أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - التغيير الفقهي وأنماطه الواقعية















المزيد.....



التغيير الفقهي وأنماطه الواقعية


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3087 - 2010 / 8 / 7 - 10:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يمكن القول أن الممارسة الفقهية بما تعبّر عن نوع من التشريع الإمتدادي المستند إلى قواعد معتبرة كالعقل والقياس والمصالح والإستحسان والعرف وغيرها؛ لم تستطع بدورها أن تتخلى عن ظاهرة النسخ في الأحكام والفتاوى. فضغط الحاجة الزمنية الذي حدا بها إلى ممارسة التشريع الإجتهادي؛ هو نفسه جعلها تقوم بعملية النسخ ذاته. وهناك مبررات عديدة لتبرير هذه الآليات من تبديل الأحكام؛ كلها تعود في النتيجة إلى ما أفرزه الواقع من حاجات ومصالح وتغير في الظروف والأحوال.
فتارة يستند تغيير الفتوى إلى ما قد يتم فيه العثور على دليل شرعي أقوى؛ من النص والقياس وما إليه مما ليس له علاقة بالواقع. وتارة ثانية يستند إلى فعل الواقع وتأثيره، بإعتبارات مردها؛ إما إلى كشف الواقع عن خطأ الفتوى جملة وتفصيلاً، أو لتقدير الواقع بوجود حاجة أو ضرورة أو مصلحة أو نفي عسر، أو لإعتبارات تخص تغيّر أحوال الناس وظروفهم. وفي جميع هذه الإعتبارات يتربع الواقع كأساس لإنتاج الأحكام الجديدة وتبديلها. وقد أدرك الكثير من الفقهاء أن من بين مبررات تبديل الأحكام ما يعود إلى تغيّر الظروف إلى الحد الذي تكون فيه غير منسجمة مع الفتاوى السابقة، وكذا تغيّر عادات الناس وأعرافهم، ومثل ذلك فساد الأخلاق المعبّر عنه بفساد الزمان، فضلاً عن حدوث التنظيمات الجديدة والترتيبات الإدارية الحديثة. وسبق للفقيه المالكي أبي بكر بن العربي أن اعتبر الإستحسان - الذي يتم فيه ترك مقتضى الدليل - متضمناً لأربعة أقسام، فقد يترك الدليل بسبب العرف، أو المصلحة، أو التيسير ورفع المشقة، أو إيثار التوسعة . مع أن هناك إعتبارات أخرى تصلح أن تكون سبباً لترك الدليل أو مقتضاه، سواء تضمّنه الإستحسان أو لا، كما لو تبين خطأ الفتوى تماماً بسبب الكشف الواقعي أو غيره. وكذا فيما لو كشف العقل عن معنى الحكم ضمن ظروف معينة دون أخرى.
وهناك ثلاثة أنماط من الصور التي حدث فيها تغيير الأحكام والفتاوى، وبلغ الأمر في بعضها مرحلة تبديل حكم النص تبعاً للإجتهاد وضغط الحاجة الزمنية. لكن حيث لم يكن هناك إلتفات مقصود لدراسة الواقع وعلاقته بالخطاب، ومن ثم إجراء التقنين بينهما بالكشف عن موارد ثبات الأحكام وتغيرها؛ لذا جرت عملية التبديل طبقاً لمصادفة الفقيه لحالات عدم الملائمة مع الأحكام الموضوعة جرياً لقاعدتي العرف والإستحسان. ولو أن الفقهاء أولوا إهتماماً للنظر في الواقع وتغيراته والموارد التي تتقبل تغيّر الأحكام؛ لكان نسيج فقهنا اليوم هو غير النسيج الذي ألفنا فيه طابعه المتصلب وغير المتسق مع ما يحصل للواقع من تحولات وتطورات. فهو يصطدم في كثير من الأحوال بطوارئ غير محسوبة ولا مرتقبة، سيما في الفترة الحديثة التي قلبت الكثير من الموازين، فأصبح الفقه اليوم متهماً لا فقط من الذين عادوه، بل وحتى من الذين تربوا فيه وأفادوا منه. وكان من أهم نقاط ضعفه وإضطرابه هو أنه في كثير من الأحيان لا يتقبل – في أول الأمر - ما يفرضه الواقع من تغيرات وتطورات بمبررات تستند إلى النص أو السلف، لكنه يعود ثانية فيضطر لقبولها وتمريرها بمبررات هي الأخرى تستند إلى النص أو السلف. مما يكشف عن وهن آليته الإجتهادية، إذ تجعله صريع الواقع بدل العمل على دراسته والتصدي لتوجيهه دون إهمال إمكاناته ومتطلباته، بل لا غنى عن العودة ثانية لكشف وتقييم ما يسفر عن التشريع من نتائج وآثار، لتصبح المعالجة مناسبة لمظاهر الواقع وخصوصياته. فمن غير هذه العودة لا يؤمّن ما قد يحصل من أضرار ونتائج عكسية ربما على أكثر من صعيد؛ لتداخل أحوال الواقع وتسارع أحداثه.
مع ذلك فقد ظهر للفقه ثروة كبيرة من تبدلات الأحكام تبعاً لما فرضته الحاجات الزمنية، وهي بحق تعد مادة خصبة لتشكيل منعطف يتصدر فيه الواقع كعنصر أساس في التشريع. وإذا كان أسلافنا لم يدركوا أهمية دراسة الواقع بكل خصوصياته ونواحيه، سواء قبل تشريع الحكم وامتثاله أم بعده؛ فحري بعلمائنا اليوم أن يأخذوا بهذه المهمة الثرية على عاتقهم بعد تأصيلها ضمن علم الأصول. وإلا فلا قيمة للفتاوى إذا ما كانت مفصولة عن النظر إلى الواقع وفحصه .
على أن الفقهاء مارسوا مختلف أنواع التغيير للأحكام؛ انطلاقاً من الحاجات الزمنية وضغوطها، بما في ذلك تغيير بعض أحكام النص، وإن أنكروا من الناحية المبدئية العمل بمثل هذا التغيير في إجتهاداتهم، دفعاً لشبهة الوقوع في الإجتهاد في قبال النص، أو الإجتهاد مع وجوده، أو العمل على ممارسة النسخ في الأحكام.. وواقع الحال أن هناك الكثير من الممارسات الإجتهادية التي جاءت نتائجها مخالفة لأحكام النص. ويدخل ضمن هذا الإطار تلك التي عوّلت على تخصيص النص بالمصلحة والعرف، وسنعرف أن الأخيرة لا تختلف عن تلك المفضية إلى مخالفة حكم النص كلياً. وعليه أضحت العملية الإجتهادية وتبديل الأحكام لا تفرّق بين حكم النص وغيره؛ مادامت الظروف تتنوع والأحوال تتبدل.
أما فيما يخص الممارسات التغييرية للأحكام كما مارسها الفقهاء، فهي تندرج - كما قلنا - ضمن ثلاثة أنماط كالآتي:

1ـ وحدة الدليل الإجتهادي
إن أخف حالات التغيير وأقلها وطأة ومؤونة هي تلك التي تعبّر عن تبديل الحكم بحكم آخر مع وحدة الدليل. وغالباً ما يحصل هذا الإعتبار نتيجة تبدل العرف والعادة، الأمر الذي يجعل من الحكم متغيراً تبعاً لتغير الظرف حتى لو بدا ظاهر الموضوع ثابتاً. فالكثير من الفتاوى الفقهية تنشأ وتتغير تبعاً لما متعارف عليه من معاملات لفظية وسلوكية. وعلى حد قول الشاطبي: إن ‹‹الحكم يتنزل على ما هو معتاد فيه، بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده›› .
ففي عالم الألفاظ يؤخذ بما متعارف عليه من ألفاظ المتعاملين دون معانيها الحقيقية، كما في الأيْمان والعقود والجرائم والقضاء وغيرها. فمثلاً قد يكون اللفظ دالاً بعرف ما على الشتم فيكون جريمة، لكنه في عرف آخر لا يدل على ذلك، فلا يكون جريمة. وكذا جاء في (الأشباه) أنه لو حلف الحالف أن لا يأكل لحماً؛ حنث بأكل الكبد والكرش؛ إن جرى الأمر على عادة أهل الكوفة، أما في عرف غيرهم فقد لا يحنث تبعاً لما يقصدونه من لفظة (لحم) . ومثله ما قاله أصحاب الشافعي: لو حلف رجل أن لا يبيت على فراش ولا يستسرج سراجاً، فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث، لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفاً رغم ما ورد في القرآن من إعتبار الأرض فراشاً، كما في قوله تعالى: ((الذي جعل لكم الأرض فراشاً)) .
ومن ذلك ما قاله القرافي في ايقاع الطلاق الثلاث بقول الزوج (أنتِ عليَّ حرام، أو الحرام يلزمني): ‹‹إياك أن تقول إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث لأن مالكاً قاله، أو لأنه مسطور في كتب الفقه، لأن ذلك غلط، بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلاً لك من جهة الإستعمال والعادة كما يحصل لسائر العوام، كما في لفظ الدابة والبحر والرواية. فالفقيه والعامي في هذه الألفاظ سواء في الفهم لا يسبق إلى أفهامهم إلا المعاني المنقول إليها. فهذا هو الضابط لا فهم ذلك من كتب الفقه، فإن النقل إنما يحصل بإستعمال الناس لا بتسطير ذلك في الكتب، بل المسطّر في الكتب تابع لإستعمال الناس فافهم ذلك. إذا تقرر ذلك فيجب علينا أمور: أحدها أن نعتقد أن مالكاً أو غيره من العلماء إنما أفتى في هذه الألفاظ بهذه الأحكام لأن زمانهم كان فيه عوائد اقتضت نقل هذه الألفاظ للمعاني التي أفتوا بها صوناً لهم عن الزلل. وثانيها إنا إذا وجدنا زماننا عرياً عن ذلك وجب علينا أن لا نفتي بتلك الأحكام في هذه الألفاظ، لأن إنتقال العوائد يوجب إنتقال الأحكام، كما نقول في النقود وفي غيرها فإنا نفتي في زمان معين بأن المشتري تلزمه سكة معينة من النقود عند الإطلاق لأن تلك السكة هي التي جرت العادة بالمعاملة بها في ذلك الزمان، فإذا وجدنا بلداً آخر وزماناً آخر يقع التعامل فيه بغير تلك السكة تغيرت الفتيا إلى السكة الثانية وحرمت الفتيا الأولى لأجل تغيّر العادة. وكذلك القول في نفقات الزوجات والذرية والأقارب وكسوتهم تختلف بحسب العوائد، وتنتقل الفتوى فيها وتحرم الفتوى بغير العادة الحاضرة، وكذلك تقدير العوارى بالعوائد.. وإذا وضح لك أن ما عليه المالكية وغيرهم من الفقهاء من الفتيا في هذه الألفاظ بإطلاق هو خلاف الإجماع، وأن من توقف منهم عن ذلك ولم يجر المسطورات في الكتب على ما هي عليه بل لاحظ تنقل العوائد في ذلك، فإنه على الصواب وسالم من هذه الورطة العظيمة›› . وقال بعض العلماء: ‹‹التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والحالف والناذر وكل عاقد يحمل على عادته وفي خطابه ولغته التي يتكلم بها؛ وافقت لغة العرب ولغة الشارع أو لا›› .
أما في المعاملات السلوكية، فقد يُرفض سماع بعض الدعاوى في القضاء لأنها مما يكذبها العرف أو العادة. كما أن العرف يتدخل فيما يُعد في المبيع عيباً مسوغاً لفسخ البيع أو لا يعد. يضاف إلى أن للعرف الجاري دخلاً أكيداً في تحديد قبول لباس الناس بما يخرجه عن (لباس الشهرة). فمثلاً كان كشف الرأس يختلف بحسب البقاع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف بإختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح . وكذا فيما يتعلق بتقدير النفقات الزوجية والأجور المعطاة وما يعتبر حقاً أو ضرراً بحق الغير في بعض المنافع.. الخ. فلو أن العرف تغيّر في مثل تلك الحالات لتغيرت الفتوى تبعاً له. ونفس الشيء فيما ذكره بعض العلماء من أن القول قول الزوج في دفع الصداق بناءً على العادة، وأن القول قول الزوجة هو أيضاً بناءً على نسخ تلك العادة، وبالتالي فالحكم ثابت ليس فيه إختلاف إلا من حيث إختلاف العادة .
ومما يدخل في هذا الإطار أن جماعة من السلف والفقهاء ردوا شهادة الوالد لولده والولد لوالده والأخ لأخيه والزوج لزوجه، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وإبن حنبل. في حين أن السابقين عليهم كانوا يقبلون الشهادة منهم ركوناً إلى قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدَين والأقربين)) . لذا ينقل عن الزهري قوله: ‹‹لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لإمرأته، ثم دخل الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على إتهامهم فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة، وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة. فلم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان›› .
كما نُقل بأن الشيخ إبن أبي زيد القيرواني (المتوفى سنة 386هـ) إتخذ كلباً بداره زمن الخوف، فقيل له: أن مالكاً كره إتخاذ الكلاب في الحضر، فقال إبن أبي زيد: لو أدرك مالك مثل هذا الزمن لإتخذ أسداً على باب داره .
بل قد ترد أحكام خارجة عن المكلف يحددها الواقع وسننه التكوينية، أو العادة بإصطلاح القدماء، مثل البلوغ الذي يرتهن بالاحتلام والحيض وهو يختلف من بيئة إلى أخرى، فالبيئة ذات المناخ الحار تعجّل بالبلوغ خلافاّ لتلك التي مناخها بارد .
ومن الطريف ما ينقل بهذا الصدد بأن الإمام أبا حنيفة كان يرى أن غاصب الثوب إذا صبغ الثوب المغصوب باللون الأسود، فإن ذلك يُعدّ انقاصاً وتعييباً له، وعليه لا بد أن يتكفل الغاصب بضمان هذا الإنقاص حين يُردّ الثوب إلى المالك. لكن لما تبدل عرف الناس في النظر إلى اللون الأسود وإعتباره علامة على الكمال لا النقصان، وذلك حين إتخذه العباسيون شعاراً لهم، فإن بعض الأحناف (أبو يوسف) حكم بأن صبغ الغاصب للثوب باللون الأسود لا يعد تعييباً له بل زيادة في الكمال، وعليه لو أن المالك استرده إليه كان عليه أن يدفع للغاصب قيمة تلك الزيادة .
ويُعرَف مثل هذا الإختلاف بين الفقهاء بأنه إختلاف عرف وزمان لا إختلاف نظر وبرهان . لذلك وردت الكثير من القواعد الفقهية التي تؤكد على أهمية العرف والعادة في علاقتهما بتحديد نوع الحكم الشرعي الوضعي، والتي منها ما ذكرته مجلة الأحكام العدلية، من قبيل: العادة محكمة، والحقيقة تترك بدلالة العادة، والممتنع عادة كالممتنع حقيقة، والعادة تعتبر فيما لو اطردت أو غلبت، وإستعمال الناس حجة يجب العمل بها، والعبرة للغالب الشائع لا النادر، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص، ولا ينكر تغيّر الأحكام بتغير الأزمان... الخ .

2ـ تعارض الدليل الإجتهادي
كما هناك نمط آخر من التغيير يحصل عند التعارض بين الأدلة الإجتهادية، مما يقتضي العمل بالترجيح. فمثلاً أن الفقهاء يرجحون الحاجة العرفية والمصلحة المقدرة في الواقع على القواعد والأدلة الإجتهادية كالقياس والإستصحاب وغيرهما.
إن ترجيح المصالح على القواعد القياسية والأصول الإجتهادية؛ يفترض ضمناً وجود تعارض بين هذه الأدلة، الأمر الذي يعكس حالة تغيير الحكم أو نسخه. فالدليل الفقهي إذا عارض دليلاً قبله فإنه يفضي إلى إلغائه، أو إلغاء الحكم الذي يستند إليه. لهذا يشبّه البعض كما يذكر إبن تيمية ‹‹تعارض الإجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء، مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله باطناً وظاهراً بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين›› .
وحول تعارض الأدلة الخاصة بالمصالح، قد يقوم الدليل على الإستثناء المقدّم على الأصول الإجتهادية الأساسية، وهو ما يطلق عليه (الإستحسان)، فسواء كان يُعمل بإطلاق تلك الأصول أم يُستثنى منها دليل المصلحة المشار إليه، فإنه سواء بهذا أو بذاك فالأمر سيّان، لوجود الداعي لتغيير الحكم العائد إلى تلك الأصول. كل ما في الأمر أن تغيير الحكم بعد تطبيق تلك الأصول يعد تغييراً حاصلاً فعلاً، أما إذا كانت عملية الإستثناء قد تمت قبل العمل بالأصول المشار إليها؛ فإن تغيير الحكم يبقى نظرياً لم يحالفه الحظ من التطبيق على أرض الواقع، وإن كانت حقيقته لا تختلف عن التغيير الفعلي المشار إليه آنفاً؛ طالما أن عملية التغيير نابعة من دواعي ظروف الواقع ومصالحه دون أثر مباشر لدلالات النص واعتباراته اللفظية.
على ذلك فهناك إعتبارات متعددة لتغيير الحكم طبقاً لتعارض الأدلة. فقد يؤلف المجتهد إجتهاداً ما ثم يغيره، أو ينظر إلى مصلحة ما تعدله عما يفترض طرحه من إجتهاد وحكم، أو يأتي من يغير حكمه تبعاً لمصلحة ما من المصالح، أو طبقاً لعرف ما من الأعراف. ويعد العرف من أعظم الدواعي الذي يستند إليه الفقهاء في تغيير الحكم. فالعرف مقدر لديهم ولو كان حادثاً أحياناً، بإعتباره غالباً ما يكون دليل حاجة، وإليه الإشارة في قوله تعالى: ((خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين)) . فهو بالتالي أقوى من القياس، وهو إذ يرجح على القياس المستند إلى نص تشريعي بصورة غير مباشرة، فكذلك يكون مرجحاً بطريق أولى على الاستصلاح (المصلحة المرسلة) بإعتباره لا يستند إلى النص، بل إلى مجرد مصلحة زمنية عرضة للتبدل بإختلاف الظروف والأزمنة. وعليه فالعرف وكما يقول إبن الهمام في (شرح الهداية) هو ‹‹بمنزلة الإجماع شرعاً عند عدم النص›› .
هكذا فالطريق إلى تغيير الأحكام ونسخها بفعل الواقع - ضمن تعارض الأدلة - غالباً ما ينفذ من خلال المصلحة والعرف.
فبالنسبة للمفقود - مثلاً - إذا لم تثبت وفاته وكان متزوجاً، فبطريقة الإستصحاب يكون المفقود كالحي؛ وبالتالي يحرم على زوجته أن تتزوج بآخر، في حين أنه بمراعاة حقوق الزوجة وحاجاتها، طبقاً لقاعدة المصلحة المرسلة أو الاستصلاح، ينقلب الأمر إلى جواز زواجها .
كذلك أن الأصل القياسي يوجب على الحاكم أن يستجيب لكل دعوى ترفع إليه ليقضي على أساسها لصالح صاحب الدعوى أو عليه. لكن الفقهاء تركوا هذا القياس في بعض الحالات، فمثلاً إذا إدّعت الزوجة المدخول بها أن زوجها لم يدفع لها شيئاً من مهرها العاجل، ورفعت ذلك إلى القضاء، ففي هذه الحالة يرى بعض الفقهاء أن القاضي لا يقبل منها ولا يسأل الزوج عن ذلك؛ استناداً إلى العرف، لأن عادة الناس مطردة في أن المرأة لا تزف إلى زوجها ما لم يدفع بعضاً من مهرها العاجل . فهذا ما ذهب إليه الفقيه أبو الليث ورجحه إبن عابدين .
كما أنه إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول، فالقول قول الزوج، مع أن الأصل عدم القبض. وعلق القاضي اسماعيل من فقهاء المالكية على ذلك بقوله: هذه كانت عادتهم بالمدينة: أن الرجل لا يدخل بإمرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها، لأجل إختلاف العادات.
كما أن القواعد القياسية توجب بأن لا يجوز دفع الدين لغير صاحبه إلا بوكالة أو ولاية، لكن الفقهاء تركوا هذا الحكم في بعض الحالات، كما في البنت البكر البالغة إذا قبض أبوها - أو جدها عند عدم الأب - المهر من زوجها حين زواجها، إذ اعتبروا هذا القبض نافذاً للعرف والعادة ما لم يصدر من البنت نهي عن دفع المهر إلى سواها .
كذلك فبحسب القياس لا يجوز بيع لبن امرأة في قدح لأنه جزء الآدمي، وهو بجميع أجزائه مكرّم مصون عن الإبتذال بالبيع، لكن الشافعي أجاز بيعه لأنه مشروب طاهر جرى العرف على بيعه من دون فرق بين الحرة والأمة .
كما ذهب المتأخرون من الفقهاء إلى أن إعتبار ما يكتبه التاجر في الحساب الجاري حجة على المدين أخذاً بالعرف، بينما القياس لا يعتبر إلا البينة ولا يعتبر ما يكتبه هذا التاجر في دفتره العادي .
وأيضاً أنه بحسب القياس يبطل العقد إذا كان محله معدوماً أو مجهولاً لا يقبل التحديد وقت الإنشاء، لكن استثني من ذلك حالات تُرجّح فيها المصلحة والتيسير إستحساناً، مثل دخول الحمام رغم عدم تحديد كمية المياه المستعملة ولا وقت البقاء فيه. وعلى هذه الشاكلة أُجيز الشرب من السقاء رغم عدم تبيان القدر المستهلك من الماء. وكذا مختلف إجارات المنافع كالأراضي والديار وغيرها .
ومثل ذلك أُجيز بيع السمك المحصور في الأجمة إذا كان قد أخذه ثم أرسله في الأجمة؛ لأن بارساله لا يزول ملكه، وإن كان لا يتمكن من أخذه إلا بالصيد لتعارف الناس، وهو خلاف إجتهاد إبن عمر وإبن مسعود الذين روي عنهما القول: ‹‹لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر››. وقد أخذ الأحناف بإجتهادهما تبعاً للغرر .
كذلك أن الفقهاء القدماء لم يجوزوا الاستصناع طبقاً للقياس ، حيث لا يجوز بيع ما ليس عند الإنسان، لنهي النبي (ص) عن ذلك باستثناء السلم. لكن أجازه من جاء بعدهم لتعارف الناس على التعامل به. فقيل أنه جائز إستحساناً للعرف العام، فبنوا أحكامه الفرعية عليه . كما قيل أنه جائز إستحساناً لإجماع الناس عليه، لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير، وعليه يكون مقدماً على القياس . وبعضهم اعتبره جائزاً لقياس السلم عليه، فهو مستثنى من نهي البيع المعدوم صراحة، فيكون الإستصناع مستثنى ضمناً، للعرف الجاري في التعامل به، فهو مخصص للنص العام المانع لمثل هذا البيع . كل ذلك مبرر بالعرف أو لإعتبار القاعدة الفقهية الشهيرة (الحاجة تنزل منزلة الضرورة).
كما بالرغم من أن يد الأمانة لا تعد ضامنة عند عدم التقصير، فقد لجأ الفقهاء إلى تضمين الصناع بالمصلحة والإستحسان، وذلك عندما لاحظوا كثرة ما يفرّطون بالأمانة ويدعون حفظها، فاقتضى الأمر بالتضمين عند تلف أو فقد الأمانة. وقد نُقل أن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع عند تلف أو ضياع ما في أيديهم من أمانة، وقال الإمام علي بهذا الشأن: ‹‹لا يصلح الناس إلا ذاك›› .
كما أن إنقطاع الصلة بين الزوج والزوجة بالطلاق يحرم الأخيرة الميراث من الزوج، لكن الفقهاء استثنوا من ذلك فيما لو توافرت الشروط لتحقق مظنة فرار الزوج من التوريث؛ كإن طلق زوجته وهو في مرض الموت، فهذا الطلاق لا يمنعها من الميراث .
كما رغم أن القاعدة العامة ترى لزوم الحجر على السفيه في تصرفاته المالية؛ إلا أنه استثني من ذلك التصرفات التي يكون لها نفع تام من الهبات والوصايا. فالوصايا العقلائية مقبولة من السفيه، إذ القصد من الحجر عليه هو للمحافظة على ماله، كي لا يصبح كلاً على الناس وعالة عليهم، والوصية التي يتبرع بها لا تنفذ إلا بعد وفاته، فلا يضره ذلك في حياته، بعد حفظ حق الورثة منه .
كذلك رغم إتفاق الفقهاء على عدم إجازة بيع الثمار على الشجر قبل أن ينضج بعضه على الأقل للنص ، إلا أنهم اختلفوا في جواز ذلك إذا نضج أكثره أو بعضه، ومثله بيع الزروع كالبطيخ والباذنجان والكوسا وغيرها، إذ تخرج ثمراتها دفعات، وتسقى عدة مرات في أثناء ذلك، وقد جرى العرف على بيعها ولو خالف إجتهادات المجتهدين السابقين في منع بيع الثمار على الشجر. وجاء في (الهداية): ‹‹من باع ثمرة لم يبد صلاحها أو قد بدا جاز البيع، لأنه مال متقوم إما لكونه منتفعاً به في الحال أو في الثاني، وقد قيل أنه لا يجوز قبل أن يبدو صلاحها، والأول أصل››. وقد اختار الإمام محمد بن الحسن جواز تركها على الشجر خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف واستحسنه للعادة والعرف. وذكر السرخسي في (المبسوط): ‹‹وعند الشافعي يتركها إلى وقت الإدراك لأنه هو المتعارف بين الناس، ولو اشتراها بشرط الترك فالعقد فاسد عندنا جائز عند الشافعي رحمه الله لأنه متعارف بين الناس››. وهو في هذا يتفق مع محمد بن الحسن خلافاً للصاحبين إستحساناً مبنياً على العرف، وقال مالك وبعض أصحاب أحمد وإبن القيم وشيخه بجواز هذا النوع من البيع .
وعلى هذه الشاكلة ذكر إبن القيم عدداً من الأحكام الواقعة تحت تأثير مبادئ العرف والحاجة والمصلحة ودفع الضرر؛ لولاها لاتخذت قالباً مغايراً ومضاداً من الأحكام، منها تضمين الأجير المشترك، ومنع الوصي من المضاربة بمال اليتيم في الزمن المتأخر لفساد الناس، وعدم إجارة الوقف أكثر من سنة في الدور واكثر من ثلاث سنين في الأراضي، وسقوط الشفعة إذا أقرّ طلب التملك شهراً عند الإمام محمد دفعاً للضرر، وبإفتاء العلماء بالعفو عن طين الشوارع للضرورة، وكذا طهارة الحياض والآبار واغتفار الغبن اليسير والعفو عن رشاش البول. ومن ذلك أيضاً القضاء بالأجرة للغسال والخباز والطباخ والدقاق والحمال وصاحب الحمام والقيم وإن لم يعقد معهم عقد إجارة؛ إكتفاءً بشاهد الحال ودلالته، ولو استوفى هذه المنافع ولم يعطهم الأجرة عُدّ ظالماً غاصباً، ومن ذلك قبول قول الوصي فيما ينفقه على اليتيم إذا ادعى ما يقتضيه العرف .
ومن النماذج الأخرى لتغيير الأحكام طبقاً لتعارض الأدلة؛ هو أن بيع النحل ودود القز يعد غير جائز عند الإمام أبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف، لأنهما لا يعتبران هذه الحشرات من الأموال، قياساً على سائر هوام الأرض كالوزغ والضفادع. لكن الإمام محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة والشافعي حكما بماليتهما وصحة بيعهما لجريان التعامل بهما في عرف الناس بيعاً وشراءاً .
ولدى أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والدين، كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن، لكن أجاز ذلك من جاء بعدهم بحجة أنه لو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة فسيلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالإكتساب من حرفة وصناعة فسيلزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان، مع أن ذلك مخالف لِما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن؛ لإعتقادهم بعدم جواز الإستيجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك .
وبحسب القياس طبقاً لأبي حنيفة والشافعي أنه إذا فقأ صحيحٌ عينَ أعور فإن عليه نصف الدية، لكن المالكية لم يأخذوا بهذا القياس استناداً إلى المنفعة المقدرة في الواقع، حيث أن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك، لذا وجب عليه مثل ديته لديهم .
كما بحسب القياس لا يُحدّ الرجل الذي شهد عليه أربعة بالزنا؛ إذا ما عيّن كل واحد منهم الجهة بغير ما عيّنه الآخر، فالظاهر هو أن الأربعة لم يجتمعوا على زنا واحد، لكن أبا حنيفة استحسن حدّه، كي لا يفضي الأمر إلى تفسيق العدول أو الشهود .
كما أن من المقرر في أصل المذهب الحنفي أن المدين تنفذ تصرفاته في أمواله بالهبة والوقف وسائر وجوه التبرع، ولو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلها؛ بإعتبار أن الديون تتعلق بذمته، فتبقى أعيان أمواله حرة، فينفذ فيها تصرفه، طبقاً لمقتضى القواعد القياسية، لكن لما فسدت ذمم الناس بقلة الورع وكثرة الطمع؛ فقد أصبح المدينون يعمدون إلى تهريب أموالهم بإجراء الوقف عليها أو هبتها لمن يثقون به. وهذا ما حدا بفقهاء الحنفية والحنبلية المتأخرين إلى الإفتاء بعدم نفاذ مثل تلك التصرفات من المدين إلا فيما كان زائداً عن وفاء دينه من أمواله . وقد كان الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن ممن يذهب إلى ذلك خلافاً لاستاذهما أبي حنيفة .
وأيضاً في أصل المذهب الحنفي أن القاضي يقضي بعلمه الشخصي في الحوادث استناداً إلى ما فعله عمر بن الخطاب، لكن لوحظ فيما بعد غلبة الفساد وأخذ الرشوات على القضاة، لذلك أفتى المتأخرون بعدم صلاحية ذلك العلم، والإكتفاء بالبينات والشهود .
كذلك فإنه في أصل المذهب الحنفي - خلافاً للمذاهب الثلاثة الأخرى - أن الغاصب لا يضمن قيمة منافع المغصوب طيلة مدة الغصب، بل يضمن العين فقط، بإعتبار أن المنافع عنده ليست متقومة في ذاتها، بل تتقوم بعقد الاجارة، ولا عقد في الغصب. لكن حيث أن الناس أصبحت لديهم الجرأة على الغصب نتيجة فساد الذمم وضعف الوازع الديني؛ فإن المتأخرين من فقهاء الحنفية أفتوا بتضمين الغاصب أجرة المثل عن منافع المغصوب، إذا كان المغصوب مال وقف أو مال يتيم أو معداً للإستغلال. وهذا ما استقر عليه العمل في مجلة الأحكام العدلية .
وبمقتضى القواعد العامة للقياس في الفقه الحنفي فإن البالغ العاقل أو الرشيد إذا أصابه الجنون أو العته فإن الولاية عليه تكون للقاضي ولا تعود إلى الأب والجد، لكن بالإستحسان من حيث وفرة الشفقة والرعاية لدى الأب والجد فإن الولاية تصبح لأحدهما ولا تعود للقاضي .
ومع أن القاعدة العامة تنص بأن للزوج أن يسافر بزوجته حيث شاء، وهو ما أفتى به المتقدمون من الفقهاء، لكن جماعة من المتأخرين أفتوا بعدم جواز ذلك، حيث أن السفر يضار الزوجة ويضيق عليها، واعتبروا فتوى الفقهاء المتقدمين جاءت لصلاح الناس في زمانهم وعدم قصدهم المضرة بالسفر. وبالتالي فقد أرجع المتأخرون الفتوى إلى إختلاف الزمان والعرف إن كان السفر فيه مأموناً أو غير مأمون .
ومن ذلك أن جماعة من المتأخرين ذهبوا إلى مخالفة المشهور، إذ قرروا بأن من هرب بامرأة يتأبد عليه تحريمها، مظنة أن من يعلم ذلك لا يقوم بالهروب وهو يعرف أنه لا يحل له الزواج بها. بينما المشهور يذهب إلى عدم التأبيد .
كما أن جماعة من الفقهاء منعوا تأجير الأرض بما يخرج وينبت فيها؛ لأنه تأجير بمجهول، لكن أباحه بعضهم لما في ذلك من مصلحة الناس وعدم الحرج، إذ من الناس من تكون له الأرض ولا قدرة له على زراعتها، ومنهم من له القدرة على ذلك وإن لم يملك أرضاً، فالمصلحة بهذا شاملة للطرفين لا يجوز تضييعها . وبعضهم اعتبر إجازة ذلك لعموم البلوى، إذ أن المعاملات إذا سادها الفساد على العموم فلا بد من الترخيص فيها.
كما أحدث إبن تيمية حكماً يخص الطلاق بخلاف من سبقه من المجتهدين وما كان عليه رأي عمر بن الخطاب. فقد تمسك في بعض حججه طبقاً لما عليه الواقع الإجتماعي مثلما فعل عمر من قبل وإن كانت النتيجة بينهما متخالفة. فقد رفض إبن تيمية معاقبة الناس في إلزامهم بالطلاق، معتبراً أن جمع الثلاثة محرم، لكن حيث أن أكثر الناس لا يعلمون بأن هذا الجمع محرم، سيما وأن الشافعي يراه جائزاً، لذا يستشكل كيف يُعاقب الجاهل بالتحريم؟! وهو يرى أن المصلحة في عقوبة عمر عند إلزامهم بالثلاث هي أنه قد سدّ عليهم باب التحليل كعقوبة، لكن ما جرى للكثير من الفقهاء بعده هو عكس ما جرى للخليفة الراشد من مصلحة، فقد فتحوا للناس باب التحليل، الأمر الذي أخلّ بالمصلحة التي سلكها هذا الخليفة لردع الناس. فالرجل إذا علم أن بإمكانه أن يرجع إلى امرأته بالتحليل استهان بأمر الطلاق بالثلاث، وبالتالي فإن الإلزام بالثلاث لا يشكل عليه عقوبة رادعة. لذلك يرى إبن تيمية لو أن عمر علم بأن الناس يتتابعون بعده بالتحليل لما عمل على تغيير ما كان عليه الأمر في عهد النبي وأبي بكر، سيما وأنه ندم على ذلك قبل موته كما يُنقل . مهما يكن فقد اختار بعض المتأخرين ما رآه إبن تيمية، كالذي عليه صاحب (المختارات الجلية) .
ومنها أنه قبل إنشاء السجلات العقارية الرسمية التي تحدد العقارات وتعطي كلاً منها رقماً خاصاً، كان الشرط في صحة التعاقد على العقار الغائب عن مجلس العقد هو ذكر حدود العقار، أي ما يلاصقه من الجهات الأربع ليتميز العقار المعقود عليه عن غيره وفقاً لما تقضي به القواعد العامة من معلومية محل العقد. ولكن بعد إنشاء السجلات العقارية في كثير من الممالك والبلدان، كما هو الحال في أيامنا الحاضرة، أصبح يُكتفى في العقود - من الناحية القانونية - بذكر رقم محضر العقار دون ذكر حدوده. وهذا ما يوجبه فقه الشريعة، لأن الأوضاع والتنظيمات الزمنية أوجدت وسيلة جديدة أسهل واتمّ تعييناً وتمييزاً للعقار من ذكر الحدود. وكذلك كان تسليم العقار المبيع إلى المشتري لا يتم إلا بتفريغ العقار وتسليمه فعلاً إليه، أو تمكينه منه بتسليم مفتاحه ونحو ذلك. فإذا لم يتم هذا التسليم يبقى العقار في يد البائع فيكون هلاكه على ضمانه ومسئوليته. لكن بعد وجود الأحكام القانونية التي تخضع العقود العقارية للتسجيل استقر الإجتهاد أخيراً بإعتبار التسليم حاصلاً بمجرد تسجيل العقد في السجل العقاري، فمنذ هذا التاريخ ينتقل الضمان إلى عهدة المشتري .
كما أُجريت بعض التغييرات في بعض العقود المستحدثة كما في عقد التأمين، فالأصل فيه عدم الجواز لما فيه من شبهة المقامرة أو الرهان الممنوع، أو أن التأمين على الحياة بالخصوص هو كفالة ضد قدر الله تعالى، ويكاد يكون خطراً على عقيدة الشخص المسلم إذا ما تعاقد فيه. وقد ذكر الشيخ الزرقاء أن أغلب علماء الشريعة المعاصرين حرموه لمثل هذه الإعتبارات من غير دراسة عميقة . لكن جوّزه بعض العلماء قياساً على عقد الموالاة، أو الحراسة، أو بيع الوفاء الذي أباحه الحنفية إعتماداً على العرف، ونفوا أن يكون فيه غرر أو جهالة مفضية إلى نزاع . ويُعد بيع الوفاء ‹‹من العقود المستحدثة في القرن الخامس الهجري، وجمهور الفقهاء يعتبرونه باطلاً لأنه يشتمل على بيع وشرط›› . لكن صححه البعض كما هو قول صاحب (الأشباه والنظائر)، إذ نقل عنه الشيخ عبد الوهاب خلاف قوله: ‹‹ومن ذلك الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الديْن على أهل بخارى، وهكذا بمصر، وقد سموه بيع الأمانة... وفي (القنية والبغية): يجوز للمحتاج الإستقراض بالربح›› .
ومن ذلك أيضاً إباحة شركات المساهمة، فقد حرّمها بعض الفقهاء المحدثين لأنها تتناقض مع عقد الوكالة، أو لأنها ليست عقداً أصلاً بين شخصين أو أكثر، أو لأنه لا يوجد فيها الجهد البدني من المشتركين، ولكن كثيراً من العلماء أباحوها نتيجة التطور التجاري، ولأنها تقوم على التراضي وهو أصل في العقود ولتوافر شروط الشركات الإسلامية فيها، وقيامها على الربح والخسارة .

3ـ التعارض مع النص
من المعلوم أن ظاهرة تغيير الأحكام لم ولن تتوقف عند حدود تعارضات الأدلة، بل تتجاوز هذه الحدود لتصل إلى أحكام النص ذاته. مع أن المبدأ العام عند الفقهاء هو عدم الإجتهاد عند وجود النص. لكن بفعل الحاجات الزمنية جرى لأحكام النص الكثير من التغيرات. وليس هناك من تبرير لهذه العملية إلا حين الإعتراف بأن النص كمادة لغوية لا يفي بسد حاجات الواقع العام، وبالتالي كان لا بد من الإسترشاد بعلاقته مع الواقع الخاص بالتنزيل، مع التظلل بمقاصده العامة والخاصة.
مبدئياً سبق أن ذكرنا العديد من العلماء الذين أجازوا تغيير أحكام النص ونسخها بالإجتهاد، فمنهم من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس، وبعضهم وافق على نسخ أخبار الآحاد فقط. كما أن منهم من جوّز نسخ أحكام النص بالقياس الجلي لا الخفي، وبعضهم جوّز النسخ بكلا النوعين من القياس؛ بتعليل مرده إلى قياس النسخ بالتخصيص، فما جاز التخصيص به جاز النسخ به بلا فرق. بل أكثر من هذا ما ذهب إليه جماعة من أن لولي الأمر أو الإمام حق ممارسة نسخ ما يراه مناسباً من الأحكام.
وعلى الصعيد العملي مارس الفقهاء، لا سيما القائلون بالمصالح والإستحسان، نوعين من الإجتهاد وتغيير الأحكام في قبال ما هو حاصل عندهم من نصوص. أحدهما لا يتجاوز تقييد النص وتخصيصه دون أن يلغي امتثاله كلياً. أما الآخر فهو معني بهذا الإلغاء؛ إما على نحو تام، أو على نحو مناط بما يفترض له من علة.
لكنّا لسنا بصدد تسطير ما قام به الفقهاء من مخالفة أحكام النص لترجيح القياس والإجتهاد عليها، كالذي أشار إليه إبن القيم ودلل عليه بشواهد غزيرة في كتابه (أعلام الموقعين)، ومن ذلك ما نصّ عليه من حالات كثيرة من القياسات غير المنضبطة بالضابط الشرعي، بل جاءت متناقضة ومخالفة لنصوص الإسلام ومبادئه، وبلغت الصفحات التي سوّدها هذا الفقيه لبيان هذه القياسات غير المنضبطة ما يقارب الأربعين صفحة . وكذا ما ذكر من أمثلة لإجتهادات فقهية كثيرة العدد تقارب الستين شاهداً؛ تعدل عما جاء من نصوص شرعية وتردها . نعم لسنا بصدد مثل هذه المخالفات، لأن غرضنا هو حصر الإهتمام بالشواهد الدالة على دور الواقع في تغيير الأحكام، ومنها أحكام النص، كما هو مورد بحثنا الآن.

أـ الواقع وتخصيص الحكم
حول تغيير أحكام النص بالتقييد والتخصيص؛ يلاحظ أن الفقهاء وإن حافظوا على الإجمال في إمتثال مثل هذه الأحكام، لكن ذلك لا يعفيهم من ممارسة التغيير في شطر منه لا ينبئ به الجانب اللغوي للنص ولا تفرضه الضرورة العقلية أو الحسية التي هي بمثابة المنصوص . فالفقهاء لم يتوقفوا عند تقييد النص وتخصيصه طبقاً للقرائن اللفظية والحالية، ولا طبقاً للإجماع والسيرة فحسب، بل أضافوا إلى كل ذلك مصالح الواقع وحاجاته. وهم لا يعدون هذه الممارسة تعطيلاً للنص أو نسخاً لحكمه بالكامل، بل يعتبرونها توفيقاً إضطرهم إليها ضغط الحاجة. وغالباً ما فسروا الأمر إعتماداً على مبدأ العرف. لكنهم مع ذلك تحفظوا من الأخذ بهذا الأمر إلا ضمن شروط مقبولة كالتالي:
1ـ أن يكون العرف مطرداً أو غالباً.
2ـ أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات قائماً عند إنشائها. فالعرف الحادث لا عبرة به في الحكم، لذا قالوا ‹‹لا عبرة بالعرف الطارئ››. وعليه يجب أن تفهم النصوص التشريعية بحسب مدلولاتها اللغوية والعرفية خلال عصر النص؛ لأنها مراد الشارع ولا عبرة لتبدل مفاهيم الألفاظ في الأعراف المتأخرة.
3 ـ أن لا يعارض العرف تصريح بخلافه، من قبيل العقود التي نهى عنها الإسلام؛ مثل بيع الملامسة والمنابذة وغيرها، ومن قبيل الغزو واستباحة الحقوق به، ونكاح الشغار وإثبات ولد الزنا .. إذ للعرف دلالة ليست صريحة، والقاعدة الفقهية تقول: ‹‹لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح››. فهذا الشرط يعتبر قيداً أساسياً لقاعدة بيان عرف المعاملات القائلة: ‹‹المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً››.
4 ـ أن لا يكون في العرف تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة. ذلك لأن نص الشارع مقدم على العرف. لكن لو كان العرف مما يمكن تنزيل النص الشرعي عليه أو التوفيق بينهما فالعرف عندئذ معتبر وله سلطان محترم . كذلك فإن ‹‹العرف الطارئ إذا كان له مستند شرعي من نص أو إجماع أو ضرورة ملجئة يعتبر ولو خالف النص الخاص، وإلا فلا›› كما ذهب إلى ذلك أبو سنة في رسالته (العرف والعادة في رأي الفقهاء) .
بمثل الشروط السابقة تمسك الفقهاء بحجية العرف في تخصيصه لحكم النص. فالقاعدة عند الحنفية هو أن العرف العام بنوعيه القولي والعملي يقوى على تخصيص النص، أما العرف الخاص فالراجح لديهم أنه لا يقوى على ذلك. فمثلاً ورد عن النبي حديثان أحدهما ينهى عن بيع المعدوم، والآخر ينهى عن بيع الغرر - المخاطرة -، وقد قام فقهاء المذهب الحنفي بتخصيص هذين الحديثين وجوزوا بيع المواسم الثمرية للكروم وسائر الأشجار ذات الثمار المتلاحقة، متى ظهر بعض هذه الثمار وبدا صلاحها؛ تبعاً لمصلحة حاجة الناس إلى مثل هذا البيع، إذ أشجار هذا النوع لا تؤتي ثمارها دفعة واحدة، بل كلما قُطفت خلّفت، أي أن فيها بيع المعدوم، كما أن فيها بيع الغرر، فكميتها إحتمالية لا يمكن تحديدها وقت البيع. وقد قال الحنفية أن هذا تخصيص للنص بالعرف وليس تركاً للنص كلية . لكن يظل، سواء عند الحنفية أم المالكية، أن العرف أصل مستقل يخصص العام منه النص العام، ويقيد المطلق، ويقدم على القياس.
بل يرى بعض العلماء بأن العرف الخاص القائم يمكن أن يخصص النص العام. فمثلاً جاء عن الإمام مالك أنه إذا كانت المرأة ذات حسب فإنه لا يلزمها أرضاع ولدها، بل يحق لها استئجار مرضعة له طبقاً للمصلحة العرفية. إذ اعتبر أن كل أم يلزمها رضاع ولدها طبقاً لما نصّ عليه القرآن الكريم، لكنه استثنى من ذلك - خلافاً لبقية الفقهاء - ذوات الحسب كتخصيص لعموم قوله تعالى: ((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)) ؛ تبعاً للمصلحة. وقد علّق على ذلك إبن العربي بقوله: ‹‹هذا فن لم يتفطن له مالكي، وقد حققناه في أصول الفقه. والأصل البديع فيه هو أن هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب، وجاء الإسلام عليه فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضاع إلى المراضع إلى زمانه، فقال به›› .
على أن قبول الفقهاء لمبدأ العرف العام في تخصيصه للنص وتقييده؛ جعلهم يفهمون النص فهماً لا يتقيد بحرفية المنصوص كلياً، فهم بذلك قد أوْلوا لتأثير الأحوال العامة للواقع دوراً في فهم النص. وقد يقال أن هذا الفعل فيه مخاطرة، بإعتباره قد يجانب حقيقة ما يريده الخطاب الديني، إذ فيه تغيير لحكم النص وتحويله مما هو عام ومطلق إلى شكل يستثنى منه بعض ما يعارضه العرف العام. وهو من هذه الناحية لا يختلف عن مخاطرة تخصيص النص بالعرف الحادث وجعل المنصوص متعلقاً بما عليه واقع الظرف القائم في عصر النص، وليس الواقع العام بإطلاق.. فكيف جاز قبول الصنف الأول دون الثاني مع أنهما يواجهان - معاً - نوعاً من المخاطرة لعدم أخذهما بعموم النص وإطلاقه؟
فلو قيل - مثلاً - كتمييز بين الحالين أن الأول إنما يخصص النص العام لوجود مصلحة أو حاجة في العرف العام لا تتسق مع العموم في النص.. لكان يمكن أن يقال الشيء نفسه بالنسبة إلى تخصيص النص بالعرف الحادث من غير فرق.
وكذا لو قيل أن ذلك يرتهن بعلاقة النص بالعادة الجارية؛ لكان يمكن أن يجاب أيضاً بأن تغيّر العادة يبعث على تغيّر ما يتوقف عليها من حكم. لهذا فرغم أن هناك من أخذ يعترض على أبي يوسف كيف أنه قام بمخالفة بعض النصوص بالعرف الحادث؛ إلا أن في القبال وجد من المتأخرين من أخذ يدافع عنه تعويلاً على ربط النص بالعادة.
بل هناك الكثير من القضايا التي تقبلها الفقهاء مع أن فيها تخصيصاً وتغييراً بالعرف الحادث أو بغيره مما فرضته الحاجات الزمنية. وهو أمر يدعو إلى طرح القضية لا على مستوى التخصيص فحسب، بل وعلى تبديل الحكم الكلي برمته إن وجد له مطرح من الفهم يتسق مع ما كان عليه الواقع الخاص بالتنزيل.
فهذا لا يختلف عما قام به الفقهاء من تخصيص النص وتقييده؛ سواء بالعرف أو بغيره. ففي جميع الأحوال يتسق هذا الفهم مع ما عليه الواقع ولو خالف بذلك ظاهر النص، سواء كانت هذه المخالفة مفضية إلى التخصيص، أو أنها تفضي إلى ربط النص بالواقع القائم أو الخاص بالتنزيل مثلما فعل ذلك أبو يوسف وغيره كما سنرى. فكلا الفهمين يتأسسان - ولو بدرجات - على الأخذ بروح الشريعة دون الوقوف عند الحرفية اللفظية الصرفة من النصوص. لذلك فإن الإتجاه المخصص للنص بالعرف وغيره يجد رفضاً من قبل الإتجاه الآخر المقتصر على الحرفية المنصوصة بالكامل. وقد سبق للشاطبي أن أشار إلى مثل هذين التيارين في تعاملهما مع قضايا فهم النص.
على أن بعض الفقهاء لم يقتصر في التخصيص على العرف العام ولا القائم ولا مجرد العرف كمبدأ، إذ أورد إبن العربي واعتمد عليه الشاطبي من أن ابا حنيفة ومالكاً يريان تخصيص عموم النص بأي دليل كان؛ من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة .
فمثلاً أفتى أبو حنيفة ومالك بجواز دفع الزكاة للهاشمي مع ورود الحديث بالمنع. إذ لما تغيرت الأحوال واختل نظام بيت المال وضاع حق الهاشميين منه أفتيا بذلك، دفعاً للضرر عن هذه الطائفة، وحفظاً لها من الفقر ومذلة الحاجة .
كذلك سلّم الفقهاء بإطلاق قاعدة (لا يقتل الوالد بولده) طبقاً لما جاء في الحديث النبوي: ‹‹لا يقتل الوالد بالولد››. وهو الذي أخرجه الترمذي عن إبن عمر عن النبي (ص)، وقال فيه إبن عبد البر: ‹‹هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، وهو عمل أهل المدينة، ومروي عن عمر›› . وسواء اعتبرنا الفقهاء عملوا بتلك القاعدة استناداً إلى الحديث الآنف الذكر، أو استناداً إلى ما قضى به عمر بن الخطاب بالدية مغلّظة في قتل الوالد لابنه، دون أن ينكر عليه أحد من الصحابة، وهو الذي إستند إليه أبو بكر بن العربي، معتبراً الفقهاء هم الذين سجلوا المسألة بعنوان: لا يُقتل الوالد بولده، ولم يرد في ذلك نص عن النبي (ص) سوى حديث عدّه باطلاً، وهو: ‹‹لا يقاد والد بولده››.. فسواء بهذا الإعتبار أم بذاك، نرى مالكاً لا يأخذ بإطلاق ما عليه القاعدة التي عليها عمل أهل المدينة، إذ قيّدها بحالات القتل العارضة دون سواها. لذلك يرى أنه يُقتل الوالد بإبنه إذا ما تبين قصده إلى قتله بأن أضجعه وذبحه، فإن رماه بالسلاح أدباً وحَنَقاً لم يُقتل به، ويُقتل الأجنبي بمثل هذا. كما قال: أنه لو حذفه بسيف، وهذه حالة محتملة لقصد القتل وغيره، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل، لذا فإنه لا يُقتل، لكن لو أضجعه فإنه يكون قد كشف عن قصده فيُقتل .
كما أن مذهبي مالك والشافعي لا يأخذان بإطلاق النهي الوارد في أحاديث سفر المرأة وحدها، حيث أجازا حج المرأة وحدها من غير محرم إن كانت في رفقة مأمونة. الأمر الذي فهما النهي المنصوص عن سفرها وحدها هو عند إضطراب الأمن وخوف الفتنة فحسب .
ومن ذلك أيضاً ما حكاه إبن بشكوال بأنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم أن واقع زوجته في رمضان، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته. فقال يحيى بن يحيى: يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين. فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده، فقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام؟ فقال لهم: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. وقد علّق الشاطبي على هذا بقوله: ‹‹إن صح هذا عن يحيى رحمه الله، وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفاً للإجماع›› . كما أنه خلاف الترتيب الوارد في النص.
كما ورد بأن النبي سُئل عن الشهادة فقال للسائل: هل ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: ‹‹على مثلها فاشهد أو دع››، وبناءاً على هذا الظاهر قرر الفقهاء عدم قبول شهادة التسامع في إثبات الحقوق. لكن فقهاء الحنفية وجدوا أن هناك موضوعات تقتضي فيها المصلحة قبول شهادة التسامع، حيث يتعذر العيان المشروط، ومن ذلك فيما يتعلق بإثبات النسب والوفاة والدخول بالزوجة، وأيضاً إثبات أصل الوقف ولو كان العقار في حوزة صاحب اليد، وذلك كي لا يجرأ إنسان على غصب الأوقاف القديمة. كما أن فقهاء الحنفية قد قبلوا شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه إلا النساء، كالجرائم التي تقع في حماماتهن، وكشهادة القابلة على الولادة وتعيين الولد عند النزاع فيه، وبمقتضى مثل هذه المصالح خصصوا نصوص القرآن والسنة التي تشترط في الشهادة عنصر الذكورة كلاً أو بعضاً .
ومن الأمثلة الأخرى على تخصيص النص بالعرف والمصلحة هو أن الفقهاء منعوا سماع الدعوى التي لا تشبه الصدق ومنع تحليف المدعى عليه لها إعتماداً على ما يصدقه العرف، مع أن الحديث النبوي يقرر بأن ‹‹البينة على من ادعى واليمين على من أنكر››. وقد لاحظت المالكية أنه قد يُستغل هذا الحديث فيتجرأ السفهاء على الفضلاء ويجروهم إلى المحاكم بدعاوى كاذبة موهومة أمام الناس، فيستغلوا كراهيتهم للحلف ليبتزوا أموالهم افتداءً من اليمين. لهذا لا يوجب الإمام مالك تحليف المدعى عليه ما لم يكن بينه وبين المدعي خلطة؛ نظراً لتلك المصلحة ودرءاً للإستغلال الباطل .
ومن ذلك - كما يذكر إبن القيم - لو رأى إنسان موتاً بشاة غيره أو حيوانه المأكول فبادر بذبحه ليحفظ عليه ماليته كان محسناً ولا سبيل على محسن، ومن ضمّنه فقد سد باب الإحسان إلى الغير في حفظ ماله، لذا فبه يُخصص النص العام بعدم التصرف في مال الغير إلا بأذنه. ومثل ذلك أمور كثيرة خُصصت إعتماداً على العرف: منها ما إذا استأجر أحد دابة جاز له ضربها إذا حرنت في السير وإن لم يستأذن مالكها. ومنها لو وقع الحريق في الدار أو في جزء منها فبادر فهدمها على النار لئلا تسري؛ فإنه لا يكون ضامناً إعتباراً بالعرف. وكذا لو رأى السيل فهدم عليه جزءاً من ملك غيره كي لا ينهدم الكل فإنه يكون غير ضامن ما هدمه. ومنها ما هو متعارف عليه من أن الضيف يشرب من كوز صاحب البيت ويتكئ على وسادته ويقضي حاجته بحسب المتعارف عليه فكل ذلك لا يعد تصرفاً في ملك الغير بغير اذنه. ومنها أخذ ما يسقط من الحب عند الحصاد أو تناول اليسير مما يسقط من مأكول وغيره .
لذلك فقد عقّب إبن القيم بعد ذكره مثل هذه المسائل؛ معتبراً أن أضعاف أضعاف هذه المسائل هي مما كان العمل فيها طبقاً لشاهد الحال والعرف والعادة وليس النطق الصريح، طالما أن الشريعة لا ترد حقاً ولا تكذب دليلاً ولا تبطل أمارة صحيحة .
ومثل ذلك ما قام به العديد من العلماء في عدم التقيد بما جاء في النص من تحديد موارد الزكاة للثمار، حيث ورد في نص الحديث ‹‹إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب››. فبعضهم اعتبر الزكاة جارية في الموارد الأخرى للثمار، بتعليل مفاده أن النص إنما حدد تلك الأصناف الأربعة بإعتبارها كانت شائعة ورئيسية آنذاك .
كما أن البعض أبدى مرونة إزاء الحدود، مثلما هو الحال مع إبن تيمية وإبن القيم. فهذا الأخير يرى أن الحد يسقط عن التائب قبل القدرة على امساكه . وهو واستاذه يفتيان بجواز ايقاف التنفيذ لحد السرقة في بعض الحالات . كما أن بعض الفقهاء أباح الربا في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع .

ب ـ الواقع وتغيير الحكم
لقد تعدى الفقهاء حدود تخصيص حكم النص وتقييده كالذي اطلعنا عليه قبل قليل، وقاموا بإجراء الإدخالات الإضافية عليه تارة، ونسخه تارة أخرى، بتعليل مرده إلى المقاصد الشرعية التي هي بمثابة الحاكم على الحكم ذاته مع وجود الحاجة وتغير الظروف والأحوال. والفارق الأساس بين هذا النوع وما قبله، هو أن في هذا النوع تغييراً لحكم النص بكافة صوره وتطبيقاته، خلال فترة معينة أو محل معين. في حين أن التغيير في النوع السابق يعمل على إستثناء بعض مصاديق الحكم من التطبيق، طبقاً للمصلحة أو الحاجة أو العرف أو غير ذلك.
وتغيير حكم النص تارة يكون طبقاً لعلة منصوصة أو مفهومة من لفظ النص، وأخرى بغير ذلك وهو الغالب. فمثلاً على الحالة الأولى أن الأساس في إعتبار الصمت في استئذان الفتاة البكر في النكاح هو العرف القائم في ذلك الوقت؛ طبقاً لحديث عائشة كما روي في الصحيحين، إذ جاء أنها سألت النبي فقالت: ‹‹يا رسول الله تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم. قلت: فإن البكر تستأذن فتستحي، قال: إذنها صماتها›› . وواضح أن نص الحديث ‹‹إذنها صماتها›› قائم على إعتبار العرف طبقاً للسياق. وحكم النص يؤكد على أن سكوت البكر عند استيذان وليها لها في تزويجها من رجل معين وبمهر محدد يعتبر إذناً منها وتوكيلاً، وقد اتفقت آراء الفقهاء على أن هذا الحكم مبني على ما معروف في البكر من الخجل عن إظهار رغبتها في الزواج عند استئذان وليها لها. لكن اليوم تغيّر العرف في كثير من البلدان وأصبح لا يكفي فيه صمت الفتاة البكر، إذ بلغت من الجرأة حداً تعرب فيه عن رأيها لفظاً فيعتبر إذنها كإذن الثيب، يؤخذ بالعرف لأن أساس حكم النص قام على إعتبار العرف وقد تغيّر فيتغير بتغيره .
والمثال كما هو واضح دال على تغيير حكم النص كلياً استناداً إلى المفهوم من لفظ النص وسياقه الدلالي. لكن هناك أمثلة كثيرة تشهد على تغيير الفقهاء لأحكام النص بدلالات هي ليست مأخوذة من النص ذاته، بل من الواقع وما يفرضه من إعتبارات مختلفة.
ومن ذلك ما جاء عن النبي أنه نهى عن كتابة أحاديثه وقال: ‹‹من كتب عني غير القرآن فليمحه››، ومع أنه ورد في القبال أحاديث أخرى لا تمانع من الكتابة والتدوين، إلا أن الكثير من الصحابة والتابعين كانوا يتهيبون التدوين أو الابقاء عليه، وقد فهم الفقهاء من ذلك الكراهة تبعاً للنهي، واعتبروا أن التحفظ والكراهة استمرا حتى مطلع القرن الثاني، ثم بعد ذلك انصرف العلماء بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز أو من جاء بعده من الخلفاء العباسيين إلى تدوين السنة النبوية خشية من ضياعها، معللين سبب النهي بأنه يعود إلى الخوف من أن تختلط الأحاديث بالقرآن. لكن لما عمّ القرآن وشاع حفظاً وكتابة لم يبق لهذا الخوف من معنى، وعليه أصبحت كتابة السنة واجبة لصيانتها من الضياع بعد أن كانت مكروهة. وهو أمر أشبعناه بحثاً ومناقشة في كتابنا (مشكلة الحديث) .
ومن ذلك ما قاله الزبير بن البكار: قلت لعبد الملك بن الماجشون وقد رأيته يأكل الرطب بقصعه، كيف تفعل هذا، وقد نهى رسول الله (ص) عن تقصيع الرطب؟ فقال: إنما نهى رسول الله (ص) عن تقصيع الرطب حيث كان أكله يتشبع به، وقد جاء الله بالرخاء والخير، والمراد ها هنا بالتقصيع أكل الرطبة في لقمة، وذلك يكون مع الشبع، فإذا لم يكن غيرها فأكلها في لقم أثبت للشبع .
كما أن شرط القرشية في الخلافة الذي قيل فيه أنه يحظى بالنص والإجماع قد أسقط لدى العديد من العلماء بمبررات لها علاقة بفهم الواقع وما طرأ عليه من تحولات وتجددات ، كالذي فصلنا الحديث عنه في (فهم الدين والواقع).
كذلك أُعتبرت الوصية للأقربين مستحبة لقوله تعالى: ((كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين حقاً على المتقين)) ، وعُدّت هذه الآية منسوخة بالنسبة للوارثين بآية الميراث وهي قوله تعالى: ((يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)) ، وبقول النبي (ص): ‹‹ألا أن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث››، لذا رأى فقهاء المذاهب الأربعة أنه لا تجوز الوصية للوارث. وقد جرى عرف الناس على أن يقوم الورثة بإعطاء أبناء أخيهم المتوفى من الميراث، وأن يوصي الجد لأولاد إبنه المتوفى رأفة بهم ورحمة. لكن تغيّر الأوضاع، وانتشار عرف الناس على حرمان أحفاد الجد، وعدم إعطائهم له، جعل بعض الفقهاء يقول بالوصية الواجبة في جعل الأحفاد يأخذون من ميراث جدهم مع وجود أعمامهم إذا مات أبوهم قبل وفاة جدهم أو جدتهم، لمعالجة حرمان الأحفاد من ميراث جدهم أو جدتهم ولإنصافهم ورفع الحيف عنهم. وتغيير هذا الحكم إنما جاء بناء على تغيّر العرف . وهو الحكم الذي إستندت إليه القوانين الحديثة، كقانون الوصية المصري المرقم (71) لسنة (1946م)، حيث أجاز الوصية للوارث ما دامت لا تزيد على الثلث، وأوجب الوصية لبعض الأقربين من ذرية الميت .
ومن ذلك أيضاً أن بعض الفقهاء لم يكتفِ بظاهر العدالة في الشهادة لتفشي الكذب وانتشار الجرأة على شهادة الزور، مع أن النص العام بعدالة المسلمين كان يقتضي الإكتفاء بظاهر العدالة مثلما هو الحال في زمن رسول الله (ص) وصحابته. فمن ذلك أن الإمام أبا حنيفة اكتفى في عدالة الشهود بالعدالة الظاهرة لمستور الحال فيما عدا الحدود والقصاص دون حاجة لتزكيتهم؛ استشهاداً بقول الرسول: ‹‹المسلمون عدول بعضهم على بعض››. لكن لما غلب الفساد على الناس وفشا الكذب وتجرأ الناس على شهادة الزور؛ فإن الإمامين أبا يوسف ومحمد بن الحسن قالا بضرورة تزكية جميع الشهود دون أن يكتفيا بالعدالة الظاهرة .
كما أن الشهود الذين يُقضى بشهادتهم في الحوادث يجب أن يكونوا عدولاً كشرط إشترطه القرآن الكريم وأيدته السنة الشريفة وأجمع عليه الفقهاء. لكن ندرة العدالة الكاملة في الأزمان المتأخرة لضعف التدين وقلة الورع؛ جعل المتأخرين من الفقهاء يقبلون شهادة الأمثل فالأمثل من القوم وإن لم يتوفر صاحب العدالة الكاملة، وذلك حفظاً على الحقوق من الضياع فيما لو امتنع الإثبات لغياب تلك العدالة .
وعلى هذه الشاكلة نذكر ما قاله أبو عمران: سألت عن مسألة ما سألت عنها منذ قرأت، إذ قال بعض المصامدة: يجري عندهم في رجل يقتل رجلاً فلا يصل الحد إلى القصاص؛ هل يُجبر على الدية، مخافة أن طُلب القصاص قامت الفتنة بينهم فيُقتل خلق كثير، فأفتى الشيخ الحاكم الذي سُئل عن هذا بأن يحكم بالدية مخافة أن تنزل الفتنة فتئول إلى هلاك بعضهم. قال الشيخ: وهذا أكثر المقدور عليه .
كذلك فرغم أن الفقهاء لم يتقبلوا الأخذ بالعرف المخالف للنص كلياً؛ لكن بعضهم استثنى من ذلك فيما لو كان النص حين نزوله وصدوره عن المشرع مبنياً على عرف قائم ومعللاً به، ففي هذه الحالة يكون النص عرفياً يدور مدار العرف ويتبدل تبعه. فمثلاً أن النص في تحريم الربا في الأجناس المتساوية نصّ على الوزن، بالنسبة للذهب والفضة، وترك الأمر عاماً بالنسبة لغيرهما، ففي النص على الوزن جاء قول النبي (ص): ‹‹الذهب بالذهب وزناً بوزن مثْلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن مثْلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا›› ، في حين أن النص في غيرهما جاء عاماً، كقول النبي (ص): ‹‹الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثْلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد›› . ورغم صراحة النص في تحديده لأن تكون المثلية في الذهب والفضة بحسب الوزن لا الكيل، إلا أن البعض علل ذلك طبقاً للعرف القائم في عصر النص. أي أن نوع المثلية يُحدد بحسب ما عليه العرف، فما كان وزنياً كالذهب والفضة اعتبر فيه الوزن، وما كان كيلياً كالحنطة والشعير والملح والتمر اعتبر فيه الكيل، كما هو المتعارف عليه في ذلك العصر.
والملاحظ أن الحديث نصّ على التساوي الوزني في الذهب والفضة بالخصوص، أما ما عداهما من المواد الأربعة الأخرى فقد تعامل فيها العرف القائم بحسب الكيل، غير أن العرف تبدل في هذه الأزمان فأصبحت الحنطة والتمر والشعير والملح توزن وزناً ولا تكال كيلاً، فأي العرفين يعتبر هنا؟
لقد ذهب الحنفية إلى عدم إعتبار العرف الحادث طبقاً للنص المخالف الآنف الذكر، وذهب معهم جمهور المجتهدين، لكن أبا يوسف عوّل على حجية مثل هذا العرف، وأنه يتبدل المقياس بحسبه كما في الأموال الربوية التي لم يرد نص خاص بشأن مقياسها. وهنا يقول إبن عابدين في الرد على من يزعم بأن أبا يوسف خالف النص في إتباع العرف: ‹‹حاشا لله أن يكون مراد أبي يوسف ذلك، وإنما أراد تعليل النص بالعادة، بمعنى أنه إذا نصّ على البر والشعير والتمر بأنها مكيلة وعلى الذهب والفضة بأنهما موزونة لكونهما كانا في ذلك الوقت كذلك، فالنص في ذلك الوقت إنما كان للعادة.. فليس في اتباع العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص بل فيه اتباع للنص›› .
هكذا يعمل العرف الحادث لدى أبي يوسف على تغيير حكم النص كما في حديث الذهب والفضة الموزونين، الأمر الذي لم يتفق معه أغلب الفقهاء. ومن ذلك ما قاله شارح (سبل السلام): ‹‹إحتجت الحنفية بهذا الحديث على أن ما كان في زمنه (ص) مكيلاً لا يصح أن يباع بالوزن متساوياً بل لا بد من إعتبار كيله وتساويه كيلاً وكذلك الوزن››. وقال إبن عبد البر ‹‹إنهم أجمعوا على أن ما كان أصله الوزن لا يصح أن يباع بالكيل بخلاف ما كان أصله الكيل فإن بعضهم يجيز فيه الوزن.. إن المماثلة تدرك بالوزن في كل شيء››. لكن في قبالهم ذهب آخرون إلى أن الكيل والوزن يحدد بحسب عادة البلد ولو خالف ما عليه العرف القائم، فإن اختلفت العادة اعتبر بالأغلب، فإن استوى الأمر إن كان له حكم المكيل إذا بيع بالكيل، وإن بيع بالوزن كان له حكم الموزون .
كذلك جاء في باب الوقف من كتاب (ملحقات العروة الوثقى) للسيد كاظم اليزدي أن ظاهر إجماع الإمامية هو أن الوقف لا يتم إلا مع الصيغة اللفظية الدالة عليه صراحة، لأن لفظ: (وقفت وتصدقت) ورد في حديث أهل البيت، ومع إعتراف اليزدي بصحة النص وثبوت الإجماع فقد أفتى بعدم وجوب الصيغة، وكفاية المعاطاة بالوقف، استناداً إلى ما جرت عليه سيرة الناس وعاداتهم من أن يبنوا المسجد للصلاة، ويغرسوا الأشجار للإنتفاع العام، ويتركوا أرضهم للدفن من غير إجراء صيغة، ويكون ذلك وقفاً عندهم .
على أن بعض الأحكام المتبدلة لا يتوقع لها أن تعود إلى ما كانت عليه في السابق. فهي بالتالي معدودة بحكم المنسوخة أو الملغاة؛ استناداً إلى ما تجدد من واقع وظروف لا تتسق مع ما عليه الأحكام السابقة. فهذا هو النسخ الخاص بنمط تعارض الواقع مع حكم النص.

القوانين الحديثة وتغيّر الأحكام
لقد تغيّرت في العصر الحديث الكثير من الأحكام بما فيها المنصوصة، كالذي جرى مع القوانين المدنية والقضائية منذ أواخر العهد العثماني وإلى يومنا هذا. ففي أواخر العهد العثماني تمّ إلغاء عقوبة الرجم في الزنى وقطع اليد وإلغاء الردة. كما أُلغيت الجزية وتمّ فرض التجنيد الإجباري على الأقليات غير المسلمة اسوة بالمسلمين . وأُعتبرت شهادة الذمي مساوية لشهادة المسلم أمام القانون؛ فواجهت لذلك ردود فعل عنيفة بين المسلمين، مثلما رفض النصارى مساواتهم باليهود . كما تمّ وضع قانون الجنسية، والذي نصّ على أجنبية المسلم غير العثماني. وجميع هذه القوانين وغيرها مما عملت بها البلدان الإسلامية – فيما بعد وحتى يومنا هذا - هي قوانين تخالف ما كانت عليه أحكام النص، لذلك كان إقراراها أول الأمر يعد منكراً لدى المسلمين، لكنها ما لبثت أن أصبحت مألوفة بلا أدنى مضايقة.
ومن أبرز الإهتمامات التي شهدها العصر الحديث ظاهرة الأخذ والإستفادة من المذاهب الإسلامية المختلفة، بغية تسديد حاجات الواقع ولو بتجاوز الشروط التي إشترطها الفقهاء القدماء. فقد أجبرت هذه الحاجات الفقهاء والمقننين بأن يبحثوا عن الأحكام المناسبة، شعوراً منهم بأن ما يبديه المذهب الواحد من أحكام لا يسعه معاجة المشاكل الإجتماعية التي عجّ بها هذا العصر، خاصة في مجالي الأسرة والمرأة، كالزواج والطلاق والإرث وما إليها. فمثلاً تتصف بعض الأحكام بالعسر والضيق وكان لا بد من استبدالها بأحكام عائدة إلى مذاهب إسلامية أخرى. ومن ذلك ما صرح به أبو زهرة، وهو أن ‹‹تطبيق المذهب الحنفي وحده في مصر قد صحبه أمران ضج بالشكوى منهما ذوو الفكر في مصر››. أحدهما تقني وهو ‹‹أن القضاة كانوا يعتمدون في أقضيتهم على قانون غير مسطور لم تدون مواده، ولم تجمع فروعه تحت كليات جامعة، وترك للقضاة أن يبحثوا عن أرجح الأقوال في المذهب، وأرجح الأقوال منثور في بطون الكتب، ولم يجمع المصنفون على أرجحية الكثير منها››. أما العيب الآخر فهو موضوعي، حيث ‹‹ان العمل بمذهب أبي حنيفة قد كشف عن مسائل ليس في الأخذ بها ما يتفق مع روح العصر، وفي غيره من المذاهب ما يوافق روح العصر أكثر منه››. وتبعاً لهذين العيبين ‹‹اتجه المصلحون إلى العمل على تسطير قانون الأسرة، يستنبط من المذاهب الأربعة المشهورة، ويختار منها بحيث يؤخذ من كل مذهب ما يكون أصلح للناس وأقرب إلى روح العصر›› .
كذلك فقد اضطر المقننون للقيام بالبحث عن الآراء المختلفة حتى لو كانت معدودة في السابق من الشواذ المهملة أو المتروكة التي لا يصح العمل بها لضعف الدليل عليها، وكذا لو كانت منسوبة إلى صحابي أو فقيه مهجور من السلف، أو منسوبة إلى من يعدون من أصحاب البدع كالخوارج والشيعة ومن على شاكلتهم. ومثل ذلك البحث في النص لإعادة صياغة فهمه من جديد ومن ثم إضفاء الطابع الشرعي على ما يراد تقنينه وتقديمه. ومما ذكره أبو زهرة بهذا الصدد هو أنه ظهر في مصر إصلاح جريء وسط العلماء، فقد ‹‹أُلفت في اكتوبر (سنة 1926) لجنة مؤلفة من رجال ذوي جرأة جلّهم من تلاميذ محمد عبده، فوضعت اقتراحات لم تكن مقيدة بالمذاهب الأربعة.. بل تجاوزت ذلك إلى آراء فقهاء الإسلام عامة؛ تقتبس منها ما تراه أنفع للأسرة، بل تجاوزت ذلك وارتفعت إلى الكتاب والسنة تستنبط منهما ولو ناقضت في ذلك ما قاله السابقون، وبعض ما انتهت إليه مما كان الاستاذ الإمام محمد عبده يدعو إليه في دروسه، أو على التحقيق كان يدعو إلى التفكير فيه›› . فمن ذلك أنه تمّ تقييد رغبة الرجل في تعدد الزوجات والأخذ ببعض ما تشترطه المرأة في العقد، وأن للزوجة التي غاب زوجها سنة فأكثر حق طلب الطلاق بائناً. وبفعل هذه المقترحات قامت ضجة كبيرة كان من آثارها ‹‹أن نام المشروع في أضابير وزارة العدل إلى أن استيقظ في (سنة 1929)، فقد صدر المرسوم بقانون رقم 25 (لسنة 1929) واقتصر على ما جاء بالمذاهب الأربعة ولم يتجاوزه، فأخذ بالمقترحات السابقة مع بعض التعديل، إذ كانت مستقاة من هذه المذاهب وترك ما لم يكن في هذا النطاق إلا في الطلاق بلفظ الثلاث والطلاق المعلق، وطرحت فكرة منع تعدد الزوجات وما من شأنه أن يؤدي إليها، كما طرح الالزام بكل شرط تشترطه الزوجة لأن ذلك قد يؤدي إلى العبث بالحياة الزوجية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد لأن النفوس متطلعة إلى الإصلاح والسير في طريقه إلى أقصى مداه. ففي سنة 1936 التمست وزارة العدل تأليف لجنة من كبار العلماء لوضع قانون شامل لأحكام الاسرة.. ووافق مجلس الوزراء على تكوين هذه اللجنة›› . وبخصوص الطلاق المتعدد جاء القانون السابق (سنة 1929) ليؤكد بأن الطلاق لا يقع إلا واحدة، وهو مذهب طائفة من السلف، وجاء في المذكرة الإيضاحية ما نصه: ‹‹الطلاق المتعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحدة، وهو رأي محمد إبن اسحاق، ونقل عن علي وإبن مسعود والزبير، ونقله المنذر عن أصحاب إبن عباس كعطاء وطاووس وعمر بن دينار، وقال إبن القيم: أنه رأي أكثر الصحابة›› .
وعلى هذه الشاكلة فقد ‹‹استأنس بما قرره عثمان البتي وإبن شبرمة وأبو بكر الأصم من أن زواج الصغار لا يصح، لأنه لا ولاية لأحد عليهم في الزواج، إذ الولاية في الزواج تثبت على المولى عليه لأجل حاجته، ولا حاجة عند الصغار، إذ هو عقد لا تظهر آثاره إلا بعد البلوغ›› . وقد أُدرج هذا الأمر ضمن القانون المرقم 56 (لسنة 1923م)، وجاء فيه أنه لا يجوز مباشرة عقد الزاواج عندما يكون الزوج أقلّ من ثماني عشرة سنة، أو تكون الزوجة أقلّ من ست عشرة سنة. لكن، كما ذكر أبو زهرة، أن هذا القانون ‹‹تلقاه الكثيرون بالنقد والتزييف، وقامت مساجلات قلمية فيها صخب ولجب، وفيها حجج وأدلة وهو لم يعتمد على رأي من آراء الأئمة أصحاب المذاهب›› . ومثل ذلك ما يتعلق بتوثيق عقد الزواج، فقد تقرر في مصر بأن دعوى الزواج لا تثبت (بعد آخر يوليو لسنة 1931م) إلا بوثيقة رسمية صادرة من موظف مختص بتوثيق عقود الزواج. وبني ذلك المنع ‹‹على ما لولي الأمر من حق تخصيص القضاء بالزمان والمكان والحادثة والشخص، كما جاء في المذكرة الإيضاحية›› .
كذلك فقد اضطر المقننون المحدثون إلى تجاوز آراء الفقهاء في بعض الأحكام ليضعوا الصيغة التي تتناسب والتحولات الحديثة للواقع. فقرروا بأن مدة الحمل ينبغي أن لا تتجاوز السنة، مع أن آراء المذاهب الأربعة تتجاوز هذه المدة، فبعض الفقهاء يراها عبارة عن سنتين كما لدى المذهب الحنفي، وبعضهم اربع سنين مثلما هو الحال عند الشافعي والحنابلة، بينما ذهب مالك إلى أنها خمس سنين. لكن التقنينات الحديثة تجاوزت هذه المدد لكونها مدعاة للإستغلال السيء من قبل المطلقة، إذ قد يكون بإمكانها أن تدعي بأن عدتها لم تكتمل رغم فوات أكثر من سنة عليها لتضمن نفقتها من مطلقها، كما لها الحق في أن تأخذ نصيبها من تركة الزوج إن مات وهي لم تزل في العدة المزعومة، لها ولوليدها الحامل به. فلمثل هذه المشاكل تقرر لدى القانون المصري أن لا تقبل دعوى المطلقة إن كان طلاقها قد فات مدة السنة، وهو رأي قريب من مذهب محمد بن عبد الحكم الذي يقول بأن أقصى مدة للحمل هو سنة قمرية واحدة . فبحسب القانون المرقم 25 (لسنة 1929) يمنع سماع دعوى النسب لأي معتدة من وفاة أو طلاق، إن جاءت بالولد لأكثر من سنة شمسية (365 يوماً). وبني ذلك على تقرير الأطباء بأن الولد لا يمكث في بطن أمه أكثر من (365 يوماً) .
كذلك هو الحال فيما اضطر إليه المحدثون من تجاوز الآراء الفقهية التقليدية حول المعتدة من طلاق. فقد كان الرأي التقليدي المأخوذ به في مصر، هو أن المعتدة من طلاق إذا اعتدت بالأقراء فلم تر الدم كلياً فإنها تستمر الإنتظار حتى سن اليأس ثم تستأنف العدة من جديد بالأشهر الثلاثة. فمثلاً لو انقطع حيض المعتدة في سن الثلاثين فإنها تنتظر معتدة إلى الخامسة والخمسين، حيث تستأنف بعدها العدة بالأشهر الثلاثة المتبقية. لكن أدرك الفقهاء المحدثون أن في ذلك إرهاقاً للزوج باستمرار النفقة على المعتدة، كما أن فيه قطع السبيل على المطلقة من أن تتزوج بآخر. يضاف إلى أن بعض المعتدات قد يكذبن فينكرن الحيض لأخذ النفقة على الدوام حتى سن اليأس. ولمنع مثل هذه التجاوزات فقد عوّلج الأمر على مرحلتين، الأولى سنة 1920م، إذ تمّ فيها اقتباس الفتوى من مذهب مالك، وخلاصة رأيه أن المعتدة إذا ادعت إنقطاع حيضها ومضى عليها سنة بيضاء انتهت عدتها، لكن لو رأت الدم مرة واحدة خلال هذه السنة فإنها تنتظر ويحق لها الإنتظار سنة كاملة لتنتهي العدة، أما لو رأت في السنة الثانية الدم مرة أخرى فإنها تنتظر لسنة جديدة حتى ترى الدم أو تكمل السنة الثالثة فتنتهي العدة، ويكون أقصى ما يمكن أن تستمر به المعتدة هو ثلاث سنوات. فهذا هو العلاج الأول لكنه لم يقطع السبيل على الكاذبات، إذ يمكن استدرار النفقة وابتزاز الزوج ثلاث سنوات كاملة بادعاء الحيض كل مرة في السنتين الأولتين، وإنكاره في الثالثة. لهذا جاءت المرحلة الثانية من العلاج، وهو منع سماع دعوى النفقة للمعتدة لأكثر من سنة كاملة، كالذي نصّ عليه قانون رقم 25 (لسنة 1929م)، وبني هذا القانون ‹‹على ما لولي الأمر من الحق في تخصيص القضاء، ولم يبن على رأي فقهي، لأن الآراء الفقهية عند جمهور الفقهاء مبنية كلها على أساس ألا ترى الدم في مدة العدة›› .
غني عن البيان أن كل ما سبق لا يتسق مع وجهة النظر التقليدية التي تضع شروطاً وحدوداً للرأي، مثل أن لا يتجاوز الرأي أصول المذهب الذي يدين به الفقيه، وأن لا يعمل بالآراء الشاذة، وكذا أن لا يمارس الإجتهاد في النص بما يخالف آراء المذاهب المعتبرة والسلف.
لهذا فعلى الرغم من أن صياغة مجلة الأحكام العدلية كانت لا تخرج في أغلبها عما هو مقرر داخل المذهب الحنفي، إلا أن عدداً من التعديلات القليلة التي أُعتمد فيها على غير هذا المذهب، كان كافياً لأن يمتنع شيخ الإسلام - كأعلى مرجع قضائي في السلطنة العثمانية - عن اصدار أي فتوى بشأنها، وأوجب ذلك على سائر المفتين التابعين له، كالذي أشار إليه رشيد رضا في معرض تشخيصه للمرض المتفشي في واقعنا الإسلامي من الجمود والتقليد .
كذلك أن الأخذ عن النص أو الصحابي أو غيره ممن عرف بالشواذ والإهمال لا يصح هو الآخر ما لم يمارس الفقيه ذات الآليات الإجتهادية للوصول إلى المطلب، أي ما لم يكن مجتهداً غير متأثر بنوازع تبرير الواقع والانصياع تحت رحمة ضغوطه. فقد جرى البحث عن أي سند قريب يبرر ما يراد تقنينه من القرارات التي تتفق مع مطالب الحاجات الزمنية. لكن هذا العمل لا يفي بالغرض ولا يقنع الباحث على الصعيد المعرفي. فهو لا يفي بالغرض لكونه يقدّم حلولاً جزئية، رغم تفاقم المشاكل الإجتماعية، وبالتالي ستظل عملية البحث عن السند التراثي غير منتهية، أي أن الغطاء الشكلي الذي يتحرك خلفه المقننون سيظل قائماً.
أما أنه غير مقنع للباحث الابستمولوجي، فذلك لأن الفقهاء يلجأون إلى الحلول عند الإضطرار بمجارات الواقع من غير تنظير. فهم من الناحية النظرية لا يعترفون بدور الواقع في الممارسة الإجتهادية، لكنهم عملياً يتبعون خطواته الواحدة تلو الأخرى. وبالتالي فلا غنى عن البحث في الواقع وصلته بالتشريع كمبنى أصولي، أي العودة للنظر من جديد في العلاقة الجوهرية التي تربط الخطاب بالواقع لاستلهام التقنين منها.
تبقى الإشارة إلى أن التغيرات الفقهية الحديثة قد تأثرت بلوائح القوانين الغربية، وذلك بعد الإحساس بأن الفهم التقليدي لا يفي بمتطلبات الحياة العصرية، ولأسباب سياسية باتت مكشوفة. وسبق لقاسم أمين أن صرح بأن التحولات المنشودة في بلاد مصر وغيرها من البلدان الإسلامية لم تحدث نتيجة التفكير وإنما للتأثر بالبلدان الغربية، معتبراً جميع حالات التحسن التي ظهرت يوماً بعد آخر، كتخويل المرأة حق الطلاق ومنع تعدد الزوجات وغير ذلك، لم تأتِ عن روية ونظر، بل عن التأثر بمخالطة الغربيين .
فقد غطت القوانين الغربية أغلب نواحي الفقه التشريعي، كالذي حدث في مصر والدولة العثمانية منذ القرن التاسع عشر، فأخذت التشريعات الغربية تنبسط على مختلف أبواب الفقه بالنسخ والتعديل والإضافة، كما هو حال القوانين التجارية والجنائية والإدارية، ولم يبق من التشريعات الإسلامية إلا المعاملات المدنية الأخرى التي دُوّنت لها مجلة الأحكام العدلية (عام 1876م) . ومن بين الأعمال التي ظهر فيها التطعيم الغربي ما قام به السنهوري في وضعه للقانون المدني الجديد للعراق المشار إليه عام (1936م) والصادر (عام 1953م)، وهو مؤلف من مختلف المذاهب الفقهية ومطعم بأحكام القوانين الأوروبية. وهو الحال الذي شمل مختلف الدساتير المطروحة للبلدان الإسلامية.
وليس من سبب وجيه جعل الفقهاء المقننين يضطرون إلى التوفيق والتلفيق بين الآراء الفقهية، أو الاستنجاد بالقوانين الغربية، سوى عدم التمسك بمقاصد الشرع والتعويل على الواقع، وهو العنصر الذي أولاه الخطاب الديني جلّ اهتماهه.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصادر المعرفة الإسلامية: النص.. الواقع.. العقل
- ظاهرة النسخ في الخطاب الديني ودلالاتها
- الجابري والتصنيف الثلاثي للعقل العربي
- الفهم الديني وغياب علم الطريقة
- السؤال عن فهم الخطاب الديني وعلم الطريقة
- محددات الفكر الإسلامي وعلم الطريقة
- المثقف الديني والنزعات العلمانية
- البحث الطريقي كعلم جديد للفهم الديني
- نصر حامد أبو زيد وانثروبيا النص القرآني
- القبليات المعرفية وعلاقتها بالفهم الديني
- القطيعة بين الفكر المغربي والمشرقي (قراءة في مشروع المفكر مح ...
- بين الفهم المقصدي والتعبدي للدين
- النظام الوجودي وتحليل العلاقة الوجودية
- حضارة بين حضارتين(مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارتين ال ...
- الحركة العقلية الاسلامية وتطوراتها
- الصراع والتكامل بين الفلسفة التقليدية والعرفان
- الجابري والخلط بين مفكري اللحظة المغربية
- آليات قراءة النص الديني
- صدور كتاب جديد ليحيى محمد بعنوان منطق فهم النص
- علم الطريقة وفهم الخطاب الديني


المزيد.....




- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟
- اتفرج الآن على حزورة مع الأمورة…استقبل تردد قناة طيور الجنة ...
- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - التغيير الفقهي وأنماطه الواقعية