشارب
- عينُ الاختلاف - نصوص شعرية / محمد الهلالي
- مذكرات فاروق الشرع - الرواية المفقودة / فاروق الشرع
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة , العدد 9 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة ,, العدد 8 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة العدد 7 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة الالكترونية , العدد 6 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة , العدد 5 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة العدد 4 / ريبر هبون


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - بوابة التمدن - عبد الصمد الديالمي - الإجهاض بين التجريم والإباحة