أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الفنان إسماعيل زاير للحوار المتمدن: أنظر إلى اللوحة مثلما ينظر الشاعر إلى نصه المفاجئ لاحقاً















المزيد.....


الفنان إسماعيل زاير للحوار المتمدن: أنظر إلى اللوحة مثلما ينظر الشاعر إلى نصه المفاجئ لاحقاً


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 935 - 2004 / 8 / 24 - 10:56
المحور: الادب والفن
    


يشكل المعرض الأخير الذي أقامه الفنان التشكيلي إسماعيل زاير في العاصمة الهولندية أمستردام إنعطافة مهمة في تجربته الفنية على صعيد الشكل والمضمون من جهة، وعلى صعيد التقنيات من جهة أخرى. ويمكننا الجزم باطمئنان كبير بأن إسماعيل زاير قد غادر منطقة التوتر والإنشداد والعتمة إلى حيز الاسترخاء والمرونة والاستنارة الروحية. إذ كانت ثيماته السابقة تنطوي على انفعالات واضحة تكشف عمّا يعتمل في أعماقه من قلق مستمر، وهواجس مربكة، وسعي محموم في البحث عن شيء ضائع. وعلى الرغم من أن الفنان إسماعيل زاير قد قطع شوطاً مهماً في الإفصاح عن رؤيته الفنية عن طريق منجزه الفني إلاّ أن تنظيراته النقدية وقدرته في الانفتاح على الثقافة الأوربية وهضمها وتمثلها جيداً هي التي ساعدته كثيراً في تجنب العوائق والمصدات التي تعترض طريق الكثير من الفنانين الذين لا يتوفرون على رؤية نقدية تستطيع أن تفض اللوحة، وتدرك بعمق العلاقات الداخلية التي تقوم عليها البنية التحتية المعقدة للعمل الفني. إن المتتبع لتجربة إسماعيل زاير سيكتشف أنه أمام لوحة مغايرة فيها الكثير من علامات التناغم والانسجام والهدوء اللوني الذي يوفر للمتلقي متعة بصرية خالصة ناجمة في حقيقة الأمر عن شفافية خالقها الذي يبدو أنه قد قاطع الخطوط الفظة الخشنة، وتخلى عن عنف الفرشاة، وفجاجة اللون الصريح الذي يحيل الفوضى والارتباك أكثر مما يفضي إلى الهدوء والسكينة والتوازن. ولتسليط الضوء على المتغيرات الجديدة التي طرأت على مشروعه التشكيلي إلتقناه في محترفه الفني في لاهاي وكان لنا معه هذا الحوار:
 بدأت ثنائية الكتلة والفراغ تأخذ بُعداً جديداً في لوحتك. فللفراغ وظيفة لا تقل أهمية عن وظيفة الكتلة أو ال ( Composition ). هل لك أن تتحدث لنا عن العلاقات والأبنية الداخلية التي توازن ما بين الكتل أو التكوينات السابحة في الفضاءات أو الفراغات التي تشكّل خلفية مدروسة من الناحية البصرية؟
- ثمة ترابط عضوي ودائم بين الفراغ، أو لنقل الفضاء، والكتلة. وببساطة يمكن القول إن أحدهما يتوقف عندما يبدأ الآخر. إذن ليس هناك مندوحة من إقامة علاقات بينهما وإدامتها والحرص على أن تكون علاقة متوازنة. أكثر أو اقل من ذلك سيكون ضاراً بهيكل العمل وتفريطاً بالرفقة السرمدية بين هذين المتضادين. الفنان أو المنشئ هو السيد في تنظيم تلك العلاقة وفي تعميقها أو تغييرها لمصلحة الرؤية الفنية لموضوع اللوحة المباشر. على مستوى حسي تتحكم الدربة والخبرة والمزاج الشخصي بنكهة التوازن هذه وتعطيها شحنتها المؤثرة على روح العمل. والكتلة التي تنوجد على حساب الفضاء تتحول مع كل تمدد إلى قوة مشاكسة وتحدٍ وتشعب حتى المراحل النهائية للعمل حيث يفرض استقرار شخصية اللوحة تنازلات وتضحيات بجزء من الكتلة لصالح الفضاء والفراغ. بالنسبة لي تبقى معاملة الفراغ هي الأصعب. ففي سياق هذه المعاملة يدخل الفنان إلى امتحان مقدرته على الاختزال والجرأة في القبول بتحديات إعادة التوازن على حساب الكتلة. في أحيان كثيرة أجد نفسي مضطراً لوقف الحوار الداخلي للوحة بحثاً عن مخرج لطغيان أحدهما على الآخر. مما يعني البدء مجدداً بمراجعة كل المفردات. وكما الأمر في عملية جراحية معقدة يشعر الفنان أحياناً بالغبطة لأن عمليات القص واللصق والمسح تجري بعيداً عن عيون المشاهد. في هذا الخضم قد يتطلب الأمر التضحية بكتل منجزة عن جسد اللوحة. وتفعل الطريقة التي أنظم بها علاقتي مع العمل الفني فضيلة المراجعة المتأنية لاحقاً لما أنجز من علاقات حيث انظر إلى اللوحة مثلما ينظر شاعر إلى نصه المفاجئ لاحقاً. ومع أنني سريع التعاطي مع العالم إلى درجة تجلب شكوى أصدقائي إلا أنني أخشى في العمل الفني الارتجال ويربكني تأمل شيء لا أستطيع وضعه في إطار مقنع حسياً وجمالياً. لهذا فأنني مستفيداً من خبرات مبدعين آخرين وطدت نفسي على ألا أمارس الرسم إلا وأنا صاحٍ تماماً ولست تحت تأثير أي شيء.البنية الداخلية مرتهنة للحالة المتصلة بالعمل وتتكرس في تقديري كصيغة يمكن رصدها عبر سلسلة من الأعمال المنجزة في وقت واحد، وحالما يفرض الزمن توقفات في الإنجاز تنبثق بنى جديدة تنسجم مع الحالة الجديدة أو تعكسها بالأحرى بصيغة بصرية. ولكن شخصية الفنان وثقافته ونسيجه النفسي ينتج على الدوام بنى من عائلة واحدة يمكن للعين الخبيرة أن تربط بينها لتشكل صورة أوسع للتجربة التقنية والحسية.
· تُعلن لوحات معرضك الجديد عن قطيعتها النهائية مع المناخات السوداوية التي كانت تهيمن على روحك وأعماقك في آنٍ معاً. ما هي المعطيات الفنية التي كانت وراء تخلّصك من الثيمات الكابوسية،والأجواء الرمادية التي كانت تغلّف قلقك وأرقك الدائمين؟
- لكل مرحلة في حياة الإنسان مزايا محددة تفرضها الظروف العيانية وطبيعة التجربة الشخصية والخبرة في مواجهة المحيط والتفاعل معه. في الماضي كانت حياة جيلنا السبعيني النشأة محتدمة للغاية واتسمت بطابع ساخن من الأحداث وعلاقة إشكالية مع المحيط والعالم، بل ومع الذات أيضاً. هذا عكس نفسه على المناخات التي تنفستها أعمال الكثير من أقراني بما في ذلك عملي الشخصي. وحيث أننا لم نكن نمتلك الوقت أو الأدوات اللازمة لتفكيك التوتر، بل كنا بالأحرى جزءاً منه وسبباً فيه، لذا نجد أن تلك المناخات التراجيدية ارتحلت معنا إلى اللوحة والى النص والى السلوك . هذا التوتر الوجودي وقع على ارض اكثر التهاباً واحتداماً من دواخلنا، وافرز سياقات إنفصامية في السلوك وفي الشكوى والبوح. ولكن مع مرور الشيخ الجليل " زمن " برأت الجراح واكتملت عدة الصبر المديد بعد عقود من المنفى والغربة والتوحد والتأقلم مع محيط مختلف ومتغير ومتحول وطقوس مماثلة في تنوعها. إذن عندما يرسم المرء في ظل هذه الظروف فإنه يضع حكمة المكان ومفرداتها الحسية على القماش. كنا نرسم نؤشر على استمرارنا في فعل مقاومة وعناد يومي يسجل بقاءنا أحياءً من خلال جرح الروح وأغانيها، أما الآن فقد هدأ الصخب ولم تعد اللوحة أو العمل الإبداعي كما كانت بل تحولت إلى شكلٍ من أشكال تمجيد اليقظة الوجودية وإمساك ذاكرة الإخاء الإنساني والسعي إلى التماهي مع اللحظة الراهنة. وبكلمات فإن لغة التعبير الفني ما كانت تتجسد عبر مفردات من صنع الألم والمعاناة حسب بل بالأحرى تجاوزه والعبور إلى المستقبل. عملياً وحياتياً تراجعت غيوم الألم السود والمفازات التي تعمق اغتراب الكائن البشري وبدأت ألوان اكثر ألفة بالتسلل عبر نافذة الحياة على ضيقها. وهكذا انسلخت لوحتي بالتدريج من دائرة الأزرق والأسود والبني وعائلة الألوان الكامدة.
· لم تغادر الملامح التشخيصية بعض لوحاتك على رغم انغماسك في المنحى التعبيري التجريدي الذي يعوّل كثيراً على العلاقات اللونية ضمن حاضنة الشكل المجرد بعيداً عن المضامين التشخيصية التي تتجسد فيها أشكال وموجودات العالم المادي؟
- للتشخيص قوة وجاذبية كبيرة في الذاكرة البشرية سواء على المستوى الأدبي والشعري أو الرسم. ودليل ذلك ما نراه من عودة إليه تشبه موجة حنين من قبل الكثير من الفنانين في الغرب بعد سنوات من التجربة التشكيلية التجريدية الناجحة. هذا الأمر ملموس في اكثر من مستوى. وتكفي إطلالة على المعارض والصالات الفنية الرفيعة لنرى قوة التشخيص كعنصر جاذبية بصرية. ولكني استعين بالخلاصات والمفردات التشخيصية من اجل تكثيف الشحنة الشعورية وليس على سبيل التعبير الموضوعي والمنهجي. على هذا المستوى لم تعد للتشخيص قيمة معاصرة كتقنية مستقلة ومكتفية بذاتها. فالظاهرة البصرية في غالبية التجارب التشكيلية المتقدمة لا تكتمل سمتها الدرامية من دون إشارة تشخيصية. والتبرير الحقيقي للعنصر التشخيصي يأتي من داخل العمل ومن التركيبة التي يقترحها الفنان. التشخيص لم يعد هدفاً فنياً، بل هو هدف تزييني وكما انسحبت اللوحة الكلاسيكية أمام حداثة الانطباعية والمدارس التي خرجت من رحمها فأن التشخيصية والواقعية تراجعت أيضاً واصبح التمسك بالعمل الواقعي، حتى بالمقاييس الانطباعية والتكعيبية، محض مراوحة ونكوص. هذه المدارس تعد من الناحية الفكرية مدارس رجعية ومحافظة وتفتقد الصلة بالحياة المعاصرة. فالفنان صاحب الاحتكاك المباشر واليومي بالحياة لا يكتفي بالفرجة على العالم وعكس ما يراه حرفياً أو ببعض التعديلات. وغني عن القول إن حجم مبيعات الإنتاج التشخيصي والواقعي في السوق الاستهلاكي الغربي ليست مقياساً كافياً. بالنسبة لي يكمن الحسم في الطريقة التي يجري بها معالجة اللوحة والقيمة أو المرجعية الجمالية التي تنطلق منها عملية الرسم في جملة عناصر منها تقنية العمل وتوجه الفنان الثقافي ومدى رؤيته لعناصر ماضيه وحاضره والجدية التي يستشرف بها مستقبله. الشكل يروح ويجيء ويتمدد ويتشارك مع تقنيات وملامس مختلفة بحيث لا يمكن تقديسه بل حتى إمساكه. خذ لوحات فنون الإنشائيين أو رسوم ما بعد الحداثة النيويوركية أو الأوروبية كنموذج على ما أقول.
· في لوحتك ثمة معمار لوني، وهندسة إيقاعية تبدو وكأنها نابعة من السقوط في مدارات الوجد الصوفي الناجم عن التمثل، والدربة، وإطالة النظر. هل لك أن تتحدث لنا عن هذا المعمار اللوني المموسق الذي تؤسسه بعيداً عن الانثيالات العفوية التي تنبثق عن بعض المصادفات اللحظوية العابرة؟
- المعمار عامل جوهري في اكثر من العمل الفني. انه روح العصر الحديث ومن دون التعاطي مع إسقاطاته لا يمكن للكائن المعاصر التعبير عن عصره. ويسهل إدراك المعمار سواء أكان بصرياً ـ لونياً أم شكلاً مجسداً أو ببعدين المعبر الوحيد لإدراك الظاهرة البصرية المعاصرة. وبالنسبة لي كان المعمار اكتشافاً متأخراً نسبياً بسبب قلة إطلالي على مصادره وفلسفته المعاصرة. ولكن في اللحظة التي أتيح لي التمتع بقيمة المنجز المعماري شعرت بتحرر لا مثيل له. اصبح بوسعي إمساك الحجوم، وتدويرها، وتخيل المنجز البصري بعمق ولكن بمتعة فائقة. ويعني المعمار لي اكثر من هندسة اللون فبمراعاته تمكنت من استيعاب البعد المركب والمتحول للأشياء التي نراها. من الناحية الرياضية تؤمن الرؤية المعمارية رصد الأبعاد الثلاثة للأشياء ولكن بصرياً يلج الفنان إلى بعد رابع، بعد حسي يلبي الهاجس الإنساني ويتصالح معه. العمل الموسيقى الحديث كان أحد منابع الوعي بالمعمار لأنه يعطي مثالاً حسياً وملموساً عن الظاهرة الانفعالية ومصادرها الخارجية. الموسيقى التجريدية والنموذج ممتاز على الربط بين ما هو مجسد وما هو حسي ولذلك يقال إنها اقرب الفنون إلى التشكيل.
* يعوّل مشروعك الفني الشكلي في جزء كبير من محاوره ومنطلقاته الأساسية على فن الزخرفة، بعيداً عن الجوانب الثابتة والمتكررة التي توحي بالتحجر ضمن أطر وقوالب محددة، ما هي المحفزات التي دفعتك لخوض هذه المغامرة غير مأمونة العواقب؟ وما هي الآفاق التي تكشفت عنها هذه التجربة التي تنطوي على شجاعة غير مسبوقة في الوقت ذاته؟
- إذا ما بنينا على الأطروحات التي سبق وتحدثت عنها يمكن للزخرفة أن تكون أحد المصادر التشكيلية الكبرى للفنان العربي والإسلامي شرط أن ينظر إلى الموضوع من زاوية العلاقة الجدلية والبصرية. فنحن هنا لا نشاطر المفهوم الضيق للتقاليد البصرية العربية والإسلامية ولا نتحدث عن الزخرفة بالطريقة التلفيقية التي حاول منظرون من اتباع الهوية القومية وإبتذالاتها أن يسوقوها. فنحن نتحدث عنها كأشكال وعلاقات متاحة تنطوي على قيم جذابة للغاية لجهة انطوائها على تركيبات لونية تعكس المحيط الضوئي وتنقل بعده الروحي لنا كمواطنين عراقيين أو شرقيين ذوي ذاكرة بصرية إسلامية. ولكن مخزوننا البصري الزخرفي بقي للأسف في أطره وقوالبه القديمة من دون مراجعة كافية، أو انه عولج بشكل اخرق وسطحي من قبل دعاة العزلة والتمايز. وبالنسبة لي كانت أطروحة " واقعية الكم " لأستاذنا الكبير محمود صبري نقطة انطلاق مهمة للبحث في إمكانية استيعاب القيم البصرية للزخرفة في سياق عمل حديث. وفي الواقع كانت الإشارة إلى الزخرفة كمجال جمالي محتمل التطوير بالاستنارة بأطروحات واقعية الكم قد جاءت على لسان الدكتور رودولف خدريا، وهو للأسف الشخص الوحيد الذي وجد رابطة بين الأطروحة والتقاليد الزخرفية لبلداننا. وأعتقد بعد سنوات من تجربتي الجديدة أن المصدر الزخرفي سيبقى عاملاً مؤثراً في تأطير مشاهداتي وإستخلاصاتي كراءٍ وكمتأمل لن يتاح لغيري من المواطنين الأوروبيين.
· تؤكد في الكثير من حواراتك بأنك لا تستجيب لفكرة الاندماج السلبي مع المجتمع الهولندي لأنه يفقدك جزءاً من مكوناتك الثقافية المعروفة. ترى هل ينسحب هذا الموقف على الجانب الفني فيك بوصفك تشكيلياً عراقياً يتمترس خلف ذائقة فنية مميزة تتوفر على الكثير من نوازع الاعتداد بالنفس، والتمسك بالمصادر والمرجعيات الثقافية والحضارية. ما هي حدود التماس بينك وبين المنجز الفني الهولندي؟ وهل أن موقفك هو موقف الند للند أم أنه خاضع لشروط التابع والمتبوع؟
- لا يجب أن تكون عملية اندماجنا كبشر ضمن محيطنا الإنساني سلبية بل بالأحرى تكاملية. ربما لأنني نشأت في بيئة جدل شكاك ولا يكتفي بحسن النوايا. كما أن انفتاح تجربة جيلي على الثقافة العالمية وتياراتها أتاحا لي أن اكتسب ثقة واستعداداً للتفاعل مع الأخر بندية واعتداد بالنفس. وفي هولندا حيث المناخ الفكري المنفتح على الآخر والطبيعة السمحة والمتواضعة للنخب الثقافية تبلورت علاقة متكافئة وبناءة بيني وبين الآخرين. غير أن استقلال المرء ومقدرته على اختيار تفضيلاته من دون ضغط الظروف الاجتماعية وشروط الحياة ربما ساعدني على عدم التخلي عن ذلك الاعتداد. وفي أحيان كثيرة وجدت الهولنديين مستعدين بالأحرى لتقبل قراءاتي الخاصة لتاريخهم. بل اكثر من ذلك وجد الكثير منهم متعة في قراءة رؤيتي للمدارس الهولندية المعاصرة. على أي حال فإن الأمر لم يكن ليمضي بهذا الاتجاه من دون معرفة وثيقة بالأشياء والأفكار المشتركة وما حولها لتكون جسراً متيناً إلى الآخرين أينما وجدوا.
· انطلاقاً من رفض ( المستقبليين ) للماضي جملة وتفصيلاً بحجة حركة الزمن واندفاعها المحموم إلى الأمام، هل تفكر بثلاثية ( الماضي، الحاضر والمستقبل ) وأنت تنهمك في رسم عملك الفني؟ هل يستطيع الحاضر المتجسد فيك أن يوازن من نكوص المخيلة إلى الوراء ( الماضي ) أو جنوحها المفرط إلى الأمام ( المستقبل )؟ وأين تضع منجزك الفني وفق الطروحات التي يقترحها المستقبليون أمثال مارينيتي، جياكومو بالا، وإمبرتو بوتشيوني؟
- الأمر لا يتعلق بفكرة " رفض الماضي حسب، بل في العثور على المعادلة الصحيحة للممارسة الفنية بأعمق تفاعل وجودي مع العالم. كيف يمكن إدراك الزمن كقيمة من دون نبذ المكرس والمنجز؟ الزمن هو نقطة وقوف الكائن في لحظة معينة على مكان محدد. وفي تقديري نحن إذ نقف في ذلك الموقف إنما نكون في ذروة تجاوزنا للماضي من خلال تمثله بحيث لا توصف محاولة البحث عن " رؤية " الماضي إلا بوصفها نكوصاً. من هذه النقطة يبدو الجنوح إلى المستقبل فضيلة لا تحد من قيمتها الخسائر التي يدفعها كل مستكشف. على الجانب العياني من عملي يمكن القول إن ثمة تماثلات جلية بين إنجاز المستقبليين وغالبية فناني الحداثة التشكيلية في مختلف بلدانهم. فتقنيات العمل وتركيبته وبناه تعد الأكثر تمثلاً للقيم التي كرستها الحداثة ما بعد الانطباعية. ولا أجد مستغرباً تلمس صلة في الشكل أو في الإنشاء الموضوعي لعملي وبعض المستقبليين. ربما تجد قرابة اكثر لي مع بوتشيوني أكثر منه مع بالا ومارينيتي،إنما من دون إسقاط المفهوم المستقبلي تلقائياً على توجهي ودافعي الفني الذي يختلف جوهرياً والسبب هو إيماني العميق بضرورة التحرر من قيد المفهوم أو الأسلوب أو افتراضات المضامين الجاهزة. فعناصر مثل : الحركة ، والسعي للبناء المتقن والمكثف والحس الذي يلامس العفوية كلها حاضرة. اكثر من ذلك الانطلاق من موقع معرفي مترابط مع أشكال بعيدة للغاية عن العفوية البحتة أيضاً. هنالك ما يمكن وصفه بتأكيد للهاجس الانطباعي ـ البصري كما يسميه بوتشيوني. ببساطة متناهية : البصير يمكن أن يكون عبقرياً في أي مجال إبداعي وإنساني، ولكنه لن يصبح رساماً قط. والمعرفة الثقافية والأدبية والتاريخية، بالنسبة لي هي وسيلة النظر الوحيدة المتاحة لمثقف القرن الواحد والعشرين.
· لو قلبنا أوراق ذاكرتك المحتشدة بالقراءات الكثيرة فكم سنعثر في جانبها البصري على مهيمنات الفن الهولندي خاصة، والأوربي عامة، والتي تتعاطى معها بشكل يومي؟ كيف تتعامل مع هذه المؤثرات الفنية بوصفك ناقداً يتوفر على خبرة بصرية عالية، وأداة نقدية نابعة من التشكيل وليس من جنس إبداعي آخر؟
- للفنون في هولندا نكهة خاصة للغاية. فهي اكثر اقتصاداً وتقشفاً في الإنشاء ولكنها اكثر عمقاً وشفافية. خذ رامبرانت وفيرمير كمثال من القرن السابع والثامن عشر. ومن ثم فان خوخ وموندريان المتأخرين. هنالك فنانان هولنديان معاصران هما ارماندو وكونستانت تصب أعمالهما في ذات الوجهة. أجد من الصعب على أي دارس أو مهتم بالفن وتياراته تجاهل مميزات الهولنديين التي يمكن لنا ببعض التساهل وضعها بوصفها مزايا أخلاقية أيضاً. فرامبرانت مثلاً لم يغادر بلده، بل بالأحرى مدينته أمستردام حتى موته ورفض قيم مدرسة فلورنسا وروما المهيمنتين وكان يرسم مستعيناً بموديلات من حارته وجواره بدلاً من نماذج قياسية في علم الجمال كما كان يفعل الفلورنسيون ورسم أعماله بأقل قدر من البني الشفاف الذي كان يعتبر ميزة للرفعة والسمو. أما فيرمير وتقشفه وإبداعه في مجال اللون والحلكة فمعروف ولا تزال أعمال مصدر وحي للكثير من المبدعين المعاصرين. وهكذا إذا مررنا بجميع من ذكرت وآخرين كثر. ولكني أجد الهاجس المتمرد والرغبة بالتمايز التي يمكن رؤيتها في الفن الهولندي قريبةً للغاية للروح العراقية بتعبيرها المثقف والمهذب وليس في محطات الابتذال المتأخرة التي استخدمها المشعوذون ضيقو الأفق. القراءة والعمل في النقد قرّباني من روح الفن الهولندي ولكنهما لم يتحولا إلى مصدر لجنس آخر وذلك يمكن رؤيته في الأعمال الأخيرة. لا يمكن للواحد منا وهو يدقق أو ينقب إلا أن يجد ويعثر كما يقول التعبير.
· قبل أيام صرح أحد النقاد العراقيين بأن المنجز الفني العراقي في المنافي الأوربية يستجيب إلى ذائقة السوق من جهة، ويغيب فيه موضوع العراق تماماً، كما عاب عليه دخول بعض الموضوعات أو الفيكرات الأوربية إلى متن لوحته؟ ألا يحق للفنان العراقي المنفي أو المغترب أن يوظف معطيات الزمان والمكان والموضوعات الجديدة في نتاجاته الفنية؟ وهل من المعقول أن نظل أسرى الذاكرة التي تجاوزها الزمن؟
- لا يستحق القائل بغياب العراق رداً فهذا كلام سطحي وينطلق من دوغما كرسها ساسة ومعلقون من دعاة " الإلزام الفني " . العراق كذاكرة وثقافة وروح لا تغيب عن الفنان العراقي. أما إذا كان الأمر كما يفعل بعض السذج والسطحيين الذين يرسمون عملاً فنياً ويضعون تحته عنواناً كـ " الحصار الدولي " أو " جلجامش ينهض في بغداد " أو " نعم للسلام لا للعقوبات " أو تسقط أو تحيا … فأنا لا أشاطرهم " عراقهم " . العراق بالنسبة لي شيئاً خبيئاً في ثنايا الروح يتنفس معي ويتنزه معي ويسافر معي ومع زملائي المبدعين أينما نذهب. ثم يجب التأكيد على أن العلاقة بين الفنان والمشاهد العراقي وغيره يجب أن يعاد النظر بها على أساس الواقع الجديد الذي يعيشه الفنان والمبدع بوجه عام. فالذاكرة مثلها مثل مخزن للأحداث والتفاصيل. يعيد كل فرد ترتيبها بالشكل الذي يوائم دافعه الإنساني ونشاطه وتفاعلاته الوجودية. وهي ليست مادة متماثلة موحدة وجامدة لا تتجزأ. للأسف لا يريد بعض النقاد ممن اعتاد تسويق نثار مشوش من المفاهيم الأيديولوجية أن يعترف بصعوبة الحياة. وبتعقيد الكيان الإنساني والظواهر الوجودية. وهؤلاء لا يرون في أي عمل لا يمكنهم الدخول إليه من بابه أو شباكه نتيجة لخمول فكرهم، سوى عمل فاشل. وهم يحرضون روح القطيع التي سادت في ثقافتنا العراقية ولا تزال في اكثر من صعيد، ضد كل جديد ومبتكر وهم يعادون اكثر من أي شيء آخر جيل الشباب ومبادراته وإنتاجه لأنهم لا يتماهون معه لا في الشكل ولا في المضمون. المشكلة هنا هو إننا أمام نقاد كتبوا في كل زمان ومكان، وهم إذ فقدوا مواقعهم القديمة بدأوا بإطلاق التحذيرات الكاذبة من عناصر التجديد.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التشكيلية إيمان علي- تحت الأضواء - عيون مسافرة إلى أقاصي الو ...
- باب الشمس ليسري نصر الله: فيلم يجسّد مأساة الشعب الفلسطيني ط ...
- سينما الموضوع في فيلم- ما يطلبه المستمعون- لعبد اللطيف عبد ا ...
- صورة البطل الشعبي في فيلم - المنعطف - لجعفر علي
- فهرنهايت 11/9 لمايكل مور آلية التضليل عنوان مسروق ورؤية مشوه ...
- أهوار قاسم حول بين سينما الحقيقة واللمسة الذاتية ومحاولة الإ ...
- رصد الشخصية السايكوباثية في فيلم - الخرساء - لسمير زيدان
- المخرج خيري بشارة: من الواقعية الشاعرية إلى تيار السينما الج ...
- المخرج الجزائري- الهولندي كريم طرايدية نجح فيلم العروس البول ...
- المخرج التونسي الطيب لوحيشي السينما فن مرن أستطيع من خلاله أ ...
- حياة ساكنة - لقتيبة الجنابي الكائن العراقي الأعزل وبلاغة الل ...
- المخرج السينمائي سمير زيدان
- الفيلم العراقي- عليا وعصام
- فيلم - الطوفان - لعمر أميرالاي
- يد المنون تختطف النحات إسماعيل فتاح الترك
- ندوة السينما العراقية في باريس
- المخرجة هيفاء المنصور أنا ضد تحويل الممثل إلى آلة أو جسد ينف ...
- برلين- بيروت لميرنا معكرون: مقاربة بصرية بين مدينتين تتكئ عل ...
- على جناج السلامة للمخرج المغربي عزيز سلمي إستعارات صادمة وكو ...
- بنية المفارقة الفنية وآلية ترحيل الدلالة في - أحلى الأوقات - ...


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الفنان إسماعيل زاير للحوار المتمدن: أنظر إلى اللوحة مثلما ينظر الشاعر إلى نصه المفاجئ لاحقاً