أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية /7















المزيد.....


معلم في القرية /7


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3103 - 2010 / 8 / 23 - 20:23
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


معلم في القرية /7
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

((أدناه بعض أفكار المربي الراحل التي دونها في ذكرياته قبل أكثر من سبعة عقود:
ألطائفية مطية الاستعمار. ركبها رجال الحكم والسطوة من سلاطين الأتراك والفرس. وسخروا لها رجال الدين، فألفوا الكتب، ونحتوا الأحاديث بشكل يلائم مصالح الجانب الذي ساندوه. ويغفر الله لهم!.
لزعماء السياسة نفع كبير في وجود الطائفية، ويستفيد من التزامها السني والشيعي. وأقصد وأعني الوجوه، أما جماهير الشعب فالعارفون بالحقيقة قلة. وذوو المنافع يعرفون كيف يثيرون الجماهير ومتى!؟))

جنون الحب
لم أكن ناسياً، لكني تناسيت. فقد غلبتني أنانية الضعفاء، فلم أذكر ما حدث لي عقب تلك السهرة الرائعة. إن ما حدث -في رأي الخلي- أمر مضحك، لا يصدر إلا عن المجانين، إنه مجلبة الهزء والسخرية، لا الرحمة والرثاء.
أنا الآن عقب ما حدث، أتذكر تماماً وضعي الذي أفقت عليه، وانتبهت إليه. فيقشعر بدني، وتشمئز نفسي من نفسي. للحال التي رأيتني عليها. رغم أن أصحابي أولوني عنايتهم، ومداراتهم الفائقة. وقد لاحظت أن بعضهم كان يجفف دموعه، وهي تنحدر بصمت فوق خديه. أما الآخرون فقد انصرفوا لأمور شتى من أجلي. فواحد يعد الشاي، وآخر يدلك جسمي. وثالث يلقي عليّ أسئلة. وهل إني مسبوق بهذه الحال قبل اليوم؟ وأي علاج كنت أستعمله؟
ولم أجب ساعتئذ. لزمت الصمت. لأني سخرت من نفسي! وأسفت. كيف سمحت لنفسي أن تنجرف مع تيار الخيال والوهم؟! أحقاً يحدث للمحبين ما حدث لي؟ وهل حقيقة كان هيامي؟ أم كان تمثيلية أجدت القيام بها بدافع السوداء؟! أنا الآن ممتعض من نفسي. ومنكر عليها ما حدث. وغضضت النظر عن ذكر ذلك. مجلّا نفسي عن سقوطها إلى مثل هذا الدرك من الضعف. ووقعت بعد ذلك في صراع نفسي عنيف. كيف أتبرأ من خور أصاب عقلي؟ وأتنصل من خطل أقع فيه؟
لا شيء ينقذني من هذا الصراع غير الاعتراف بأن ما حدث كان دليل ضعف في الفكر، وقصر نظر في تمحيص الأمور، وعدم إدراك وثقة بالنفس.
لو ذكر ما حدث لي عن أحد العشاق من بني عذرة، لذكرنا حبه بكثير من الرحمة والرثاء، ولأكبرنا حبه! ولذهبنا في تفسير حاله وهيامه كلّ مذهب. وقلنا –مثلاً- أن روح ذلك العاشق تتجرد من هذا الجسد، حيث تنحسر عن نظرها الحواجز، فترى كل شيء. ترى البعيد كما ترى القريب. ولذكرنا شواهد وأمثالاً لذلك. ألم يذكر بعضهم: أن زليخا فصدت ذات يوم فسال دمها مكتوبا فيه (يوسف، يوسف ......).
وإن الأمام علي بن أبي طالب كانوا يخيطون جراحه في الحرب إذا وقف للصلاة. مفسرين ذلك :- إنه يذهل عن نفسه آنذاك، فتتجرد روحه عن جسده، فلا يعود يدري بشيء من حاله، إذ هو مشغول بمناجاة ربه فعل الحبيب الولهان!
ولكن اليوم تغير كل شيء. وبدا المحبون أكثر واقعية في مفهوم الحب. لم نعد نرى المجنون قيس العامري بين المحبين، بينما كثر أمثال ليلى. وسبب هذا التغير على ما اعتقده ما حصلت عليه المرأة في عصرنا هذا من تحرر من كثير من قيودها. وانهزام فلسفة "الحِذر و المحذَّرات" وانهيار القيم والتقاليد البدوية والإقطاعية. ولكن زوال تلك التقاليد –وهي لم تزل جميعاً وتماماً- وانعدام ذلك الحب المصحوب بالجنون والهيام من جهة، وتحرر المرأة من قيودها الثقيلة من جهة ثانية لآبد أن يخلفه حال أتعس ووضع أردأ.
الأرستقراطية ستقيم حواجز من نوع جديد، لتبقى امتيازاتها الطبقية في سلام. من غلاء المهور، إلى التفنن في جهاز العرس، ومظاهر الترف. في الأثاث، والأزياء، وطريقة الأفراح.
وعلى هذا سيشيع التفسخ. وينتشر البغاء، ويتحلل الشباب من فضائل الخلق السامي. وتفقد العفة معناها الأصيل. وحين ينعدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، سيتبدل عند ذلك مفهوم الحب أيضاً.

سفرة مدرسية
قمنا بعد استحصال الإذن من المراجع بسفرة. صحبنا فيها بعض طلاب الصف الخامس إلى مركز اللواء الديوانية -القادسية اليوم- هناك خصصت لاستراحتنا بناية إحدى المدارس الابتدائية. قام المعلم فاضل بصحبة التلاميذ للتجوال في أسواق المدينة وميادينها وحدائقها، وكانت بناياتها من اللبن وكثير منها أكواخ قصب. يتوسط شطريها نهر جميل، تقوم على شارعيه مقاهي واسعة، تعج بالرواد، بعضهم "بياعة شراية المواشي" وبعضهم وهم الأغلب القرويون الذين يفدون من النواحي القريبة للتزود بما يحتاجون. بينما يجد البطالون راحتهم فيها وقتل الوقت بلعب الدومينو.
زرت والمعلم هادي مدير المعارف، وحدثته ببعض ما نعاني بسبب عدم تجانس ألواننا المذهبية. فردّ عليّ رداً استحسنته كثيراً. قال: "يجب أن نكثر من التعيين على هذه الشاكلة التي تسميها –عدم تجانس- لنقضي على روح الطائفية بتفهم البعض للبعض الآخر".
وعاد في وقت متأخر من منتصف الليل المعلمان فاضل وصبري. كان فاضل متجهما بعبوس وكآبة .... لماذا؟ سألنا صبري الحكاية. إنهم قصدوا دار بعض المومسات. فرفضته إحداهن وجهه الأحمر، وشعره الأبيض، كله، أهدابه، حواجبه، شواربه، أوحت لها إنه يهودي! ما أساس هذا؟
وحين رد عليها إنه مسلم سني حنفي، أبدت تأففاً أكثر، وأعرضت قائلة: "بعد أنجسين"! وانفجر فاضل منفعلاً، وقال: "حتى گحابكم متعصبات؟!" وضج الجميع بضحك وتعليق.

الإقطاع في خدمة الحكام
أتحدث عن القرويين –الفلاحين-، هذا العدد الهائل. ولكن حياتهم بمجموعها تبعث على الأسف. الأرض حية قابلة للإنتاج كل حين. لكنها ميتة أو شبه ميتة. إنها معطلة عن الإنتاج. لأن المسيطر عليها لا يجد اليد التي تزرع وتعمل لحسابه دون أن تشاركه نعمة الحصاد، ولحد محدود وضيق جداً، ثم لا يتخلص الفلاح المسكين من فروض مالك الأرض القاسية، الشوباصي، القهواتي، الحارس، المومن "رجل الدين" وغيرها.
الأرض تبقى بحيازته بحكم الوراثة ووضع اليد. ولا يستغل منها إلا القليل الذي يناسب وكمية البذر الذي يملكه والأيدي التي يستغلها باسم الوشائج التي تربطه بها القبيلة –العشيرة-
ولكم شاهدت فلاحين ساخطين على رؤساء عشائرهم سخط لا يدع مجالاً للشك، إنه لا يتردد لحظة عن التطوع في أية انتفاضة تحدث ضد الإقطاع. ولكن ما يكاد يقع شيء من هذا حتى ترى ذلك الفلاح الموهن يحمل السلاح بضراوة، ويردد الهوسات "الأهازيج" الحماسية أمام رئيس عشيرته الذي كان بالأمس يستغله أبشع استغلال، جهده، عرضه وحياته.
وفي هذه الأيام نسمع من القرويين وشوشة تتضح أحياناً فتظهر على شكل أقاويل، إنهم يتحدثون عن خلاف يتوقع أن يتطور إلى استعمال السلاح بين الحكومة القائمة، وبين رئيس عشيرة آل فتلة "عبد الواحد سكر" أما آل إبراهيم فلا أعرف عن رئيسها لمن يؤيد ويحالف. إنما أنا متأكد إنه لا يؤيد عبد الواحد.
هم يتحدثون عن دوافع انتفاضة عبد الواحد [وقع هذا في شباط 1935]. إنها ليست أكثر من محاولة لجلب الزعيم السياسي ياسين الهاشمي إلى الحكم، وإسقاط الوزارة القائمة، وزارة علي جودت الأيوبي. حتى تلامذتنا لا يتحدثون عن غير هذا الصراع القائم بين رجال الدولة من أجل الحكم، تحت ستار انتفاضات رجال الإقطاع بغية إسقاط خصومهم، وتمهيد السبيل لمجيئهم إلى كراسي الحكم. هم يقولون: لو أن عبد الواحد نجح في إسقاط الوزارة الحاضرة، وتشكلت من "الهاشمي" ليسقطونه بانتفاضة أشد منها. وهم يطلقون على "عبد الواحد" أسم معاوية لما أتسم به من دهاء، وقابلية لا توجد عند أي زعيم آخر. ثم أنه يمتطي الدين لأغراضه ببراعة.
آه لقد وافتنا الآن أنباء تفيد إن الحكومة القائمة قد بعثت النذر للزعيم المتمرد، وأرسلت الجيش بمدافع وقوات مختلفة. بينما فتح المتمردون من نهر الفرات ثغرة على طريق أبي صخير – الفيصلية من جهة تدعى "الحسانية" ليمنعوا وصول الجيش إليهم، وأحيطت القرية بالمداخن كيلا تتبين الطائرات الأهداف.
وارتدى عبد الواحد كفناً ووضع السيف بحضنه متوجهاً نحو القبلة، فإذا نهض للصلاة، هزّ سيفه وهتف "هز ركن الدين وهزيته" [وتروى هذه الهوسة للحاج عطية الشعلان!؟]. فتثور حمية الجموع من أفراد العشيرة. وتعلو أصواتهم يرددون هذه الهوسة من حوله. وقد نقل إن إحدى النساء قصدته ووضعت يدها على كتفه وأنشدت: "يالدنيه دخيلج بس هذا".
ونحن الشباب، إننا على الإطلاق هتفنا له أيضاً، وأعلنا تأييدنا، لأننا نكره –الانكليز- أولاً، ولأننا نثق بالهاشمي ثانياً، إذا ما قيس بالأيوبي. خصوصاً ونحن نعلم إن –خوام- رئيس عشيرة الظوالم المعروف بولائه للانكليز يناصر الأيوبي خصوصاً وأن بعض رجال الدين هم أيضاً يؤيدون انتفاضة عبد الواحد. [هذه العشيرة "الظوالم" أبدت من البطولة في ثورة العشرين ما أدهش الانكليز. ولكن طبيعة الإقطاع أقرب ما تكون للتحالف مع الاستعمار لأنه يؤمن له مصالحه الخاصة. وهكذا تحول رئيسها "خوام" إلى جانب الاستعمار. مع العلم إن الهاشمي ما كان في نيته ضرب الإقطاع، بل على العكس من ذلك. وساند عبد الواحد من رجال الدين الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء].
ويتحدث الناس عندنا إن عشائر "العوابد" تساند الحكومة القائمة. وهم يرددون على سبيل السخرية بعض الهوسات، لا أعلم إن كانت قديمة أم جديدة، منها: "يوحيد صح لومجبعينه" وتأتي من آل فتلة إنهم يقولون عن العوابد: "لا، لا عمج يا مرزوﮔـه" [وارتجل بشير مزهر الفرعون هذه "الهوسة" مناصرة لقريبه عبد الواحد سكر ساخرا من شخصية علي جودت الأيوبي:- انهضوا وياي يا شبان انهضوا وياي، أتركوا النوم أﮔطعوا الزاد أﮔطعوا الماي، علي جودت وزير عراﮔنا وي واي، اسنط يا الله شهل العيله!؟ وبشير هذا شاب أعور خليع، يسميه بعضهم امرئ القيس آل فتله. لا يعرف غير السهر والخمر والمرح. وله منتدى خاص. لكنه إذا حلت زيارة الأربعين في صفر هيأ جماعته بسفينة خاصة وذهب للزيارة. ويروي بعضهم إن هذه "الهوسة" للحاج شعلان العطية أيضا].
الجو متوتر، مكفهر ملبد بالغيوم، وفي طريقنا إلى أهلينا، بطريق النهر طبعاً، قد نتعرض لأذى هؤلاء لأنه لم ينتفضوا عن وعي، ولا مصلحة لهم غير ما تسوقهم إليه سيطرة رئيسهم.

في غمرة النضال
مع الشباب المتحمس لقضية البلاد، رحت أجاهد. نخطب في جماهير المتظاهرين في الصحن –العلوي-، نواجه رجال الدين نطالبهم بالعمل الجاد. نحرر النشرات، ننسخ منها نسخاً كثيرة، نحملها للمتطوعين منا لنشرها بين صفوف الجيش المرابط في قضاء أبي صخير [حين أشتد هياج الشباب وفي المقدمة الطلبة، وواصلنا التظاهرات والخطب في الصحن العلوي، بعث الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بهذه البرقية في 12/3/1935 إلى الوزارة الأيوبية "كيان العراق المقدس في الحال الحاضر مهدد بالأخطار الهائلة، يلزم توقيف الحركات"].
صرت أحد أعضاء الوفد الذي أنتخب لمواجهة وزير المعارف عبد الحسين الجلبي والشاعر علي الشرقي. وجدنا الوزير حانقاً ساخطاً لأن الطلبة استقبلوه بهوسة "أهزوجة" مست كرامته: "يوحيّد طب ثور الشيعة!"
الوزير والشاعر قدما إلى النجف لتهدئة الخواطر. وليتفاهما نيابة عن رئيس الوزارة مع رجال الدين. الناس عندنا وإن لم ينسوا الطائفية وحسابها، فإنهم لم يؤازروا عبد الواحد بدوافع طائفية. الدوافع هي القضية الوطنية. قضية شعب له أمانيه في رفاه العيش، وحرية الفكر، واستكمال الاستقلال والسيادة الوطنية في جميع مرافق الحياة. اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، ولم نكن خاطرنا بأرواحنا من أجل أن نكتفي بإسقاط وزارة، وتشكيل أخرى.
وسقطت وزارة الأيوبي. وتشكلت من ياسين الهاشمي وسافر عبد الواحد سكر، وزميلاه محسن أبو طبيخ و علوان الياسري إلى بغداد. وسكن الجزائري، وكاشف الغطاء؟! وأغلقوا دوننا أبوابهم!؟.
وأعتقل شاب من الذين شاركوا في المظاهرات، وخطب فيها وفصل من الوظيفة [هو ضياء حسن ...... وهو معمم دخل الوظيفة بعد تخرجه من الإعدادية، وهو شاب ذكي فيه شذوذا في تصرفاته. وقد فصل من الوظيفة أكثر من مرة، ودخل كلية الطب وفصل من الصف الرابع بسبب سوء تصرفه أيضا]. ونقل مدير مدرسة الفيصلية عبد المهدي البرمكي برقياً إلى لواء الكوت [وعبد المهدي البرمكي شاب عصامي، كان وطنياً متحمساً. أفكاره تقدمية مزيجة بطائفية، جريء اللسان. ومما يؤسف له كان مدمناً على القمار والخمر وقد مات بسبب ذلك عام 1939 حين كان مديرا لمدرسة الكوفة الابتدائية. حين سقطت وزارة الهاشمي بعد عدة أيام كنت وإياه في فندق الناحية فإذا بالحاج عبد الواحد سكر متجه إلى القبلة، فالتفت البرمكي أليّ وقال: "هز ط...... الدين وهزيته" حرف كلمة ركن الدين بلفظ مستقبح تهكماً وسخرية بالحاج عبد الواحد. وعزا الناس إن نقله برقياً إلى لواء الكوت، بسبب تأييده لانتفاضة عبد الواحد النابع من موقف وطني؟!].
وفي مدرستي، نقل مديرها عبد الحميد برقياً أيضاً. وبعد يوم من انتقاله، حدثني عريف المخفر "سيد شمال" أنه هو الذي كان وراء ذلك، بتقرير رفعه إلى الجهات المختصة . أتهم فيه عبد الحميد بالتدخل في القضايا السياسية إلى جانب رؤساء العشائر، أما الواقع فانه فعل ذلك انتقاما للمدير السابق، لأنه على حد قوله ابن بلدي [سيد شمال شرطي من الناصرية، ذكياً ولبقاً. لكنه كان جشعاً. يفرض الإتاوات على السفن القادمة من البصرة حسب ما يكتشف من نوع الحمولة، يهابه القرويون وأحيان يحلفون به؟!].
وحل محله في الإدارة وكالة المعلم "صبري" وأنا أشد أسفاً لانتقال عبد الحميد. فوكالة صبري معناها سنستقبل أياماً كلها قلق وشغب لجهل صبري ورفاقه، وتأصل الطائفية في نفوسهم.
الطائفية مطية الاستعمار. ركبها رجال الحكم والسطوة من سلاطين الأتراك والفرس. وسخروا لها رجال الدين، فألفوا الكتب، ونحتوا الأحاديث بشكل يلائم مصالح الجانب الذي ساندوه. ويغفر الله لهم!.
الأيام القادمة ستكشف الحقائق وتفضح النوايا التي كانت مبيتة.

تنافس المتمردين
منذ أن تشكلت وزارة الهاشمي بدأ القرويون عندنا يحملون سلاحهم وقد شاعت أنباء إن الزعيم خوام آل عبد العباس زعيم قبيلة الظوالم هو الآخر قد ثار ضد وزارة الهاشمي الجديدة [تفجرت انتفاضة خوام في 24/4/1936].
وقبيلة الظوالم معروفة بحربها وشدة بأسها ومواقفها بالأمس ضد الاحتلال الإنكليزي. وما تزال العارضيات رمزاً لبطولة عشائر العراق. ولكن شتان بين الأمس واليوم. فقد تغيرت اتجاهات رؤساء القبائل، بفعل تغلغل سياسة الإنجليز في نفوسهم، وترسيخ أسس الإقطاعية. ومن جانب آخر فإنهم "الإنجليز" تبعاً لقاعدة "فرق تسد" استطاعوا أن يوزعوا تبعية أولاء الرؤساء على زعماء السياسة. فجماعة تساند الهاشمي، وأخرى الأيوبي، ودور معتمدهم الأهم "نوري السعيد" أن يجمع رؤوس الخيوط بيده ليحرك أي خيط يريد أسياده المستعمرون البريطانيون تحريكه.
وما يزال وعي الفلاحين ضئيلاً. رغم ما يشعرون به من مهانة واستغلال خاصة في هذه الجهات بسبب إن الفلاح من العشيرة ذاتها وليس غريباً ويشارك في الأرض مالكاً، لكنها ملكية تافهة، لا تكفيه ربع عامه، لما يلحقها من ضرائب هي من تشريعات شيوخ العشائر [يفرض زعماء العشائر على الفلاحين إتاوات مختلفة تستهلك كل حاصلهم من ذلك، كحصة القهواتي، والحارس، والشوباصي، والحلاق، والمومن، والعلوية وأحياناً المضيف!].
وفوجئنا بمفرزة من الشرطة جديدة إلى مخفر القرية جيء بها من الشمال، أكراد لا يعرفون من العربية إلا اليسير، بل إن بعضهم لا يعرف منها شيئا مطلقاً. وعلى رأس هذه المفرزة رئيس عرفاء أسمه "حمادة"، وهو شاب عرف بشدة بأسه وجرأته. ويحمل حقداً وازدراء بالشيوخ. وليس له فكر غير إنه شرطي بخدمة الدولة، بضمنها تأتي أساليبه لمنفعته الشخصية التي تنبع من ضعف راتبه، وطموحاته لمستوى عيش أفضل.
أقام أفراد المفرزة أكياس من الرمل على سطح المخفر. ووقف حمادة لكل مسلح من أفراد القرية بالمرصاد، يوقفه ويصادر سلاحه. والمضحك في الأمر إن بعض القرويين رغم علاقاتنا بهم ومعرفتهم بنا لم يتحرجوا أن يعلنوا حين يمرون أمامنا عن نياتهم. فيقول أحدهم لزميله "عند عبد الحميد مسدس ممتاز" . ويرد الثاني إن أمنيته سترة عند عبد الله، وحذاء عند فاضل....!
وقد تنبأت سلفاً إن الوزارة الحاضرة لن تتوقف عن ضرب الثائر وتدميره. وبالفعل فقد وافت الأنباء إن الجيش قد توجه بطائراته، ومدافعه ودباباته إلى "المتمردين" فدمر القرى وسكانها، وقبض على زعيمهم "خوام".
وظل أبناء عشيرته وأعوانه يذكرونه بحسرة ولوعة في أغانيهم:
تحت اجلعة خـوام نـحنه وبـﭼينـه
رِدْنَه الجهاد يصير ما طـــح بدينه
بالــگلب يا خــوام أصبحت لوجه
حمّل الريل وشـال يگصد العوجه
ويأخذ الزهو ببعض الشباب –القومي- فيروح يمجد أسم الهاشمي "إنه بسمارك العرب" . المخطط لسياسة تحقيق "الوحدة العربية"! ليت هؤلاء يفهمون إن الوحدة أبعد الأحلام عن التحقيق في ظل نظم يسوسها الاستعمار، وتركز الإقطاع، وتنافس زعماء السياسة على الحكم عن طريق أرضاء المستعمرين بصياغة القيود والسلاسل في القوانين والأنظمة، ولانعدام الأحزاب التي تمثل الجماهير ومصالحها الحقيقية.
بسمارك العرب هذا أول سياسي عراقي سن قانون إرجاع الفلاح إلى القرية بحجة حماية الزراعة، دون أن يدرك – أو إنه يدرك ولا يريد- الأسباب الموجبة لهجرة الفلاح.
وينسى هؤلاء الشباب أيضاً فعل –الطائفية- فهي عامل آخر يُبعد تحقيق حلمهم في الوحدة، وعلى ألسنة الناس تدور كلمة تنسب إلى وزير داخلية حكومة "بسمارك العرب" رشيد عالي الكيلاني، حين أخبر إن لواء الديوانية كله يشارك ويساند خوام، أجاب: ما لازم لواء الديوانية!؟ والناس يفسرون كلمته: محو لواء الديوانية بالدمار! ومعناه محو الشيعة [لزعماء السياسة نفع كبير في وجود الطائفية، ويستفيد من التزامها السني والشيعي. وأقصد وأعني الوجوه، أما جماهير الشعب فالعارفون بالحقيقة قلة. وذوو المنافع يعرفون كيف يثيرون الجماهير ومتى؟!].
والغرض من هذا إثارة الرأي العام الشيعي ضد الوزارة الحاضرة. هكذا لكل زعيم سياسي أنصاره الذين يثيرون له الرأي العام حين يضربون على وتر "الطائفية". لكن هؤلاء الأنصار أنفسهم في نفس الوقت الذي يخادعون فيه الرأي العام الشيعي، يتعلقون بزعيم سياسي ليس من الشيعة، أي إن المسألة في حقيقتها مصالح ذات صلة وثيقة بانحدارهم الطبقي. خذ مثلاً على هذا، لماذا لا يساند هؤلاء القادة البارزون من رجال الشيعة الزعيم السياسي الفذ "جعفر أبو التمن" لماذا يساند عبد الواحد سكر ومحسن أبو طبيخ ياسين الهاشمي وخوام وآخرون الأيوبي مثلاً؟! [حين سقطت وزارة الأيوبي، وشكل الوزارة ياسين الهاشمي، سافرا زعيما الانتفاضة ضد الأيوبي "عبد الواحد سكر ومحسن أبو طبيخ"، وكان الشباب ألنجفي يؤمل أن يزور هذان الزعيمان النجف ليتعرفا على مطالب الشباب. ولكنهما قصدا بغداد؟ وبعد فترة عاد أبو طبيخ إلى النجف كأن لم يكن قد حدث شيء. وفي طريقه إلى داره، التي تقع على يسار الشارع المعروف بالطمة والمقابل لمسجد الهندي، وكان في بداية الشارع التي تقع فيه داره قصاب يدعى "يعگوب جريو" ذو الشوارب الغليظة، وحين مرّ أبو طبيخ أخذ السيد يعگوب وهو يعمل سكينه في اللحوم، يردد أهزوجته، يعرض بـ "أبو طبيخ": (درب الجلب علگصاب ياليه!) صار يكررها كلما مر السيد أبو طبيخ. فلما عرف قصد يعگوب هجر داره فترة طويلة جداً]
في الأفق بوادر حركة جديدة من النضال السياسي للتخلص من أمثال هؤلاء الزعماء، وانتهاج خطة صائبة نحو التحرر من الاستعمار والاستغلال [ذلك ما كانت تشير إليه نشرة "كفاح الشعب" و "جماعة الأهالي"].

المجلس العرفي
ما أكثر الغرائب والعجائب في بلادنا! اعتادت حكوماتنا في مثل هذه الأحوال أن تعلن ما تسميه "الأحكام العرفية" أي تعطيل قانون الأحكام المدني. والغرابة هنا إننا نستغل هذه الظروف لانتقام بعضنا من البعض الآخر.
مدير ناحية الفيصلية سابقاً وهو مدير ناحية الرميثة اليوم "لطفي علي" استغل هذه الظروف وقيام الأحكام العرفية، فأتهم مدير مدرسة سوق شعلان سابقاً السيد "حبيب ظاهر الخزاعي" بمساندة العشائر الثائرة. بينما الواقع إن الأسباب في خصومة مدير الناحية تمت بصلة عميقة إلى بناء مدرسة سوق شعلان، في حرص مديرها بصرف جميع المخصصات بأمانة للبناء.
حكم على الشاب من قبل المجلس العرفي سنتين. وحين تدخل مدير معارف لواء الديوانية، السيد تحسين إبراهيم لإنقاذه في شرح سر الخصومة. أحيل هو الآخر إلى المجلس العرفي، وحكم عليه بالسجن أيضاً، فأنتصر لهما وزير المعارف "محمد رضا الشبيبي" وهدد بالاستقالة إن لم يطلق سراحهما.
كذلك صدر أمر باعتقال التاجر ألنجفي المعروف "صالح النصراوي" وقد لجأ النصراوي إلى دار "الشبيبي" وتدخل الشبيبي في أمره. وحقيقة الأمر، إن لهذا التاجر ديون باهظة بذمة محسن أبو طبيخ. ومعلوم إن لمحسن أبو طبيخ أهمية كبيرة فهو شريك عبد الواحد سكر في إسقاط وزارة الأيوبي ومجيء الهاشمي والكيلاني للحكم.
حاول وزير الداخلية "الكيلاني" إقناع أبو طبيخ بالعدول عن مطلبه فلم يفلح فطلب منه أن يحضر شخصياً أمام المجلس العرفي للشهادة، ورفض أبو طبيخ، ونجا التاجر.
وفي الكوفة، أعتقل شاب لا ناقة له بالسياسة ولا جمل، سوى إن أخت المخبر كانت خليلة لهذا الشاب. وكان المخبر برتبة مفوض في شرطة الشعبة الخاصة. غير أن الفتاة أبدت من الجرأة ما أدهش هيأة المجلس العرفي حيث سارعت وحضرت أمامه وأدلت بشهادتها موضحة الأسباب الحقيقية، فأطلق سراحه [كان المخبر المذكور قد ورث ثروة طائلة ذهبت في دروب السفالة فانتظم في سلك الشرطة السرية، أما خصمه فإنه فارسي الأصل وثري جداً استغل ضياع عائلة هذا السافل وأصبحت تحت يده!].
هذه مهازل مضحكة مبكية. وبالمناسبة أذكر هذه النكتة التي حصلت من تلميذ كان يقرأ "سورة الماعون" لكنه قرأ الآية "فويل للمصلين" فويل للمفوض المسكين؟! فأبتهج بقية التلاميذ للنكتة، فضحكوا وطال ضحكهم. فقاطعتهم أشرح لهم أهمية حفظ الآيات القرآنية. وقلت -من باب تشجيعهم- إذا حفظت آية وقرأتها على روح أحد أمواتك، عوضه الله عنها بما يشتهي من فاكهة الجنة! فمد أصبعه تلميذ أبله في سن الرابعة عشرة، ولكنه مازال في الصف الثاني، أذنت له في الكلام. فقال: سيدي، كذب والله أنت تريد تقشمرنه "تقنعنا بالخدعة" حتى نحفظ!
صدق والله ولكننا نجهل الأسلوب الصحيح لكل أعمالنا فنظفي عليها طلاء من الخيال. فمتى ندرك الصواب ونعمل كما يجب؟

يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معلم في القرية /6
- معلم في القرية /5
- معلم في القرية /4
- معلم في القرية /3
- الحل ليس بإعادة الانتخابات في العراق!؟
- معلم في القرية /2
- معلم في القرية/1
- نداء لتشكيل برلمان ظل عراقي
- وعي المواطن!؟
- تصحيح بعض المعلومات في مقالة الأستاذ فائز الحيدر (اتحاد الطل ...
- استغلال المناصب الحكومية للدعاية!
- تكتل جديد (تجمع الشعب لمحاربة المفسدين والامتيازات)!
- أشتات /2
- هل حقاً من رفع شعار (بناء دولة القانون) يقف ضد مسائلة وزيره! ...
- مبروك جوازاتكم الدبلوماسية! إنجاز كله شهامة وغيرة وشعور بالم ...
- أشتات/1
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 8
- كيف تلقى والدي خبر حكم الإعدام بشقيقه حسين الشبيبي (صارم)
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 7
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 6


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية /7