أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - جان ميشيل باسكيا .. فنه أم موته المبكر صنع أسطورته؟















المزيد.....

جان ميشيل باسكيا .. فنه أم موته المبكر صنع أسطورته؟


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 3093 - 2010 / 8 / 13 - 20:33
المحور: الادب والفن
    


السؤال الذي حكّ ذهني وأنا أتجول أمام أعمال الفنان الأمريكي الذي رحل شاباً، جان ميشيل باسكيا، المقام له معرض استعادي شامل في متحف بايلار في مدينة بازل بمناسبة مرور خمسين سنة على ميلاده، هو: كيف كان ليرى هذا الفنان أعماله هذه لو أنه قام الآن من موته الذي مر عليه أكثر من عشرين سنة؟ سؤال لا محل له من الإعراب من وجهة النظر النقدية، وإن كان مثيرا للتأمل من وجهة النظر الفنية، اعتبارا لكون الفن معنياً بالمعنى وبسؤال الوجود مثلما هو معني بالعابر والتافه من التفاصيل اليومية للعالم. لكن السؤال، رغم هذا الافتراض المستحيل، ربما يكون أشد وقعا هكذا: كيف كان لينظر الفنان إلى حياته البارقة في مجملها (سبعة وعشرون عاما)؟ هل كان ليقبل أن يحياها، في تكرار أبدي، بكل تفاصيلها العبثية وحتى نهايتها المبتورة الحزينة؟ بل كيف رأى هذا الفنان شريط التفاصيل التي عاشها لحظة غرقه النهائي في جرعة المخدر الزائدة، وحيدا في مرسمه في أوج مجده المراهق؟ نماذج تكررت بالصورة نفسها، وفي السن نفسها، وبالطريقة ذاتها: عازف الجيتار الانجليزي الخارق جيمي هندريكس، المغني والشاعر الأمريكي جيم موريسون، مغنية الروك الأمريكية جانيس جوبلن... كل هؤلاء سبقوه بعشرة أعوام بالجرعة الزائدة نفسها، وسط طريقة حياة وطبيعة شخصية لا تعرفان الشبع ولا تعترفان بالوسطية والاعتدال. روح جامحة منذ بداياتها، ولكن قبل أن تشتعل وتحرق نفسها، كانت بالفعل قد أدركت الخلل الداخلي الذي لا يمكن اصلاحه، ثقبها الأسود. هنا يكون الجنوح نحو التعبير، والانحياز المتطرف لأقصى اليسار الفني، لو جاز التعبير، كما في الوقت ذاته حَبْوُ ُ نحو الرفض والتدمير الذاتي... ربما كرد فعل ضد النجاح وضد النجومية، أو أقلّه، هو حتمية اجتماع الضدين في كل الأشياء. الجانب المعتم من القمر.

في عام 1982 دخل باسكيا عالم الفن من أوسع بواباته حين عرضت أعماله في دوكيومينتا كاسيل الذي هو أكبر حدث فني في العالم يقام كل أربع سنوات في المدينة الألمانية التي تحمل الاسم نفسه، جنب فنانين بحجم الجبال مثل يوزف بويز وآندي وارهول وجيرهارد ريشتر وسي تومبلي... وآخرين كثر لا تقل أسماؤهم لمعانا. كان باسكيا وقتذاك في الحادية والعشرين من عمره، سيكون أمامه ست سنوات فقط لحياته وعمله. كان حتى عامين قبل ذلك "ابن شوارع"، يلون ويكتب على حوائط المدينة، جرافيتي، ويرسم الفانلات وعلى ورق بحجم الكارت بوستال ليبيعها بثمن ساندويتش وزجاجة بيرة. آتٍ من قاع المجتمع الأمريكي حيث التمييز العنصري والهوة بين الطبقات لا انسانية وساحقة. الأب من أصل هاييتي، والأم من أصل أفريقي. وهبَه هذا اللسانين، الأسباني والفرنسي، إلى جانب لسانه الأمريكي. انسان أسود هو إذن. سيصبح بعد قليل الفنان الأسود، وسريعا سيأخذ مكانه في تاريخ الفن كأول فنان أسود يصل إلى جدار العالمية في هذا السن الصغير (ربما لن يكون الأول حين نفكر في مايكل جاكسون). وقريبا أيضا سيتلاشى هيكله ولا يبقى منه سوى اسمه وأشباحه التصويرية التي بعثرتها لامبالاته الفنية على سطح ذلك الجدار. الطفل العبقري، كما وصفوه، ترك المدرسة والبيت مراهقا وسرح بمواهبه المتعددة في شوارع نيويورك حيث ولد وكبر في بروكلين: رساما، موسيقيا، وراقصا. فنان حياة، كما يطلق عادة على من يختار هذه الطريقة في الوجود طريقا. رسمه وكتاباته على الحوائط كانت فعلا ثوريا. معادلةً يحاول صاحبها من خلالها تحقيق الـ"أنا موجود" بفعل الـ"أنا أرسم".

بعد أن توقف باسكيا عن أن يكون فنان جرافيتي وبدأت أعماله تعرف طريقها إلى قاعات العرض، لم يترك شيئا وقع تحت يده إلا لوّثه بكتاباته وتهويماته التصورية: ألواح خشبية ملتقطة من الشارع، أبواب وشبابيك مخلوعة من أطرها، صناديق، قطع الأثاث، الثلاجة (هذه الثلاجة القديمة الملوثة برسم جمجمة آدمية مستطيلة الشكل وشخبطة من خطوط وحروف كلمة "زفت" واحدة من الأعمال المعروضة في هذا العرض)... أي شيئ له سطح يصلح لبصقة شكل أو لون أو كلمة يخضع في الحال لمجاله التصويري الارتجالي حد التفكير في أن الرسم لباسكيا كان هاجسا بنفس القدر الذي كان فيه الموت هاجسا بالنسبة له. تداخل الهاجسان وأصبحا واحدا، فأعماله في تلك المرحلة اختصرت، بحسٍ هزلي، شكلا مركزيا يشبه الهيكل العظمي أو القناع أو الجمجمة وسط مستنقع لوني تهتز فوقه الأحرف والكلمات غير ذات المعني المباشر لكن الموحية بالسخرية أو النقد أو القرف. لاحقا سوف تمتلئ سطوح أعماله الضخمة التي يتخطى طولها الخمسة أمتار وارتفاعها المترين تقريبا، بكل الأشكال المتحورة من اللقطات اليومية في حياةِ مكانٍ كنيويورك الثمانينيات، من يد هي تجسيد للارتجال والعفوية لسخرية سوداء لم تفقد طفوليتها بعد. هل هذا البعد الطازج هو الذي أضفى على أعمال باسكيا تلك الطاقة الهائلة المنبعثة من ألوانه وأشكاله؟ إن تمظهر هذه الطاقة في عمله هو ما حدا بفنان كآندي وارهول أن يقوم مع باسكيا بتجربة العمل معا على سطح واحد، تجربة أثمرت أكثر من مئة وخمسين لوحة استفاد كلاهما منها فنيا دون شك، حيث انتبه باسكيا، في تجريبه الفني، إلى تكنيك الطباعة على الحرير الذي اعتمد عليه وارهول أساسا في أعماله التصويرية. فرنشيسكو كليمنتا أيضا سوف يدعو باسكيا للعمل في تجربة مشابهة.

بإيقاع أشكاله حقق باسكيا على سطح لوحته شيئا شبيها بموسيقى الهيب هوب التي تبناها وكان ينظم لها حفلات عشوائية بمنطق الحدث الفني. في هذا المجال، استفاد باسكيا من نظرية الفنان والمؤلف الأمريكي جون كيدج الذي اعتبر الصخب والأصوات، القريبة والبعيدة، العالية أو الخفيضة، التي تحدث أثناء عزف موسيقاه، جزءا داخلا في نسيج الموسيقى لا يمكن فصله عنها، بحيث تصبح وليمة الأصوات غير المتجانسة تلك هي الموسيقى ذاتها كما هي الحدث الفني. مثل هذا الحدث لا يصلح التجهيز والتخطيط له، وبالتالي فإن بيرفورمانس كهذا لا يمكن التنبؤ بمكان أو زمان حدوثه. هنا يصبح الفن ضد فكرة الفن نفسها، وتجاهد الصورة كي تنجو من جحيم فكرتها لتحقق فرادة وجود لا يتكرر ولا يمكن التنبؤ بأبعاده. إنه الرسم كفعل مستمر وليس كنتيجة. منطق العمل الفني لدى باسكيا، وقبل ذلك آلية عمل سيكلوجيته، وجدت في هذه النظرية قنوات تضخ خلالها طاقتها وعفويتها وتوقها للتعامل الصريح والمباشر المتعذر تحققه في ضمير الواقع المعيش. رسمه الذي لا يطمح لأي كمال، وأشكاله المتأرجحة بين التعبير والحس الهزلي، ومساحاته المصمتة بالألوان القوية، وكتاباته المهشّرة والمطموس بعضها عن عمد لكي تُقرأ بفضول وتركيز أكبر، وتراكيبه الضخمة من أبواب ودواليب وعوارض خشبية مثبتة جنب أو أمام مساحات القماش المرسوم، وكولاجاتة المقصوصة أو المرسومة والمكتوبة والمصورة بالفوتوكوبي والملصوقة إلى بعضها البعض كما لو كانت صفحة وفيات في جريدة... كل هذا العنف الغريب العائش بنشاز منسجم في مساحة العمل الفني أصبح، بفعل الزمن وبلا قصد من صاحبه، جغرافيا بصرية يمكن أن نقرأ فيها المزاج الثقافي والأخلاقي لحقبةٍ ومجتمع، شهادة فنية على مكان وزمان.

في مرحلته الأخيرة التي عاد فيها إلى مركزية الشكل الأوحد في وسط اللوحة، بدت أعماله وكأنها نبوءات بموته القريب: مساحات ضخمة هي عوارض خشبية غير منتظمة الأطراف مرصوصة بعضها إلى جانب البعض ومدهونة باللون الذهبي، يعوم في وسطها رسم لقناع أو شبه هيكل عظمي مرسوم بتأملية وعمق أكبر كثيرا من مثيلات هذه الأعمال التي انجزها الفنان في بداياته والتي فيها انعكاس لهاجس الموت، وكأنه هنا يود ملامسة ذلك الظل الداخلي الذي يقترب، عبر كثافة الخطوط والتفاصيل التي لم تعدم حسا يفضح رغبة عميقة وربما غير واعية في ترك الشكل ناقصا. إنه النقص الذي يهب الشكل توترا وحيوية، تماما كما يهب الموتَ المبكر هالته الذهبية وأسطورته.
برحيل آندي وارهول، صديقه ومكتشفه وسنده الكبير، سنة 1987، زاد شعور باسكيا بالعزلة والوحشة والاكتئاب. كان قد حاول التوقف عن المخدرات قبل هذا، لكنه لم يجد غيرها في محنته تلك. شهور... إلى كانت كانت الجرعة القاضية. غرق طويل وبطيء وعميق في حيز لحظة قصيرة من حياة الوعي لا عودة منها، وحيدا، ممدا على الأرض حيث كان يفرش لوحاته ليعمل عليها. صور كثيرة كانت قد جمعت هذين النجمين معا وثالثهما جرح كبير، حتى في أكثر الصور مرحا، لم ينجحا في اخفاء حزن هائل راسخ هناك كجبل من طين. وكأن لكمة غير بشرية قد مرقت بلا رحمة من وجودهما فحطمت منهما ما لا يمكن تعويضه.



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سبنسر تونيك .. كما نبي يقود أمته عرايا يوم الحشر
- عن النقد والفن في مصر .. حوار
- هيلموت نيوتن .. الفن رغماً عن أنف ما يصوره الفنان
- مان راي .. أنامل الفنان على أوتار الجسد وظلاله
- من ثقب الكاميرا: حقيقة الجسد أم وهم خياله؟
- تجربة رانيا الحكيم بين الحركية والغنائية في معرض بالقاهرة
- نينار اسبر .. جسدها آلة تعزف عليها قناعاتها
- يوسف نبيل .. الجسد مثقوبا بوجوده
- حمدي عطية وخريطة الجسد
- دينا الغريب .. وردة الرغبة في حقل جسم ملتبس
- عاصم شرف .. الواقع معكوساً في مرايا الرقص
- روح مصر كما يفهمها ثلاثة فنانين عيناً وقلباً
- سمر دياب .. أجساد مفتتة في سوريالية الوجود
- محمود سعيد .. الأرستقراطي الذائب في جسم بنت البلد
- محمود مختار والجسد الناهض
- جسد جبران
- السوريالي المعكوس حامد ندا .. لاوعي الواقع في وعي الفنان
- الجسد العربي في وعي الفن
- القبلة بين الالتحام والانفصال
- من العيون في العيون 3


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - جان ميشيل باسكيا .. فنه أم موته المبكر صنع أسطورته؟