أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم منصوري - أحمق يهزم عاقلا














المزيد.....

أحمق يهزم عاقلا


إبراهيم منصوري

الحوار المتمدن-العدد: 3097 - 2010 / 8 / 17 - 11:33
المحور: الادب والفن
    


كان الناس يحسبون له ألف حساب قبل أن يورطهم أمام أهلهم وذويهم بكلماته الخادشة للحياء. إسمه الحقيقي "موحاو سعيد" ولكن أهل قريته اعتادوا أن ينادوه بلقب "قوع" الدائع الصيت. ازداد في ليلة من ليالي فصل الشتاء البارد لأسرة كانت تعيش حياة فقر مدقع وبؤس شديد. كان اسم أبيه "سعيد" تيمنا بولادته هو الآخر في فصل شتوي ممطر يبشر بعام فلاحي كله خير عميم رغم أن أسرته كانت لا تملك إلا حقلا صغيرا لا تكاد تتسع مساحته لثلة من أطفال القرية المهووسين بكرة القدم.

نبت الزرع ونضج فجمع الناس حصيدهم وكان وافرا عند أهل المساحات الكبرى في حين لم يلملم أبوه "سعيد" إلا ما يناهز صاعين من الشعير الرديء. بلغ "موحاو سعيد" عامه الأول في فصل شتوي كان أشد برودة وأعتى قساوة. أهدى الجيران للصبي ملابس وبطانيات قديمة ليحارب بها البرد القارس. ذات مساء، عاد أبوه من السوق الأسبوعي فوجد ابنه مريضا عليلا يسعل ويهذي. كان الطفل يعاني كثيرا إذ كانت حرارة جسمه مرتفعة. خاف عليه والداه من خطر البرد القارس فدثروه بركام من البطانيات فتفاقمت حرارة جسمه وزادت معاناته. بدأ جسمه يتشنج وراحت أطرافه تعرف اعوجاجا بينا.

في الصباح الباكر، أخذ الوالدان طفلهما المريض المنهك وهو ملفوف في أربع بطانيات، إلى المستوصف القروي الذي يبعد عن المنزل بكيلومترات. نظر الممرض إلى الطفل المدسوس في ركام البطانيات فصرخ في وجهي الوالدين وهو يخرج الصبي من جحيمه: "إني والله لأراكما مخبولين ! ألا تعرفان أن بركان البطانيات الذي يأوي هذا الطفل المسكين يشكل خطرا كبيرا على صحته ومستقبله؟ إنكما والله لا تعرفان من المسؤولية شيئا". عقب عليه الوالدان: "ولكن يا سيدي، نحن أميين وجاهلين ولا نعرف في الطب شيئا". أدخل الصبي عند الطبيب ففحصه وتبين له أن جهازه العصبي قد أصيب إصابة قد تجعل منه واحدا من المعاقين ذهنيا في بيئة لا ترحم حتى الأسوياء فما بالك بدوي الاحتياجات الخاصة. تجرع الطفل كمية معقولة من "الباراسيتامول" فتراجعت حرارة جسمه ثم شرب محلولا من المضادات الحيوية اللازمة لمكافحة الجراثيم المسؤولة عن الحمى المهولة التي كان يعاني منها.

حمل الوالدان الطفل المعاق إلى مأواه القروي وهو يدخل منذ ذلك اليوم في نادي المعاقين ذهنيا رغم أنه لم يختر أبدا وهو في بطن أمه أو بعد ولادته أن ينتمي إلى أي ناد من هذا النوع. دخل الجيران شراذم وجماعات يستفسرون عن حالة الصبي المنكوب. كان معظمهم يقول: "لا تثقوا في الطب الحديث فكله أخطاء وأكاذيب وافتراءات؛ لا يمكن للبطانيات الدافئة أن تؤثر في العقل البشري وقد تدثرنا بها منذ ولادتنا! أينما وجدت الدولة طبيبا معتوها بعثته إلينا ليفعل بنا ما يحلو له ويبعدنا عن عادات أجدادنا! لا تكترثوا بما يقول الطبيب المنحل واحملوا الطفل وزوروا به مقامات أولياء الله الصالحين وداووه بالتمائم والأعشاب الطبيعية فسيشفى بإذن الله!".

زار الصبي المنكوب قباب أولياء كثيرين وتجرع من صالح وطالح عصائر الأعشاب والنباتات ما لا يحصى وحمل من التمائم ما خف وزنه وما ثقل. زادت حالته الصحية تدهورا وكبر عالة على أهله وعشيرته. ترعرع الصبي في تلك البيئة القاسية وكان لا يحب المكوث في مأوى والديه ولو لفترة قصيرة. لم يكن يعرف المدرسة ولا أين توجد وكان يهوى المزاح مع أقرانه وإطلاق ألفاظ تخدش حياء الناس في بيئة محافظة جدا. كان بالخصوص يفضل إطلاق العنان لعباراته النابية كلما رأى جمعا مختلطا من النساء والرجال.

كانت عائلة كثيرة الأفراد تقطن بجوار مأواه. كانت تتكون من رجل وزوجته وأولادهما الثلاثة المتزوجين وأولادهم التسعة. بلغ لمسمع "موحاو سعيد" أن جيرانه بصدد الذهاب مجتمعين إلى قرية قريبة لحضور عرس. بدأ يتلصص أخبار رحلتهم كلما سمحت له الفرصة بذلك. كان يعرف أنهم سيغادرون منزلهم في ذلك اليوم الحار وكان يوم سوق. اتفق الأولاد الثلاثة المتزوجون الذين كانوا يتبضعون آنذاك في السوق القريب من مكان العرس المقرر إقامته أن يبعثوا بمشترياتهم إلى المنزل عن طريق أحد معارفهم على أن يلاقوا بعد ذلك بقية أفراد الأسرة في مقر العرس. اختبأ "موحاو سعيد" وراء شجرة زيتون ضخمة أمام منزل الجيران المدعوين للعرس وهو يسترق السمع لأحاديثهم ومداولاتهم. فهم أنهم منهمكون في الاستعداد للسفر فعرف أن الفرصة مواتية لإطلاق كلمات محرجة جدا لا سيما أن الجمع المختلط يشمل ثلاث عروسات وأم الأولاد المتزوجين وبعلها العجوز. فجأة خرج الجميع من المنزل فحصن "موحاو سعيد" مخبأه حتى لا يراه أحد. تبعهم بخطى ثقيلة إلا أن الرجل العجوز أحس بحركات دؤوبة خلفه فاستدار فلقي الفتى العجيب يتلقف آثار الراجلين أمامه. أحس رب الأسرة بورطة قد تخدش حياءه وحياء من معه فطارد "قوع" حتى يبعده. جرى وراءه حتى أوصله إلى ما وراء تل صغير. عاد إلى النسوان المرافقات له مزهوا بنفسه ومعلنا تفوقه على "قوع" المخبول: "لقد نجحت في اتقاء شر هذا الغبي خلافا لبعض الرجال ذوي التجربة الناقصة والذين بنى لهم قوع أفخاخا لا مثيل لها!". أمر الرجل النساء بمواصلة السير وإذا بالبطل "قوع" يناديه من أعلى التل: "يا خالي موح يا حبيبي الغالي!". استدار الجميع نحو مصدر الصوت فأطلق "قوع" قنبلته المدوية على مسمع من السيد "موح" المحترم والنساء المرافقات له: "عار عليك يا سيدي، أترافق جمعا من النساء وأنا لا أملك من الحريم شيئا؟ ألا تعطيني واحدة منهن لأباشرها؟". أحس الجميع بحياء حاد وحشمة شديدة فتفرقوا ولم يعد أحد يستطيع الحديث للآخر ولا حتى النظر في وجهه. أحس الرجل العجوز بمرارة الهزيمة أمام إنسان يعتبره الكل مخبولا غبيا. هزم الأحمق رجلا كان إلى وقت قريب يعتبر نفسه سيد العقلاء وكبير الحكماء. عاش "موحاو سعيد" سنوات طوالا فشغل الناس بنوادره ولكن لا أحد منهم تذكر يوما أن مصدر إعاقته جهل الإنسان وظلاميته...



#إبراهيم_منصوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما يحتضر الفرس وتلام المرأة
- ...وسار على الدرب عاما حافي القدمين
- أربع وعشرون ساعة في أمستردام
- قصة قصيرة ولكنها من الواقع: (الفحام الوقح الجريء: زوجته وأتا ...
- بوكماخ في بلاد السنغال
- ذكرى الوالدة
- في مدح النمو: أشعار في مفهوم غير مفهوم
- قصيدة شوق جديدة: من اللسان الأمازيغي إلى لغة الضاد
- في مدح صاحب الجلالة أصل النمو: حفنة أشعار في مفهوم الادخار
- شركات الأمن الخاص بالمغرب: احترافية متدنية واستغلال بشع للعم ...


المزيد.....




- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم منصوري - أحمق يهزم عاقلا