أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جاسم المطير - تهديم سلطة تقديس النصوص بآلية النور والعلم والتنوير















المزيد.....


تهديم سلطة تقديس النصوص بآلية النور والعلم والتنوير


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 3102 - 2010 / 8 / 22 - 08:54
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


( الكلمة التي ألقيت في حفل تأبين الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد يوم 21 – 8 في مدينة لاهاي )
نصر حامد أبو زيد ليس مجرد صديق تعرفنا عليه هنا في منفانا المشترك ، هولندا . ليس هو مجرد مفكر مصري مضطـًهد‏ ، إنما هو قبل كل شيء مثل جميع المثقفين المنفيين العراقيين . إنسان ، حر ، شجاع ، متمرد ، خارج على القيود والحدود ، التي تحبس العقل وتقيد خطى التنوير والتطور وتجعل الإنسان بهيمة يأكل ويشرب ويلطم على صدره ‏.‏ لذلك كنا نشعر ، نحن المنفيين العراقيين ، بقربه منا ومن وطننا و من نضال العراقيين من اجل الحرية والديمقراطية .
خرج نصر حامد أبو زيد أول ما خرج على ظروفه الشخصية الصعبة حين أراد منه سحرة الدين الإسلامي المسيّس في مصر أن يجثو أمامهم على ركبتيه طالبا الرحمة ودعة العيش ، لكنه انتصر عليهم برفض طلبهم المظلم و الظالم ، رافضا كل نوع من أنواع هذيان التكفيريين ، بخروجه مضطرا من بلده ولجوئه إلى هولندا بعد تهديد حياته والتجاوز بقرار قضائي مصري جائر على الحقوق الإنسانية الشرعية لزوجته الشجاعة الدكتورة ابتهال يونس التي كانت سعادتها وبهجتها أن تظل إلى جانب زوجها بعد أن تحدّت قرار تفريقها عنه لمواصلة كفاحها المشترك معه من اجل خلق ثقافة جريئة ملتزمة ومسئولة .
أول كلامي أقوله مباشرة ، هنا ، أن جهد نصر حامد أبو زيد قد تركز في حواره الدائم ، العميق ، على توضيح هدفه بأن يكون القارئ المعاصر والمتتبع لشئون الدين ، متنورا ، ملما ، بالحدود الفاصلة بين النص الديني وتاريخه ، بين الإذعان لجموده والقدرة على تحليله ، بين النص المقدس وزمانه ، بين الايدولوجيا والعلوم ، بين اللاهوت والفلسفة ، كي يتمكن الإنسان في الدول العربية والإسلامية على ضوء آبي زيد من تناول العلاقات الإنسانية تناولا نيرا ، ومن دون اختلاط الأوراق ، في تحديد العلاقة بين الإنسان والدين ، بين الدين والدولة ، بين الإنسان والدولة .
خرج أبو زيد على كهنة السياسة في هذا الزمان الذي يريدون فيه أن ينفردوا بالقول والفعل معتبرين ما يقولونه صوابا إلى الحد الأقصى ، وما يفعلونه مقدسا إلى الحد الأقصى ، لا يقبل تفسيرا غير تفسيرهم بعد أن صنعوا من أنفسهم سلطة دينية مفروضة على السلطة المدنية ، لتتحكم في مؤسسات الدولة وتزيّف وعي الناس بأقوال الخرافة ووعود الغيبية وألعاب الطلاسم الدينية .
مع الأسف الشديد أننا نرى الكثير من المثقفين والأكاديميين العرب يلتقون من دون قصد أو من دون وعي في كثير من الأحيان والحالات والمواقف مع (الاسلامويين) وكل دعاة وحماة (تقديس النص) حول هذه الثلاثية ( الخرافة والغيبية والطلاسم ) بحجة إيجاد معادلة عدم الانعزال عن مظاهر وقوى ما يسمى بـ(الصحوة الدينية) المتحالفة مع (جوهر سياسي رجعي) . هذا الجوهر له اثر مدمر في العالم اجمع ، بما في ذلك بلادنا العراق خصوصا بعد عام 2003 ، مما دفع أبو زيد نحو العلم الموضوعي والفلسفة الرصينة لكشفها وإزاحتها بمباغتاته الفكرية الجريئة في عملية تحليل النص وإعادة قراءته على ضوء المناهج والعلوم الحديثة .
لولا الموت ، ولو واصل بحثه لعقد ٍ قادم ٍ من السنين لاستطاع أن يوطد الأسس القوية لمرحلة جديدة من الكشوف التنويرية . من هنا فأن رحيله المفاجئ جاء ـ بنظري ـ عصيبا وقد شكل خسارة فادحة لكل التقدميين العرب .
الحديث عن نصر حامد أبو زيد حديث عن علاقة الحرية بحياة الإنسان العليا وعن علاقة الاستبداد‏ بحياة الإنسان الدنيا . من هنا ، من هذه العلاقة ، يشرفني ، اليوم ، الحديث في احتفالية تأبينه بعد رحيله المفاجئ ، المشكوك في كونه قدرا مكتوبا . نعم يشرفني الحديث عن هذا الرجل وعن جزء يسير جدا من صفاته المتعلقة بمنهجه في الدرس والبحث المكرسين بصورة خاصة نحو المعتقدات ، التي يعتبرها أصحابها ومفسروها في الدين والدولة ، أنها مقدسة تعطي نفسها حق البرهان الثابت ، لا تحتاج لدليل ولا تقبل التشكيك في صحتها..! كانت مهمة نصر حامد أبو زيد من أعظم المهمات في هذا العصر المسارع نحو الثراء المادي والثراء الفكري والعلمي . غير أن الكثير من المسيطرين على الوجود الفكري السلفي في الدول العربية والإسلامية ومراكزها الرئيسية في الأزهر وقم ومكة والنجف وفروعها وأحزابها بمسميات متنوعة ، هنا وهناك ، في أنحاء أخرى من العالم ما زالوا يقترفون الأخطاء والزيف عندما يكرسون إيمانهم وراحتهم بتقديس النصوص وعدم السماح بالتقرب منها .
حديثي عن الراحل نصر حامد أبو زيد لا بد أن أتناول فيه الخطوات الكثيرة التي خطاها هذا الرجل التنويري الجبار في محاولة تفكيك أسرار التفكير الديني وأساليب تقديس نصوصه التي يعتبرها لاهوت السياسة الإسلامي في إيران والعراق وباكستان وغيرها وربما كهان اليهودية والمسيحية ، أيضا ، يعتبرونها صلوات أبدية يستحضرون معها كل قدرات الدول أو الحكومات المسيطرين عليها و يصرون خلالها على أن الكتب السماوية قد بلغت ذروة الكمال والتقديس والانتصار الأيديولوجي النهائي ، بما لا يجوز نقاشها أو الكشف عن تعقيداتها وغموضها أو حتى محاورتها وأنهم وحدهم يملكون (أسرارها العظيمة) . غير أن المفكر التنويري الدكتور نصر حامد أبو زيد ، كان مبادرا جريئا في حياته القصيرة ، ليس فقط في البحث داخل نصوص القرآن باعتبارها تنوعا يثير الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى الأجوبة ، بل لغيرها من النصوص الناتجة عن تفسيرات جامدة لمفسرين إسلاميين ، قدامى ومعاصرين ، يتخذون من منصات الأزهر ومكة وقم والنجف منطلقات لنشر أساطير وعبادة وتقديس كل نص من دون استيعاب علمي أو محاورة حتى النصوص المفتقرة للروح الأصلية والأساليب الأصلية بحيث صرنا نجد في القرن الحادي والعشرين تفسيرات من منظري تنظيم (القاعدة) وفلاسفته الناطقين باسمه ، مباشرة أو بصورة غير مباشرة ، موقفا ينم على أنهم يريدون تمجيد أنفسهم عن طريق تمجيد الله نازعين عن الإنسان المعاصر قدرته العلمية ومحاولاته في إدراك كنه الطبيعة .
لقد جرى اتهام الراحل نصر حامد أبو زيد بالكفر رغم تأكيده أكثر من مرة أنه رجل مسلم وتأكيده ذات يوم بقوله : أنا أفكر إذا ً أنا مسلم .. كان يفكر وهو على صواب أن تفاعل الإنسان على الكرة الأرضية مع الكتب النازلة عليه من السماوات العليا ومحاورتها علميا وكشف أسباب نزولها في تلك الأزمان الموصوفة بالجاهلية هو شكل من أشكال الحاجات الفكرية الضرورية في العصر الحديث ، كما أن مثل هذا الجهد التنويري صار حلقة مهمة من حلقات التخلص من الآلية الجامدة المخيمة على مشاريع إسلامية كثيرة تداخل فيها الديني مع السياسي وخضع فيها الحاضر العلمي التكنولوجي إلى ماضي البداوة . هذا التداخل فتح الباب واسعا أمام توظيف الكتب السماوية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية واستثمارها في الصراعات الدائرة على الجبهات الأرضية كلها، السياسية منها والفكرية ، وجميعها لم تنجُ من لعبة إقحامها في دعاوى حماية الإسلام وتكفير كل متنور يحاول أن يكشف ألعاب كل الذين يتجاهلون عن عمد دور الزمان والمكان الخاص بكثافة الرؤية الإنسانية في أي نص من نصوص المذاهب والكتب السماوية .
كان فكر نصر حامد أبو زيد ضد كل منع أو تحريم أو محدودية في الاطلاع على جوهر الدين وفي النظر إليه وفي الحوار معه . بل هو داعية من دعاة البحث العلمي الرصين بهدف جعل رجال الدين والباحثين في أموره متماشين مع المعرفة الإنسانية المتنامية في كل مكان ، خصوصا في ما بعد القرن التاسع عشر ، الذي وجه ضربات قوية إلى أراء الطفولة الفكرية التبسيطية فيما يخص الدين وموقفه الغيبي من محنة الإنسان الكوني ، التي يعيشها على الأرض خاصة في البلدان الإسلامية ، وفي بلادنا العربية حيث الجوع والفقر والمرض والجهل يجبر الكائنات البشرية على التحول إلى كائنات حيوانية روحية يبتكر لها رجل الدين السلفي خلفية وتفسيرات دينية ومذهبية عن المجهول الخفي في (الإرادة الربانية المنقذة) لتشجيع هذا وذاك من الشبان في أنحاء مختلفة من العالم للقيام بأعمال التفجيرات في الشوارع والساحات العامة والمدارس والجامعات والكنائس والجوامع ومحطات القطار لتقتيل الناس المدنيين الأبرياء ، مثلما هو حال التقتيل الجماعي باسم الدين ومقاومة الاحتلال الأميركي في بلادنا العراقية في السنوات السبع الماضية . كما وقف فكر أبو زيد ضد كل محاولة لمنع تنوير عقول رجال الدين المسلمين الذين يجدون إمكانية وقدرة على تطهير كراسي الحكام ومراكزهم من الموبقات وجعلها خيرة ومفيدة للناس أجمعين .
باختصار كان أبو زيد بنشاطه العقلي المتميز التي ثبتتها مؤلفاته ليس منفصلا عن جهود كبيرة بدأها كل من محمد عبده وطه حسين وجمال الدين الأفغاني والكواكبي وفرج فودة وعلي عبد الرازق وغيرهم، بل اختار طريق التسامي بأفكارهم لتمييز العقل البشري وعلاقته بالدين وحقائق الحياة ، مؤكدا أن أصحاب كراسي الحكم ، بالتعاون مع بعض رجال الدين ، يحاولون على الدوام (تطويق الله ) كي لا يظهر للإنسان وعلومه بصورة مرئية ، كي يظل الحكام أنفسهم قادرين على تسخير هذا التطويق لخدمة مشروعهم القائم على نزعة دنيوية نفعية أكثر بكثير من النزعات الدينية .
كمثال ، كان لكراسي صدام حسين خلال سنوات 1968 – 2003 نصيب من مواعظ رجال الدين العراقيين ، من السنة والشيعة ، خلال فترة الحملة الإيمانية حال قيام الحرب العراقية – الإيرانية 1980 – 1988 وما بعدها وجميع الحملات المباشرة و المبطنة والضبابية ، التي كانت طقسا يوميا من طقوس الجوامع والمساجد والكنائس في كل المدن العراقية لتطويق الله بفقه مزيف لصالح المستبد والمستبدين إذ تأسس واستمر نظام القائد الضرورة وحزبه لمدة 35 عاما حين أصبح المستبد صدام حسين والمستبدين البعثيين يدّعون أنهم يد الله القوية على الأرض العراقية يضربون بها شعب العراق بكل مكوناته ويضربون جيرانه الإيرانيين والكويتيين .
نقــّب فقيد الثقافة العربية الحرة نصر حامد أبو زيد في النص المقدس ، وفي تاريخه ، بعد أن أصبحت في القرن العشرين خصوصا ، وفي جميع البلدان العربية ، تبعية الدولة إلى اللاهوت السياسي بشكل معين من أشكال العلاقة بين الدين والدولة ومعارضة انتشار أفكار العلمانية القادرة وحدها على جعل الدولة في خدمة الشعب بشكل شفاف من أشكال الأخلاقية الإنسانية الحقيقية .
كما هو معلوم للجميع أن الإعلام الرسمي الحاكم ، العربي والإسلامي ، قد ساهم مساهمة فعلية مباشرة ، أحيانا بالحديد والنار ، في عملية غسل عقل المواطن العربي من الخليج حتى المحيط ، ما عدا بعض الاستثناءات الطفيفة هنا وهناك في لبنان وتونس مثلا ، في وقت كان فيه الأعلام التلفزيوني والإذاعي الرسمي وأجهزة الأمن والمخابرات تتعاون على إجبار العقل العربي ، خاصة في الريف العربي وبالأخص العقل النسائي العربي ، على الاعتقاد بأن هناك لقاء متواصلا بين (عقول الحكام العرب) وبين (إرادة الله) مما ترك آثارها المباشرة في زيادة تمسك الناس بالطقوس الدينية وأدى إلى تنامي (صحوة دينية رجعية) لدى كل الأديان والمذاهب ، بنسب واستثناءات مختلفة ، خلال فترة تسعينات القرن الماضي ومثالها عندنا في العراق امتداد الصحوة الدينية ، بقوة وبنطاق واسع ، في فترة ما بعد عام 2003 حيث نجد كائنات إنسانية عراقية في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية تبتكر كل الأسباب لإظهار الإنسان متدينا وفق مواقف ومشتهيات تعامل رجال الدين تعاملا جامدا مع عذابات الإنسان الفقير وجهله ، في بلادنا وفي العالم الإسلامي كله . كما نجد بعض هذه الصور من التعامل لدى الكثير من الأقليات السكانية في العراق من الذين استعاضوا عن عرض وتقييم ثقافة و فنون أبائهم وأجدادهم متناسين معاني وقيم الحياة الرئيسية ليظهروا تمسكهم بالطبيعة الدينية بشكل لا سابق له في تاريخهم . هذا التوجه نجده واضحا مع اندفاع بعض قادة هذه الأقليات ، السياسيين والدينيين ، نحو تمجيد تقاليد وخرافات شعوبهم الدينية بديلا عن النضال التنويري بحقوقهم الإنسانية والديمقراطية القادرة على تحقيق التقدم الفعلي في مستوى معيشة وعلوم وفكر الإنسان في العالم المعاصر .
لا يمكن نسيان تأثير النص الديني عموما على الواقع الحالي ليس في الشارع العراقي المتدين والمتخلف ثقافيا ، بل على نشاط وفعاليات قادة في أحزاب الإسلام السياسي ، وفي الدولة أيضا ، من أمثال نائب رئيس الجمهورية العراقية عادل عبد المهدي حيث كان قد تعلـّم في فرنسا أصول الحرية والديمقراطية لكنه حين عاد إلى العراق بعد عام 2003 ارتبط بطبيعة إسلامية بدائية حين يترك مهماته وواجباته ومسئولياته في هيئة رئاسة الجمهورية ليشارك مع الجمهور غير الواعي في مسيرة راجلة من بغداد إلى كربلاء مشيا على الإقدام مشاركا ومشجعا على اللطم على الصدور وبتعذيب الإنسان نفسه لنفسه بالضرب على ظهره وبشج الرؤوس بالسكاكين وغيرها .
كان هذا الاتجاه هو نفسه الذي دفع الدكتاتور صدام حسين لتزكية أعماله الإجرامية إلى أداء فرائض الحج بمكة و الصلاة في بعض الأحيان بالمساجد والجوامع العراقية وفي بعض الأحيان أمام الأضرحة في الأماكن الشيعية الدينية ( النجف وكربلاء وغيرها ) أو في الأماكن التي تضم أضرحة سنية في بغداد والاعظمية ليقوم من خلالها بتذكير العراقيين بأنه لا يزال مؤمنا بالله مبتدعا له اسما جديدا ( عبد الله المؤمن) وليخدع الناس أنه ليس مرتدا عن الدين الإسلامي . نفس الأسباب دفعت عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية العراقية ــ مثل غيره من قادة آخرين في الدولة العراقية الجديدة ــ أن يظهر أمام الناس بأنه ( عبد الله المؤمن) وانه مثقل بعدد من العادات المذهبية التي لا تؤدي إلى غير الشلل في عقول ممارسيها ومؤيديها .
مع الأسف الشديد أن بعض المثقفين العراقيين و السياسيين الإسلاميين ومن بعض مثقفي الأقليات الدينية لم يدركوا ، حتى الآن ، مخاطر العلاقة بين (الدين والعنف) ، بين (النص المقدس والعنف) كما أن بعض المثقفين من أنصار المسيرات الحسينية لم يدركوا أن المناخ الديني المبالغ فيه هو شكل من أشكال التعسف الأيديولوجي على العلوم والآداب والفنون . كان من ابرز أشكال هذا التعسف هو الفتوى الصادرة بحق سلمان رشدي المتهم بالردة عن الإسلام لأنه كتب روايته (آيات شيطانية) فقد كان هذا الحكم الإيراني الجائر يمثل قتلا بشعا للعقل والثقافة والفنون ، كما أن فتوى الخميني ، كما يقول صادق جلال العظم (هي نهج من ذلك النهج المتعسف الاستعلائي الذي تمارسه نفس قوى الظلام التي تهدد باغتيال العناصر المتنورة في كل مكان من الوطن العربي) كما حصل في قرار بعض إسلاميي جمهورية مصر العربية بتكفير نصر حامد أبو زيد . كما تم من قبل تكفير المفكر التنويري حسين مروة ونجيب محفوظ وفرج فودة وسيد القمني وغيرهم ، كما أن عملية اغتيال المثقف العراقي ، الشيوعي العلماني ، العائد لوطنه بعد 2003 كامل شياع كانت ذاتها تواصلا مع النهج السلفي الناهض في العراق باسم الله والدين بقصد اضطهاد الأفكار والآداب والفنون التي تجد في المعرفة الإنسانية اقتدارا ذكيا فاعلا لتحسين شروط الحياة على ارض الرافدين . لكن هذه القرارات الإرهابية ظلت عاجزة عن وقف أبحاث ودراسات أبو زيد الذي (( لم يتردد عن مقارنة هذه الفتاوى بموقف بعض رجال الكنيسة من الفيلم السينمائي "الإغراء الأخير في حياة المسيح" الذي وصفه بالموقف المستنير لأنهم رفضوا بشدة مجرد المطالبة بوقف عرض الفيلم أو مصادرته بدعوى انه يعرض صورة عن المسيح تتناقض مع ما ورد في النصوص الدينية، وكانت وجهة نظرهم، أن المسيحيين المؤمنين أنفسهم ، قادرون على إسقاط هذه الرواية بالامتناع عن مشاهدتها ومقاطعة العرض"، ورأى في هذا الموقف تخليا عن "منطق الوصاية" الذي يصر رجال الدين عندنا على ممارسته على العقول والقلوب تماما مثلما حدث قبل خمسة أيام حينما ضغط مسيحيون لبنانيون على قناتين فضائيتين لبنانيتين ، تعود الأولى لحزب الله الشيعي وتعود الثانية لجماعة أمل الشيعية لمنع استمرار عرض مسلسل تلفزيوني أنتجته ( حكومة إيران ) عن حياة يسوع المسيح من وجهة نظر الدين الإسلامي التي تناقض وجهة نظر الدين المسيحي .
لقد اجتهد نصر حامد أبو زيد في كتاباته بأدوات منهجية حديثة ، بالاعتماد على العلم في تسليح الإنسان المعاصر في كفاحه ضد كوارث الطبيعة وفي بناء مجتمع جديد يجعل الإنسان قيمة عليا في مجتمع إنساني متطور يظل على الدوام بحاجة إلى منطلقات وبراهين علمية وتجريبية مؤكدا الحاجة المعاصرة إلى ما فعله ابن رشد (1126 – 1198) لهذا فقد أشار دائما إلى حاجة الإنسانية وفكرها المعاصر لتجديد المنهج الرشدي المعتمد على شجاعة الإنسان المفكر لإقامة عدل الدولة . هذا ما فعله في كتابه "الخطاب والتأويل" بالإشارة إلى (أنّ استدعاء ابن رشد فكريا وثقافيا هو في بعض جوانبه محاولة لممارسة صراع إيديولوجي ضدّ تيّار فكريّ سياسيّ يدّعي ممثّلوه أنّه التيّار الوحيد الممثّل للإسلام) .. تأتي أهمّية استدعاء ابن رشد اليوم ليس فقط من رغبة شخصية أعلنها نصر حامد أبو زيد بل هي منطلقه الأساسي في النظرة العلمية الواسعة التي تميز بها لمواجهة الفكر الظلاميّ الغيبي . إن العودة إلى مبادئ ابن رشد تحمل أول ما تحمل موقفا مستندا من قبل المثقفين العرب و الثقافة العربيّة إلى العقل والى البرهان و إلى التعدّدية والاختلاف والحوار ، هي عودة إلى ما نادى به ابن رشد من أجل اعتبار العقل وحده صفة عليا تميز الإنسان وقدرة كبرى للتعبير عن حقيقته وخلاصه من السيكولوجيا الدينية التي تقود الإنسان إلى عوالم الأرواح والملائكة والجمود وغيرها من عوالم النمطية الدينية البدائية .
رحل نصر حامد أبو زيد في زمن ما زال فيه المسلمون وغيرهم من تبعية الأديان الأخرى ، بل حتى الناس العلمانيين ، بحاجة ماسة إلى معارفه العقلانية المنطقية المنطلقة من ذات المدرسة التي أسسها بكفاحه الفكري خلال العقدين الماضيين . لكننا ، مع شعورنا بخسارتنا الهائلة برحيله المبكر فأننا نظل نتأمل من تلامذته الكثيرين مواصلة السير في نفس دربه المليئة بالمصاعب الفلسفية لكنها المبادرة بالتغيير الفكري والقادرة على إحداثه في مستقبل يتطلب أن تكون فيه العقول منسجمة مع الحقائق الكونية والاجتماعية انسجاما كليا .
أخيرا أقول انه ما من شجرة زرعها نصر حامد أبو زيد أو سقاها إلا وسوف تعطي ثمارها في المستقبل . لذلك فهو يستحق ، هذا اليوم ، منا ومن كل رجال الحوار الجريء والتقدم المضيء تمجيدا لعقله وفكره وروحه وحكمته بأرقى مستويات التمجيد ..
انحني احتراما وتبجيلا أمام زوجة الفقيد الدكتورة ابتهال يونس .. أنحني احتراما وتبجيلا أمام ذكرى رحيل الرجل الذي تعلمتُ منه الطيران في سماوات الأديان بجناحين ديالكتيكيين قويين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 21 -8 – 2010



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوطن العراقي المفضل هو الوطن الثقافي المليء بخمائل الإبداع ...
- عن ثقافة النائبات المحجبات في البرلمان العراقي ..
- نبوءة كارل ماركس عن فشل الرأسمالية في معالجة الأزمة المالية ...
- علّمنا استبصار الاشتراكية واستنطاق الأدب الساخر وأقنعنا أن ا ...
- تهريب النفط العراقي مستمر والأخلاق مغلولة ..
- عن جمهورية الموز والقرود ..!!
- عن رؤية رشيد الخيون في لاهوت السياسة ..
- الفاسدون يصومون في رمضان ويسرقون ..!
- البرلمان العراقي ليس حرا .. عاطل رغم انفه ..
- عن بغداد والأربعين حرامي
- بغداد مدينة تتميز بعجائب الزمان والمكان ..!
- مؤتمر القمة العربي رقم 47 في بغداد ولعبة الفساد المالي
- فريق الإسلام السياسي الصومالي يتغلب على فريق طالبان الأفغاني ...
- حقوق اليهود العراقيين والفيلية و ثورة 14 تموز
- المهرجانات الثقافية أحسن وسائل المتعة خارج الوطن ..‍‍!
- عن صوفية عبد الكريم قاسم وتحدي الفساد المالي ..
- الصمت المقدس يضيّع العدالة والمساواة ..! يوسف سلمان يوسف / ن ...
- الكهرباء : نظرة وابتسامة وقبلة وانقطاع ..!!
- بعض الحكام العراقيين يعشقون الكذب عشقا ..!!
- وزارة الثقافة العراقية منعزلة عن ثقافة العالم ..


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جاسم المطير - تهديم سلطة تقديس النصوص بآلية النور والعلم والتنوير