أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - الوضعية المنطقية وقضايا المعرفة















المزيد.....



الوضعية المنطقية وقضايا المعرفة


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3093 - 2010 / 8 / 13 - 03:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تعود الوضعية المنطقية الى جملة من المفكرين المعاصرين أمثال شليك وفايسمان وريشنباخ وكارناب وغيرهم. وخاصيتها الاساسية هي أنها تعترف بوجود مشكلة منطقية للاستقراء كتلك التي كشف عنها هيوم، لكنها تعتقد بالقدرة على تخفيف عبئها دون القضاء عليها.
وتعتمد الطريقة التي اتبعتها في ذلك على النظرية العامة في التمييز بين المعارف التركيبية والتحليلية، حيث لا يوجد هناك قسم آخر للمعرفة سوى ما يخص القضايا الميتافيزيقية التي تصفها بأنها لا معنى لها.
والقضايا التركيبية ما هي الا معارف كاشفة عما يوجد في الواقع الموضوعي، لذا كانت تخبر بشيء جديد؛ باعتبار ان نتائجها غير منزوعة عن مقدماتها، فيقتضي الاستدلال عليها بطريق الاستقراء.
اما القضايا التحليلية فهي معارف لا تخبر عن الواقع بشيء جديد؛ وذلك لأن نتائجها مستبطنة داخل مقدماتها، او ان المحمول فيها منتزع عن نفس الموضوع.
ويُعد جون لوك اول من فرق بين هذين النوعين من القضايا، فلقب الاولى بالحقيقية، والثانية بالتافهة. ثم اتبعه في ذلك هيوم ومن بعده كانت - مع شيء من الاختلاف - وأخيراً الوضعية المنطقية .
وبحسب الوضعية المنطقية أنه لا يمكن استخلاص الدليل الاستقرائي من القضايا التحليلية؛ باعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند الى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف لنا معرفة جديدة. فحينما نقول ان (أ) هي (أ) لا نضيف معرفة الى الموضوع، اذ المحمول هنا يمثل عين الموضوع تماماً، وهذا هو علة كونه يتصف بالضرورة واليقين. وعلى ما يقول ريشنباخ: (القول ان كل شيء في هوية مع ذاته، وأن كل جملة إما صادقة وإما كاذبة - أي (أن تكون أو لا تكون) بالمعنى المنطقي - هي مقدمات لا يتطرق اليها الشك، ولكن عيبها أنها بدورها فارغة، فهي لا تذكر شيئاً عن العالم الفيزيائي، وانما هي قواعد نستخدمها في وصف العالم الفيزيائي، دون أن تسهم بشيء في مضمون الوصف. فهي تتحكم في صورته وحدها، أي في لغة وصفنا، واذن فمبادئ المنطق تحليلية) .
بهذا المنطق اعتبرت الوضعية أن القضايا التحليلية لا يمكنها أبداً أن تبرر لنا طبيعة الدليل الاستقرائي المتصف بان نتائجه اعظم من مقدماته، وهو علة كونه يقبل التكذيب والتخطئة. فقد يأتي يوم نرى فيه الحديد لا يتمدد بالحرارة فنكتشف خطأ التعميم الذي بنيناه من غير تناقض . لهذا فان الوضعية حذرة من استخدام التعميمات واليقينات، فهي لا تتحدث عن مطلق افراد القضية الاستقرائية، بل تكتفي ان ترى فيها فئة تقيم عليها حدود الترجيح والاحتمال دون ان تمنحها درجة التعميم واليقين.

تبرير الدليل الاستقرائي
لقد رفضت الوضعية المنطقية كل ما له صلة بالتعميم واليقين ضمن العملية الاستقرائية. ومن مفكري هذه المدرسة من رفض الحديث حتى عن الصيغ الاحتمالية للتعميم الاستقرائي، معتبراً ذلك بلا معنى. فالتعميم إما ان يعبر عن حقيقة او كذب، لكنه لا يخضع لاعتبارات الدرجة الاحتمالية . فمثلاً ان كارناب يعد احتمال التعميم الاستقرائي صفراً، فلا امل يرجى من تأييد التعميمات والفروض الكلية، بل عنده ان التعامل يكون عالقاً بالنماذج الخاصة، شبيهاً بقاعدة ستيوارت مل التي تقر الاستنتاج من الخاصيات الى الخاصيات. وبنظر الاستاذ باركر انه في العلم النظري قد تكون الفروض الكلية اكثر ضرورة للتوظيف والاستخدام من تلك الخاصيات، رغم انه لا يوجد شيء يمكن ان يعمل على تأييد الفرض الكلي .
واهم تبرير تستند اليه الوضعية المنطقية في رفضها التسليم بالتعميم واليقين، هو لاعتقادها ان ذلك لا يتم الا عند افتراض وجود مبدأ قبلي يسيّر العملية بهذا الاتجاه، وذلك كمبدأ الاستقراء الذي اعتبره البعض ضرورة أساسية لا مناص عنه، كما جاء عن برتراند رسل (سنة 1944)، حيث رأى انه لا يمكن ان يجاب عما اذا كان المستقبل سيحدث كالماضي، ما لم نسلم سلفاً بمبدأ الاستقراء، فنحن إما ان نتقبل هذا المبدأ بصورة اولية قبلية، او نعمل على طرح كل التبريرات والقناعات الخاصة بالتوقعات المستقبلية، ومن ثم ليس هناك ما يبرر لنا ان نتوقع ان الشمس ستشرق غداً، او نتوقع اننا لو رمينا انفسنا من الطابق العلوي فسنسقط الى الاسفل . فحتى عندما نعلم ان المستقبل قد اصبح ماضياً وهو على نفس وتيرة الاطراد والتماثل مع الماضي، فنكون ذوي خبرة حول ما يطلق عليه المستقبليات الماضية، الا ان ذلك لا يحل لنا المشكل المتعلق بخصوص المستقبل الذي لم يتحقق بعد، او ما يطلق عليه مستقبليات المستقبل، اذ كيف يمكن ان نتحقق من انه على تماثل واطراد مع مستقبليات الماضي ما لم نفترض مبدأ الاستقراء سلفاً؟! فنحن لا نعرف ان المستقبل سيكون تابعاً لذات القوانين التي يخضع اليها الماضي من غير ان نكون حاملين ذلك المبدأ بشكل قبلي . هكذا اذا كانت الادلة على التنبؤ بالمستقبل صحيحة، فان الذي يجعلها كذلك هو مبدأ الاستقراء. واذا لم يكن هذا المبدأ صحيحاً فان كل محاولة للوصول الى القوانين العلمية العامة، عبر المشاهدات الخاصة، تكون وهماً وخداعاً، وبالتالي ليس بالامكان الاستدلال على هذا المبدأ عبر الاطرادات المشاهدة اذا ما اردنا لانفسنا ان لا نقع في الدور. كذلك فان التجربة عاجزة عن ان تثبت او تنفي هذا المبدأ، وهي عاجزة ايضاً عن ان تقول لنا شيئاً بخصوص الاشياء المستقبلية وغير المشاهدة، فلا يبقى - اذن - غير ذلك المبدأ مبرراً للتنبؤ بها .
والملفت للنظر ان رسل يعمم تطبيق مبدأ الاستقراء حتى على قانون السببية العامة، اذ يرى ان الاعتقاد بهذا القانون ناتج عن مبدأ الاستقراء ذاته، اذ يلاحظ ان الحوادث تقترن باسبابها باستمرار، ولا يوجد مبرر لتعميم هذا الامر الا من حيث افتراض مبدأ الاستقراء سلفاً . مع انه في كتاب (المعرفة الانسانية) اعتبر ان معرفتنا للعالم الطبيعي الخارجي تعتمد كلية على افتراض وجود قوانين السببية، اذ نحن لا نتحسس بالاشياء الخارجية مباشرة، بل ان خبرتنا مقيدة باحساساتنا، وبالتالي فان الاعتقاد بان وراء هذه الاحساسات حقائق خارجية يتطلب الايمان بالسببية سلفاً . ولا شك ان هذا الاعتراف يجعل من الاعتقاد بقانون السببية لا يتوقف على مبدأ الاستقراء، وذلك باعتباره قبلياً هو الاخر، بل ومتقدماً عليه.
على ان الوضعية لم تقتنع بالنتيجة السابقة التي انتهى اليها رسل، اذ ترى أنه لو كان هناك مبدأ قبلي سابق على التجربة؛ لكان لابد أن يتصف بالضرورة الصادقة ضمن القضايا التحليلية التي لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي، مع أن مبدأ الاستقراء فيه دلالة واقعية واضحة، وكما يقول فتجنشتاين، وهو من القريبين عن الوضعية والمحسوب عليهم: (وما يسمى بقانون الاستقراء لا يمكن بأية حال أن يكون قانوناً منطقياً، اذ من الواضح أنه قضية ذات دلالة خارجية، ولذا فهو لا يمكن ان يكون قانوناً أولياً كذلك) .
الا أن هذا الفيلسوف الذي رفض الاساس المنطقي للاستقراء لم يجد أمامه سوى تفسير الحالة على النحو النفسي كما صنع هيوم. فهو يقول: (وعلى أي حال فان هذه العملية - أي عملية الاستقراء - ليس لها اساس منطقي، بل اساس نفسي فقط، فمن الواضح انه لا وجود لاسس نعتقد بناء عليها في ان أبسط مجرى للاحداث هو الذي سيحدث حقيقة). وقد مثّل على ذلك بشروق الشمس، فاعتبر ان افتراض كونها ستشرق غداً يتفق مع الخبرة التي الفنا فيها الشروق كل يوم باطراد . ومع ذلك فان فتجنشتاين يختلف عن هيوم في كونه يثبت النتائج المحتملة للعملية الاستقرائية، وبالتالي ينزع عليها قالباً من الشكل المنطقي. وهي نتيجة يتفق عليها كافة أقطاب المنطق الوضعي. فمثلاً أن ريشنباخ يوافق هيوم على مقولته بأن الاستقراء عادة، لكنه لا يقف عند هذا الحد، بل أقر استقلال المشكلة المنطقية التي من خلالها يُخاط ثوب المعرفة الدقيقة للقضايا الاستقرائية .

التنبؤ والاحتمال
تعتبر خاصية التنبؤ والإخبار عن الواقع من الخصائص الرئيسة التي تمتاز بها القضية الاحتمالية. وقد ظن الكثيرون ومنهم الوضعية المنطقية ان هذه الخاصية تبرر نفي الحكم العقلي للاحتمال وإعتباره حالة من الحالات المستنتجة بالدليل الاستقرائي. يقول ريشنباج: (إن صاحب المذهب العقلي يرى ان درجة الاحتمال نتاج للعقل في حالة إنعدام الأسباب المعقولة. فاذا ألقيت قطعة نقود فهل ستظهر الصورة أم الكتابة؟ هذا أمر لا أعلم عنه أي شيء، وليس لدي من الاسباب ما يجعلني أومن بأحدى النتيجتين دون الاخرى، لذلك أنظر الى الامكانين على أنهما متساويان في درجة إحتمالهما، وأعزوا الى كل منهما احتمالاً مقداره (نصف). وهكذا ينظر الى انعدام الاسباب المقبولة للعقل على انه سبب لافتراض تساوي الاحتمالات. هذا هو المبدأ الذي يرتكز عليه تفسير المذهب العقلي للاحتمال. ويرى صاحب المذهب العقلي ان هذا المبدأ الذي يُعرف باسم مبدأ السوية او مبدأ انعدام السبب الذي يبرر الموقف المضاد، هو مصادرة منطقية، وهو يبدو له واضحاً بذاته، شأنه شأن المبادئ المنطقية. غير ان الصعوبة في تفسير الاحتمال على هذا النحو هي انه يؤدي الى التخلي عن الطابع التحليلي للمنطق ويدخل عنصراً تركيبياً قبلياً. والواقع ان القضية الاحتمالية ليست فارغة، فعندما نلقي بقطعة نقود ونقول ان احتمال ظهور الصورة في الجانب العلوي نصف، فاننا نقول شيئاً عن حوادث مستقبلية. وربما لم يكن من السهل صياغة ما نقول، ولكن ينبغي ان تنطوي هذه القضية على اشارة معينة الى المستقبل، مادمنا نستخدمها مرشداً للسلوك. مثال ذلك اننا نعتقد ان من المستحسن المراهنة بنسبة خمسين في المائة على ظهور الصورة، ولكنا لا ننصح احداً بان يراهن عليها بنسبة اعلى من هذه. والواقع اننا نستخدم القضايا الاحتمالية لانها تتعلق بحوادث مقبلة. فكل عملية تخطيطية تقتضي معرفة معينة بالمستقبل، واذا لم تكن لدينا معرفة ذات يقين مطلق، فانا نقبل استخدام المعرفة الاحتمالية بدلاً منها. ويؤدي مبدأ السوية الى ايقاع المذهب العقلي في الصعوبات المألوفة التي عرفناها من خلال تاريخ الفلسفة، فلِمَ كان ينبغي على الطبيعة ان تسير وفقاً للعقل؟ ولِمَ كان يتعين على الحوادث ان تكون متساوية في احتمالها، إن كانت معرفتنا بها تتساوى في كثرتها او قلتها؟ وهل الطبيعة متطابقة مع الجهل البشري؟ ان امثال هذه الاسئلة لا يمكن الاتيان برد إيجابي عليها، والا لكان على الفيلسوف أن يؤمن بوجود إنسجام بين العقل والطبيعة، اي بالمعرفة التركيبية القبلية. ولقد حاول بعض الفلاسفة ان يأتوا بتفسير تحليلي لمبدأ السوية. وتبعاً لهذا التفسير لا يعني القول بأن درجة الاحتمال نصف أي شيء عن المستقبل، وإنما يعبر فقط عن أن معرفتنا عن وقوع هذا الحادث لا تزيد عن معرفتنا عن وقوع الحادث المضاد. وفي هذا التفسير يسهل بطبيعة الحال تبرير الحكم الاحتمالي، ولكنه يفقد طابعه بوصفه مرشداً للسوك. وبعبارة أخرى، صحيح أن الانتقال من الجهل المتساوي الى الاحتمال المتساوي يكون عندئذ تحليلياً، لكن يظل علينا أن نفسر الانتقال التركيبي. فاذا كانت الاحتمالات المتساوية تعني جهلاً متساوياً، فلماذا ننظر الى الاحتمالات المتساوية على أنها تبرر المراهنة بنسبة خمسين في المائة؟ في هذا السؤال تعود نفس المشكلة التي قصد من التفسير التحليلي لمبدأ السوية ان يتجنبها) .
ويلاحظ ان هذا النص يثير مشكلتين، احداهما تخص مبرر قيام المطابقة بين العقل والطبيعة، وهي ما سنبحثها فيما بعد. أما الاخرى فتتعلق بنفي الصبغة العقلية للاحتمال، وذلك من خلال اثبات خاصيته التنبؤية. وهي مشكلة سنتعرض الى مناقشتها، حيث سنعرف ان صفة الإخبار ليست منافية لخاصة الضرورة التي تمتاز بها الاحكام العقلية. ونحن نعتقد ان الاحتمال هو من القضايا التي تمتاز بهذه الخاصة، فعلى الاقل هناك صنف منه يتصف بوجود علاقة منطقية ثابتة، كما هو الحال مع الاحتمالات الثابتة لالعاب الحظ والمصادفة ذات الاشكال المنتظمة، حيث العلاقة الضرورية فيها لا تمس الجانب المنطقي فحسب؛ انما هي ايضاً تعكس حكم الضرورة الاخباري عبر التقدير الثابت ضمن شروط محددة. أما مبدأ السوية او ما يطلق عليه عدم التمييز فيعني انه لا يجوز ترجيح حالة على غيرها من الحالات ما لم يكن هناك سبب ما للترجيح. فالترجيح الحاصل في الحالات المتماثلة يفضي الى عدم الاتساق، وهو بهذا المعنى يكون مستلهماً من مبدأ السببية العامة، بغض النظر عما اذا كان ذلك يدعو الى ضرورة الحكم بتساوي الحالات، كما لو ثبت ان هناك تماثلاً بينها، او ان الامر لا يدعو الى مثل هذا الحكم الا بحسب الفرض والتقدير، وذلك فيما لو كنا نجهل طبيعة التماثل بينها.
***
مهما يكن فغالباً ما يتخذ الحل الوضعي للمشكلة المنطقية مسلكاً يعتمد فيه على حسابات الاحتمال المستخلصة بدورها من علمية استقرائية سابقة تبرر تقدير القيمة الاحتمالية لقضية الاستقراء التي تواجهنا. فمثلاً يقول ريشنباخ: (الواقع أن تفسير الاحكام التنبؤية بأنها ترجيحات يحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة، وأعني بها مشكلة الاستقراء. فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للاستقراء، لأنها لم تكن قد تحررت من مصادرة أساسية من المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يمكن تبرير المنهج الاستقرائي، اذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدي الى نتائج صحيحة. ولكن الامر يختلف عندما تعد النتيجة التنبؤية ترجيحاً. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة الى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد او حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا البرهان يمكن الاتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الاستقرائية. ويقضي هذا البرهان مزيداً من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول ان النتيجة الاستقرائية لها درجة عالية من الاحتمال، بل انه يستلزم تحليلاً للمناهج الاحتمالية، وينبغي ان يكون مبنياً على اسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي ان تبرير الاستقراء ينبغي ان يقدم خارج مجال نظرية الاحتمالات، لأن هذه النظرية الاخيرة تفترض استخدام الاستقراء) .
وتوضيحاً لهذه الفكرة ضرب ريشنباخ المثل التالي: (عندما نحصي التردد النسبي لحادث ما؛ نجد ان النسبة المئوية التي نتوصل اليها تختلف تبعاً لعدد الحالات الملاحظة، ولكن الاختلافات تتلاشى بازدياد العدد. مثال ذلك أن احصاءات المواليد تدل على أن 49 في المائة من كل الف من المواليد ذكور، وبزيادة عدد الحالات نجد أن الذكور يمثلون نسبة 52 في المائة بين 5000 مولود، ويمثلون 51 في المائة بين 10000 مولود. فلنفرض مؤقتاً أننا نعلم أننا لو واصلنا الزيادة فسوف نصل آخر الامر الى نسبة مئوية ثابتة - وهو ما يطلق عليه الرياضي اسم حد التردد - فما هي القيمة العددية التي نفترضها بالنسبة الى هذه النسبة المئوية الثابتة؟ ان أفضل ما يمكننا عمله هو أن ننظر الى القيمة الاخيرة التي وصلنا اليها على أنها هي القيمة الدائمة وأن نستخدمها على أنها هي الترجيح الذي نقول به. فاذا أثبتت الملاحظات التالية أن الترجيح باطل فسوف نصححه، ولكن اذا اتجهت السلسلة نحو نسبة مئوية نهائية فلابد أن نصل بمضي الوقت الى قيم قريبة من القيمة النهائية. وهكذا يتضح أن الاستدلال الاستقرائي هو أفضل أداة للاهتداء الى النسبة المئوية النهائية، أو درجة احتمال الحادث إن كانت هناك مثل هذه النسبة المئوية الحدية على الاطلاق، أي اذا كانت السلسلة تتجه صوب حد) .
وقد سبق الى هذه الطريقة البراجماتية الفيلسوف بيرس (سنة 1878) الذي تعتمد نظريته على ما تقدمه الاختبارات من نسبة احتمالية لتكرر الحادثة؛ عليها تقاس النسبة التنبؤية للحوادث دون حاجة لاي افتراض قبلي يخص مبدأ الانتظام او التماثل والاطراد في الطبيعة كالذي عوّل عليه ستيوارت مل من قبل. ذلك ان بيرس يرى ان النسبة الاحتمالية في السلسلة الطويلة من تكرار الاختبارات تقترب من القيمة الحدية التي عليها تقاس سائر التنبؤات المستقبلية. فعنده ان الاستقراء يعد طريقاً للوصول الى النتائج المرجاة اذا ما كانت سلسلة الاختبارات طويلة طولاً كافياً، وهي بامكانها ان تصحح اي خطأ يتعلق بالخبرة المستقبلية التي يمكن ان ننقاد اليها . وبنظر الاستاذ بريثوايت ان بيرس قد وجد بذرة تأسيسه لنظرية الاحتمال عند جون لوك، وذلك عندما تحدث هذا الاخير بشكل عارض عن قيمة احتمال التوصل الى الحقيقة من خلال حجج الادلة التي تُقدم لهذا الغرض .
اذن ان ريشنباخ وغيره من اصحاب التبرير البراجماتي للاستقراء يتفقون على عدم امكانية تبرير الاستقراء منطقياً، وذلك باعتبار ان ذلك يحتاج الى افتراض مبدأ قبلي يقر انتظام الطبيعة واطرادها على الدوام، وحيث ان هذا المبدأ ليس عقلياً لذا فلا مجال للتحقق منه، وذلك لان كل تحقيق يعتمد على الاستقراء، والاستقراء لا يمكن تبريره - منطقياً - الا عبر هذا المبدأ، وبالتالي نكون في حلقة دور فارغة، مما يعني فقدان ان يكون هناك ما يبرر معرفة المستقبل طبقاً للملاحظات الماضية. لكن مع هذا فان اصحاب الاتجاه البراجماتي يعتبرون انه اذا كان من الممكن معرفة المستقبل فانه لا وسيلة لذلك بغير اداة الاستقراء، وبالتالي فهو الاداة العملية الوحيدة رغم انهم يقرون ان ذلك غير مضمون الوثوق. فحتى ان علوماً مثل التنجيم والعرافة والالهامات وغيرها من العلوم غير العادية التي تتحدث عن المستقبل، لا يمكن قبولها ما لم تكن تنبؤاتها صحيحة عن حوادث المستقبل على الدوام، مع ان الطريقة الوحيدة التي نستكشف فيها قيمة ما تقدمه هذه الطرق من تنبؤات مستقبلية؛ هي الاستقراء لا غير. وبالتالي فليس هناك من طريقة للتأكد من الوثوق المعرفي غير اداة الاستقراء ذاتها. لكن رغم ان نجاح العلم هو دليل استقرائي موثوق لمعرفة المستقبل، وهذا ما قد يجعل منه مبرراً منطقياً للاستقراء، الا ان اصحاب التبرير البراجماتي يرفضون مثل هذا المبرر كلياً .
ومن حيث المقارنة بين اداة الاستقراء وبين اي طريقة اخرى غيره، قام ريشنباخ برسم جدول بياني لتصوير الامر ضمن حالتي افتراض الانتظام وعدم الانتظام للطبيعة، واوضح ان الدليل الاستقرائي يمكن ان ينجح في تأسيس المعرفة للحوادث المستقبلية وغير المشاهدة اذا ما كانت الطبيعة منتظمة او مطردة، لكنه يفشل اذا ما كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. في حين انه في الطرق الاخرى غير طريقة الاستقراء لا يوجد ضمان لنجاحها في انتاج المعرفة فيما لو كانت الطبيعة منتظمة، وانه ستفشل حتماً فيما لو كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. وهنا يكون من الواضح ما يمتاز به الاستقراء عن غيره من الطرق الاخرى، حيث انه ينجح في حالة انتظام الطبيعة وتماثلها، بينما ليس من المضمون ان ينجح غيره عند هذا الشرط. فهذا هو المكسب بلا خسارة الذي يعول عليه ريشنباخ في استخدام الاستقراء دون غيره من الطرق الاخرى .
وقد قدّم ريشنباخ تشبيهاً دقيقاً لهذا الغرض، فهو يعتبر ان من يقوم بالاستدلال الاستقرائي أشبه ما يكون بالصياد الذي يضطر لاختبار جانب محدد من البحر كي يلقي شباكه، رغم أنه لا يعلم إن كان سيصطاد أم لا، لكنه يعرف أنه لو كان هناك سمك فما عليه الا أن يلقي ما عنده في البحر . فكذا الحال مع التنبؤ الاستقرائي، اذ ما هو الا عبارة عن رمي الشباك في بحر الحوادث الطبيعية دون أن نعلم يقيناً إن كنا سنكسب صيداً من الحدود الترددية، مما يعني أنه لا دليل على حد التردد والتكرار، فكل ما يبنى من استدلال يفترض أنه لو كان هناك حد لأمكن التوصل اليه بالاستقراء، وهي عملية تقوم على أساس العادة بشهود الخبرات الماضية التي تجعل الدليل الاستقرائي يفترض وجود حد التردد والتكرار مؤقتاً دون أن يبرهن عليه او يصادره سلفاً .

موقف الصدر من الاتجاه الوضعي
قبل مناقشة الاتجاه الوضعي سنعرض الموقف الذي اتخذه المفكر الصدر من تفسيره للدليل الاستقرائي، رغم ما اقتصر عليه من بحث يتعلق بقضية المصادرة القبلية للاستقراء وعلاقتها بدرجة التصديق النهائية. ويتحدد هذا الموقف من خلال المقارنة التالية:
أولاً: اتفق الجانبان على أن الدليل الاستقرائي ليس بحاجة لأي مصادرات عقلية، لكنهما اختلفا في النتيجة. فهي لدى الجانب الوضعي لا يمكنها أن تكون يقينة والا فسنضطر لافتراض وجود تلك المصادرات القبلية التي تبرر ذلك من خلال تحويل الاستقراء الى عملية قياسية يتحكم فيها العام بالخاص. أما لدى المذهب الذاتي فان الاستقراء يمكنه أن يحقق درجة اليقين في النهاية من غير اقتضاء للاشكال السابق، حيث تظل العملية استقرائية لا تتحول الى شكل القياس، ولا هي بحاجة الى افتراض المصادرات العقلية. لكن حالة تحقيق اليقين لا تتم عن طريق البرهان، وانما تتم عبر افتراض مصادرة قابلة للتبرير ضمن شروط مناسبة، والتي منها عدم وجود ما يبرهن على تبرير ثبات الاحتمال المضاد لليقين المفترض .
ويمتاز هذا اليقين بحالة خاصة تجعله لا يستمد قوته من منطق الضرورة والحتمية، وانما يستمدها من ذات الطبيعة التي جُبل عليها الانسان بتنمية معارفه آلياً. فاليقين بهذا الاعتبار ليس الا شكلاً عملياً بوجه ما من الوجوه. وهو من هذه الناحية يتشابه مع اليقين الذي اقرت به الوضعية كصيغة عملية، رغم ما بينهما من اختلاف اساس. اذ يمثل اليقين الوضعي استجابة عملية تنبعث من مركز السلوك النفسي المتمثل بالعادة، وهو لهذا لا علاقة له بالشكل المنطقي من المبررات، بخلاف ما عليه اليقين (العملي) لدى المفكر الصدر، حيث يتصف بكونه مشدوداً الى المبررات التي تفرضها عليه حسابات الاحتمال رغم طبيعته الالية.
ثانياً: اتفق الجانبان كذلك على ان الاستقراء ليس مستقلاً عن مبادئ الاحتمالات، لكنهما اختلفا في مصدر وقيمة هذه المبادئ. فهي لدى المفكر الصدر صحيحة ومفترضة قبل الاستقراء، الا انها لدى المنطق الوضعي ليست مفترضة، بل مستدل عليها باستقراء سابق يمنحها قيمة مرجحة تقبل التغيير بحسب ما تكشف عنه الخبرات الاستقرائية اللاحقة.
وهذه النتيجة جعلت من المذهب الوضعي يقر بعدم افتراض بداية محددة للمعرفة. اذ كل معرفة لها مبررات احتمالية تنشأ عن استقراء سابق تبرره احتمالات اخرى، وهكذا الى ما لا بداية له. وهي نتيجة لم يوافق عليها المفكر الصدر، حيث اعتبر ان عدم تحديد المعرفة ببداية يفضي الى احالتها من الاصل .
ومع ذلك فهما يتفقان على ان الاحتمال الذي يقوم عليه الاستقراء لا يمكنه ان يبرر وجود اليقين في القضية الاستقرائية.
ثالثاً: اختلف الجانبان حول وجهة النظر المتعلقة بالنسبة لعلاقات السببية؛ فأفضى الامر الى اختلافهما بخصوص تبرير الدليل الاستقرائي. فالاتجاه الوضعي يرى ان السببية العامة فيها من الشمول ما يعجز الاستقراء عن ترجيحها، وهو في جميع الاحوال ينفي ان تكون لها دور مفيد للعملية الاستقرائية، بل اكثر من ذلك انه لا يعلق المعرفة التنبؤية على مطلق السببية سواء كانت عامة او خاصة ، وانما ينظر اليها نظرة أي قضية واقعية اخرى ، وذلك انها - على رأيه - لا تتضمن الضرورة التي هي من شأن القضايا التحليلية. في حين ان المفكر الصدر علّق المعرفة التنبؤية على اثبات المعطى الموضوعي للسببية العقلية المتضمنة للضرورة.

نقد الاستقراء الوضعي
يمكن تلخيص النتائج التي انتهت اليها الوضعية في تفسيرها للدليل الاستقرائي كالاتي:
1 ـ ان الدليل الاستقرائي يستحيل عليه ان يبلغ رتبة اليقين والتعميم مادام لا يرتكز على أي مصادرة قبلية كمبدأ الاستقراء.
2 ـ ان حسابات الاحتمال هي التي تعطي للقضية الاستقرائية درجتها الترجيحية، رغم انها بدورها تستمد من عملية استقرائية سابقة، وهكذا يتوالى التراجع في الاسناد والمرجعية الى ما لا بداية له.
3 ـ تتصف النتيجة في الدليل الاستقرائي بأنها قائمة على أساس القدر النسبي من حد التردد والتكرار الذي يمكن التوصل اليه خلال العملية الاستقرائية.
ولمناقشة هذه الحصيلة من النتاج الوضعي نتبع النقاط التالية:

الاستقراء والقيمة التصديقية
لقد سبق ان عرفنا ان جوهر المشكلة الاستقرائية هي تبرير اليقين والتنبؤ بالحالات المستقبلية او الجديدة. فقد اصبح من المسلّم به في الفكر الغربي ان أي محاولة ترمي الى اثبات الحالات المستقبلية هي إما ان تقع في الدور او انها تصادر بعض المبادئ القبلية دون حق؛ كمبدأ الاستقراء.
وعلى الضد من هذا التوجه سعى المفكر الصدر الى تحقيق الغرض السابق دون استناد الى المصادرات العقلية المعروفة، بل كل ما اخذه على عاتقه هو مصادرة مبادئ الاحتمال دون ان يفضي الدليل الاستقرائي عنده الى التلبس بالشكل القياسي؛ كالذي آلت اليه المحاولات الاخرى لاستنادها الى المصادرات القبلية.
ومن الناحية المبدئية نرى سلامة ما عليه هذا الموقف في تبريره لدرجة اليقين في القضية الاستقرائية ضمن شروط، وبالتحديد لابد من التمييز بين القضايا الاستقرائية، حيث يمكن تبرير اليقين في بعضها دون البعض الآخر، اي اننا نواجه اكثر من صنف للقضايا الاستقرائية لابد من التعامل معها بشكل مختلف.

الوضعية ومبادئ الاحتمال
في الاستقراء الوضعي عرفنا أن النتائج تتخذ على الدوام قيماً احتمالية، وذلك باعتبارها تعتمد على حد التردد الذي يستخلص من العملية الاستقرائية القائمة بدورها على حد تردد سابق، وهكذا الى ما لا بداية له.
فعلى ضوء المثال الذي ذكره ريشنباخ - كما عرضناه سابقاً -، نفترض أننا قد حددنا نسبة الذكور بـ (60%) خلال استقراء شمل مائة الف مولود. فهذا الحد الذي يبرر لنا قيمة التنبؤ في الدليل الاستقرائي هو في حد ذاته محتمل، وذلك لأنه يقوم على احتمال يرجح صحة العملية الاستقرائية طالما لا يوجد لدينا دليل يؤكد عدم خطئنا في اجراء العد وحساب الترددات الخاصة بالذكور، واذا أردنا أن نحدد قيمة احتمال صوابنا فسنعتمد على القيام باحصاء آخر يواجه مثل المشاكل السابقة، وهكذا نتراجع الى ما لا بداية له.
ومن الواضح أن هذه العملية لو حللناها بدقة فسوف نرى أنها تفضي الى ان تقترب قيمة صدق النسبة المشار اليها (60%) من الصفر، وذلك لأن صدق هذه النسبة تتوقف على صدق العمليات الاحصائية السابقة لها. ومهما افترضنا أن نمنح تلك العمليات من قيم عالية فانه يستحيل أن نتخلص من التنازل الصفري، اذ ما دام بعضها يعتمد على البعض الاخر فلابد من اجراء الضرب، وحيث أن عوامل الضرب لا نهائية فيتحتم أن تقترب النتيجة من الصفر، وعندها نقطع ان النسبة المذكورة (60%) خاطئة تماماً، الامر الذي يفضي الى بطلان المعرفة الاستقرائية قاطبة. وهي نتيجة قد توصل اليها رسل في نقده لريشنباخ، لكنها لم تقنع المفكر الصدر فاعترض عليها وقال في تعليقه على بعض الامثلة: (نفترض أن قيمة احتمال وفاة الانجليزي في سن الستين: 1-2 على أساس نسبة تكرر الوفاة في أبناء الستين في الاحصاءات الرسمية، فاذا رجعنا بعد ذلك الى الاحصاءات الرسمية ووجدنا في احصاء آخر: أن نسبة الخطأ في الاحصاءات الرسمية هي: 1-10، فهذا يعني أن النسبة السابقة وهي 1-2 من المحتمل بدرجة 1-10 أن تكون خطأ، وذلك إما بأن تكون النسبة السابقة اكبر من النصف، وإما بأن تكون أصغر منه. فاحتمال الخطأ يعبر - اذن - عن امكانيتين متعادلتين: احداهما تخفض والاخرى ترفع، وبذلك تبقى قيمة احتمال وفاة الانجليزي البالغ ستين سنة: 1-2 ، لا 1-2 × 1-10) .
ما من شك ان الصيغة الرياضية الاخيرة في النص ليست دقيقة للتعبير عن الفكرة المطلوبة. كما ان النتيجة ليست صحيحة. ذلك ان درجة احتمال الخطأ في النسبة المقدرة بـ (1-2) تظل (1-10) سواء كانت رافعة او خافضة، أي ان قيمة صدق تلك النسبة هي (9-10)، وحيث اننا قد نخطئ في هذه المراجعة ايضاً، ولنفرض ان نسبة الخطأ هي نفس النسبة لكل مراجعة، وكذا نسبة الصواب، فان ذلك يعني ان صدق نسبة التقدير الاولية (1-2) تعتمد على صدق النسب في المراجعات؛ لتوقفها عليها جميعاً. وبالتالي لابد من اجراء عملية الضرب بين المراجعات ليتحدد من خلالها القيمة النهائية لصدق النسبة الاولية (1-2). وبالضرب تتنازل القيمة الى ما يقارب الصفر، او ان تصديقنا بتلك النسبة (1-2) يصبح صفراً عند اللا نهاية من المراجعات. الامر الذي يعني ان هذه النسبة هي نسبة نقطع بخطئها تماماً، وليس بوسعنا ان نضع أي نسبة اخرى بديلة، باعتبارها ستلقى نفس المصير، مما يعني ان العملية الاستقرائية تفشل في ان تؤدي دورها لتحديد أي قيمة احتمالية.
وللايضاح اكثر، لو فرضنا ان قيمة احتمال وفاة الانجليزي في سن الستين هي (80%)، وان بالمراجعة تبين لنا ان نسبة الخطأ في تحديد ذلك التقدير كانت كبيرة جداً، ولنفترض ان هذه النسبة في المراجعة الاولى كانت عبارة عن (99%)، أي ان احتمالنا لوفاة الانجليزي بـ (80%) هو احتمال في غاية الضآلة، وقيمته (1%). فهل يعقل ان نعتبر قيمة احتمال الوفاة تظل ثابتة لا تزول بحجة اننا نجهل إن كانت المراجعة لصالح الرفع او الخفض؟ ذلك انه لو فعلنا ذلك لكنا على شبه يقين بأننا على خطأ. بل لو تبين لنا بالمراجعة أننا متيقنون بالخطأ (100%)؛ فهل يعقل ان نظل متمسكين بتلك القيمة من الاحتمال للوفاة، وبنفس الحجة من اننا لم نعرف إن كان الخطأ لصالح عملية الرفع او الخفض؟!

الوضعية وحد التردد
كما علمنا ان حد التردد والتكرار لدى الوضعية يتوقف على قدر ما نقوم به من احصاء، وبالتالي فهو مؤقت وقابل للتغيير. لكن ما لذي يؤكد لنا هذه الفكرة وما هو مصدر الاعتقاد بها؟ صحيح ان ريشنباخ لا يصادر هذه الفكرة، وبالتالي فهو يعتبر انه لو كانت صادقة لأمكن الاستقراء ان يدلنا عليها . لكن ما يلاحظ انه ليس لدى ريشنباخ دليل على ما استنتجه سوى العادة المستمدة من الاستقراءات السابقة، وبهذا نعود مرة اخرى الى التفسير النفسي دون ان نملك مبرراً منطقياً ينقذنا من المصادرة على المطلوب، فاننا لم نفعل شيئاً سوى ان جعلنا اساس الدليل على القضية الاستقرائية مستلهماً من الاستقراءات السابقة.
وهناك نقد آخر، وهو ما الذي يجعلنا نثق في اكتشاف الحد حتى مع فرض وجوده، اذ ليس كل ما هو موجود قابل للاكتشاف بالضرورة. وهنا لا تصح القاعدة الاصولية التي يقرها مناطقة الفقه: (لو كان لبان). بل على العكس يصح القول: (الوجود لا يدل على الوجدان)، وذلك على شاكلة القاعدة الصحيحة: (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود). هكذا تصبح نظرية ريشنباخ مركبة على فرضين محتملين ومصادرين سلفاً، هما فرض الوجود والاكتشاف. يضاف الى ان نظرية ريشنباخ لا تتقوم الا بافتراض نوع من الاحتمال القبلي ليتحدد به الاحتمال الخاص بالحد، كما سنشير اليه فيما بعد.
كذلك فان هناك من الغربيين من نقد ريشنباخ وسالمون حول قاعدة حد التردد والتكرار، وهي انه اذا كان يمكن تطبيقها على التنبؤات في السلسلة الطويلة فانه لا يمكن فعل نفس الشيء في السلسلة القصيرة المعول عليها في المجالات العلمية والحياتية. فمثلاً ان سالمون اعتبر انه اذا كان هناك قانون طبيعي مثل القول بان (50%) من ذرات (الكاربون 14) تتحلل خلال مدة (5600 سنة)، فان ذلك القانون سوف لا يكون بصدد اي عدد محدود من ذرات الكاربون التي يمكن ان تتحلل، وانما هو بصدد التكرار الحدي في السلسلة الطويلة. والحال ان هذا الذي يذكره سالمون لا يتناسب مع التعامل العلمي والحياتي في الكثير من القضايا التي تخص المسائل المحدودة او ذات السلسلة القصيرة . وقد نُقد ريشنباخ على ذلك، بل واتهم بانه يقيد الكشوفات التنبؤية بحدود السلاسل الطويلة او الكبيرة، كالذي ذهب اليه الاستاذان لينز وكاتز . وكان البعض قد استخدم عبارة كينز في نقد ريشنباخ، والتي تقول: (نحن خلال السلسلة من الجري الطويل نكون قد متنا جميعاً) . مع ان ريشنباخ لا يمانع من تطبيق قاعدته الاحتمالية على القضايا الفردية والمحدودة، مثل تقدير احتمال كيفية ما سيكون عليه الطقس ليوم غد، معتبراً ذلك من الاحتمالات التقريبية، لكنه رغم ذلك واجه نقداً حتى من رفاقه المنظرين لنظرية الحد التكراري الذين رفضوا الحديث عن الحالات الفردية والتقريبية، معتبرين اياها بانها صياغات بلا معنى . يضاف الى ان قاعدته الاستقرائية ينافسها عدد غير محدد من القواعد الاستقرائية التي تتجه باتجاه حد التردد والتكرار، وقد لاقى مشكلة في تبرير ترجيحها على غيرها، واعتمد على مبدأ البساطة في الترجيح، معتبراً قاعدته مستقيمة بخلاف غيرها التي اطلق عليها القواعد الملتوية .

مع القضايا التحليلية
تنقسم القضايا التحليلية لدى الوضعية الى قضايا منطقية واخرى رياضية، باعتبارها تمتاز بطبيعة تكرارية خالية من المضمون الواقعي للمعرفة، مما يجعلها يقينة وضرورية .
ولو رمزنا الى القضية التحليلية بـ (ح)، والتكرارية بـ (ت)، والضرورية بـ (ض)، واللا اخبارية بـ (لا)؛ فان تعبير المذهب الوضعي عن تلك العلاقات يصبح كالاتي:
ح = ت = ض = لا
لكن يلاحظ ان المساواة التامة بين هذه القضايا ليس سليماً. صحيح ان القضية التحليلية اذا سلمنا كونها تكرارية - اذ المحمول فيها منتزع عن الموضوع - لابد ان تكون ضرورية، لكن هذا لا يعني ان القضية الضرورية لا تخبر عن الواقع بشيء، كما لا يعني انه يتحتم عليها ان تكون تكرارية على الدوام، فضلاً عن ان القضية اللا اخبارية هي ليست دائماً تكرارية. ولأجل تبيان هذه الامور علينا ان نتبع ما يلي:
1 ـ هناك من المبادئ ما لها طبيعة اخبارية وتتصف بالضرورة كما هو الحال مع مبدأ السببية القائل بأن لكل حادثة لابد من سبب، وان الشيء الواحد لا يمكن ان يكون في أكثر من مكان في نفس الوقت، وكذا لا يمكن ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد بنفس الوقت، فان الضرورة التي تتضمنها مثل هذه القضايا ليست منطقية كما عليه القضايا التحليلية.
ومن الواضح ان اعتراض الوضعية على القضايا الضرورية واعتبارها ليست إخبارية، هو لكونها غير قابلة للتكذيب بأي شكل من الاشكال، أو انها تكون صادقة مهما كان عليه الواقع الموضوعي، وبالتالي فانها بهذا لا تقدم معرفة جديدة ولا أنها تقبل التكذيب. لكن يلاحظ ان هناك فرقاً بين القضايا التي تتصف بعدم التكذيب منطقياً، وبين القضايا التي تتحدانا في أن نجد شاهداً يكذبها، ونحن نعتبر ان مثل هذه القضايا تتصف بالجدة والاخبارية وانها ليست عديمة الفائدة كتلك التي لا تقبل التكذيب بالمعنى المنطقي. فكل ما في الأمر ان عقلنا يستبعد تماماً ان يكون هناك ما يعد شاهداً على تكذيبها، والامر يقبل التحقيق لمن يجد شكاً يراوده، بخلاف القضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا التحقيق والشك، وبالتالي فان الضرورة فيها تتصف باللا اخبارية دون شك. فالفارق بين الصنفين من القضايا هو ان الصنف الاول يتميز بالضرورة الوجدانية، وأن اللابدية فيه هي لابدية تحدّية، في حين ان الضرورة في الصنف الآخر هي ضرورة منطقية، وأن اللابدية فيه لا تقبل التحدي مطلقاً.
لهذا فان من صفة القضايا الاخبارية الضرورية هو ان مخالفتها لا تفضي الى التناقض. ويصدق هذا الامر حتى مع مبدأ عدم التناقض الوجودي، حيث ان من يعتقد بأن حوادث الوجود ينتابها التناقض لا يمكن أن يدان بأن قراره هذا يفضي في حد ذاته الى التناقض، بخلاف ما لو اعتبر التناقض شاملاً للفكر والمعرفة، او انه يصيب القضايا ذاتها وليس مجرد الحوادث، حيث ان ذلك يفضي في حد ذاته الى التناقض، وبه تستحيل المعرفة. او يقال ان هذا الحكم لا يصح ما لم يشترط على الأقل أن يكون مسلّماً بمبدأ عدم التناقض، كي لا يتناقض الحكم مع ذاته، وعندها يثبت هذا المبدأ او تستحيل المعرفة بتسلسل التناقضات.
مع هذا قد يعترض البعض على كلامنا السابق حول صفة القضايا الاخبارية الضرورية، اذ كيف يمكن ان نختبر مثل هذه القضايا، فمثلاً بخصوص السببية العامة، انه حتى لو لم تظهر لنا الاسباب فان عقولنا تفترضها موجودة، وهذا الامر يجعل منها غير قابلة للتحدي ولا للفحص العلمي. واكبر شاهد على ذلك حركة الالكترون العشوائية في العالم الجزيئي. اذ قد يقال ان لهذه الظاهرة اسبابها المجهولة، مع انه يقال ايضاً ان هذه الحركة تجري من غير اسباب. وهكذا يمكن ان يُكرر هذا القول مع اي ظاهرة لم تتكشف لنا اسبابها.
لكن يجاب على ذلك ان بعملية الفحص الاستقرائي والاحصائي يتوضح اكثر فاكثر ان للظواهر اسباباً حتى ولو لم نعرفها بالضبط والدقة، وان ذلك يضعف من احتمال عدم خضوع الظواهر (المعاندة) - وهي قليلة بطبيعة الحال - لهذا النظام باضطراد. أما العكس فهو وإن لم يدل على خرق السببية وامكان وقوع الحوادث من غير سبب مطلقاً، الا انه يبرر اعتبار هذا المبدأ عديم الفائدة والجدوى في الكشف المعرفي والعلمي. وهذا هو المقصود بالتحدي.

2 ـ من المعلوم انه في الضرورة الوجدانية لو كان هناك شاهد واحد يعارضها، لانتفت هذه الضرورة، لكن المشكلة هي كيف نثبت وجود الشاهد المعارض؟ فمثلاً كيف نأتي بشاهد يعارض مبدأ السببية العامة؟ فحتى لو اعتمدنا على وجهة النظر التجريبي، فاننا لا نجد ما يقطع بوجود شاهد معارض، حيث عدم وجدان السبب الذي يمكن ان يكون مؤثراً على الظاهرة لا يدل على نفيه تماماً، فكيف والعقل يشهد بالميل الغريزي والوجداني على تلك الضرورة التي يتضمنها المبدأ؟!
فمثلاً على الرغم من أن مبدأ (اللا تحدد)، الكفيل بدراسة حركة الالكترون العشوائية، لا يتمكن من تحديد الاسباب التي تؤثر على تلك الظاهرة، فانه - في الوقت نفسه - غير قادر على نفي مطلق الاسباب، خلاف ما ظنه ريشنباخ من ان ذلك العلم (الجزيئي) لا يخضع الى حكم تلك السببية. وهذا يعني انه حتى لو احتملنا خطأ مبدأ السببية، فان غريزة العقل لا يسعها ان تتخلى عنه بخلاف تعاملها مع غيره من المعارف، كقبولها جواز قابلية النار لعدم الاحراق، او بقاء الحياة عند جز الرقبة، الى غير ذلك مما لم يحظ بالفتنا. فحتى لو لم تدرك أسباب الظاهرة كلياً، كان من السهل على تلك الغريزة أن تنسب الامر الى وجود أسباب خفية، كقضية ممكنة لا دليل على نفيها. وبالتالي فان هذا المبدأ يختلف عن غيره من المعارف المتعلقة بارتباطات الطبيعة.
وقد يقال استناداً الى هيوم ان الميل الغريزي ازاء مبدأ السببية ناتج عن الاحساسات الانطباعية المكثفة تبعاً لكون اطراد هذا المبدأ اعم من اطراد اي ظاهرة اخرى، الامر الذي يجعل تأثيره النفسي اقوى من غيره، وهو ما يفسر ذلك الميل نحوه.
وبالفعل لولا وجود بعض الظواهر التي لها عمومية مثلما هي للسببية، لكان من الصعب أن نجد ما يمكن ان ندفع به التبرير السابق. فظاهرة الحركة هي من الظواهر العامة التي لا تخلو منها أي علاقة طبيعية في الواقع، ومع هذا فانها ليست مما تتضمن حكم الضرورة الوجداني. وهذا إن دل على شيء فانما يدل على ان الحكم الوجداني لذلك المبدأ لم يكن مكتسباً، بقدر ما له أصل غريزي وشهود عياني كالذي يقوله العرفاء.

3 ـ كما ان من القضايا الضرورية ما تتصف بكونها غير تكرارية ولا إخبارية، مثلما هو الحال مع قسم الرياضيات التطبيقية التي طوتها الوضعية ضمن القضايا التحليلية رغم ما تتصف به من حالة تركيبية بالنسبة لعلاقة المحمول بالموضوع.
فمثلاً يقول الدكتور زكي نجيب محمود: (ضمن تعريف المثلث في هندسة اقليدس بأنه سطح مستو محاط بثلاثة خطوط مستقيمة، تترتب نتيجة خاصة بمقدار زواياه، وهي أن تلك الزوايا تساوي مائة وثمانون درجة، وقد تظن أن هذه النتيجة علم جديد لم يكن في التعريف، وهو علم يزودنا بخبر عن المثلث المرسوم في الطبيعة الخارجية، ولو كان الامر كذلك لصح قول القائلين: القضية الرياضية قبلية واخبارية في آن معاً، لكن حقيقة الموقف غير ذلك) .
ويقول ريشنباخ: ان (القضايا الهندسية التي يقول بها الرياضي تتخذ صورة (اذا كانت البديهيات صحيحة، كانت النظريات صحيحة). غير ان علاقات اللزوم هذه تحليلية، تتحقق صحتها بواسطة المنطق الاستنباطي. وعلى ذلك فان هندسة الرياضي ذات طبيعة تحليلية. ولا تؤدي الهندسة الى قضايا تركيبية الا عندما تفكك علاقات اللزوم، وتؤكد البديهيات والنظريات على حده. وعندئذ تقتضي البديهيات تفسيراً بواسطة تعريفات احداثية، وبذلك تصبح قضايا عن موضوعات فيزيائية، وعلى هذا النحو تصبح الهندسة نسقاً يصف العالم الفيزيائي. غير انها في هذا المعنى لا تكون قبلية، بل تكون طبيعتها تجريبية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الهندسة، اذ ان الهندسة إما ان تكون قبلية، وعندئذ تكون هندسة رياضية وتحليلية، وإما ان تكون تركيبية، وعندئذ تكون هندسة فيزيائية وتجريبية) .
والملاحظ من النصين السابقين ان سبب جعل الرياضيات التطبيقية ضمن القضايا التحليلية؛ إما لكونها لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي كما في النص الاول، او لكون اتصافها بالضرورة واللزوم كما في النص الثاني، ومع هذا لم توضح الكيفية التي تكون فيها هذه القضايا تكرارية. وهي مصادرة لسنا مضطرين اليها، اذ من الواضح ان هناك اضافة جديدة للنتيجة، رغم انها لا تتحدث ولا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي. فمثلاً ان المحمول الذي يحدد لنا درجة زوايا المثلث لا يمكن اعتباره منتزعاً من نفس حقيقة السطح المستوي المحاط بالخطوط الثلاثة المستقيمة كما يحصل مع حالة انتزاع معنى غير المتزوج من الأعزب، وانتزاع النتيجة في الرياضيات الحسابية من مقدماتها - كانتزاع معنى العدد (2) من العدد المكرر لـ (1) -، بدلالة ان الدرجة المحددة بمائة وثمانين ليس لها خصوصية بزوايا المثلث. فدرجة السطح المستوي من غير مثلث ولا اضلاع هي ذات هذه القيمة، كما قد يكون السطح المنحني بنفس تلك الدرجة رغم انه لا يعد مثلثاً. وبالتالي فان هذه القيمة ليست منتزعة من المعنى الحاصل للمثلث. هكذا فان مثل تلك القضايا هي قضايا ضرورية تركيبية، في الوقت الذي تكون فيه غير اخبارية بالنسبة للواقع الموضوعي.
وعلى العموم فان العلاقات بين القضايا القبلية لا يمكنها ان تكون متساوية؛ بل فيها من الاختلاف ما يمكن توضيحه بالشكل الرمزي التالي:
ض > لا > ت = ح
أي أن القضية الضرورية هي أعم واكبر من القضية اللا اخبارية، وهذه أعم واكبر من التكرارية التي تعبّر عن نفس القضية التحليلية.

صفة المعنى في القضايا
تنقسم القضايا عند الوضعية الى ثلاثة أقسام، فهي إما أن تكون تحليلية او تركيبية او قضايا ليس لها معنى. وتمتاز هذه الاخيرة بأنها تتحدث عن مواضيع خارجية يعجز الاستقراء والتجربة عن اثباتها أو نفيها. ولهذا وضع مبدأ (التحقق) كي يميزها عن القضايا ذات المعنى المختصة بالواقع الفيزيقي، باعتبارها تنفرد بصفتي الصدق والكذب.
وهناك من الوضعيين من أضاف الى الوصفين السابقين - في القضايا ذات المعنى - صفة اللا تحدد. فمثلاً أن ريشنباخ لا يشترط أن تكون القضية صادقة او كاذبة، فهناك صفة اللا تحدد التي تبرر حالة ما اذا كنا نقوم بدراسة عالم آخر من موقع عالمنا الخاص، كما هو الحال مع دارسة عالم الجزيئات الدقيقة التي تمتاز بكونها مواضيع واقعية يمكن اخضاعها للبحث التجريبي .
وقد واجهت الوضعية عدة اعتراضات حول تمييزها السابق، منها ما يخص مبدأ (التحقق)، حيث انه لا ينتمي الى كل من القضايا التحليلية والتركيبية؛ مع ان اليه يسند التمييز بين القضايا التي لها معنى عن تلك التي ليس لها معنى، مما أثار الاتهام القائل: (ان الوضعية ترفض قضايا الميتافيزيق بمبدأ ميتافيزيقي)!
لهذا كانت هناك بعض المحاولات الرامية للخلاص من هذا المأزق. فمثلاً ان الاستاذ آير يعتبر ذلك المبدأ وضع كتعريف لا كتقرير تجريبي للواقع . وشبيه به ما ذكره الاستاذ زكي نجيب محمود من ان هذه القضية ترجع الى احكام منطقية لها مستوى اعلى من تلك التي يمكن ان تتصف بالصدق والكذب .
في حين لا يُشك ان ذلك المبدأ مستمد من الواقع عبر الخبرات والملاحظات الاستقرائية الماضية، فلولا هذه الخبرات ما كان بالامكان ان تُعرف لهذا المبدأ فائدة تذكر، وحين يوضع للتحقيق في القضايا الواقعية فانه لا يتناقض مع كونه تقريراً، ذلك ان له وظيفة علمية لتسهيل البحث في القضايا اللاحقة. ويصدق ذات الأمر على مبدأ اللا تحدد، حيث انه ايضاً جاء نتيجة المعرفة المستمدة من الواقع الموضوعي، وصيغ بالشكل الذي يناظر ما عليه مبدأ التحقيق.
وللوضعية ان تختار لنفسها ما تشاء في ترتيب انماط القضايا؛ طالما لا يؤثر ذلك على مصادرة الموقف اتجاه غيرها من المذاهب. وقد حاول بعض الاساتذة الوضعيين ان يصل الى هذا المدلول في توجيه تلك المدرسة، اذ اعتبرها منهجاً للنظر العلمي وليست مذهباً كسائر المذاهب الاخرى . مع انه لو صدق هذا التوجيه لكان من الحق ان لا تتهم المذاهب الميتافيزيقية بأنها تبحث عن قضايا لا معنى لها، مما يدل على انها اتخذت اتجاهاً ينافس غيرها من الاتجاهات، او انها نزعت نزعة مذهبية لا منهجية.
وعلى العموم فان الاعتراضات التي تواجهها الوضعية بهذا الصدد يمكن ان تكون كالاتي:
1 ـ هناك بعض الادراكات المعرفية المباشرة التي لا تنتمي الى قائمة القضايا التحليلية ولا الاستقرائية ولا الميتافيزيقية، كادراكنا المباشر لوجودنا، ولو على نحو الاجمال. وهو ادراك يحكم عليه بنوع من الضرورة نطلق عليها الضرورة الحضورية التي تجعل التصديق به تصديقاً أولياً ولازماً دون ان يخضع الى أي دليل مهما كان نوعه وشكله.
2 ـ لو كان مبدأ التحقيق لا يتصف بالصدق والكذب كما يعلن بذلك بعض الوضعيين؛ لاقتضى ان يكون هناك قسم آخر يضاف الى اقسام القضايا، مما يحتاج الى عملية تفسير توضح منشأ معرفته وعلة عدم اتصافه بتلك الصفة.
3 ـ لا يملك مبدأ التحقيق القابلية على التطبيق لكافة قضايا الواقع ذات المعنى، وهذا ما شعر به ريشنباخ فأضاف اليه مبدأ اللا تحدد ليتناول المسائل الخاصة بالعلم الجزيئي. لكن المسألة لم تنته بعد، اذ هناك قضايا اخرى يُعترف بأن لها معنى، وهي مع ذلك لا تخضع الى اعتبارات كل من التحقيق واللا تحدد؛ كما هو الحال مع قضية وجود الواقع الموضوعي الذي يعجز الدليل الاستقرائي عن ترجيحه او اثباته.
4 ـ من المعلوم أنه عند الوضعية لا يشترط في القضية التي لها معنى أن ينالها مبدأ التحقيق مباشرة؛ كمعرفة أن النار حارة والشمس طالعة، اذ يمكنه التطبيق ولو لم يستمد من الخبرة مباشرة، وذلك بالاستناد الى منطق الاحتمالات او ما على شاكلته، من قبيل اعتبار المادة مؤلفة من ذرات، والاعتقاد بوجود كائنات قد سبقت الانسان، والتسليم بقانون الجاذبية في جميع العلاقات المادية... الخ .
لكن الملاحظ أن هذه الصورة من التطبيقات غير المباشرة هي في حد ذاتها تتسق مع اثبات بعض القضايا الميتافيزيقية، كالمسألة الالهية التي تفسر وجود النظام في الكون، وذلك لانها تخضع الى نفس اعتبار المنطق العلمي المستند الى اعتبارات نظرية الاحتمال او ما على شاكلتها، فإما أن نفسر النظام في علاقات الطبيعة بأنه ناتج عن المصادفات العشوائية، أو نفسره بأنه نتاج عقل حكيم. ولا شك أن العمل باجراء الحساب الاحتمالي لا يُبقي للفرض الاول أي قيمة يعد لها الاعتبار، بل تنسحب أغلب القيم الاحتمالية لصالح محور اثبات تلك القضية، حتى مع عدم افتراض أي مصادرة قبلية ترفضها الوضعية في مجال بناء الدليل الاستقرائي.
هكذا فليس هناك ما يدعو لتعميم الحكم القائل بأن قضايا الميتافيزيقا خالية من المعنى، طالما ان بامكان مبدأ (التحقيق) وما شاكله ان يثبت بعضاً منها. وبالتالي فنحن بين أمرين: إما ان نقبل تطبيق المبدأ الاستقرائي على أمثال القضية الالهية السابقة ومختلف القضايا العلمية غير المباشرة معاً، او نمنع تطبيقه على الجميع، وليس بين الأمرين ثالث يتسق اعتباره. وهي نتيجة سبق ان توصل اليها المفكر الصدر، اذ اعتبر الانسان الوضعي مضطراً لان يتبنى موقفاً بين أمرين: فهو إما ان يرفض العلم وقضية وجود الله معاً، او يتقبلهما سوية، اذ الاخذ بأحدهما دون الاخر يعد تناقضاً؛ مادام انهما يرتكزان على محور الدليل الاستقرائي . ويكفينا شاهد على ذلك ما وُصفت به بعض المبادئ العلمية من صفات (ميتافيزيقية) بحيث فُسرت بشكل يتسق تماماً مع ما كان يُنظر الى القضايا الميتافيزيقية ومنها المسألة الالهية. فمثلاً يقول فيلسوف العلم المعاصر فيليب فرانك: (من الواضح على وجه التأكيد أن مبدأي الثبات والنسبية اللذين يؤلفان العمود الفقري لنظرية النسبية لاينشتاين لا يمكن استنباطهما من الحقائق المكتسبة من خبرتنا، او حتى من التجارب التي يعدها ويجريها علماء الفيزياء. ومع ذلك، اذا وصفنا هذه المبادئ بأنها عقائد فان علينا أيضاً ان نصف مبدأ القصور الذاتي بأنه (عقيدة). فعندما قدم جاليلو ونيوتن هذا المبدأ كان أيضاً مخالفاً جداً لخبرة الفطرة السليمة ولم يكن ليقبل الا لأن الاستنتاجات المستخلصة منه كانت متفقة مع المشاهدات الواقعية) .
ويزداد الأمر اتساقاً عند لحاظ ما ابداه بعض المؤلفين من ان التفسيرات الشمولية هي تفسيرات غير ذات معنى باعتبارها تتضمن نصوصاً لا يمكن تدقيقها بالمشاهدة والخبرة التجريبية . وهنا نصل الى ان مثل هذه التفسيرات تقف صفاً واحداً مع الكشف الخاص عن المسألة الالهية، فهل نردّ كلاً من التفسيرات العلمية الشمولية والمسائل الميتافيزيقية الى القضايا الخالية من المعنى، الامر الذي يوصد الباب أمام التقدم العلمي؟ او نعتبر كلا المجموعتين مبررتين بمصدر واحد مشترك؟ فما سبق ان وُصفت به بعض المبادئ العلمية هو أمر يتفق تماماً مع لحاظ المسألة الالهية، باعتبارها ليست مكتسبة من الخبرة مباشرة ولا قابلة لتحضيرها تجريبياً، لكن ما يترتب عليها يتفق مع المشاهدات الواقعية. ذلك ان اهم ما يستنتج من الاعتقاد بها هو شمولية النظام وغائيته. فاذا كنا نعتبرها مستخلصة من لحاظ عدد من الانظمة الكونية، فان ما يستنتج منها هو تعميم النظام في الكون والاعتقاد بالغائية الوظيفية. ولا يعني ذلك ان المسألة الالهية تصبح مسألة علمية كسائر المسائل العلمية الاخرى، انما يعني ان استنتاجها لا يختلف عن استنتاج النظريات العلمية من حيث النظر الى وحدة الأساس، بل تفوق غيرها بكسبها ما لا يحصى من القرائن الدالة عليها دون منافس، طالما لا توجد ظواهر مضادة تعمل على تكذيبها. كما تتصف الأطراف فيها بأنها مغلقة وضيقة للغاية، خلافاً للنظريات العلمية المفتوحة. فأي نظرية علمية تُتخذ للتفسير يمكن استبدالها بأخرى تفوقها، وهكذا من غير حدود. وهو ما لا ينطبق على المسألة الإلهية بإعتبارها تتضمن طرفين فحسب؛ أحدهما لصالح هذه القضية، والآخر لصالح المصادفات العشوائية المحضة، وبالتالي إذا كانت القرائن متجهة نحو إثبات القضية فذلك يعني دحضاً للطرف الآخر، إذ ليس هناك طرف ثالث منافس في هذه المعادلة. ويمكن القول أنه لا توجد قضية خارجية يمكن أن تحظى بتأييد معرفي مثلما هو الحال مع هذه المسألة، فحتى القضايا الحسية رغم أننا نتعامل معها بحسب القطع واليقين، لكنها من حيث التحليل لا تصل إلى درجة ما تختزنه تلك المسألة، وذلك لكثرة ما تحظى به من قرائن لا تقبل الحصر والنهاية.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية تغيير الأحكام الشرعية
- التشريع الديني وتغايراته
- شواهد لأثر الواقع على تغيير فهم النص الديني
- نظرية كارل بوبر والقضايا العلمية
- التغيير الفقهي وأنماطه الواقعية
- مصادر المعرفة الإسلامية: النص.. الواقع.. العقل
- ظاهرة النسخ في الخطاب الديني ودلالاتها
- الجابري والتصنيف الثلاثي للعقل العربي
- الفهم الديني وغياب علم الطريقة
- السؤال عن فهم الخطاب الديني وعلم الطريقة
- محددات الفكر الإسلامي وعلم الطريقة
- المثقف الديني والنزعات العلمانية
- البحث الطريقي كعلم جديد للفهم الديني
- نصر حامد أبو زيد وانثروبيا النص القرآني
- القبليات المعرفية وعلاقتها بالفهم الديني
- القطيعة بين الفكر المغربي والمشرقي (قراءة في مشروع المفكر مح ...
- بين الفهم المقصدي والتعبدي للدين
- النظام الوجودي وتحليل العلاقة الوجودية
- حضارة بين حضارتين(مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارتين ال ...
- الحركة العقلية الاسلامية وتطوراتها


المزيد.....




- أبو عبيدة وما قاله عن سيناريو -رون آراد- يثير تفاعلا.. من هو ...
- مجلس الشيوخ الأميركي يوافق بأغلبية ساحقة على تقديم مساعدات أ ...
- ما هي أسباب وفاة سجناء فلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية؟
- استعدادات عسكرية لاجتياح رفح ومجلس الشيوخ الأميركي يصادق على ...
- يوميات الواقع الفلسطيني الأليم: جنازة في الضفة الغربية وقصف ...
- الخارجية الروسية تعلق على مناورات -الناتو- في فنلندا
- ABC: الخدمة السرية تباشر وضع خطة لحماية ترامب إذا انتهى به ا ...
- باحث في العلاقات الدولية يكشف سر تبدل موقف الحزب الجمهوري ال ...
- الهجوم الكيميائي الأول.. -أطراف متشنجة ووجوه مشوهة بالموت-! ...
- تحذير صارم من واشنطن إلى Tiktok: طلاق مع بكين أو الحظر!


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - الوضعية المنطقية وقضايا المعرفة