أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم ازروال - القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 2















المزيد.....


القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 2


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 3100 - 2010 / 8 / 20 - 15:49
المحور: الادب والفن
    



الجزء الثاني

لا يعمل الإرهاب إلا على زعزعة أركان بنية المؤالفة ، و نسف سكونية التجاور بين المتخالفات .لقد برعت الخطابات شبه الحداثية للنخب ، في إخفاء اللامحتمل النظري الثاوي في قاع المنظومة التراثية ، وفي طمر الإشكاليات الثيولوجية بدعوى تكفل الزمان بتذويبها . إن للفعالية الإرهابية موجبات ، لا يستقصيها إلا النظر المتروي في تشابكات البنيات الأنثروبولوجية للمتخيل الإبراهيمي .
فالواقع أن الإرهاب الأقصى ، لا ينفصل عن الإرهاب الثقافي ، وهما ينبعان من الديناميات الايجابية للفاعل العقدي ، المتحرك كونيا دفاعا عن كوننة الميثولوجيا الجهادية ، ومن الديناميات السلبية لحداثة نفعية ، تخلت عن الفعالية الأنوارية بدعوى نقد الوضعانية وتجاوز الحداثة الكلاسيكية والميتاسرديات .
يعكس انبثاق الإرهاب من رحم حداثة المجاورة ، استحالة إنجاح حداثة الفعل في فضاء تؤثثه خيمياء الأساطير الألفية .لا تفيد لا صياغة الأسطورة القبلية والتغني بمثاقفة أمازيغية ألمانية بمحضر بقايا الثقافة الرومانية وبمعزل عن ابدلات فكرية الحركة الوطنية المغربية كما يفعل محمد الفرسيوي ، ولا الانخراط في فلسفات الفعل والثورة بدءا وفكرانيات الإصلاحية الوطنية تاليا كما يفعل يوسف الفرسيوي في تفكيك الجذور الثقافية للإرهاب ، نظرا وفعلا .
فمن السمات الفارقة لحداثة المجاورة ، الشيزوفرينيا الثقافية وتغليب إبدال التصالح على إبدال الاستشكال .والمجاورة اللانقدية ، لا تقوم سوى بحجب الأعماق حيث تينع براعم المتخيل القيامي .
لا تجيب الرواية عن علة الإرهاب ، باصطناع تفسيرات طبقية أو اجتماعية مثل رواية ( نجوم سيدي مومن ) لماحي بنبين مثلا ، بل تتوغل بعيدا في استكشاف خرائب الذات وحرائق الواقع وشظايات التاريخ . لا تأتي شهوة الإرهاب من العدم ، بل من تمزقات ثقافة لم تعرف نار النقد ولا مطرقة الاستشكال ، ومن اهتزازات تاريخ لا يعلو إلا لينحدر إلى سفوح الذرائعية المفخخة .
لا تتوخى رواية ( القوس والفراشة ) تقديم أطروحة فكرانية عن منشأ الإرهاب ، بقدر ما تسعى إلى استقصاء ممكنات هذا الفعل الحدي كما تتجلى في أعطاب الذوات والتواريخ والانتماءات.
تنهض المقاربة الفكرانية للإرهاب عادة ، في استعادة الاستعارات الطبقية ،والكنايات التظلمية لوجدان طالما استمرأ تبوأ موقع الضحية المثالية . يقول ناقد العقل العربي ، في قراءة لا نقدية لظاهرة الإرهاب الإسلامي ما يلي :
( هذا شيء واضح ، ومنه يتضح أن الحل لمشكلتي " الحريك " و " الإرهاب " يجب أن يبدأ بمعالجة أسبابهما الأولى ، الفقر والظلم . إن أي أصلاح لا يستهدف ، أولا وقبل كل شيء ، القضاء على الفقر والظلم اللذين يقفان بصورة أو بأخرى وراء " الحريك " و" الإرهاب " هو إصلاح كاذب ، حتى ولو نتج منه تحسين " أو تزويق" على مستوى " الحريات العامة " " وحقوق الإنسان " . ذلك لأن أولى الحريات هي أن يتحرر الإنسان من الفقر الذي يستعبد فكره وإحساسه وإرادته ، ومن الظلم الذي يشوش على البصر والبصيرة ، ويجمد ويطلق عقال اللاعقل . )
( - محمد عابد الجابري – في نقد الحاجة إلى الإصلاح – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2005- ص. 238-239)
لا تتناول الرواية الحالات النموذجية للمقاربة الطبقية أو الفينومينولوجية ، ولا تختار سلوك سبل التعليل الطبقي أو الاجتماعي أو السياسي أو الجيو- سياسي ، بل تستقصي مكامن الاختلال في السياق السوسيو-ثقافي وتستعرض مختلف أشكال الفصام النفسي والثقافي في عالم مغربي ضائع بين ابدلات متضاربة وعاجز عن توليد ميثولوجياه الخاصة .
لا يبقى ، للمتأمل في تتابع السيمولاكرات والمسوخات ، سوى رثاء تاريخ لا يحبل إلا ( بأبطال بلا مجد ) .
( السلالة !يا له من اسم ضخم !كأننا سنلد من جديد محمد بن عبد الكريم الخطابي ومن معه . نضبت ينابيع المحاربين ، كل ما نلده اليوم تجار ومهربون وسماسرة وباعة شقق ، وبعض البهلوانات الذين يجيدون باروديا الحرب ، ويركبون فرحين حميرا بالمقلوب .
المحارب الوحيد الذي أنجبته السلالة هو ياسين . ولكنه ضاع بدون أسطورة ولا أمجاد . )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –- ص . 183- )
فحين تعجز الأسطورة عن أداء وظائف التماهي والتنظيم والإسناد ، يتضخم المتخيل القيامي ، ويصطنع البطل المجرد من البطولة ، عالما بمقاييس فردوسية .
فالإرهاب تتويج لمشهدية تنتصر فيها النسخة على الأصل ، والسيمولاكر على الايقون ، وياروديا التجذر على الانتماء ، والموت على التحقق . كما أنه نتاج وضع مثاقفة ترصيفية لا نقدية ، لا تكاد تفكر في حتمية إجراء استشكال جينيالوجي لمنظومة القيم ونقد ابستمولوجي لنظام المعارف ، ونقد اركيولوجي لسجل الميثولوجيات المقدسة وتفكيك الميثاق النرجسي .
فالواقع أن بطولة العار ، تتولد عن تاريخ الانقطاعات والخيانات ، وعن غياب المهمة الاسنادية للميثولوجيا السياسية .
( هنا كان يمكن لدولة الأمازيغ أن تكبر وتملأ الدنيا ، فلا يكون هناك إدريس أول ولا ثاني ولا ثالث ، ولكن الأمازيغ لا حظ لهم ، ما أن اعتلى بطلومي العرش بعد وفاة والده جوبا الثاني حتى أشعل الرومان الفتنة في وليلي ، و أمر كاليغولا باغتيال بطلومي ، ثم بعد ذلك بالقضاء التام على تمرد أيدمون بواسطة الجيش الروماني معززا بالتحالفات والخيانات المحلية . لم يقض علينا نحن الأمازيغ شيء سوى الخيانات ، من بطلومي حتى بن عبد الكريم الخطابي !)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة - ص . 168)
حين تغيب الهندسة يبرز الترميق وتستفحل الذرائعية الماكرة ؛ لا تغيب الطوبى ، إلا لينفرد الاستئثار بمقدمة المشهد ، وتنفرد كناية الحطام ببؤرة اللامعنى .واللامعنى ثمرة السياحة النفسية بين النماذج والحساسيات الفكرية ، والافتقار إلى ملكة التدليل والاستدلال ، بعيدا عن الرطانة الفكرانية – السياسية .اللامعنى ، هو أن تتحسس الأفكار المتناقضة ، دون أن تستشعر فداحة التضارب ومستتبعات التناقض .
( كان أحمد ينتقل بسهولة بالغة بين وضعية " الموبيليت " التي تسلل بين نقط المطر ، وبين وضعية الرجل الصالح المرتاح في جلسته الأبدية، كان ينتقل بسلاسة كاملة من الصلاة في ضريح سيدي بلعباس ، إلى السهرة في ملهى الباشا دون أن يشكل ذلك أي انفصام في شخصيته المتماسكة دوما والهشة على الدوام . )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –- ص . 142 )
مثل أحمد مجد النموذج المثالي ، للارتحال الهادئ بين النقائض، والانتقال الفكراني الأنيق من الماركسية اللينينية إلى الليبرالية المتوحشة ، والنوسان العملي بين أنماط كينونية متضادة .لا يمكن العبور من تجربة الاعتقال السياسي إلى اعتقال المخيلة والطوبى في عمارة " الفراشة " ، إلا أن يفصح عن سيولة غير عادية في مجرى الكينونة .كما الانصهار في رذاذ العولمة الاقتصادية ، يعبر عن غياب كلي للمنظورية الثقافية ، في زمانية مرتكزة على سردية التكيف لا على سردية التغيير .تجتمع التقليدانية الرثة مع "التعولم " الرث للأطراف ، لخلق كائنات هشة وجوديا ومتذبذبة معرفيا ومتذررة ايطيقيا وكلبية سلوكيا.
( وبينما استمر العقار في احتلال بؤرة المال والأعمال في المدينة ، استقر في الأذهان أن النجاح السياحي لمراكش هو مبتدأ الثروة ومنتهاها ، أما أحمد مجد فقد طور نظرية مفادها أن الشمال(= شمال المغرب) يبيض أموال المخدرات في العقار ، والجنوب يبيض أموال الرشوة في العقار ، والعقار يبيض نفسه في الزمن !.)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة - ص . 152)
ويصاحب هذا التبييض ، تسويد ثقافي ،يتأسس على مرتكزات تقليدانية ؛ ففيما يبني الاقتصاد الجديد ، فعاليته على المضاربة عموما وعلى المضاربة العقارية خصوصا ، فإن الخصوصانية الثقافية ، تبني خطابها على تثبيت السنة في عالم تحكمه فوضى تأويلية طاحنة وأعطاب الأنظمة المعرفية والايطيقية . يقول فتحي المسكيني ما يلي :
( إن الحداثة إذن هي اللباس الذي اختفى وراءه المسلم الأخير لإكراه حيوانات الديجتال على إخراج كل " الهائل " التقني الذي تختزنه في رفاهيتها الوثيرة ، نعني على إخراج " القيامة " التي تختبئ في " الهائل " التقني دون أن يراها . إن القيامة هي الخروج من الجسد / الموضوع إلى الجسد / الآية خروجا عدميا وطقوسيا واستطيقيا في آن . )
( - فتحي المسكيني – الفيلسوف والإمبراطورية – في تنوير الإنسان الأخير – المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء- المغرب – الطبعة الأولى – 2005-ص.184) .
تستعرض الرواية فصولا درامية عن اللاعقلانية الاقتصادية ، المتضخمة في سياق التعولم الرث للأطراف ؛وتتجلى هذه اللاعقلانية في نزع الملكية وتضخم دور مافيا العقار ولوبيات الإنعاش العقاري والاعتماد الحصري على المضاربة اللاقانونية والاهتيام بالفنطازيا المعمارية كما في عمارة "الفراشة " .
وكما ينشغل الزمان المغربي بالربح والحذاقة المالية ، فإنه يعبر عن تهوس تقليداني بطهرانية تعويضية واستيهامية هي المؤشر الدلالي المعبر عن اللاعقلانية الثقافية .
لا تكتفي حداثة المجاورة في تعالقها مع الحداثة الفائقة ، بفصل الاقتصاد عن الايطيقا وبإعلاء منطق المضاربة ، بل تلوح بطهرانية هجاسية ، معبرة عن الشيزوفرينيا الثقافة الحادة للفاعل التاريخي المفتقر إلى التاريخية .وليست حادثة محاكمة عبدة الشيطان وزواج المثليين و ما سماه أحمد مجد بالنضال البيولوجي،إلا نماذج معبرة عن افتقاد حداثة المجاورة للتناسق المنهجي والفكري.
ومن علامات هذا اللاتناسق ، اللهج بالحداثة قولا ، والذب عن التقليدانية عملا ، ومواجهة كل خطاب احتجاجي ونقدي بالامتياح من معين المنظومة القيمية التراثية .وتكمن خطورة هذا الامتياح ، في اصطناعه صورة لا تاريخية عن تاريخ اجتماعي وثقافي ،متداخل المشارب وفي سعيه إلى تقديم الصراطية الأخلاقية باعتبارها الإمكان الوحيد ،فيما يحبل التاريخ الحي ببدائل متعددة وبنمذجات سلوكية مختلفة.
(هناك كمياء غامضة تجعل أشياء متناقضة تخرج من نفس النبع . هذا موسم يقام احتفاء بالمولد النبوي ، حول ضريح سيدي على أحد أحفاد الهادي بنعيسى ، و أحد كبار متصوفة المغرب ، يصبح وجهة وملاذا لطقوس المثليين والعرافين . في نفس الأمكنة وانطلاقا من نفس المشاعر الروحية ، تلتقي ابتهالات المتعبدين ، بصخب الأجساد المضطربة .. كل ذلك يتم تحت هيمنة الطقس الشعبي المنوط بعائشة مولات الواد ، تلك المرأة التي استقدمها سيدي أحمد الدغوغي تلميذ ومريد سيدي على من الشرق ليعقد لشيخه عليها ويضع حدا لعزوبته المزمنة ..فلم يكن له ذلك ، لماذا لم يتزوج سيدي علي أبدا ؟ ولماذا يتزوج المثليون حول ضريحه ؟ لا أحد يعرف ؟ )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –ص . 207-208 )
لا يطلب الخطاب الامتثالي من الطقس الشعبي ، المسوغات النظرية والتاريخية لجمعه بين المقدس والمدنس ، بين الخطاب العاشق للذات المتعالية وعشق المثيل الجنسي ، بين الإيمان والعرافة .يكتفي برصد المفارقة ، ناسيا أنه ينهض على نفس البنية ، ويقيم عالمه الدلالي على عناصر متنافرة في الصميم . ومما لا شك ، أن خطابا تصنيفيا من هذا الصنف ، ينطوي على كلانية ثيولوجية ظاهرة ، رغم المتصورات شبه الحداثية المعلنة . فلئن اختار الخطاب العرفاني العبور من الجبروت إلى الرحموت على أجنحة الولاية ، فإن الخطاب الانقتالي ، انحاز إلى الانتحار سبيلا إلى إنهاء المفارقة ، والانتقال الفوري من الشريعة إلى الجنة .
ولا ينحصر دور خطاب الحداثة المجاورة هنا ، على بلورة تصور توهمي واستيهامي عن الخطاب الأرثوذكسي ، بل يفرض سلطته القانونية والمعرفية على المشاريع البديلة .ألم يحول خطاب الثيو- سلطة ، عصام إلى متدروش رافض لنسغ الحداثة ؟ أليست المعاقبة ، بداية تحويل المسار ، والانعطاف من الفن إلى التدروش ؟ أليس التدروش امتدادا لخطاب المعاقبة بأساليب أخرى ؟أليس التدروش امتدادا للبنيات الأنثروبولوجية للمتخيل العرفاني المغربي أولا ، ولإستراتيجية التقليد والتتريث المعلنة منذ الاستقلال ؟
( فقد أصر عصام على الانخراط العلني في تدين صارم الطقوس في الوقت الذي استمرت فيه مجموعة أرتروز وهو أساسا كاتب كلماتها في تحقيق نجاحات متوالية . وتسبب هذا التدين المعلن في جر إبراهيم إلى نوع من الامتثال جعله يوقف بكثير من الاكتئاب المضمر نمط حياته الخاص ، القائم على السهر والعشاءات الجذلانة ، والخروج إلى ليل الدار البيضاء .. ثم بدا له أن يتوج هذا " البيات القسري " بعمرة سريعة ، . وأتذكر أنني سألته عند عودته منها ، عما إذا كان قد شعر بشيء استثنائي وهو يؤدي مناسكه فاعترف لي أن الأمر لم يمسه من قريب ولا من بعيد . )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –- ص . 246 )
وهكذا يقود الفعل العقابي لحداثة المجاورة ، إلى قلب الفني إلى الطقوسي في شكله الانتقائي تركيبا ، والصارم ممارسة .يجتاف الفنان الواعد ، الخطاب المعياري ويفرض معياريته المستعارة على مستهلكي متع بدون شرف ابستيمي .
فكما يذعن مداور خطاب الاحتجاج الفني ، لخطاب المعاقبة والتطويع الثيو- فكراني ، فإن العائش على أطراف الجنسانية المعيارية والفكرانية الأرثوذكسية ، سرعان ما يرضخ لاملاءات الخطاب النقيض بدون مقاومة ظاهرة وينخرط في محاكاة طقوسية بدون اقتناع عقلي أو وجداني .
ثمة قابلية للامتثال للخطاب اللاهوتي، لا يفلح حتى الواقفون بعيدا عن بؤره في مقاومته . تكمن خطورة الإرهاب ، النظري والعملي ، في انبثاقه من مركز ومن أطراف حداثة المجاورة ، من تاريخها الملغوم بالأساطير المؤسسة ومن حاضرها المتشظي الباحث ، عن التبئير الدلالي بدون جدوى .تتعدد سبل السالكين في أحوال حداثة المجاورة ، إلا أنهم يتماثلون في محاكاتهم للإبدال المؤسس ، ويسعون إلى استعادة بهاء الأسطورة المرجعية بلمسات مختلفة .فخطاب المعاقبة يحارب خطاب الإرهاب العملي ، ميدانيا، فيما يزود الإرهاب النظري بدماء جديدة . فما يفاجئ المتدبر ، هو امتلاك الكثيرين" للإرهابية" بوصفها القابلية لتقبل الإرهاب النظري أو العملي ، أو الاستسلام على مضض لإجراءاته في أحسن الأحوال ، كما نجد في حالة إبراهيم الخياطي مثلا .
( قرأت الأسماء بتأن كأنني أحاول التعرف على ملامح أصحابها. كان يعالجني شعور مبهم أنني سأعرف أحدهم . دائما هناك شعور مبهم بالتعرف على واحد منا يوجد في اللائحة .. أقصد واحدا من هذا الكم الملتبس الذي لا نتوقع إطلاقا أن يكون في تنظيم إرهابي . ذلك الشخص الذي يأكل معنا ويشرب ويضحك ويرانا أشلاء متطايرة وهو يحدق في وجوهنا . )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –ص . 229)
لقد اندغم الإرهاب بالحياة اليومية ،وصار يكيف اليومي بقتامته القيامية ؛ لقد وسع الإرهاب التقاني من حقل إمكانه ، وصار قادرا على استثمار الطاقة الترهيبية الكامنة في منظومة القيم التراثية ، بكفاءة تقانية كبيرة وبحقد متفجر يذكرنا بحقد الكهنة عند نيتشه .
( لقد تركوا على كل معبر اجتازته أرجلهم آثار الدماء، إذ كانوا يستلهمون جفونهم ليعلموا الناس أن الدماء تقوم شاهدة للحق. وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم ، لأن الدم يقطر سما على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وإلى أحقاد . )
(-فريدريك نيتشه – هكذا تكلم زرادشت – ترجمة : فليكس فارس-دار القلم – بيروت – لبنان - ص. 119) .
لا يعمد الإرهاب الأرض بالأحمر فقط ويحول الأجساد إلى شظايا وذرات في مهب الموت فقط ، بل يخلق فوبيا أو رهاب ، يتحول تحت وقعهما كل شخص ذي علامات سيميائية خاصة إلى مشروع انتحاري .لم يعد الفضاء العمومي يوفر المتعة الجمالية ، والاغتناء المعرفي والاجتماعي ، بل استحال إلى فضاء للخواف والتشكك في نوايا الغير .كما لم يعد مجالا لانتعاش الطاقات الإيروسية ، بل أضحى ساحة لعشق الدم والغرائز التناتوسية . ويكفي الشعث السيميائي ،لإيقاظ المصدوم من خدر اليومي ومن صعوبة استعادة الفرح في ( جنوب الروح )ومن زئبقية اليقين في العلاقات العاطفية المنسوجة بكثير من التجاذب والتنافر مع بهية وليلى وفاطمة .
( كان واقفا قبالة الحافلتين بقميصه الباكستاني و" طاقية الحج " المتسخة ، والجاكيت النايك المزور، والحذاء الرياضي من نفس الصنف . )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –ص . 326-327).
إن للإرهابي الفعلي أو المحتمل ، علامات وإمارات ، هي خليط من الرمزانية التقليدية ومن المستنسخات المزورة للحداثة التقانية .لا يكتفي الإرهابي بالأداء الحي والفرجوي للموت فقط ، بل يخلخل منطق الاستعارة الحضارية والنسق الجمالي المتواضع عليه في بنى حداثة المجاورة والعوازل السيميائية بين فكرية التسلف وفكرية التدروش العرفاني .فالإرهابي الحركي ، إذ يعلن المفاصلة الفكرانية مع الفكرانيات الأخرى ، فإنه يشوش العلامات والأيقونات ، ويضيع الحدود الدلالية بين الأنظمة الفكرية والحساسيات الفكرانية لدى ضحية الصدمة الإرهابية( يوسف الفرسيوي ) .

مما لا شك فيه إذن ، أن رواية ( القوس والفراشة ) تبحث في القابلية للإرهاب ، وفي المحاضن الشعورية واللاشعورية ، الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية لهجاس الموت الاحتفالي . تتناول هذه الرواية ، اعتناق الإرهاب ، في محيط سوسيو- ثقافي ،يداور مصائر ميثولوجيا السلالة كما في حالة محمد الفرسيوي وميثولوجيا الثورة والاشتراكية كما في حالة يوسف الفرسيوي .ففيما يحاول الجد التشبث ببهاء السلالة وبألق الحفريات والحفاظ على أمثولة باخوس والأساطير اليونانية والشعر الألماني الرفيع ، والأب صقل الذات وإجلاءها في راووق الميثولوجياالأدبية ( رسائل إلى حبيبتي) ، فإن الحفيد سيختار المكان النموذجي لمسرحة الموت ، وإنهاء الرصيد السلالي والميثولوجي على نحو كلي .
ولئن اختار يوسف الفرسيوي النضال اليساري – الماركسي بفضاء متزمن ( مغرب السبعينات ) أولا والانشغال بالجماليات والكتابة الصحافة ثانيا والحفر الاركيولوجي في الأسطورة العائلية ورسم سيناريوهات تمثال باخوس ثالثا ، فإن الحفيد سيختار فضاء جهاديا مثاليا ، لتحقيق أعلى درجات التماهي مع الأمثولة الجهادية .والتماهي يقتضي محو الخصائص والإحداثيات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية ، مما يفسر انفتاح القبيلة على عولمة الجهاد وانقطاع سندها الجمالي والتاريخي .وحين تتخلى القبيلة عن فرادتها الأنثروبولوجية وعن توطنها المجالي ، فإنها تكشف عن تصدع كبير في جدار الانتماء لا تملأه إلا عولمة الانتحار الثيولوجي .
ثمة مسارب عميقة في بنية الكائن والثقافة، هي المسؤولة عن احتضان ميثولوجيا الموت الخلاصي ضدا على الآلام التاريخ الحي .ولا مناص من التقاط سلاسة ذلك الانتقال اللااشكالي ، من مؤالفات حداثة المجاورة إلى بداهة القدامة الفائقة المصاغة بلون الفجيعة .
(بهذه السهولة يولد الوحش ، بهذه البساطة يعبر إلى ضفاف الجحيم . )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب -2010- ص . 249- )
ولا مفر ، لا من عودة المكبوت فقط ، بل من عودة بربرية العنف المقدس ؛ فغياب اليقظة النقدية والإستراتيجية ،والانشغال بعقد الموافقات الفكرية ، لا يمكن أن يساعدا على تحجيم الكاووس العنفي ولا شهوة القتل / الانقتال المتجذرة في التراث الروحي السامي .إلا يجدر بمن فاتته الوصية الفولتيرية ، أن ينصت إلى التحذير النيتشوي ؟ !
( وهل من تنين أشد خطرا على أبناء الحياة من تنين الوصايا والكلمات الوهمية وقد كمن فيها المقدور طويلا حتى حان وقت انتباه التنين ؟ وها هو يهب مفترسا جميع من بنوا مساكنهم على ظهره . )
(-فريدريك نيتشه – هكذا تكلم زرادشت – ترجمة : فليكس فارس-دار القلم – بيروت – لبنان - ص. 118) .
ليست رواية ( القوس والفراشة ) ، إلا استقصاءا جماليا وفكريا ، لحيوات كل من ارتضوا ذات زمان مغربي ، بناء مساكنهم الروحية والثقافية على ظهر تنين التقليد والإرهابية الرهابية الثقافية .ومن المؤكد أن تفكيك تلك المساكن غير المطمئنة يمر ، عبر تفكيك كل ضروب التماهي مع بؤرة دلالية عقدية – تراثية مهووسة ب"الهناك" ، وتفكيك الجذمور الإبراهيمي وتدشين سياسة حقيقة وسياسة حقيقية ، تتجاوزان أفق اللاهوت والأنسة المخاتلة جذريا .يقول فتحي المسكيني ما يلي :
( إن سياسة الجليل مثل سياسة الهائل لا تهبنا إلا تدميرا عدميا واستطيقيا لجدار المستقبل ، ومن ثم هما صيغتان عنيفتان وعاميتان لتأجيل التهيؤ الأصيل لسياسة المستقبل التي لن تبدأ إلا متى أفلحت العقول القادمة في حل المسألة اللاهوتية على نحو جذري ، أي متى استطعت الإنسانية القادمة الخروج من أفق عصر الأديان وارتسام " بدء آخر " لتاريخ الحقيقة الآدمية على الأرض لا علاقة له بتصوراتنا الحالية عن الزمان . )
( - فتحي المسكيني – الفيلسوف والإمبراطورية – في تنوير الإنسان الأخير – المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء- المغرب – الطبعة الأولى – 2005-ص.197-198).
ذلك ما يتوجب فعله ، إن شئنا ألا تتغلب الفنطازيا على الواقع ، وأن لا تعود الأجساد إلى لعبة الموت تحت ظلال العوالم الافتراضية !


إبراهيم أزروال
المغرب



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 1
- العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 2
- العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 1
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 6
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 5
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 4
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 3
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 2
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية -نقد تفكيكية علي حرب 4
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية - نقد تفكيكية علي حرب 3
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية -نقد تفكيكية علي حرب 2
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية نقد تفكيكية علي حرب 1
- مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الرابع
- مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الثالث
- مفارقات المثاقفة بسوس- الجزء الثاني
- مفارقات المثاقفة بسوس - الجزء الأول


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم ازروال - القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 2