أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابراهيم ازروال - الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 2















المزيد.....



الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 2


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 3083 - 2010 / 8 / 3 - 17:24
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



الاعتراب في واقع انسداده
نقد تصور الجابري للأمازيغية

بقلم : إبراهيم أزروال

الجزء الثاني



- أسطورة مسح الطاولة :

لا يقدم الجابري أي استشكال نقدي للإسطوغرافيا العربية الإسلامية ، ولمروياتها المقدمة في إهاب ملحمي . .كما لا يلتفت إلى الآليات الإجرائية والمفاهيم التصورية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، الكاشفة عن آليات اشتغال المتخيل الجمعي وتعقد التركيبة الأنثروبولوجية للبنى الثقافية ذات الإحالات والمرجعيات والجينيالوجيات المتخالفة بالمغارب قديما وحديثا .
ينطلق الجابري من فرضية المسح العقدي للطاولة بشمال إفريقيا ، أي بالأسلمة الشاملة للمغارب ومحو الثقافات القديمة للمغاربيين .ومن المؤكد أن إحلال ثقافة محل ثقافة "مقررة بين أهلها" ، يقتضي التفعيل الأقصى للعنف الرمزي وللعنف المادي ذي المقصديات الاستئصالية والاجتثاثية .ومن هنا ، فهو يقدم صورة " احتفائية " عن حرب ثقافية ،قاصدة لتوطين ثقافية منقولة محل ثقافة مأصولة ، و عن فرض متخيل الآخر على ذاتية مستقلة بقوة الحرب ، لا بقوة الجدارة الاعتبارية .لا تنفصل قراءة الجابري عن المقروء الإسطوغرافي ، ولا تسعى إلى إقامة المسافة النقدية الضرورية ، لإدراك الخلفيات المتحكمة في بنية المقروء وفي تمفصلاته الدلالية .لا يظهر ناقد الاستشراق أي رغبة نقدية أو ناقدة ، للاستعراب ، بل يتماهى مع مسلكيته المركزية المتعالية ومع مروياته الملحمية الموغلة في أمثلة الذات و أبلسة الآخر .فباسم أية جدارة ابستيمية أو ايطيقية يحق للمعتصم بمحوريته الاعترابية أن ينقد محورية الاستشراق أو هيجيمونية العولمة الثقافية ؟
( لقد كان المغرب الأقصى من الأقطار العربية التي "مسح" فيها الإسلام "الطاولة " مسحا . ذلك أنه على الرغم من أن الفتح الإسلامي قد تعرض لمقاومة ضارية ، في شمال إفريقيا عامة – إذ دامت عمليات الفتح وإعادة الفتح عدة عقود من السنين قبل أن يستقر الأمر للإسلام بكيفية نهائية في هذه المنطقة – فإن الانتصار الذي حققه الفاتحون العرب في نهاية المطاف كان شاملا بحيث لم يبق هناك وجود لأية أقلية دينية، كما تمت تصفية بنية المعتقدات الرئيسية القديمة مع استقرار الإسلام وتغلغله في جسم المجتمع . )
( -محمد عابد الجابري – المغرب المعاصر – الخصوصية والهوية .. الحداثة والتنمية – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الأولى – 1988-ص.46)
إن للثقافات قدرات تكيفية كبرى ، ومدارات متاهية ، يصعب إدراك تشعباتها ومساربها وتعرجاتها على من يقرأ التاريخ من منظور الإخباري المتكلم .فللثقافات قدرات كبيرة على الترميق وعلى الاستدماج وعلى التهجين ؛ وعليه ، فلا يمكن استئصال المركبات الثقافية الأمازيغية ، مادامت قادرة على إقامة تعاقدات ثقافية توافقية ، تدخل المؤثرات الثقافية بموجبها في إطار بوتقة تثاقفية استدماجية متعددة الخلفيات .
لا يمكن التعويل على الوضع الدليلي للأرثوذوكسية ، لاستكناه حقيقة التركيبة العقدية والثقافية بالمغارب طيلة العصر الإسلامي ، خصوصا في أزمنة لا تمتلك فيها الوسائل اللوجستيكية والتقنية والسياسية ،لفرض مقرراتها العقدية على المناطق المتشبثة بذاتيتها الثقافية وبالبنى الأنثروبولوجة لمتخيلاتها الجماعية . لقد مثلت الذاكرة المغاربية بوتقة للصهر والتذويب والتهجين والتبيئة المركبة ؛ وعليه ، فبدلا من التنصيص على الأسلمة القسرية للمغارب على أسنة رماح الفاتحين ، يجدر بالباحث أن ينصرف إلى آليات التمازج والتصارع والتثاقف داخل الإطار الثقافي الأنثروبولوجي المغاربي بين الإطار الطقوسي الإسلامي والإطار الميتافزيقي الأمازيغي المطعم بأكثر من مؤثر ومرجع وسند إحالي .وعليه ، فلا غرابة أن تنطوي ، بنية الطقوسيات الشعبية المغربية ، على معتقدات أمازيغية ومتوسطة و أفريقية ويهودية وإسلامية.وبالرغم من الأسلمة الشكلانية لتلك المؤثرات ، فإن الأرثوذوكسية المالكية أو" المتوهبنة "، ما فتئت تطالب ، باجتثاث البنى والطقوس اللاارثوذوكسية .فبما أن ناقد العقل العربي ، حصر نظره في العقل النظري واستنكف عن الامتياح من المنظور الأنثروبولوجي رغم انتهاض البيان البين على انثروبولوجيا خاصة ، فإنه يقارب البنية العقدية المغربية ، برؤية غير مطابقة للنسيج الناظم والمنظم ، منهجيا ، لتلك البنية .
وكما لا يتناول الأنثروبولوجيا والاثنولوجيا المغربيتين بالمنهجات المطابقة ، فإنه لا يبدي أي استشكال للعقل التاريخي العربي ،ولا لنسقه المفهومي .ومن اللافت للنظر هنا ، ميل الناقد الابستمولوجي إلى الأحكام المرسلة ، والى التنميط الفكراني ، المترفع عن الوقائع المذكورة في الأسفار الإسطوغرافية أو البدعوية .
رغم فراغات النصوص الإسلامية ، فإنها تثبت ، لاعتبارات معرفية أو منهجية ، ما تحيله المحدلة الكلامية إلى الخمود . يقول ابن حزم عن بورغواطة ما يلي :
( فكيف يستجيز مسلم أن يثبت بعده عليه السلام نبيا في الأرض حاشا ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآثار المسندة الثابتة من نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان ، وكفار برغواطة إلى اليوم ينتظرون صالح بن طريف ، الذي شرع لهم دينهم . )
(- ابن حزم – الفصل في الملل والأهواء والنحل – وضع حواشيه : أحمد شمس الدين – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 1999-الجزء الثالث – ص. 114-) .
لم يكتف صالح بن طريف برسم معالم الاستقلال العقدي التاريخي عن الأغيار ، بل وضع مصحفا في ثمانين سورة حسب البكري .تكمن وراء التثاقف الاجتيافي كما مارسته غمارة وبورغواطة ، رغبة أكيدة في إعادة ترميم النظام الكلي للرمزية المؤسسة لانتظام الكينونة الجماعية .
ومن المحقق أن فرضية العصبية القبلية لا تفسر كلية ظاهرة الارتداد الدوري للأمازيغ عن
الإسلام ؛ فالعصبية القبلية مندغمة بالمتخيل الجمعي ، وهذا ما لمسته برقة غير آسرة النظرية الخلدونية :
( قال ابن أبي زيد : ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرة. ولم تستقر كمة(كذا) الإسلام إلا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده . وهذا معنى ما ينقل عن عمر أن إفريقية مفرقة لقلوب أهلها ، إشارة إلى ما فيها كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد . ولم يكن العراق العهد بتلك الصفة ولا الشام ، إنما كانت حاميتها من فارس والروم ؛ والكافة دهماء أهل مدن و أنصار.فلما غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم لم يبق ممانع ولا مشاق . والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى ، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر . وكلما هلكت قبيلة عادت الأخرى إلى مكانها والى دينها من الخلاف والردة ؛ فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقية والمغرب . )
(- ابن خلدون – المقدمة – تحقيق : درويش الجويدي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2002-ص.153).
يشير الشاهد الخلدوني إلى استعصاء التركيب الاجتماعي الأمازيغي على التذويب وعلى الاستيعاب والاستلحاق ؛ إلا أنه يحصر قوة ذلك التركيب في العصبية القبلية ، علما أن للعصبية بؤرا ونوابض ثقافية ، وموشورات نظرية.ليست العصبية القبلية معزولة عن رؤية "فلسفية "للعالم وعن تدبر تاريخي للغيرية وعن خبرة جماعية في المثاقفة .فالعصبية القبلية لا تنفصل ، في هذا السياق ، عن تجربة المثاقفة العقدية بالمغارب ؛ فقد راكمت هذه الفضاءات الثقافية ، تجارب تاريخية ثرة في التدافع والتثاقف العقديين،وفي بلورة ايكولوجيا رمزية وفي التكيف مع الحالات القصوى للاحتقان العقدي .لا يمكن لفضاءات ثقافية ،خبرت الممانعة الرمزية إزاء المسيحية أو التكييف والتبيئة المجالية لمعتقداتها كما في النحلة الدوناتية ، أن تعدم آليات إدارة المصادمات الرمزية. فمن الصعب ، فهم الاستجابة الأمازيغية المعقدة للإسلام ، في غياب حصيلة المراس الأمازيغي في باب التنافذات الرمزية والتجاذبات التاريخية بين المؤثرات الإفريقية والمتوسطية والاستجابات الثقافية المحلية لإشكاليات الوضع الكينوني للإنسان .
3- التفكير الاعترابي في" العقل" المغاربي :
يغيب تكوين العقل المغاربي عن الأفق الفكري للجابري ، كما تغيب عنه خصائص التاريخ الثقافي والاجتماعي بالعالم الأمازيغي .لا تحضر الديناميات السوسيو-تاريخية ولا التراكبات التثاقفية ، لهذا العالم في كتاباته ؛فما يعنيه هو استقراء استتباع المغارب للروحية والفكرية الشرقانية ، وتتبع أمارات الاعتراب التسلفي ، وتعيين لحظاته المائزة .يتفوق المطلب الفكراني هنا على التحليل الابستمولوجي وعن التعليل التاريخي وعن الاستكشاف الأنثروبولوجي - التاريخي.يقدم الباحث استقالته الابستمولوجية ، ليمسك المتكلم المتفقه ، بقياد الخطاب، رغم حداثة اللغة المستعملة أحيانا .لا يبدي ناقد العقل العربي أي اهتمام بنقد الهوية العربية ، ولا بتفكيك التركيب العروبي ، ولا باستقصاء جدل الإثبات والمحو في الإنشاء البعدي للعروبة الثقافية . وهكذا ، تغيب المادة اللزجة للتاريخ والأنثروبولوجيا ، لتتغلب المادة الأثيرية للفقه وللكلام .وبمقتضى هذا الاعتبار ، لا تعدو الجمهورية الفرنسية ، أن تكون تجليا من التجليات الثقافية للنصرانية وللفكرية الصليبية؛ علما أن التاريخ الفكري الحديث لفرنسا ، يغلي بالانزياحات والقطائع والمراجعات على صعيد العقل المكون(بالكسر ) والعقل المكون( بالفتح) على السواء .
من بداهات الفكرية الاستعمارية سواء أكانت شرقية أم غربية ،ربط السيطرة السياسية
بالهيمنة الثقافية وإخراج الآخر من غيريته دون تمكينه من الانصهار في الذاتية المتغلبة ؛ من الطبيعي إذن أن تروم فرنسا التحديث والعصرنة والفرنسة، وقضم الثوابت الأنثربولوجية للإنسان المغاربي.ومن الغريب أن ينفي الجابري مركزية الأمازيغية الثابتة في هوية المغرب خصوصا والفضاء التاريخي الأمازيغي عموما .فلئن رامت فرنسا إلحاق الأمازيغ بالمشروع الإيديولوجي للجمهورية الثالثة ، فإن الحركة الوطنية ، أسقطت الأمازيغية أصلا من برنامجها الثقافي – والسياسي .والمسكوت عنه ، في نص الجابري ، هو الانتماء الأندلسي – الموريسكي للنخب المحتجة على" الظهير المنظم لسير العدالة بالقبائل ذات الأعراف البربرية والتي لا يوجد بها محاكم لتطبيق الشريعة " ، المسمى خطأ بالظهير البربري .
( لقد كانت السلطات الاستعمارية الفرنسية ترمي من ورائه إلى فصل العنصر " البربري " عن العنصر "العربي " في المجتمع المغربي وبالتالي فصله عن الإسلام كتشريع وثقافة ودين حتى يتأتى لها ربطه بفرنسا ثقافيا وحضاريا ربطا عضويا ، وبالتالي ضمان الاستمرار " التاريخي " للوجود الفرنسي في المغرب . فكان رد الفعل الوطني الذي قادته النخبة الوطنية المثقفة بسلا وفاس وغيرها من المدن هو الدفاع عن الإسلام والعروبة معا بوصفهما يؤسسان الوحدة الوطنية المغربية .)
-محمد عابد الجابري – المغرب المعاصر – الخصوصية والهوية .. الحداثة والتنمية – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الأولى – 1988-ص.-40-41.)
من المفروض في أي فكر وطني ، أن يكون وليد الحداثة الفكرية وأن يعيد النظر في الأنساق الفكرانية القدامية و أن يبني إشكالية الانتماء والهوية على مفاهيم الحداثة السياسية .والحال أن خطاب الحركة الوطنية ، قدامي كلاسيكي في الجوهر،مبني على ثوابت السياسة الشرعية وعلى الانتماء الإيديولوجي إلى أمة متكتلة حول التاريخ الأنبيائي لا على الانتماء إلى الدولة / الأمة .فلا مناص إذن ، أن يزال الثابت الأمازيغي ، في فضائها الفكري . فلئن رامت الجمهورية الفرنسية استتباع الأمازيغ ، فإن الحركة الوطنية ، اكتفت بإلغاء الفكرية والثقافة الأمازيغيتين ، من برنامجها الفكري – السياسي .إلا أن إلغاء هذا الثابت المركزي في التاريخ والأنثروبولوجيا المغاربيين، يفصح عن رغبة في مأسسة النفي الهوياتي وتدشين المهابدة الثقافية بالاستعانة بمزق من الفكرية الحداثية و بالأدوات التقانية الجديدة .وهكذا ، عاش الثابت الهوياتي الأمازيغي ، موزعا بين الاستلحاق الفكراني الاستعماري وبين الاستتباع الالغائي الإعترابي .وهكذا ، بدلا من تنصب مقاربة الجابري ، على اللاشعور المعرفي وعلى العقل المكون للحركة الوطنية المغربية أو على محددات عقلها السياسي أو أن تكشف عن المضمرات الفكرانية لخطابها السياسي- الاجتماعي ، فإنه يكتفي بتقديم الخطاب المعياري/ الوطني بلا استشكال ولا مساءلة عن متانة الأساس المفهومي أو البناء النظري أو التواؤم مع الملابسات التاريخية والسياسية . فكيف تتأسس الوحدة الوطنية في غياب أحد مركزاتها البنيوية ؟ أليس من المفارقة التاريخية أن تفتتح ، حركة وطنية انبثاقها التاريخي، بالقنوت و اللطيف والصوم الجماعي وبالتنكر العملي لثقافة الوطنية الحداثية تعريفا ، والعلمانية جوهرا ؟ كيف يوفق الخطاب النقدي الابستمولوجي ، بين الوطنية وبين استعادة أجواء الحروب الدينية، بين فرض الأسلمة من جهة وافتراض التنصير من جهة أخرى ؟ أليس غريبا ، أن ننقذ الأمازيغ من التنصير المفترض ، بإلغائهم من المشهدية السياسية والثقافية جملة ؟ألا يتحكم اللاشعور المعرفي في بنية خطاب الحركة الوطنية وفي ميلها إلى التجميع الترميقي بين مفاهيم سلفية وليبرالية وممارسات فقهية متسننة ومتسلفة ؟كيف يغيب تحليل اللاشعور السياسي الراسم للمحددات المفصلية للسلوكيات السياسية للنخب"البورجوازية" المدينية ؟ ألا ينطوي الخطاب الاعترابي على توهمات تاريخية واستيهامات عقدية جلية رغم تلألؤ السطوح بأضواء التساهل والتسامح والحداثة الازدواجية الفارهة كما في خطابات علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني ؟
(ومن هنا كان الصراع في المغرب هو صراع بين "البدو " و "الحضر " بالمعنى الخلدوني للكلمتين ،أي بين سكان السهول والجبال والصحراء والقرى والمداشر والأحياء الفقيرة في المدن من جهة ، وبين "الارستقراطية المدينية " التي تتوارث السلطة : سلطة المال وسلطة العلم ، وبالتالي سلطة السياسة . )
(-محمد عابد الجابري – المغرب المعاصر – الخصوصية والهوية .. الحداثة والتنمية – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الأولى – 1988-ص.-97-98.)
يشير هذا الشاهد ، إلى الصراع البنيوي ، بين البداوة والتمدن ، بين الكتل البدوية المفتقرة إلى السلطة والجاه والارستقراطية المدينية المحتكرة لسلطة المال والعلم والسياسة .من نافلة القول ، التنصيص على مدينية الأرثوذوكسية المالكية وثقافتها العالمة؛ غير أن التحكم في السلطة المعرفية ، لا يعني التحكم في السلطة السياسية أو في القرار الاقتصادي .فمما لا شك فيه أن تأسيس الدولة المرابطية الصنهاجية والموحدية المصمودية والمرينية والوطاسية الزناتيتين والسعدية والعلوية ، تم على يد قوى بدوية بالأساس.وعليه ، فإن الشاهد اللاخلدوني للجابري ، يسقط صورة تاريخية مستحكمة بعد الدياسبورا الموريسكية وإبان الفصل الحمائي ، على اجتماع بنى لحظات تألقه السياسي والاقتصادي على الاحتياطي والمخزون الرمزي البدوي تعيينا .
والواقع أن الظرفية الموصوفة ، لا تستجيب لا لمقتضيات التحليل الخلدوني ولا لملابسات نظرية الصراع الطبقي الماركسية ؛ فهي وضعية انتقال من توازن استراتيجي بين البنيات السياسية والاجتماعية التقليدية (المخزن والقبائل والزوايا ) إلى وضعية تجاور بين مؤسسات قدامية ومؤسسات حداثية ذات إحداثيات تنظيمية مختلفة .
(- وبالمثل ، فكون "اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش " لا يعني في ذهن ابن خلدون أكثر من اختلاف الأفراد والجماعات بسبب اختلاف ما اعتادوه من ظروف معيشية . فالقضية هنا ليست قضية " أسلوب الإنتاج " ولا علاقات الإنتاج . بل هي فقط مسألة ما يعتاده المرء ويألفه من أنواع العيش ومستوياته . إن علاقات الإنتاج ، بمعنى علاقة المستغل ( بالكسر ) بالمستغل ( بالفتح ) ، لم تكن مطروحة عند ابن خلدون . ومن ثمة فإن اختلاف الناس باختلاف نحلهم من المعاش ، إنما يعني في ذهن ابن خلدون اختلاف البدو عن الحضر ، اختلافا يرجع إلى التباين القائم بين وسائل كسب العيش ونمط المعيشة الذي توفره هذه الوسائل .)
(- محمد عابد الجابري –فكر ابن خلدون – العصبية والدولة – معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – الطبعة الثامنة – 2007-ص.161) .
ومن المحقق أن الحداثة أنهت الوضع الموصوف في الشاهد الخلدوني ، وأدخلت السياق المغاربي في تفاعلات سوسيو-اقتصادية مستجدة وفي تراتبيات وتهيئات غير معهودة في النسق الاقتصادي القديم .كما تميز الوضع الجديد ،بالتفاوت، بين البادية والحاضرة ، في تحصيل الثقافة الحديثة وفي الانتظام في سياقاتها .لقد انتبهت القوى الصاعدة إلى قوة الرأسمال الثقافي الحديث وإلى ضرورة التموقع في سياق الحراك الثقافي الجديد.فلم يمنع رهاب التنصير ،كثير من صانعي الممانعة العقدية ، من الانتظام الجيد أحيانا ، في مفاصل الثقافة الحداثية ومن الاستفادة لا حقا من امتيازات التأهيل الحديث .
( وهكذا برزت ، غداة الإعلان عن استقلاله ، حقيقة قاسية وهي أن المؤهلين لمراكز المسؤولية والحصول على وظيفة في الإدارة والمراكز الاقتصادية ، وبالتالي على مركز في الحياة العصرية هم فئة قليلة ممن ينتمون إلى " الارستقراطية المدينية " التي كان معظم أفرادها ممن نزحوا من الأندلس وسكنوا مدن فاس وسلا والرباط وتطوان وقدموا للمخزن ، عبر القرون " الأطر الفنية " التي كان يحتاج إليها . أما باقي الأسر والقبائل المعربة والمتكلمة لهجة بربرية ، في المدن كما في السهول والجبال ، فقد وجدوا أنفسهم في موقع المهشمين المحرومين .)
(-محمد عابد الجابري – المغرب المعاصر – الخصوصية والهوية .. الحداثة والتنمية – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الأولى – 1988-ص.-106.)
عادت الارستقراطية المدينية ، المحتجة على الظهير الاستعماري ، لتحكم قبضتها بعد الاستقلال على مفاصل السياسية والثقافة والاقتصاد .وما كان لها أن تتبوأ هذه المكانة الرفيعة في وضعية انتقالية وإشكالية ، ما لم تنخرط في الأوان الحمائي ، في أنحاء وظيفية من الثقافة الحديثة .ولا يمكن تفسير دعوة الأمازيغ إلى مقاطعة الثقافة الحديثة باسم محاربة التنصير والسياسة البربرية والانخراط في البنيات والمؤسسات الحديثة ، بالانفصال التاريخي بين البداوة الأمازيغية والارستقراطية المدينية ذات المحتد الموريسكي كما يعتقد الجابري ، بل بتفكيك البنية السردية للأساطير المؤسسة للدينامية السياسية – الثقافية للحركة الوطنية عموما .
يقبل الجابري نظام الحقيقة كما قررته الحركة الوطنية ، بعيدا عن أي استقصاء نقدي أو أي مساءلة عن البداهات المخفية أو عن المسكوتات المطمورة في قيعان الخطاب .فالحقيقة أن لهذا الخطاب ضمنيات ومتوجهات ، لا يمكن للذهول عن مفاعيلها إلا أن يغرق القراءة في الامتثالية اللانقدية .فمن مظاهر هامشية الإشكالية المغربية في مشروعه الفكري ، عدم انكبابه عن نقد العقل النظري والسياسي والأخلاقي للحركة الوطنية ،واكتفائه بتسويغ تمثلات ومتصورات الفكرية السائدة والمسيطرة عبر الأجهزة الإيديولوجية المهيمنة .فخطاب الحركة الوطنية ، لا يتحرك على مدار المنطوقات السياسية ، بل يغوص عمقيا في مضمرات اثنية وعقدية ومذهبية ويتفاعل، سلبيا ، مع تواريخ "اللقاحية" الأمازيغية.
تنطوي الخطابات على شقوق وخروم وعلى بياضات ، وتنبني على مضمرات ومسبقات وينبغيات؛ ومن هنا فلا مجال لإعفاء خطاب الحركة الوطنية من الالتباسات ومن الفجوات الفاصلة بين المنطوق والمفهوم ، بين المعلن والمخفي ، بين الدليل ونقضيه . ومن هنا ،فلا يمكن التسليم بشفافية خطاب الحركة الوطنية وباستيفائه الكامل لمقتضيات المطابقة ، إلا من منظورية غير نقدية تعيينا .أليست الحصافة مثالا يلامسه أفق الفكر ، ولا يناله بفعل ثقالة الحمولة الإيديولوجية ؟ ألا يسقط الخطاب في الازدواجية وفي اختلال المعايير ؟ألا يصير الخطاب الناقد جزءا من الخطاب المنقود ؟ ألم يبهرن ناقد العقل العربي على انتمائه العميق إلى البنية الذهنية للاعتراب ؟
( هنا أيضا نجد الخطاب عبارة عن رغبة مؤسسة على رغبة . والخطاب الذي من هذا النوع خطاب في الممكنات . ولا يمكن تحقيق الرغبة أو الرغبات التي يفصح عنها هذا الخطاب إلا إذا تحولت الممكنات التي تؤسسه إلى واقع . )
( - محمد عابد الجابري – الخطاب العربي المعاصر – دراسة تحليلية نقدية – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الثالثة – 1988-ص121)
يتخفف الخطاب الابستمولوجي ، من الحمولة النظرية و المعرفية للتاريخ والأنثروبولوجيا، كلما لا مس التاريخ الفكري للمغارب .والحق أن ، ناقد العقل العربي ، لا يتناول ، العقل المغاربي ، إلا عرضا ،وفي مقامات جانبية، مرتطبة بمقامات المقايسة والمقارنة بين الوضع المشرقي والوضع المغربي .فمن غرائب خطاب الجابري ، غياب الإشكالية المغربية – المغاربية عن بنية فكره .فمادام خطابه مشغولا بإشكاليات الفكريات المشرقية ، فإنه لا يلتفت إلى المشهدية المغاربية ، إلا لمتابعة سريان الفكريات المشرقية على أرض المغارب ، وسياقات استنباتها وتكييفها في فضاء ثقافي هجين.لا إمكان للتفكير ، من منظوره في "تكوين العقل المغاربي " أو في " بنية العقل المغاربي " ، طالما أنه يغيب الدينامية التاريخية للمغارب ، ولا يكاد يحتفل إلا بقسماتها العربية – الإسلامية ، بمعزل عن الثوابت والمرتكزات المفصلية لهذا السياق الثقافي التاريخي الخاص .
لا سبيل إلى تدبر التاريخ الثقافي والاجتماعي ، كما لا سبيل إلى تعقل التثاقف المهجن بالمغارب ، استنادا إلى الفضاء المفهومي لناقد العقل العربي ؛ فهو مسكون بالمقايسة وبتتبع آليات استزراع إشكاليات العقل المعرفي والأخلاقي والسياسي العربي ، خارج مداراتها الأصلية .
ولا براز قابلية المغارب الأنطولوجية ، للتجاوب مع الإشكاليات المركزية للعقل المعرفي
أو العقل السياسي أو الأخلاقي، فإنه يغيب المادة التاريخية والأنثروبولوجية المغاربية ، ويعتمد على مستندات ودعائم خارج تعالقاتها وتشابكاتها السوسيو-تاريخية .
لا يساعد الانهمام بالمسبقات و المقصديات هنا ، على تفعيل مبدإ الملاءمة في اختيار المفاهيم وتسديد أجهزة الاستقصاء النظرية ؛لا غرابة إذن ، في أن تتأول الوطنية والحداثة والوحدة الوطنية تأويلات اعترابية ، بعيدة عن المقتضيات الدلالية للمجال التداولي العربي – الإسلامي من جهة والمجالات التداولية الحداثية من جهة أخرى .
يتجسد غياب الملاءمة هنا ، في الرؤية التنميطية للتاريخ الثقافي للمغارب ؛ فمما لا شك فيه ، أن للتاريخ العقدي للمغارب في الزمان الإسلامي ، تعرجات وتفرعات وتشابكات ، لا مجال لاختزالها في أية مقاربة عالمة وموضوعية .لا تروم الرؤية الثبوتية ، قراءة التعددية والانشقاقات، ولا رصد التمفصل الصعب بين الثابت الإثني-الثقافي والمتغير العقدي .ثمة تواريخ عقدية متشابكة ، نسج خيوطها الزيدية والمعتزلة والفاطميون والخوارج والهراطقة والمبتدعة والطرقية ، لا يستحضرهم التاريخ المؤسطر ، إلا عرضا أو في معرض التدليل على موافقة التركيبة المالكية – الأشعرية – الجنيدية للاجتماع المغربي . لا يعنى خطاب الجابري ، بتفكيك الأسس التاريخية والابستمولوجية للأنظمة الفكر المغاربي ، ولا لحيثيات التنميط الاعترابي ، لفضاء ثقافي ، ذي مواصفات انثروبولوجية وتاريخية واجتماعية ولسانية خاصة .وكما في كل تقصد فكراني ، فإن الخطاب يقف على العتبة ، ولا يفصح عن المقصود الاستراتيجي .فلئن جوبه الخطاب البياني الأصلي بمقاومة ثقافية غنوصية وهرمسية اختراقية في المشرق ، فإنه توفق في مسح الطاولة العقدية والثقافية بالمغارب ، وحقق المطلب البياني، ومشروعه الثقافي الاستراتيجي .ومن المحقق أن بين المطلب الفكراني هنا ، وتطلبات الصرامة المنهجية، مساحات لا تملؤها الكاريزما الفكرية ، إلا لدى المتكلمين الجدد .
يقتضي مسح الطاولة ، مسح الثوابت الاثنولوجية والأنثروبولوجية ،كما في نفيه الصارم للأمازيغية من قارة الأصالة .والحال أن لا أصالة مغاربية ، بدون تفكير متجدد ، في البناء التاريخي المغاربي وفي استكشاف ثنايا وخبايا وزوايا ، التركيب الأنثرو-تاريخي لشمال إفريقيا .وكما تقوم الأصالة هنا ، على الاجتثاث والاحتفاء بالمهابدة الثقافية ، فإن الحداثة المنوه بها ، حداثة أداتيه ، إجرائية فاقدة للوعي بالسيرورة والصيرورة معا.وهذا مؤشر أكيد على قدامة المشروع وافتقاده إلى منازع الحداثة .



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية -نقد تفكيكية علي حرب 4
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية - نقد تفكيكية علي حرب 3
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية -نقد تفكيكية علي حرب 2
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية نقد تفكيكية علي حرب 1
- مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الرابع
- مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الثالث
- مفارقات المثاقفة بسوس- الجزء الثاني
- مفارقات المثاقفة بسوس - الجزء الأول
- الحجاب الإسلامي: من تأنيث الألوهية إلى تذكيرها/الجزء الثاني
- الحجاب الإسلامي: من تأنيث الألوهية إلى تذكيرها
- التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة /الج ...
- التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة /الج ...
- التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي(5)
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (4)
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (3 )


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابراهيم ازروال - الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 2