أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - حضارة بين حضارتين(مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارتين اليونانية والغربية)















المزيد.....



حضارة بين حضارتين(مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارتين اليونانية والغربية)


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3073 - 2010 / 7 / 24 - 13:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لعل من المسلمات الأساسية للفكر الحديث إعتباره أن تاريخ البشرية - ككل - لا يحتضن سوى ثلاث حضارات ثقافية منظّرة للعالم، هي الحضارة اليونانية القديمة، والحضارة الإسلامية الوسيطة، والحضارة الغربية الحديثة التي ما زالت ممتدة منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا.
وبعبارة أخرى، أن الفكر الحديث لم يشكك في كون هذه الحضارات الثلاث هي وحدها التي قدّر لها أن تتمظهر بمظهر الثقافة المنظمة من التنظير والتفكير بعيداً - نسبياً - عن الرؤى السحرية والاسطورية. فعلى الرغم من ظهور حضارات كثيرة ظلت حية فترات طويلة من الزمن قبل أن تتلاشى وتصبح اثراً بعد عين، إلا أنه لا يوجد ما يؤكد بأنها مارست مهام التنظير المنظم في علومها ومعارفها. ومع ذلك فهناك ظنون قديمة تثار ضد أصالة العلم اليوناني بإرجاعه إلى صيغة مستلبة من حضارات الشرق القديمة، كالقول الذي ينقله الفارابي في (تحصيل السعادة) من أن للفلسفة وجوداً عند الكلدانيين في العراق ومن ثم في مصر قبل إنتقالها إلى اليونان . كما هناك مزاعم وآمال قد علّقها القدماء لإثبات أصالة التنظير لدى بلاد فارس في بعض العلوم، مثل المنطق والفلسفة وما على شاكلتهما، كالذي يخبرنا عنه إبن سينا في مقدمة كتابه (منطق المشرقيين)، وكذلك شيخ الإشراق السهروردي الذي يُرجع فلسفة الإشراق إلى ما قبل اليونان في بلاد فارس.
بل من المعاصرين من وصف الفلسفة اليونانية بأنها مسروقة من حضارة مصر القديمة، وصيغ هذا المعنى بعنوان (التراث المسروق) لكتاب الباحث الأمريكي (جورج جيمس). ومن بين ما اعتقده هذا الباحث هو أن أرسطو قد استولى على كتب الاسكندرية أيام فتوحات صديقه الاسكندر وسرق منها ما شاء له من الأفكار والآراء ونسبها إلى نفسه. لكنه لم يقدّم دليلاً على دعواه سوى أن المنسوب إلى أرسطو من الكتب ما يفوق قدرة رجل واحد طوال حياته . والحقيقة أن كثرة ما كتبه أرسطو تدل على الزخم العلمي الذي وصل إليه الفكر في تلك الفترة، رغم أن أغلبه تعرّض للضياع، ولم يبق ما يدل عليه سوى إشارات أرسطو وغيره من القدماء عنها. وقد كتب بعض رجال الحضارة الإسلامية أضعاف ما كتبه أرسطو، كمحي الدين بن عربي الذي وصلت مؤلفاته إلى ما يقارب خمسمائة كتاب ورسالة. وقد تُفسر هذه الكثرة، سواء لأرسطو أو لغيره، بأن القدماء اعتادوا أن يضمنوا كتبهم نصوص غيرهم التي يتبنونها دون أن ينسبوها إلى الغير، فيظن القارئ أنها عائدة اليهم، والحال أنها مقتبسة من الآخرين ضمن ما يعرف حديثاً بالتناص. فمثلاً الكثير مما كتبه إبن سينا هو مقتبس من الفارابي دون الإشارة إليه. كذلك توحي الكثير من كتابات صدر المتألهين بأنها من بنات أفكاره لأنه يتبناها ولا يشير إلى غيره فيها، مع أن الكثير منها يعود بالحرف الواحد إلى من سبقه من الفلاسفة والعرفاء، كالغزالي والقيصري والآملي وغيرهم، دون الإشارة إليهم، طالما ذلك لا يعتبر عندهم من السرقة الفكرية.
نعم، إن ما ثبت بالدليل لحد الآن هو أن مجمل الأفكار الفلسفية التي تبناها الفلاسفة اليونانيون نجد جذورها عند الحضارات القديمة وعلى رأسها الحضارة الفرعونية المصرية، رغم أنه لم يعثر الباحثون على دليل يثبت بأن هذه الحضارات قد مارست البحث في الأسباب والأدلة عند طرحها للرؤى والأفكار كالذي مارسته الحضارة اليونانية بأصالة. فالأفكار القديمة المطروحة هي أقرب للتأملات العرفانية والرؤى الاسطورية، ومع ذلك لم يمنع اليونانيين من التعويل عليها وإعتبارها أساساً للبحث والتفكير. وبالتالي فقد أصبح الفكر اليوناني إنعكاساً لفكر ما سبقه من حضارات مع الأخذ بنظر الإعتبار إختلاف طريقة إنتاج هذا الفكر أو تبريره. لذا جاز لنا أن ننزع على ما قدّمه اليونانيون نزعة الأصالة، لكونهم أول من بدأ بالبحث في الأسباب للقضايا الفلسفية أو القضايا العامة المتعلقة بالكون والوجود، وهي الصورة التي تعطي للبحث طابعه النظري من الناحية العلمية. رغم أن هذا الموقف لا يمنعنا من إرجاع هذه الأصالة – بإعتبار آخر – إلى الحضارات القديمة، لتأثر اليونانيين بمن سبقهم وأخذ الكثير عنهم، سيما حكماء مصر القدماء، ومن ذلك نظرياتهم المتعلقة بالفيض ووحدة الوجود، مع الأخذ بعين الإعتبار أن هذه الأفكار قد طُرحت مقطوعة الصلة عن أدلتها وإعتباراتها «العلمية».
هكذا نعتبر بأن الأصل في التفكير الفلسفي تارة يتمثل باليونان، وأخرى بمصر الفراعنة، وذلك للإعتبارين الآنفي الذكر. فمن حيث المضمون المعرفي تكون مصر هي (الحضارة الأم) أو الأصل في التفكير الفلسفي، أما من حيث المنهج العلمي المتمثل بالبحث في الأسباب والأدلة فإن اليونان هي من تتقدم على غيرها من الحضارات الأخرى. ولنقل أن الحضارة الأم هي (فرعو ـ يونانية)، مع الأخذ بنظر الإعتبار أن باقي الحضارات المعروفة، كالبابلية والهندية والصينية، قد ساهمت ضمن هذه الحلقة من الحضارة الأم.
ومع أن حضارات العالم الثلاث لم تتزامن مع بعضها، إذ الحضارة الإسلامية جاءت بعد أُفول الحضارة اليونانية أو الـ (فرعو ـ يونانية)، كما أن الحضارة الغربية أخذت تنمو باطراد وقت تراجع الحضارة الإسلامية وتقهقرها، فالملاحظ أن هناك خطاً زمنياً وراء البزوغ والأُفول يدعو الباحث إلى أن يتساءل عن علاقة هذه الحضارات ببعضها: فهل كانت تبحث عن إشكالية مشتركة، أم لكل منها إشكاليتها الخاصة؟ ثم هل كانت تعبّر عن علاقة خطية واحدة ذات حلقات متصلة بحيث يستضيء بعضها بنور البعض الآخر، أم أنها تمتاز بقواطع معرفية تامة؟ أو كونها تشكل هجيناً مخضرماً من الإمتزاج والتداخل في الثقافة المتبناة، إلى الدرجة التي تغيب عنها الأصالة المطلقة باستثناء الحضارة الاصل؟ وبعد ذلك: هل أن هذه الحضارات كانت تعبّر عن طموح موحد وهدف مشترك، أم أنها تضاربت في الميول والغايات؟
هذه التساؤلات المتلازمة ضمن «إشكالية الحضارة» قد تنقلب إلى تساؤلات موظفة للبحث عن شؤون حضارتنا «الغائبة». إذ كانت بين حضارتين، فهي حضارة «ما قبل» و«ما بعد»، مما يعني أن السؤال الذي قد يجول في الأذهان هو عما إذا كان لحضارتنا شيء من التأثر والتأثير على الحضارتين الأخريتين، فهل هي عبارة عن انجرار ثقافي لحضارة «ما قبل»، في الوقت الذي كان لها دور في ضمان خط التواصل الحضاري، بتحويل اكسير الحياة ومنحه إلى حضارة «ما بعد»، أم أنها شيء آخر مختلف؟
ربما يذكرنا هذا التساؤل بلحظة التزامن بين ظاهرتي التراجع والتقدم للحضارتين الإسلامية والغربية، مما قد يبعث في الأذهان تصور بأن الحضارة الأولى لم يكن لها أن تتراجع لولا ما أعطت من ذاتها مقومات الحضارة الأخرى، فأصيبت من جراء ذلك بالنحول والعجز، وأن الأخرى لم يشأ لها القيام لولا أنها امتصت مصادر القوة والقدرة من الأولى.
وقد ينقلب السؤال الآنف الذكر إلى طرح معاكس، فيمكن أن نتساءل عما إذا كانت حضارتنا تحمل خصائص أصيلة، تجنبها الوقوع في التداخل الثقافي مع الحضارتين الأخريتين، كدائرة مغلقة وسط هاتين الدائرتين؟
لكي نستوضح طبيعة التواصل الثقافي والعلاقة بين حضارات العالم الثلاث، ودور حضارتنا وسطها، لا بد أن نتعرف أولاً عن طبيعة الإشكالية التي استقطبت تفكير كل منها.
ويبدو أنه لا توجد صعوبة لتحديد نوع الإشكالية التي استغرقت تفكير الحضارة الغربية، فمن المعلوم أن هذه الحضارة تتصف أساساً بالعلم والتصنيع والتنظيم، سواء التنظيم الإجتماعي أو السياسي أو الإقتصادي أو الاداري أو العلمي... الخ. فهي بالتالي حضارة علم وصناعة وتنظيم.
أما نوع الإشكالية التي استنفدت جهد التفكير داخل الحضارة اليونانية فهي الفلسفة والغنوص، بما تعبّر عن تأملات الوجود ومراتبه الحتمية إستناداً إلى بعض المبادئ الأساسية وبعيداً عن التجربة والتحقيق العلمي، وبالتالي فهي حضارة ميتافيزيق أو ما وراء الطبيعة. فمع أن وظيفة هذه الحضارة كانت من اجل توضيح حقائق الوجود بما في ذلك الكشف عن علاقات الطبيعة، سيما لدى طبيعيات أرسطو، إلا أنها ليست حضارة علم وفيزيقا بالمعنى المألوف لهذه الكلمة. فهي لا تبحث عن الطبيعة كـ «موضوع في ذاته» أو من خلاله، بل على العكس أنها تحدد العلاقة معها بطريقة التعالي الترانسدنتالي على ضوء المبادئ المسلّم بها سلفاً. فهي تعتبر نظام الطبيعة لا يختلف عن نظام العقل، فما يقرره العقل هو نفسه ما يطابق الطبيعة والعالم أجمع. بل أن معنى العقل كما حدده أرسطو إنما يعني النظام الكلي للعالم، وهو نفس التحديد الذي سار عليه فلاسفة الإسلام، والذي يستبطن القول بوحدة الوجود كلازم من لوازم قانون «السنخية» أو التشابه بين مراتب الوجود، وهو ما لم يفارق العقل اليوناني كطريقة للتفكير، كما لم يفارق سائر إمتدادات هذا العقل لدى كل من فلاسفة العهد الهيلنستي والإسلامي. فكما اتضح لنا من قبل بأن قانون السنخية هو أساس التفكير الذي حدد نماذج العقلية اليونانية منذ أول فلاسفة اليونان طاليس وحتى أرسطو، بل وقبل ذلك لدى حكماء مصر الفرعونية، ومثلهم حكماء الهند، وظل يتحكم في طريقة الإنتاج الفلسفي، سراً وعلانية، حتى تكشفت استاره مع فلاسفة العهد الهيلنستي والإسلامي، كالحال مع نومينيوس وافلوطين وفورفوريوس والإسماعيلية والفارابي وإبن سينا والغزالي وإبن باجه وإبن رشد وإبن طفيل ومحي الدين بن عربي وصدر المتألهين وغيرهم.
أما إشكالية الحضارة الإسلامية فهي ليست مشحونة بحمولة فيزيقية كالحال مع حضارة «ما بعد»، ولا بحمولة ميتافيزيقية مثل حضارة «ما قبل»، بل كانت تعبّر عن العلاقة بين الفيزيق والميتافيزيق، بين عالم الشهادة وعالم الغيب، بين الإنسان وخالقه. فإذا كانت إشكالية حضارة اليونان ذات طبيعة وجودية حتمية مصدرها السنخية، وكانت إشكالية حضارة الغرب تتردد بين الحتمية ونفيها ضمن الوجود الطبيعي دون أن تتعداه، فإن إشكالية الحضارة الإسلامية ليست من هذا النمط أو ذاك، إذ هي لا طبيعية ولا وجودية عامة، بل معيارية تسود فيها قيم الدين والعبادة والفقه والكلام والتكليف، وبالتالي فإنها حضارة دين وفقه وكلام ولغة وأخلاق... الخ، وكلها تصبّ في «نظرية التكليف» التي تربط بين الغيب والشهادة بعلاقة الأمر والنهي والوجوب والحرمة والحلال والحرام والمستحب والمكروه والحسن والقبيح.
هكذا أن الحضارة الإسلامية هي «حضارة تكليف»، فأغلب العلوم التي استغرقتها هذه الحضارة تتعلق بهذه النظرية، سواء كـ «موضوع في ذاته» حين يكون موضوع العلم هو التكليف ذاته، أو كـ «موضوع لأجله» عندما لا يكون الموضوع هو التكليف، بل غرضه، كما في اللغة والكلام كما عرفنا، مما يجعل من نظرية التكليف ليست مجرد إشكالية طغت على غيرها من الإشكاليات الأخرى داخل الحضارة الإسلامية، بل الأهم من ذلك أنها شكلت البنية الأساسية لجهاز التفكير في العقل الإسلامي. فإذا كان من الممكن لسائر الإشكاليات أن تنقطع وتندثر، فإن هذه الإشكالية لا يسعها الإنقطاع إلا بإندثار العقل الإسلامي ذاته، وهو ما يفسر لنا ظاهرة إمتداد هذا العقل وديمومته إلى يومنا هذا، وإن كان عيبه هو أنه اتخذ طريق الإستصحاب والتكرار، لا فقط مع الموضوعات التي كان يتناولها، بل حتى مع طريقة أداء دوره في التوليد، فهو يتحرك ضمن فضاء متعال على الواقع ليتخذ منه نقطة إسناد للإسقاط والنزول، وليعبّر في النهاية عن «حق الله» فيما يحدده المكلِّف من واجبات على المكلَّف.
إن ما يميز هذا العقل عن «الآخر» اليوناني والغربي، هو أنه وإن كان يتفق مع العقل اليوناني في تحديد المسار بين الفيزيق والميتافيزيق عبر الإسقاط والتنزل من فضاء التجريد إلى الواقع، خلافاً للعقل الغربي الذي إتّخذ مساراً معاكساً في الإتجاه، إلا أن ذلك لا يمحي صورة التعارض المستقطب لدى طبيعة قراءة هذا العقل بالقياس إلى «الآخر». فإذا كانت القراءة لدى العقل اليوناني «وجودية حتمية»، ولدى العقل الغربي «طبيعية» لا تلتزم في الغالب بالحتمية المتشددة، بل وتتنكر لها أحياناً، كما يظهر مما لدى أصحاب جامعة فيينّا وأصحاب نظرية الكوانتم وغيرهم.. فإن قراءة العقل الإسلامي ليست من طبيعة ذلك «الآخر»، فهي قراءة «معيارية» لا تتناسب مع حتمية عقل «ما قبل»، ولا مع موضوع عقل «ما بعد»، وبالتالي فإنها ليست حتمية ولا طبيعية.
بل أن هذا التمايز بين العقول الثلاثة قد طبع أثره حتى على نفس مفهوم «العقل». إذ أصبح تعريف الأخير محدداً لطبيعة القراءة العقلية - أي طريقة الإنتاج المعرفي - لدى كل من الحضارات الثلاث. فلدى حضارة اليونان يقصد بالعقل بأنه النظام الكلي للعالم . ولدى حضارة الغرب، فعلى ما صوره البعض بأنه قواعد مستخلصة من موضوع ما . أما لدى الحضارة الإسلامية فهو في الدرجة الرئيسية عبارة عن قواعد للسلوك والأخلاق، كما يستخلص ذلك من المعاجم اللغوية وغيرها. فكما عرّفه المحاسبي بأنه «غريزة جعلها الله في الممتحنين من عباده، أقام به على البالغين للحلم الحجة» وعرّفه إبن حزم بأنه «استعمال الطاعات والفضائل.. وهو في اللغة المنع: تقول عقلت البعير اعقله عقلاً..» . وعرّفه القاضي الهمداني بأنه جملة من العلوم المخصوصة، متى حصلت في المكلّف صحّ منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ماكُلّف به. واعتبر وصفه بهذا اللفظ جاء لوجهين أحدهما - وهو ما نحن بصدده - هو «أنه يمنع من الإقدام عما تنزع إليه نفسه من الأمور المشتهاة المقبحة في عقله، فشُبِّه هذا العلم بعقل الناقة المانع لها عما تشتهيه من التصرف، والثاني أن معه تثبت سائر العلوم المتعلقة بالفهم والاستدلال. فمن حيث اقتضى ثبات سائر العلوم المتعلقة بالفهم والاستدلال شبّه بعقل الناقة المقتضي لثباتها» .
ومن الواضح أن التعاريف الآنفة الذكر للعقل تستبطن التمايزات لطبيعة الإشكالية والقراءة لكل من حضارات عقول العالم الخالدة. فالتعريف اليوناني يضمر خاصية التطابق بين العقل والعالم أجمع، طبقاً لإعتبارات السنخية من التشابه بين مراتب الوجود ككل، الشيء الذي يعني أن للعقل بنية مطلقة قادرة على تحديد علاقات الطبيعة سلفاً دون حاجة للتجريب والتحقيق. وعادة ما يولي النظام الوجودي للعقل الفعال صلة الوصل والتطابق بين العقل البشري والطبيعة أو الوجود الكوني، فهو عبارة عن مرآة لتصوير الواقع. إذ يعمل على صنع صورنا المتطابقة مع الواقع. وكما يقول صدر المتألهين: «ليس كما هو المشهور أن النفس تجرد الصور المحسوسة وتنتزعها عن موادها فتصيرها معقولة بالفعل.. فالمحسوس يستحيل أن يكون متخيلاً ثم معقولاً وهو هو بعينه.. ليت شعري أن النفس بقوتها العاقلة التي هي في ذاتها خالية عن صور المعقولات كلها، كيف تنال وتدرك المعقولات؟ وبأي شيء تنالها وتدركها؟ أبذاتها العارية الجاهلة المظلمة تدرك الأشياء الخارجية؟ ومن لم يكن بذاته مدركاً لشيء ولم يحصل لذاته بذاته شيء فكيف يدرك شيئاً اخر؟» . فمبرر هذه المعرفة للواقع والتطابق معه مستمد من فيض العقل الفعال، كما يراه الفلاسفة، أو من حيث مرآة اللوح المحفوظ كما يراه الغزالي ومن على شاكلته من العرفاء. لكن مع ذلك فإن المبرر الحقيقي للتطابق بين العقل والوجود لدى النظام الوجودي إنما يعود إلى قانون السنخية كما عرفنا.
أما التعريف الغربي فهو على خلاف التعريف اليوناني أو الوجودي لا يضمر تلك الخاصية من التطابق بين العقل والطبيعة، بل الشيء الذي يستبطنه هو ضرورة الاتصال بينهما كي يمكن استخلاص قواعد الأول من الآخر. وطبقاً لهذا التعريف فإن العقل لا يفرض نفسه على الطبيعة كما هو الحال مع العقل اليوناني، بل على العكس أنه يخضع لها؛ لا مجرد تابع فحسب، بل كمتظلل - أيضاً - بالنسبية التي يحملها الموضوع الخارجي، إذ تصبح بنيته نسبية هي الأخرى ما دام أنه يخضع باستمرار لإعتبارات التجربة والتحقيق التي يثيرها الموضوع الخارجي ذاته.
في حين أن «العقل» في التعريف الإسلامي الآنف الذكر ليس فيه أثر وجودي، ولا له علاقة بالطبيعة، فبنيته معيارية محددة سلفاً على نحو «الإطلاق»، وهو ما يجعلها تناسب إشكالية التكليف، إذ لا تكليف من غير معيار.
هكذا فالقراءة المعيارية للعقل الإسلامي تجعل من الحضارة الإسلامية تختلف جذراً عن حضارة «ما قبل» وحضارة «ما بعد». فهي حضارة فريدة اصيلة ليس لها نظير من قبل ولا من بعد. فالعقل الإسلامي يحمل بنية معيارية طبقاً للإشكالية التي استغرقته وكادت تستنفد طاقته ونشاطه الذهني، وهو ما يعطي المبرر الكافي للقول بأن حضارتنا هي حضارة معيارية، وبالتحديد حضارة تكليف قبل أن تكون أي شيء آخر.
ولا شك أن الإختلاف في نمط الإشكالية بين الحضارات الثلاث يعكس إختلاف الطموح الذي تهدف إليه كل منها. فطموح الحضارة الغربية هو «الهيمنة» بجميع أبعادها الطبيعية والإجتماعية، وما ظاهرة الاستعمار سواء كان احتلالاً أو انتداباً أو وصاية أو حماية أو غير ذلك، إلا صور متعددة تعبّر عن ذلك الطموح. وكذا ظاهرة الغزو الثقافي هي الأخرى تدخل في الإطار نفسه من الهيمنة والتي تأخذ أبعاداً خطيرة عبر سهولة وسرعة تداول المفاهيم والإعلام والثقافة الغربية نتيجة التقدم العلمي التكنولوجي والتقني.
أما طموح الحضارة اليونانية فهو «الكمال المعرفي» تبعاً لبلوغ العقل المفارق والإتحاد بعالم الغيب وتحقيق السعادة القصوى. وفعلاً أن التطور العقلي الذي شهدته اليونان له دلالة على هذا الطموح ذي البنية «الفردية» وسط مجتمع العوام. وقد صوّر إبن رشد الشريعة الخاصة بالحكماء بأنها الفحص عن جميع الموجودات «إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة، الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه» .
في حين يتحدد طموح الحضارة الإسلامية بالإنقياد تحت طاعة «حق الله»، بإعتبارها حضارة تكليف يهمها بالدرجة الأساسية أن يكون الإنسان في طاعة الله وعبادته تبعاً لـ «نص الخطاب»، وهو النص الذي صنعت منه إشكاليتها الخاصة.

موقع الفلسفة والتصوف وعلوم الطبيعة في الحضارة الإسلامية
إن إعتبار الحضارة الإسلامية «معيارية» من حيث الأساس قد يدفع بالبعض متحمساً للإعتراض والقول: أين ذهبت الفلسفة والتصوف والعلوم الطبيعية داخل الحضارة الإسلامية؟ وبعبارة أخرى: لماذا كانت حضارتنا حضارة تكليف دون الفلسفة والتصوف، وكذا العلوم الطبيعية التي عرفتها هذه الحضارة والتي أصبح من المسلم بأن لها أثراً كبيراً على تكوين حضارة الغرب وقيامها؟
أما عن الفلسفة والتصوف فليس فقط أنهما أقل حجماً وإهتماماً بالقياس مع علوم نظرية التكليف من الفقه والكلام وغيرهما من علوم الشريعة، بل كذلك أنه ما قُدر أن يُكتب لهما النجاح إلا بإمتزاجهما بالشريعة، والعمل على التوفيق معها، سيما إذا لاحظنا المرونة التي امتاز بها نص الخطاب الديني بقابليته على التلون بمختلف الألوان، والتي أدركها المستشرقون من أمثال جولدتسيهر وهورتن وغيرهما.
والحقيقة أن مرونة النص الديني لا تتحدد في إمكانيات التأويل اللغوي والعقلي فقط، بل تمتد لتشمل القابلية على نفوذ الأنظمة الغريبة؛ بما فيها تلك التي تتعارض أساساً مع جذر بنية العقل الإسلامي وإشكاليته الخاصة. فمثلاً أن التصوف النظري حينما دخل وامتزج بالنص الديني وعلومه أصبح ينهج نهج السلف المحدثين ضمن نفس الشروط والإعتبارات من الأخذ بالظاهر وإنكار التأويل، رغم أن أساسيات التصوف - وكذا الفلسفة - ظلت كما هي دون تغيير، بل ما حدث هو أن القراءة (الصوفية ـ الفلسفية) أخذت تسلب الطابع المعياري لـ «نص الخطاب» وتحيله إلى طابع وجودي حتمي. فمثلاً تحول الطابع المعياري للنص القرآني ((قل كل يعمل على شاكلته)) إلى طابع آخر مختلف، إذ لم يُفسّر النص بما له علاقة بسلوك الإنسان، بل أصبح المقصود به هو أن كل شيء يخرج على شاكلة الله ، أو أن كل الموجودات تصدر بالضرورة على صورة لها نوع من الشبه بأصل الوجود طبقاً لمبدأ السنخية، وعلى شاكلة ما يروى «إن الله خلق آدم على صورته». كذلك النص القرآني الذي يقول: ((فلو شاء لهداكم أجمعين))، إذ تحول هو الآخر إلى الدلالة الحتمية، إذ فهمت المشيئة بما ينافي حرية الإرادة، بناء على إعتبار (الاشاءة) تابعة للعلم، والعلم تابع للمعلوم ، فكانت النتيجة سلب القدرة الإلهية، وكأن الآية تريد أن تقول: «فلو إستطاع لهداكم أجمعين».
فهذا ما كان عليه النظام الوجودي (للفلسفة والتصوف) ضمن سياق تعامله مع نص الخطاب دون إخلال بالطريقة العامة لنهج المحدثين في التمسك بالظاهر، فقد أصبح الظاهر موضع خلاف بين أن يكون ذا دلالة معيارية أو وجودية، سيما إذا لم يراع السياق ولا النصوص الأخرى التي يبديها الخطاب ذاته. بل الأهم من ذلك هو أن «التكليف» أصبح لا يعبّر عن مجرد «أمر معياري»، بل صار يمثل قبل ذلك «قانوناً وجودياً» يصدر بالضرورة مثلما تصدر سائر المعلولات والمراتب الوجودية الأخرى.
ولا يخفى أن النظام الوجودي لم يستطع أن يشكل كياناً معترفاً به إلا بعد أن تستر وراء الإشكالية الأساسية للحضارة الإسلامية، فقد اكتسى بذلك قشراً معيارياً بينما ظل لبه مختزناً للطبيعة الوجودية. فموسوعاته المعيارية التي شيدها على ذلك «اللب»، كإحياء علوم الدين والفتوحات المكية، والتفاسير الصوفية والفلسفية المختلفة، كلها تعبّر عن مطارح لتأسيس «المعيار» على «الوجود». فإذا كان هذا النظام وقت تكوينه وازدهاره في الحضارة الأم (اليونان) يقرأ الواقع والوجود الخارجي - ككل - قراءة وجودية حتمية، فإنه في الحضارة الإسلامية أخذ لا يقرأ الوجود الخارجي فحسب، بل ويوفق لقراءة إشكاليتها الأساسية ارتكازاً على إشكاليته الخاصة، مستهدفاً بذلك امتصاص «البنية المعيارية» وإمتثالها عبر بناء «المعيار» على «الوجود»، الشيء الذي يعني في نهاية الأمر طمس بنية «المعيار» والقضاء على نوع القراءة التي تنسب إليه.
وعلى الرغم مما أبداه النظام الوجودي من قوة وقدرة على النفوذ والتأثير على إشكالية الحضارة الإسلامية، فإن القراءة المعيارية وبنيتها ظلت طاغية وممتدة إلى يومنا هذا دون أن تزاح أو تتزعزع.
إن التحليل الآنف الذكر يحدد لنا طبيعة العقل الإسلامي وممثليه، كما ويربط لنا بين هذه الطبيعة وبين نهاية هذا العقل. فالفكر العربي المعاصر يراهن على حقيقة الفكر الإسلامي ونهايته من خلال تحديد آخر ممثليه، بإعتباره يعكس التطور الأخير للنتاج العقلي. فالبعض يميل إلى إعتبار الغزالي يمثل لحظة نهاية هذا الفكر وحقيقته، والبعض الآخر اعتبره متمثلاً بإبن رشد، وهناك من اعتبر المعتزلة هم الممثلون الحقيقيون، والذي بنهايتهم اسدل الستار على الحركة الفكرية للحضارة الإسلامية. هذا بالإضافة إلى أن هناك من اعتبر إبن تيمية هو من يمثل هذه النهاية والحقيقة.
إن هذه الإعتبارات لا تعكس خطأ التقييم بقدر ما تعكس خطأ المقياس الذي أُسند إليه. ويبدو أن عامل الرغبة التي يحملها الباحث العربي لطريقة التفكير هي ما دفعت لمثل هذه التقسيمات المضللة. فمن جهة أن التصور العام للفكر العربي المعاصر يعتبر خط الغزالي يتقاطع تماماً مع خط إبن رشد، بدلالة صدور «التهافتين» عنهما، فكان التهافت الأول (تهافت الفلاسفة) ضد الخط الرشدي، بينما جاء التهافت الثاني (تهافت التهافت) ليقاطع الأول ويدحضه. لهذا انقسم الباحثون، فبعضهم راهن على الخط الأول على حساب الخط الثاني، وكذا حال ما فعله البعض الآخر. ولم يعد في التصور أن ذلك التناقض الموهوم قد التقى واجتمع لدى شخصية أخرى متأخرة هي صدر المتألهين الشيرازي، فلا كانت لحظة الغزالي هي النهاية، ولا لحظة إبن رشد. بل كذلك أن ما اجتمع لدى الشخصية الثالثة لا يعبّر عن جمع النقائض والخطوط المتقاطعة، بل أنه يمثل التقاء جهازين لنظام واحد، وبالتالي فليست الفلسفة في تضاد مع التصوف، فكلاهما قائمان على مبدأ واحد هو «السنخية»، لكن الفرق الجوهري بينهما هو أن السنخية لدى الفلسفة قائمة على إعتبارات العلة والمعلول، خلافاً للتصوف الذي يبعد من باله فكرة العلية والتأثير أساساً.
ربما كان هذا التصور - كما سبق عرضه - يغير بعضاً من التصورات المعاصرة، إذ به تتلاشى المزاعم المعبّرة عن تصادم خط إبن رشد مع خط الغزالي الذي خلط بين الفلسفة والتصوف، أو بين التفكير العقلي والالهام الكشفي، كما تنقلب نهاية الفكر الفلسفي مما هي عند إبن رشد إلى «سليله» ملا صدر الشيرازي. وإذا كان بعض المستشرقين (هنري كوربان) قد أرّخ للفلسفة الإسلامية متخذاً طريقاً جديدة متجاوزاً بها التاريخ الرسمي الذي جعل النهاية عند إبن رشد، ومكرساً جهده للخط الذي استمر بعد تلك اللحظة كما لدى «الإشراقيين»، فإن ما نحتاج إليه كذلك هو ضرورة تأسيس قراءة جديدة للفكر الفلسفي والصوفي تثبّت كونهما يمثلان جهازين مختلفين لنظام واحد، أحدهما يقوم على الإنتاج العقلي، والآخر على التلقي القلبي، بل الذي ساد في الغالب هو الجمع بين هاتين العمليتين، إلى الدرجة التي كان «الفيلسوف» ذو الطريقة العقلية متصوفاً غنوصياً (باطنياً)، وكان «المتصوف» ذو الطريقة القلبية فيلسوفاً عقلياً.
ومع كل ما قدمنا، فإن النظام الوجودي ككل لم يكن معبّراً عن حقيقة الفكر الإسلامي بما هو «موضوع في ذاته أو لأجله» من الإشكالية الأساسية التي استقطبت روح الحضارة الإسلامية واستغرقتها.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهو أن (الإعتزال) الذي انتهى، لم يرحل إلا بعد أن امتد على أعقابه عقل الإمامية الإثنى عشرية، بما شحنه من روح التفكير في روعها، لكنها زادت عليه بحركتها الإجتهادية التي لم تتوقف عند حدود ما هو «موضوع لأجله» من التكليف فحسب، بل طالت يدها إلى مراكز الكشف عما هو «موضوع في ذاته»، وظلت هكذا دون نهاية إلى يومنا هذا.
ولو انطلقنا لدراسة التراث المعرفي الإسلامي من زاوية المنهج وطريقة التفكير، بغض النظر عن التمذهب والأدلجة، لظهرت لنا نتيجة جديدة تخص تقسيم التمذهب الإسلامي الذي اعتاد الباحثون أن يقسّموه إلى خطين متوازيين، أحدهما يعبّر عنه بـ (الخط السني)، والآخر بـ (الخط الشيعي)، ذلك أن تاريخهما يكشف عن أنهما ليسا مجرد طرفين ينضويان تحت نظام واحد هو النظام المعياري في قبال النظام الوجودي، بل ويكشف أيضاً عن أن أحدهما يتموضع كإمتداد لحركة الآخر. إذ ما أن انتهت المعتزلة وكذلك حركة الإجتهاد (السني) باغلاقها وترسيمها خلال القرن الرابع الهجري، حتى بدأت الحركة الفكرية للإمامية بالتفتح، سواء على صعيد الأصول أم الفروع، بعد مرحلة الخطاب (الشيعي) مباشرة، فشيدت بذلك دورة جديدة للبحث عما هو «موضوع في ذاته ولأجله» من التكليف، واستمرت هكذا ضمن تطورات الإجتهاد الخاصة حتى يومنا هذا.
هكذا ننتهي إلى أن حقيقة التراث المعرفي الإسلامي ونهايته لا تتمثل إلا بالنظام المعياري الذي بدأ مع (الخط السني) ثم امتد مع (الخط الشيعي) دون أن يلقى لذاته نهاية رغم ظاهرة التكرار والاستصحاب التي ظلت عالقة به إلى يومنا هذا.
***
أما مع علوم الطبيعة فهي وإن كانت لم تتعارض مع أساسيات إشكالية نظرية التكليف، ولم ينظر إليها كما كان ينظر للعلم لدى الكنيسة في العصور الوسطى بأنه «دسائس شيطانية» ، لكنها مع ذلك لم تحظ بالإهتمام إلا تحت طاولة النظام الوجودي. فالذي يلفت الانتباه هو أن الفلاسفة كانوا علماء في الوقت نفسه، والعلماء إن لم يكونوا فلاسفة فهم على الأقل دائرون في فلكهم، إذ العلوم آنذاك لم تكن مفصولة عن الفلسفة، بل هي (الفلسفة الدنيا) في قبال الربوبيات (الفلسفة العليا) والرياضيات (الفلسفة الوسطى). فمع أن ظهور العلوم الطبيعية كان سابقاً على الفلسفة منذ عهد البابليين فالمصريين، إلا أن الأخيرة أصبحت الحاضنة لها والأم المهيمنة عليها منذ ظهورها كإشكالية أساسية في حضارة اليونان، وحتى إمتدادها داخل الحضارة الإسلامية، لكنها لدى الأخيرة لم تكن مجرد إستنتاج وشرح لما كان، إنما اتخذت لذاتها مدرجاً مميزاً من التطور والإبداع، نتيجة لروح النقد التي حملها أصحابها كميزان لطلب المعرفة الصحيحة. لهذا ظهر الكثير من الكتب العلمية في نقد العلوم الاغريقية، كتلك التي يشير إليها إبن أبي اصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، والتي منها بعض كتب الكندي ومحمد بن زكريا الرازي والبطروجي وإبن الهيثم الذي صنّف كتاباً عنوانه (الشكوك على بطليموس) عبّر فيه عن أصالة النقد والإبداع، إذ ذكر فيه: «.. والواجب على الناظر في كتب العلوم إذا كان هدفه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه» .
كما ظهر ما لا يستهان به من علوم، كعلم البيئة والرياضيات والكيمياء والجغرافيا والهندسة والميكانيكا والطب وغيرها. ويكفي أن نعرف قيمة ذلك بما كتبه الفيلسوف الكندي لوحده من علوم مختلفة، فالقائمة التي ذكرها إبن أبي اصيبعة في طبقاته تشمل عشرات العناوين لمختلف العلوم والصنعات، هي بحق جديرة بالدهشة والإعجاب، كان منها: رسالة في صنعة الاسطرلاب، رسالة في استخراج خط نصف النهار وسمت القبلة بالهندسة، رسالة في عمل الرخامة بالهندسة، رسالة في أن عمل الساعات على صفيحة تنصب على السطح الموازي للأفق خير من غيرها، كلام في المرايا التي تحرق، رسالة في الشعاعات، مسائل في مساحة الانهار، رسالة في العمل بالآلة المسماة الجامعة، رسالة في الأبخرة المُصلِحة للجو من الأوباء، رسالة في علة نفث الدم، رسالة في تدبير الأصحاء، رسالة في وجع المعدة والنقرس، رسالة في علاج الطحال الجاسي من الأمراض السوداوية، رسالة في تدبير الأطعمة، رسالة في علة كون الضباب والأسباب المحدثة له، رسالة في علة الرعد والبرق والثلج والبرد والصواعق والمطر، رسالة في الأجرام الهابطة، رسالة في استخراج آلة عملها يستخرج بها أبعاد الأجرام، رسالة في النجوم، رسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديّها وأثمانها، رسالة في تلويح الزجاج، رسالة فيما يصبغ فيعطي لوناً، رسالة في العطر وأنواعه، رسالة في المد والجزر، رسالة في الحشرات، رسالة في قلع الآثار عن الثياب، وغيرها من الرسائل الكثيرة الأخرى .
وكان من بين الإبداعات العلمية لعلماء العرب والمسلمين هو أنهم اكتشفوا الدورة الدموية وقوانين نقل الأجسام والأبرة المغناطيسية، كما واكتشفوا ما يقارب ألف عقار طبي، واخترعوا الساعات الدقاقة والزوالية ووضعوا أصول علم الجبر وحساب المثلثات والإحتمالات الرياضية وأسس علم الكيمياء كما وعرفوا الإستقصاء العلمي وإتّباع الطريقة الإستقرائية بصورة لم يعهد لها مثيل من قبل.
ومن بين ما تمّ التعرف عليه بالدليل كل من كروية الأرض وحركتها وجاذبيتها، كالذي أشار إلى ذلك إبن الحايك الهمداني (المتوفى سنة 334هـ) وأبو ريحان البيروني (المتوفى سنة 440هـ) في عدد من كتبه. إذ مال الأخير إلى الفرض بأن الأرض «متحركة حركة الرحى على محورها»، لكنه مع ذلك لم يعتبر المسألة قطعية، إذ رأى أن من الممكن تعليل الحركة اليومية إما بدوران السماء وسكون الأرض، أو بسكون السماء ودوران الأرض على محورها. ومال إلى الفرض الأخير، وعليه افترض أن للأرض قوة جذب مثلما للسماء، وأن هذه الجاذبية هي التي تمنع طيران الأحجار واقتلاع الأشجار بفعل الحركة المحورية. ومما قاله بهذا الصدد: إن «حال الأرض من جميع جهاتها واحدة، وكل من عليها فمنتصبون نحو العلو، والأشياء الثقيلة تقع إليها طبعاً، كما في طبعها إمساك الأشياء وحفظها». وقال: «جذب السماء للأرض من كل النواحي بالسواء» .
كما قُدرت مقتنيات بيت الحكمة الذي أسسه الفاطميون خلال القرن الثالث الهجري ما بين مائة وعشرين ألف ومليوني كتاب تضمها أربعون حجرة. وقيل أن الكتب المخصصة للعلوم الطبيعية وحدها تبلغ ثمانية عشر ألف كتاب. كما قيل بأن مكتبة مرصد مراغة كانت تضم أربعمائة ألف مجلد. بل روي أن محسناً واحداً في مصر قدّم مائة ألف مجلد عند إنشاء المدرسة الفاضلية، وقدّم مائة ألف مجلد أخرى عند اإنشاء مستشفى قلاوون في القاهرة، كالذي أشار إليه المستشرق (توبي هف) في كتابه (فجر العلم الحديث) .
ومن الأهمية بمكان أن نعلم بأن النهضة العلمية الحديثة كثيراً ما يؤرخ لها في الغرب عند ثورة كوبرنيكوس الفلكية خلال القرن السادس عشر الميلادي. وكوبرنيكوس هو ذلك العالم الذي قدّم نظرية فلكية قلبت الصورة التقليدية لنظرية بطليموس السائدة آنذاك، وحوّلت الفكرة من دوران الشمس حول الأرض إلى العكس، لكن النماذج الرياضية التي اعتمدها كوبرنيكوس والتي جعلت نظريته جديدة وإنقلابية؛ تكاد تكون هي ذاتها النماذج التي اكتشفها بعض الفلكيين المسلمين قبل كوبرنيكوس بقرنين تقريباً، مثلما هو الحال مع مرصد مراغة في غرب ايران الذي ضم مجموعة من العلماء الكبار مثل الأردي ونصير الدين الطوسي وقطب الدين الشيرازي وإبن الشاطر. فقد أُعتبرت نظرية كوبرنيكوس بأنها مزدوجات من مخطط مدرسة مراغة الفلكية ونصير الدين الطوسي. واستعمل كوبرنيكوس مزدوجة الطوسي كما استعملها فلكيو مراغة، كما أن نماذجه الفلكية لخطوط الطول في كتابه (الشرح المختصر) مستمدة من نماذج إبن الشاطر، أما نماذجه الخاصة بالكواكب العليا كما في كتابه (دوران الأجرام السماوية) فهي الأخرى قد استخدمت نماذج مراغة، وأن النماذج القمرية عند كل من كوبرنيكوس ومدرسة مراغة كانت متطابقة. وقد صعق العديد من الغربيين لهذه المعلومات، إلى درجة قال بعضهم: «إن كوبرنيكوس هو أشهر أتباع مدرسة مراغة إن لم يكن آخرهم».
بل لم يعد السؤال المطروح لدى بعضهم بالصيغة التالية: هل أن كوبرنيكوس استمد نظريته الفلكية من مدرسة مراغة أم لا؟ بل تحولت هذه الصيغة إلى سؤال أكثر تخصيصاً، وهو: متى وكيف؟ فهذا ما كان يتساءل به (نويل سويردلو). إذ لم يثبت لحد الآن بأي وثيقة تبين أن كوبرنيكوس قد اطلع بشكل مباشر أو غير مباشر على جداول فلكيي مراغة والطوسي، و لا زال الأمر في طي البحث عسى أن يُكتشف ما لم يُكتشف من قبل حول سر وجود هذا التماثل وعلاقته بعلم الفلك لدى المسلمين، فالنظرية هي ذاتها دون إختلاف؛ بإستثناء فرضية مركزية الشمس لدى كوبرنيكوس .
وأكثر من ذلك أن (ارنست مودي) أوضح بأن هناك صلة بين شروح الفيلسوف العربي إبن باجة على أرسطو وبين نظرية غاليلو الخاصة بالسقوط الحر، بل نسب لإبن باجة دوراً رئيساً مكّن غاليلو من تعميم نظرية بوريدان المتعلقة بالزخم أو قوة الدفع الذاتي وتحويلها إلى نظرية عامة في ديناميات القصور الذاتي .. وهكذا لو أردنا أن نعدد مجالات السبق التاريخي للكشوف العلمية لما انتهينا.
لكن على الرغم من الوفرة العلمية التي شهدتها الحضارة الإسلامية، فإنه لم تحدث هناك طفرة معرفية في علوم الطبيعة، وذلك لأسباب عديدة أهمها: كثرة وشدة التقلبات السياسية التي بعثرت دولة الخلافة إلى دويلات متناثرة، مما كان له بالغ الأثر على شل الحياة العلمية والإقتصادية والإجتماعية، إبتداء من القرن الرابع الهجري فما بعده. كذلك فإن الإهتمام داخل الحضارة الإسلامية لم يكن نافذاً إلا تحت ضوء القراءتين الوجودية والمعيارية، الشيء الذي يعني أن العلم لم يكن الشاغل المهيمن على العقلية الإسلامية آنذاك. فالنظام الفسفي الوجودي لا يخفي حقيقة انشداده نحو أقصى التجريد العقلي، للاتصال بـ «العقل الفعال» أو الإتحاد به واستلهام الحقائق المباشرة منه، محتقراً بذلك التجربة والمادة، بإعتبار أن اللجوء إليها يمثل تراجعاً عقلياً بعد عملية الإكتمال والنضج، فالعلم الحقيقي هو ذلك الذي يتعلق بعالم الثبات، عالم الآخرة والربوبيات، لا بعالم التغير، عالم الدنيا والحسيات، لهذا فقد أعاب صدر المتألهين على إبن سينا لاشتغاله فترة بالطب مفوّتاً عليه فرصة الكشف عن العلوم الحقيقية (الربوبيات)، ومن ثم احتقر العلوم الطبيعية مقارنة بعلوم الآخرة ، مثلما سبقه إلى ذلك الإمام الغزالي .
وكذا ينطبق الحال على التصوف الوجودي، فهو الآخر يعتبر الإنسان الكامل هو ذلك الذي يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته دون حاجة إلى الموضوع الخارجي. فكما صرح العارف القونوي بأن علم الإنسان بذاته «مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، وأنه يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته لأنه هو جميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً» .
والحقيقة ما كانت لتلك القراءة أن تفعل أكثر مما فعلت، فقد اقتضت الضرورة أن تلفظ العلم بعد مضغه وإمتصاص، فهي لا تحتاج إليه كـ « شيء في ذاته»، بل لأجل بلوغ غيره من العلوم الميتافيزيقية الحقة (الربوبيات)، الشيء الذي يعني عدم وجود حاجة للعلم الطبيعي بعد عملية الاكتمال والنضج التي يصبح فيها العقل ذا درجة من التجريد يتمكن عبرها من الاتصال بـ «العقل المفارق» الذي يعمل كمرآة ترى فيها الدنيا والآخرة معاً، أو الطبيعة وما بعدها.
أما لدى دائرة النظام المعياري، فلا شك أنه اهتم ببعض العلوم، كعلم الحساب الذي شهد تقدماً لعلاقته الوثيقة بالإرث، أي بنظرية التكليف ذاتها، أما علوم الطبيعة، فليس هناك ما يدل على أنه أولاها إهتماماً، لا كـ «شيء في ذاته»، ولا كـ «شيء من أجله»، فهو الآخر كان يعتبر العلم الحقيقي هو ذلك المنبعث من «نص الخطاب». ورغم ما ظهر من تشجيع على علم الطب إعتماداً على الأثر المروي (العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان)، لكنه كان يخضع لهيمنة القراءة المعيارية بالإعتماد أولاً وأخيراً على «نص الخطاب» دون اللجوء إلى فحص «الواقع»، فكانت المرويات (الطبية) تؤخذ كوصفات علاجية شكلت فيما بعد كتباً من «الخطاب الطبي»، كالطب النبوي وطب الأئمة وطب الصادق والرضا.. الخ، كما أخذت الأدعية والطلاسم والتعاويذ تلعب دورها في هذا المجال، بل أن إهمال «الواقع» والإتكال على «نص الخطاب» قد خلق حالة من «اللامبالاة» إتجاه علوم الطبيعة، وأحياناً صورة من الإزدراء والإحتقار. فكما صرح البعض بأنه لا يصح إلا علم واحد يستحق الاشتغال به دون غيره، وهو «الموروث عن النبي (ص)، وهو الذي يستحق أن يسمى علماً وما سواه إما أن يكون علماً، فلا يكون نافعاً، وإما أن لا يكون علماً وإن سُمي به، ولئن كان علماً نافعاً فلا بد أن يكون في ميراث محمد (ص)» . وسبق للغزالي أن اعتبر العلوم التي ليس لها علاقة بالنقل إما أن تكون مضرة، أو لا نفع لها، كالحساب والهندسة والنجوم، مما لم يحث الشرع عليها ولم يندب إليها . وجاء في كتاب (التاتارخانية) أن من بين العلوم غير المحمودة: علم النجوم، وأنه لا بأس أن تعرف به مواقيت الصلاة والقبلة، لكن ما سواه حرام. كما جاء فيه أن علم الفلسفة والهندسة هما من العلوم التي استخرجها الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فهما بالتالي بعيدان عن علم الآخرة. وجاء في كتاب (المدارك) بأن علم النجوم كان حقاً ثم نسخ الاشتغال بمعرفته .
والحقيقة أن عامل «اللامبالاة» المتمثل بغياب عنصر «الإثارة»، سواء على نحو إيجابي كالتشجيع، أو على نحو سلبي كالصراع والنزاع، هو ما وقف خلف غياب النمو العلمي إلى الحد الذي يشكل فيه هذا النمو حضوراً مستقلاً وقائماً بذاته. فلم يتحقق العلم المستقل بعيداً عن هيمنة القراءة الوجودية التي عملت على تقييده وتحجيمه، كما وبعيداً عن سلطة القراءة المعيارية التي لم تعمل على تحفيزه وإثارته. فلو أنه كان حاضراً بذلك الحضور من الإستقلالية، لكان أثره كبيراً عند تفاعله مع نظامي الحضارة الإسلامية، لا فقط على ما سيلحقه من مسلسل «التطور في ذاته»، بل وقلباً أساسياً لحركة «الآخر» ونموه، سواء كان هذا «الآخر» وجودياً أم معيارياً. سيما - وكما يرى بعض المفكرين الغربيين - أن أهم قضية جعلت الحضارة الإسلامية لم تستمر في تقدمها هو خلوها من المؤسسات العلمية المحصنة بالقانون، فالتطور العلمي الذي حصل في البلاد الإسلامية جاء لعوامل متعددة ومتغيرة بعيداً عن الطبيعة المؤسسية التي تحافظ على الإستقلالية العلمية وتصونها من التوقف والجمود، بل وتمنع عنها الوصاية الخارجية التي تحدد من نشاطها وحركتها. وكان من بين العوامل المرتبطة بغياب المؤسسات العلمية المستقلة أن المسلمين حُرموا من طباعة الكتب والصحف العامة رغم أنهم تعرفوا على أساليب الطباعة الحديثة وآلاتها منذ بداية اختراعها في اوروبا خلال القرن الخامس عشر، إذ كان السلاطين الأتراك يمنعون استخدامها لدى عامة الناس، واستمر هذا الحظر حتى أوائل القرن التاسع عشر، وكان من الحجج المطروحة لتبرير المنع هو أن «اسم الله الذي يظهر في كل صفحة من صفحات الكتب الإسلامية يمكن أن يدنّس بهذه الطريقة - أي الطباعة - وخيف من أن أثمان الكتب سترخص وتقع في أيد غير أمينة». وكل ذلك قد جرى خلاف ما لدى النهضة العلمية الغربية التي تمت عبر مؤسساتها العلمية، ولو عبر النزاع الطويل مع المؤسسات الكنسية المناهضة لها .
إن غياب «شاغل العلم» واندماجه ضمن طاولة القراءة الوجودية والمعيارية، قد امتد أثره إلى يومنا هذا. فمنذ اصطدامنا بالحضارة الغربية أوائل القرن التاسع عشر والى يومنا هذا والعلم بما هو «عملية تأسيس» ظل غريباً وأجنبياً عن ساحة أرضنا المعرفية.
ومع هذا الغياب للعلم الطبيعي، فمن الطبيعي أن تكون دراساتنا الفلسفية محرومة من إنتاج خطاب مؤثر حول إشكالية هذا العلم. فهي إما ما تزال تقمع أي طرح يتناول قضايا العلم الحديث، كما في بعض المؤسسات التي ظلت عالقة بالقراءة الوجودية وتبعياتها من العلم القديم، وإما ناقلة للنتاج الغربي دون أن تحقق أي نوع من الخطاب المنتج.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإنه يظهر لدينا طموح أحياناً لقراءة العلم مجرداً عن إشكاليته الخاصة، وذلك بإرجاعه إلى دائرة «نص الخطاب» تحت هيمنة سلطة العقل المعياري. فالكتابات الإسلامية التي تُرجع بعض النظريات العلمية إلى «نص الخطاب»، وكذا الدراسات التي تُرجع العلوم العصرية إلى أصول إسلامية، كتلك التي تفسر القرآن الكريم على ضوء تلك العلوم موهمة أنها تؤسس الأول على الثاني، إنما تقوم بتأسيس «متشابه العلم» على «متشابه النص»، فهي لم تتفهم كلاً منهما ضمن إشكاليته الخاصة، وبالتالي تصبح النتيجة بذلك مجهولة أو فارغة لكونها محصلة لضرب متشابهين معاً. في حين كان من المفروض قبل وضع عينة التفاعل بين النموذجين رسم الحدود لكل منهما على ضوء تحديد طريقة التفكير سلفاً.
هكذا ننتهي إلى أن علومنا الطبيعية لم تشكل، لا ماضياً ولا حاضراً، مرحلة الشاغل والحضور، ففي الماضي كانت تقرأ عبر إشكالية النظام الوجودي، وأحياناً من خلال النظام المعياري، وقد ظلت ولا زالت لم تبلغ مرحلة التأسيس ككائن مستقل. في الوقت الذي كانت كتبنا ومجادلاتنا دائرة في سياق علم الخلافيات (الفقه) وعلم التمذهب والآيديولوجيات (الكلام)، وما زالت آثار هذه المعايير قائمة إلى يومنا هذا.

الاتصال والانفصال (المعرفي) بين حضارات العالم
بعد كل ما قدمنا أصبح من السهل أن نعرف فيما إذا كان هناك نوع من الاتصال بين الحضارات الثلاث أم لا؟
فمن الواضح أن إشكالية الحضارة الإسلامية مختلفة عن الإشكالية لدى الحضارتين الأخريتين، وهذا يعني أن هناك قطيعة معرفية بالقياس إلى حضارتي «ما قبل» و«ما بعد». ومع ذلك فإن هذه القطيعة لا تعتبر كلية ومطلقة، إذ لا ينكر وجود عنصر الإمتزاج بما أثرت به الحضارة اليونانية من خلال الفلسفة وإمتداداتها من التصوف النظري، وهي بدورها كانت متأثرة بما سبقها من الحضارات القديمة وعلى رأسها حضارة مصر الفرعونية كما عرفنا. إن ذلك يدل على عدم وجود تواصل بين الحضارتين إلا من « الباب الآخر»، إذ ظلت الاسس المعيارية لدى أصحاب علوم «التكليف» لا تتناسب مع الاسس الحتمية لدى أصحاب علوم «الوجود» من الفلاسفة والمتصوفة، مما يعكس بدوره إختلاف العقلين والقراءتين معاً، بما يستحيل التوفيق بينهما إلا بخسارة أحدهما للآخر، وهو ما حصل فعلاً والذي كان نتيجته لا فقط التأثير على علوم التكليف كالفقه والكلام والتفسير، بل كذلك أدى إلى ظهور أنظمة فكرية تتبنى ذلك الإزدواج من التوفيق، من خلال قراءة «نص الخطاب» المعياري بعقل وجودي مختلف، كما هو الحال مع تزاوجات الغزالي وإبن عربي والملا صدر الشيرازي وغيرهم. فهؤلاء لم يكونوا مجرد فلاسفة أو متصوفة، بل هم متشرعة أيضاً، إلا أن « عقلهم الوجودي» لم يكن متقوماً بمعيار تشريعهم، بل العكس هو الذي جرى، إذ كان تشريعهم مشحوناً للتوظيف لصالح العقل الوجودي.
وإذا كان النظام الوجودي المنبعث من اليونان – وما سبقها من حضارات - قد صادف تربة معيارية في الحضارة الإسلامية اضطرته لأن يتفاعل معها ويمتزج بها ضمن عمليات التوفيق والتلفيق، والتي أدت إلى سوق «المعيار» بواسطة «الوجود».. إذا كان هذا ما حصل في حضارة الشرق، فإن ما جرى للنظام الوجودي في حضارة الغرب مختلف تماماً، ذلك أن بين الحضارتين اليونانية والغربية نوعاً من الإتحاد في الإشكالية العامة، نعبّر عنها بـ «الكينونة الخارجية». فعلى الرغم من أنهما يختلفان في نوع الإشكالية، إذ الأولى ميتافيزيقية عقلية، بينما الثانية فيزيقية علمية، لكنهما يتحدان عند «الكينونة الخارجية». وطبقاً لهذا الإتحاد بدأت عملية إلتحام النهضة الغربية بالتراث اليوناني.
لا شك أن هناك بدايتين لعملية الإلتحام، الأولى عبارة عن إحياء التراث الأدبي اليوناني والروماني، وقد بدأ منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وأثّر فيما بعد على قيام بعض الحركات والإصلاحات الهامة على الصعيد الإنساني، منها الثورة على الكنيسة وقيام حركة الإصلاح الديني. لكن هذه البداية لا تهمنا بإعتبارها لا تتضمن آصرة (الكينونة) المشتركة بين اليونان والغرب، وبالتالي فأول تشكيلة لهذه الآصرة بدأ منذ النهضة الحديثة خلال القرنين السادس والسابع عشر الميلادي، وذلك من خلال نقد قراءة العقل اليوناني على صعيد العلم والفلسفة، وقد اقتضى هذا النقد إعادة النظر في قراءة العقل ذاته قبل بناء الموضوع الخارجي عليه، وهو العنصر الذي غاب عن القراءة الوجودية للعقل اليوناني، فلم تكن هذه القراءة بحاجة إلى نقد وتحليل طالما سلّمت بوجود مطابقة تامة بين الوجود والعقل إلى الحد الذي يمثل الوجود إنعكاساً للعقل، وأن هذا الأخير يكتشف ذاته من خلال تأمل الأول، فالوجود هو العقل، والعقل هو الوجود.
إن نقد قراءة العقل اليوناني وتغييرها من قبل العقل الغربي أدى إلى إحالة «الإشكالية» ونقلها من سماء العقل الميتافيزيقي إلى أرض العلم والفيزيقا، ومع هذه الإحالة والنقد فقد ظلت الآصرة التي تربط بين القراءتين والإشكاليتين واحدة تتمثل بـ «الكينونة الخارجية»، فهي عبارة عن «الوجود العام» لدى العقل اليوناني، لكنها عبارة عن «الطبيعة» لدى العقل الغربي. وهذا يعني أن بين العقلين نوعاً من الاتصال والانفصال، وأن عملية النقد كانت ترمي إلى ابراز عناصر الانفصال وسط بساط الاتصال، وأن افتراق الفكر الاوروبي بين مذاهب عقلية وتجريبية وتوفيقية لهي ذات دلالة على تلك الحالة من الاتصال والانفصال.
وعلى هذا الأساس فقد ظلت الفلسفة تتابع تقدمها في الحضارة الغربية، في الوقت الذي أخذ العلم يتابع تطوره، فلم يفارق أحدهما الآخر، ولا كان أحدهما في غنى عن الثاني، بل أكثر من ذلك فإن تطور العلم ما إستطاع أن يتخلص من جراثيم الفلسفة وطفيلياتها، فمع أن وجودها فيه أخذ يتناقص كلما شهد تطوراً أكثر، لكنها ظلت عالقة به حتى بعد الإعتراف الصريح بإستقلال العلوم عن الفلسفة منذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر والى يومنا هذا. وهناك الكثير من العلماء الذين مارسوا النشاط الفلسفي والمنطقي في العلم، سيما أعضاء جامعة فيينّا من الوضعية المنطقية، كاستاذ الفيزياء موريس شليك، ونظيره فيليب فرانك، وعالم الرياضيات هانزهان، وعالم الإجتماع نيراث، والمؤرخ فيكتور كرافت، فضلاً عن ديكارت وباسكال ولايبنتز ونيوتن وارنست ماسن واينشتاين وغيرهم.
إن وجود الفلسفة إلى جانب العلم ونقد أحدهما للآخر كان له إنعكاس قوي على إعادة بناء الحضارة اليونانية من جديد. فإذا كانت الفلسفة قائمة على العلم، كفلسفة ديكارت القائمة على الرياضيات وفلسفة كانت القائمة على فيزياء نيوتن ومفاهيمها في الزمان والمكان المطلقين، فإن العكس كان يجري أيضاً، فمثلاً كان نيوتن يقف على رأس العلماء البارزين الذين شيدوا نظامهم العلمي من خلال الإفتراض الميتافيزيقي (الفلسفي)، فقانون القصور الذاتي، وهو من أهم قوانينه للجاذبية، مبني على فكرة «الفضاء المطلق» الميتافيزيقية. والحقيقة أن نيوتن لا يخفي احتماءه بالتفسيرات الميتافيزيقية حين لا يتمكن من تفسير الظاهرة العلمية طبقاً لنظامه الخاص، رغم أنه كان يتجنب الميتافيزيقا من أن تكون ملاذاً للفيزياء. فحين لاحظ - مثلاً - بأن حركات الكواكب والمذنبات في النظام الشمسي منتظمة من دون إنحراف؛ بخلاف سائر المذنبات التي تدور - خارج هذا النظام - في مدارات منحرفة كثيراً عن المركز، فإنه قد عزى ذلك إلى الفكرة الميتافيزيقية القائلة بـ «التدبير الإلهي» وراء الجمال الذي يتصف به نظامنا الشمسي بكواكبه ومذنباته .
كما أن نظرية اينشتاين المتأثر بالفيلسوف الفيزيائي ارنست ماسن، كانت موضع إتهام الناقدين لكونها تحمل عناصر يعتقد أنها ميتافيزيقية غير مستمدة من الخبرة؛ سواء مباشرة أو غير مباشرة، من قبيل مبدأ ثبات السرعة ومبدأ النسبية .
وقد كانت الفلسفة قديماً تشكل أم العلوم، وأصبحت اليوم ليست فقط أساساً للعلوم، بل أنها تعيد أنفاسها من جديد عبر بعض العلوم؛ كعلم الفيزياء الذي وصل إلى حد الإعتراف بأنه يحمل نظريات غير قابلة للتحقيق فضلاً عن التفنيد، مثل النظريات المتعلقة بالأكوان المتعددة والأبعاد والأوتار الفائقة ، ومثل القول بأن مادة الكون كانت في بدء الإنفجار العظيم ضمن حيز أصغر كثيراً من الحيز الذي يشغله بروتون واحد ، وكذا علم النفس الذي يحمل نظريات ميتافيزيقية حول العقل والإرادة وما إليهما، فاختلط العلم بالفلسفة وأصبح من الصعب معرفة حدود كل منهما.
إن هذا التفاعل بين الفلسفة والعلم، والذي جعل الفلاسفة يهتمون بقضايا المعرفة والعلم، كما وجعل الكثير من العلماء يهتمون بالفلسفة، قد أدى أخيراً إلى الانجرار وراء الحضارة اليونانية، فقد آل الأمر إلى أن تكون الحضارة الغربية عبارة عن إمتداد للحضارة الأخيرة.
والسؤال الذي يطرح بهذا الصدد: بأي معنى يمكن إعتبار هذا الإمتداد والتماثل؟
هناك من يعتبر المماثلة بين الحضارتين تتمثل في كون العقل الغربي هو كنظيره اليوناني يتبنى الإعتقاد بمطابقة العقل لقوانين الطبيعة، مستشهداً على ذلك بديكارت وغاليلو والعلم المعاصر عن الذرة والفضاء، بل وبما فهمه «العلم المعاصر» عن العقل بأنه جملة من القواعد المستخلصة من موضوع ما، مما يعني ضمنياً المطابقة بينه وبين قواعد الموضوع .
والحقيقة أن هذا التصور يمكن أن يصدق على عصور ما قبل القرن العشرين إبتداء من النهضة فعصر التنوير ثم الحداثة، لكنه لا يصدق أبداً مع عصر هذا القرن. فقد كاد يصبح من المسلم به أن قوانين الطبيعة الأساسية هي صياغات عقلية مفترضة لا تعبر بالضرورة عن مطابقتها للطبيعة، فعلى الأقل أنه فيما يتعلق بالنظريات ذات التعميم العالي والنظريات التي تتناول الظواهر البعيدة عن مجال الخبرة والتجربة الحاسمة، أن من المستحيل إثباتها على وجه اليقين، فما من نظرية من تلك النظريات إلا وتعبّر عن بعض الإفتراضات التي تعزز بالشواهد والتجارب، لكن دون أن تصل إلى مرحلة الحسم، لهذا فقد تتنافس أكثر من نظرية على تفسير ظاهرة ما، وفي هذه الحالة يميل العلم المعاصر إلى الأخذ بالنظرية التي يتوفر فيها عنصر البساطة والإقتصاد والجمال بشكل أعظم ، فضلاً عن التعزيز بالمشاهدات والتجارب. وبالتالي فإن ما عُرف عن الذرة وعن الفضاء لا يطابق بالضرورة الحقيقة الخارجية، فلا زالت هناك فروض وتقديرات بقدر ما كانت الظاهرة بعيدة أكثر عن مجال الخبرة المباشرة، فضلاً عن أن العلم المعاصر يؤمن بأن من المستحيل معرفة الموضوع الخارجي كـ «شيء في ذاته» كالذي نظّر له عمانوئيل كانت من قبل، فتأثر الموضوع بوسائل المعرفة المسلطة عليه، كالأشعة مثلاً، يجعل من المستحيل على العقل البشري أن يطابق ما هو عليه الموضوع الخارجي. بل أصبح العقل في التصور الجديد يتصف بالمشاركة عند قيامه بمراقبة الموضوع الخارجي، كالذي دلّت عليه نظرية النسبية وميكانيكا الكم، فكيف يمكن للعقل أن يطابق الطبيعة وهو يضفي عليها انعكاساته بفعل المشاركة ؟ أما تعريف العقل - الآنف الذكر - فإنه لا يطابق واقع الإفتراضات العقلية البعيدة عن مجال الخبرة المباشرة، ذلك أنها ليست مستخلصة من الموضوع الخارجي ذاته.
ومن الذين إهتموا بوصف التماثل والإمتداد بين العلوم اليونانية والعلوم الحديثة؛ الفيلسوف الفيزيائي فيليب فرانك الذي اعتقد بعدم وجود خط حاسم بين طريقة العلم الأرسطية وبين طريقة العلوم الحديثة، سوى أن هذه الأخيرة تفضّل معايير التحقق، بينما تمر الأولى على الإستقراء بصورة فورية لتنتهي إلى إنتاج تعميم عالي التجريد. وقد اعتمد فرانك في ذلك على فرانسيس بيكون، الذي يُعزى له الفضل في التحول من الفلسفة الأرسطية إلى العلوم الحديثة. فقد كتب بيكون مقارناً بين الطريقة الأرسطية والطريقة العلمية الحديثة، معتبراً كلا الطريقتين تبدأ من الحس لتصل إلى أعلى التعميمات، لكن الفرق بينهما هائل، إذ الطريقة الأرسطية تُلقي نظرة عابرة على التجربة والإستقراء ثم تشرع فوراً بوضع تعميمات مجردة وغير مفيدة. أما الطريقة الحديثة فتظل تعايش التجربة وتتدرج بمراحل متوسطة حتى تصل شيئاً فشيئاً إلى التعميمات العلمية العالية، وهي التي وصفها بأنها لم تجرّب بعد .
ولا شك أن هذا التصوير الذي أبداه بيكون صحيح من جهة إعتماد العلم الأرسطي، لكن مع ذلك ينبغي إلا نبتر هذا العلم من طريقته القياسية التي تبدأ من المبادئ العالية لتتنزل إلى المبادئ المتوسطة، وما عملية الإستقراء المضمرة إلا كواسطة تطبق عليها تلك المبادئ. فمهما كان شكل الطبيعة وعلاقاتها، فإن المبادئ العالية تظل على «شكليتها» في أداء دورها من توليد النتائج. فالعملية أشبه ما تكون بـ «عملة ذات وجهين»، فكيفما كان وجه الطبيعة فستظل محكومة - بشكل أو بآخر - بمصداقية المبادئ العالية. لذا فإن فكرة «الكمال» والبحث عن «المكان الطبيعي» التي نعتها بيكون بأنها «تعميمات مجردة غير مفيدة»، كلها ترتكز أساساً على المبادئ العليا في الفلسفة الأرسطية، وليس على الإستقراء ذاته.
مع هذا فذلك لا يمنع من وجود بعض التماثلات على صعيد علم الطبيعة بين الفلسفة اليونانية والغربية، كالذي أبرزه سانتهلير بخصوص تقدم أرسطو على ديكارت ونيوتن في عدة مبادئ تتعلق بالطبيعة وحركتها. فلنيوتن قوانين ثلاثة في الحركة سبق أن دعا إليها ديكارت ومن قبله أرسطو، وهي كما حددها نيوتن كالتالي:
1 ـ إن كل جسم إذا لم يعترضه عائق ما؛ يمكث في حالة ثبوته وسكونه، وكذا في حالة حركته التي تقع مستوية على خط مستقيم.
2 ـ تكون التغيرات والحركات متناسبة دائماً مع القوة المحركة وتقع على الخط المستقيم الذي طبعت عليه هذه القوة.
3 ـ يكون رد الفعل مساوياً ومقابلاً للفعل.
كما هناك قواعد أربع ذكرها نيوتن كمنهج عام لدراسة علم الطبيعة، وهي تقترب إلى حد كبير من طريقة أرسطو، ويمكن إجمالها كالآتي:
1 ـ لا تعمل الطبيعة شيئاً عبثاً، ولا ينبغي للباحث أن يقبل عللاً إلا تلك التي هي ضرورية لتفسير الظواهر.
2 ـ وكنتيجة للنقطة الأولى أن التماثل في النتائج يجب أن تعلل بعلة مشتركة.
3 ـ وكتوسعة على النقطة الثانية فإن «كيوف الأجسام التي ليست قابلة لزيادة ولا نقص والتي تتعلق بجميع الأجسام التي يمكن أن تكون موضوعاً للتجارب، يجب أن تعتبر عامة لجميع الأجسام على العموم، على هذا فالإمتداد والمقاومة أو الصلابة وعدم قابلية النفوذ وقابلية الحركة والسكون هي كيوف توجد في الأجسام التي نستطيع ملاحظتها، فيجب إذاً أن تتعلق بجميع الأجسام على العموم. ويضيف نيوتن إلى هذه الكيوف كيفين آخرين هما قابلية القسمة إلى ما لا نهاية والجذب..».
4 ـ يجب التمسك بالنتائج الصادقة المتحصلة من إستقراء الظواهر ضد كل فرض مضاد. فهي تعتبر حقة ما لم تظهر أنها تحتمل بعض الاستثناءات .
يبقى أن نصور محاور التمثيل والإمتداد بما آل إليه العلم المعاصر رغم إختلاف طريقة التفكير لدى كل من الحضارتين اليونانية والغربية. فمن جهة أن العلم المعاصر قد آل أخيراً إلى الإبتعاد عن الميول المادية والميكانيكية في تفسير ظواهر الطبيعة التي كانت تغطي عصر القرن التاسع عشر وتشبع طموحاته الآيديولوجية، فقد كان التصور السائد يقوم على افتراض نفي وجود شيء آخر غير المادة. فالمادة هي الحقيقة، والحقيقة هي المادة. أو على الأقل أن المادة هي كل ما يمكن معرفته بطريقة علمية، مما دفع البعض إلى اعتبار النزعة المادية كجزء من الطريقة العلمية ذاتها . لكن الأمر أخذ ينقلب رأساً على عقب، ويقترب شيئاً فشيئاً إلى إعتبارات متباينة لـ «اللامادية». فقد اضطر العلماء إلى أن يتسلحوا باقتراحات وفرضيات تتحرر من قيود النظر المادي والميكانيكي الذي لم يعد قادراً على حل المشاكل العلمية العميقة، الأمر الذي وجّه العلماء وجهة أخرى جديدة تتبنى جملة من المفاهيم القابلة للتوظيف والتشغيل، كمفهوم الطاقة والنسبية والموجة واللاتحدد وغيرها، إذ وضعت أساساً لحل مشكلة الظواهر التي استعصت على التفسير المادي، من قبيل حل مشكلة طفرات الجسيم الذري بين المدارات بواسطة فكرة الموجة، وحل طريقة سير كمّات الضوء من خلال المجال الموجي الكهرومغناطيسي، كذلك حل مشكلة الزمان والمكان بالنسبية التي طرحها اينشتاين... الخ.
ولقد كان لهذا التسليح نتائج هامة لصالح النزعات (المثالية) التي تسربت وسط أغلب علماء العصر. فقد شعر العلماء أنهم في الحقيقة لا يدرسون المادة الخارجية بشكل منفصل عن تدخلات العقل ذاته، إذ أصبح من الواضح أنه لا يوجد حد فاصل بين الشاهد وما يشاهده، أو بين عقل العالم والموضوع الذي يخضع لدراسته، كالذي يستفاد من نسبية اينشتاين . بل هناك من العلماء من توغل في (المثالية) إلى الحد الذي وضع المادة كشيء مشتق من العقل، كما هو الحال مع ماكس بلانك رائد نظرية الكوانتم .
إن انتشار الميول (اللامادية) لعلم القرن العشرين لم يغط ساحة الاكاديميين من العلماء، بل أخذ يتسرب إلى الوسط الثقافي، الأمر الذي جعل بعض دوائر المعارف تبادر إلى نشر هذه الحقيقة ليُحتفظ بها في سجل تاريخ العلم. فدائرة المعارف البريطانية تشير صراحة إلى القول: «يميل العلم المعاصر إلى الإبتعاد عن مذهبي المادية والميكانيكية والإقتراب من الإعتراف بغير العوامل الميكانيكية في ظواهر الطبيعة، حتى الظواهر الفيزيائية» .
إن الإعتبارات المختلفة للإتجاه (اللامادي)، إذا ما أضفنا إليها الإهتمام المعاصر بمحاولة طرق العلوم الروحية والدخول في عالم هو أقرب للغيب منه للشهادة، سيجعلنا ندرك بأن العلم المعاصر آخذ في العودة إلى ما كان يجري من تفاسير ورؤى داخل النظام الوجودي لحضارة الأم، التي قامت على أساس العقل ولصالح التجرد الروحي، إلى الحد الذي كان ذلك النظام يجعل من العامل (العقلي ـ الروحي) يشغل مكاناً يمثل فيه (دينامو) حركة الكون والوجود بأجمعه. فتفسير الظواهر الطبيعية كان يقوم على الإعتبارات العقلية بتأثير «عالم الأمر» على «عالم الكون والفساد»، أي بتأثير عالم ما فوق القمر على عالم ما تحته، كما أن النظر إلى ما يجري في الوجود ككل من أوله إلى آخره، كان يصور هو الآخر بأنه يقوم على الإدراك الروحي تبعاً لمبدأ السنخية.
ومن الجدير بالذكر أن التفسير الروحي لظواهر الطبيعة لم يشغل ساحة الحضارة اليونانية ورضيعتها الغربية التي أخذت تقترب منه، بل أن الحضارة الإسلامية هي الأخرى لم تغفل مثل هذا التفسير لدى بعض إتجاهاتها، خاصة وأن بعضاً من آيات القرآن الكريم تلوّح إلى ذلك العامل إلى ما يكاد يكون صريحاً، كما في قوله تعالى: ((وإنْ من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)).. ((يومئذٍ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها)).. ((أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء)).
لهذا فقد وُفق الفلاسفة المسلمون في تفسير مثل هذه الآيات، بإعتبارها تتناسب كلياً مع منطوق إعتبارهم الروحي لتشكلات الوجود حسب السنخية . أما داخل النظام المعياري فلا ينكر أن بعض الفرق العقلية كالمعتزلة أخفقت في تفسيرها لتلك الآيات، إذ رفضت ظاهر «النص» ومارست التأويل تعويلاً على ظاهر «الحس والمشاهدة».
ولم يكن التفسير الروحي وحده هو الذي أخذ العلم المعاصر يقترب منه، بل الأهم من ذلك هو أن هذا العلم أخذ ينحو نحو وحدة الوجود التي تمثل أهم منطوقات الحضارة اليونانية وإمتداداتها، بل وما سبقها من حضارات كالحضارة الفرعونية، فتارة تجسدت هذه (الوحدة) خلف الرؤية العلمية التي هيمنت على عصرنا هذا، وأخرى طفحت على لسان بعض رموز العلم وأساطينه من الذين تأثروا بالنظام الوجودي لحضارة الأم.
لقد كانت وحدة الوجود في الحضارات القديمة كالحضارة اليونانية وإمتدادتها مفضوحة صريحة، وأحياناً مشاراً إليها في لغة الخطاب، على نحو ما قيل: «إذا فهمت ورقة واحدة من أوراق الأعشاب فسوف تفهم الكون جميعاً»، وما يقال من أن «كل شيء في أي شيء»، ومن خلال الإعلان عن تشاكل عوالم الوجود وتطابقها، أو من خلال تقسيم الوجود إلى مراتب متفاضلة ضمن النوع الواحد، كتقسيم صدر المتألهين للوجود إلى أربعة مراتب هي الجسم الطبيعي والجسم النفسي والجسم العقلي والجسم الإلهي ، كلها منضمة في نوع واحد نعبّر عنه بـ (جسمانية الوجود).
ومع أن النظام الوجودي ما كفّ يعلن تصريحاً وتلميحاً عن تبنيه لوحدة الوجود، إلا أن هذه الوحدة داخل الحضارات القديمة وإمتداداتها قبل الحضارة الإسلامية لم تنفرز بشكل واضح ودقيق، إذ أن ذلك قد جرى لأول مرة وسط الحضارة الإسلامية ذاتها، خاصة لدى المتأخرين داخل النظام الوجوي، إذ اعتادوا أن يفصّلوا القول في أنواع تلك الوحدة حتى بلغت أحياناً ستة أنواع كما ذكرها النراقي ، غالباً ما تعتمد عملية الفرز على «التشبيهات» الواردة في توضيح تلك الوحدة، لكونها صُورت بأنها تفوق مستوى حد العقل وتصوره. ومع ذلك فإن التأمل في تلك الأنواع يمكن أن يردها إلى نظريتين أساسيتين متمايزتين، إحداهما تتبنى السلسلة الرتبية من العلة والمعلول دون خلط وإختلاط، وهي التي تنسب إلى «الفلسفة»، والاخرى لا تتبنى ذلك ولا تجعل للمرتبة الأصل مكانة مختصة بذاتها متعالية عن سائر الرتب التي تدنو منها، والتي تنسب إلى «التصوف»، رغم أن ظاهرة الإختلاط والتزاوج بين الفلاسفة والمتصوفة، وكذلك التشابه والتداني في الطرح لدى كل من المنظومتين الآنفتي الذكر، كل ذلك جعل من الصعب الفرز بشكل مطلق وتام فيما إذا كان رمز الطريقة المزدوجة يتبنى وحدة الوجود «الفلسفية» أو «الصوفية».
كان من الواجب علينا أن نذكّر بتلك الإعتبارات، كي نعرف أي نوع لوحدة الوجود استعادها العلم المعاصر عن الحضارات القديمة وإمتداداتها. فالمسلمات العلمية المعاصرة حول تحليل المادة والطاقة وردّ كل منهما إلى الآخر، كذلك إرجاع جميع الأشياء من العناصر والمركبات الكونية إلى جسيمات متماثلة واقعة في «بساط موجي» يفوق التصور العقلي، الأمر الذي يجعل من حركاتها وتفاعلاتها تتخذ إنساقاً هندسية تمثل أساس التكثر والإختلاف الذي نراه في الوجود الطبيعي.. أن هذه المسلمات لهي ذات دلالة واضحة على وحدة الوجود - ولو في اطارها الطبيعي الضيق - التي كان القدماء المسلمون يصعب عليهم توضيحها، فشبهوها بتشبيهات عديدة كالشعلة الجوالة، والبحر وأمواجه، والنور وإختلافه في القوة والضعف، واللوح والمداد، وغير ذلك من التشبيهات الأخرى . لكن أقربها إلى الفهم العلمي هو الأخير ذو المغزى (الصوفي) من وحدة الوجود.
فالمداد المطبوع على اللوح بأحرف مختلفة يجلّي حالة ما كان يسمى بـ «الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة». إذ لا وجود في اللوح سوى المداد، ومع ذلك فالتنوع والإختلاف في شكل هذا المداد - بالحروف - إنما يعني وجود التكثر وسط الوحدة، ووجود الوحدة في التكثر. فهذا التصوير الذي صوره أصحاب النظام الوجودي داخل الحضارة الإسلامية يطابق إلى حد كبير ما توصل إليه العلم المعاصر من أن الجسيمات (النهائية) لها وحدة على صعيد المماثلة في قبال كثرتها.
والأهم من ذلك هو أن هذه الجسيمات تعد أساس ما يتمظهر عنها من عناصر ومركبات وأجسام مختلفة - بل ومتضادة أيضاً -، حيث تتخذ أشكالاً مختلفة من التكدس والتنقل والتذبذب والتهندس والإختفاء والكمون وسط البساط الموجي الذي لا يعني شيئاً دونها. وكل ذلك يعني إعادة إحياء تلك المقولة الفلسفية الآنفة الذكر «الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة». فالتكثر والتنوع في مختلف أجزاء الطبيعة ومظاهرها وعلاقاتها مستمد من تلك النقطة الجوهرية لوحدة الجسيمات التي تتجلى فيها المظاهر المختلفة وسط لوح التموجات. وعلى الرغم من أنها هي الموجودة حقيقة وليس هناك شيء آخر غيرها في عالم الكون، فإنها تبدو مختفية تماماً، وما يظهر من عوالم كونية مختلفة، إنما هو عبارة عن مظاهر لها تسترها وتخفيها، بل هي عين السراب عند النظر والتدقيق، إذ حقيقة ما موجود هو «الجسيم» وحده، وما عداه وهم ناتج عن نشاطه الموجي، وهو بمثابة النشاط الروحي لـ «إرادته الحرة» في الحركة وما يحمله من طاقة عظيمة، الشيء الذي يماثل قول أصحاب النظام الوجودي في الحضارة الإسلامية من أن «الوجود» لشدة ظهوره كان أكثر الأشياء خفاء، بل هو الظاهر والباطن ولا شيء غيره في لوح الوجود البتة، أو قولهم صراحة ليس في الوجود إلا «الله» وما عداه وهم وباطل، أو كما قيل:
كل ما في الكون وهم أو خيال او عكوس في المرايا أو ظلال
لذلك كانت النزعات المثالية التي عصف بها القرن العشرين وسط علماء الفيزياء إلى الحد الذي شكك الكثير منهم بوجود الأشياء أو نفوها، إنما يعبّر عن إعادة إحياء حالة ما سبق أن عاشها رموز النظام الوجودي.
وإذا ما كان التحليل الآنف الذكر للنتاج العلمي يزودنا بدلالة «صوفية» عن وحدة الوجود، فإن رمز العلم المعاصر اينشتاين لا يخفي إعتقاده بتلك الدلالة متأثراً بالفيلسوف اسبينوزا الذي يظن أنه قد تأثر بدوره بمحي الدين بن عربي، مما يعود بنا من جديد إلى أحضان النظام المعرفي للحضارة اليونانية وما قبلها داخل الحضارة الإسلامية. حتى أنه يقال بأن الكثير من العلماء، مثل كوبرنيكوس وغاليلو ونيوتن واينشتاين قد تأثروا بالأفكار الهرمسية ، ورغم أن هذه الأفكار قد شاعت بعد قرنين من المسيح؛ إلا أن جذورها تمتد إلى مصر الفرعونية قبل أكثر من خمسة آلاف سنة تقريباً.
يضاف إلى ذلك، أن التأمل في التحليل الفلسفي الذي ضمنه وأقامه بعض رموز العلم - كإينشتاين ذاته - على حصيلة النتاج العلمي يمكن أن يرشدنا لا فقط إلى معرفة ما كان يكنّه ذلك التحليل من «لفيف» وحدة الوجود، بل ويرشدنا كذلك إلى الطابع اللامادي (العقلي ـ الروحي) الذي تتمثل فيه تلك الوحدة، فضلاً عن إعتبارات أخرى قد سبق إليها النظام المعرفي الوجودي داخل الحضارة الإسلامية.
فقد انصب إهتمام اينشتاين حول معرفة البنية الخاصة للموضوع الخارجي، فهو لا يرى هذا (الموضوع) عبارة عن جسم أو ذات لها وجود، بل يعتقد إستناداً إلى التحليل العلمي أن أي جسم تتمثل حقيقته بمجموعة حوادث متشابكة هي التي تعطي صفة ما نعبّر عنه بـ «الجسم» الذي يتألف منه الكون، وأن كل حادثة تحدث مرة واحدة في نقطة مكانية ولحظة زمنية واحدة لا تتكرر، في الوقت الذي لا توجد حادثة وحيدة منعزلة، كما لا توجد حادثة بسيطة، إذ الحادثة من جهة التحليل تعبّر عن مركّب آخر من الحوادث، وهكذا.. وحيث أن الحوادث تحدث في مجاميع على هيئة نسيج مسلسل يرتبط بعضه بالبعض الآخر، أشبه بالقطعة الموسيقية أو بصورة فلم على شاشة السينما، إنما يوهمنا وكأنه شيء واحد ثابت له هويته وديمومته الخاصة.
لا شك أن هذا التصور للحادثة يفوق الإدراك الحسي، إذ لا توجد هناك حادثة بسيطة يمكن إدراكها بشكل منفصل، لهذا اعتبرها اينشتاين أمراً مجرداً أو استدلالاً من سلسلة طويلة لمقدمات رياضية، فلا توصف إلا وصفاً رياضياً مجرداً. وقد استفادت نظرية الكوانتم من هذا التصور للحادثة فطبقته على عالم الذرة، حتى أصبح الإلكترون هو الآخر كسائر بقية الحوادث لا يشكل جسيماً له ثباته ووضعه المكاني المحدد، بل هو مجال من موجات هي في حد ذاتها مؤلفة من سلسلة مجموعات من الحوادث. ثم جاء مبدأ (هايزنبرج) في «اللاتحدد أو اللايقين» ليكلل تلك النتائج، إذ جعل من الإلكترون يتصرف وكأن له مجالاً من الإرادة الحرة نسبياً، بحيث لا يمكن تحديد وضعه المكاني وحركته بدقة مطلقة إذا ما حاولنا عزله عن نظائره من مجاميع الإلكترونات الأخرى.
ولم يتوقف الحال عند مد نظرية «الحادثة» لاينشتاين، من عالم الكون والطبيعة الجسمية إلى عالم الذرة، بل أعقب ذلك مد آخر فيه خطورة جسيمة على دنيا الطبيعة والمادة، فقد قام فيلسوف العلم المعاصر برتراند رسل بسحب بساط «الحادثة» ليغطي به «الإحساس الذهني» مضافاً إلى المادة والطبيعة، فهو يذهب إلى أن المادة الخارجية لما كانت تسبب لنا الإحساس في حواسنا، وحيث أن المادة والإحساس يتألفان معاً من حوادث، فلو أنّا أفرغنا الحادثة من محتواها فسوف لا يعد بإمكاننا أن نقطع ونتيقن فيما إذا كانت مادة أو عقل، بإعتبارها تناسبهما معاً .
إن النتائج التي يمكن أن نستخلصها من تحليل نظرية «الحادثة» - إبتداء من اينشتاين ومن بعده نظرية الكوانتم ثم إنتهاء ببرتراند رسل - وعلاقتها بالنظام المعرفي الوجودي للحضارة اليونانية، هي كالآتي:
أولاً: إن البساط الذي سحبه برتراند رسل للحادثة إلى ما يغطي عالم الإحساس والعقل، يجعل من التفكير العلمي المعاصر لا ينظر إلى عالمي العقل والمادة نظرة تعددية ثنائية، فهما يعبّران عن طبيعتين من سنخ واحد هو الحادثة. كما أن الإعتقاد بأن حقيقة الأمر الخارجي ليس هو الجسم أو الهوية، بل مجاميع مسلسلة من الحوادث المتشابكة، وحيث أن الحادثة في نهاية التحليل هي أمر مجرد لا يقبل الحس، وإذا ما أضفنا إلى ذلك التصور الموجي للحادثة، وكذلك «السلوك الحر» للجسيم.. إذا ما أخذنا بجميع هذه الإعتبارات أصبحت النتيجة تقترب بشكل بيّن من وحدة الوجود الروحية أو العقلية، الأمر الذي يعني الوقوع مرة أخرى في حوض النظام المعرفي الوجودي. ذلك أن هذا النظام يؤكد على مثل هذه الوحدة إلى الدرجة التي تصبح فيه الطبيعة صورة عقلية مستنسخة من العقل لا العكس، إذ لما كانت الطبيعة مؤلفة من صورة ومادة، والمادة ليست بشيء لأنها - عند ذلك النظام – مجرد قابلية لتشكلات الصور، تصبح حقيقة الأمر الخارجي بصورته، والصورة هي درجة من درجات الإدراك؛ لقاعدة إتحاد العاقل بالمعقول والمدرِك بالمدرَك، الشيء الذي يعني في نهاية المطاف أن الصورة الخارجية للطبيعة إنما هي عقل متنزل، حسب ما تقتضيه السنخية.
ثانياً: بحسب التحليل الآنف الذكر تصبح الحادثة أساساً ومظهراً في أن واحد، فهي أساس جميع المظاهر، لكونها جميعاً مؤلفة من حوادث، لكنها في الوقت نفسه مظاهر لحوادث أخرى تؤسسها إلى غير نهاية، إذ كما علمنا أن الإلكترون وكل ما هو أصغر منه من الجسيمات هو بدوره مركب من حوادث، الشيء الذي يعني أن هذه الجسيمات هي أساس ومظاهر في آن واحد، فهي أساس بناء المظاهر الأشد منها تركيباً، كما أنها مظاهر لحوادث أبسط منها بنية، مما يعني أن الأساس والمظهر هما من سنخ واحد، فبعضها مشكّل من البعض الآخر، كما أن الكثرة فيها تصبح هي الأخرى وهمية، فكلما اشتد تركيب الحوادث كلما زادت وهميتها. الأمر الذي يطابق ما سبق أن أكد عليه النظام الوجودي من وهمية الكثرة في عالم الطبيعة والكون.
ثالثاً: لما كان عالم الكون عبارة عن وحدة ممتدة غير متناهية من الحوادث، وكانت الحادثة لا تحدث إلا لمرة واحدة في نقطة مكانية ولحظة زمانية، فإن بقاء العالم وعدم فنائه وانتهائه إنما يعبّر عن «البقاء النوعي» مع زوال الأفراد، فأفراد الحوادث تنتهي وتزول، لكن صيرورة التجدد تجعل من بقاء الحوادث كنوع هو الذي يحافظ على ديمومة العالم واستمراريته. وهذا ما سبق أن أكد عليه النظام المعرفي الوجودي من فناء الأفراد وبقاء النوع .
رابعاً: إن تجدد الحوادث كما تقتضيه نظرية «الحادثة» يماثل تقريباً ما استقر عليه المتأخرون من النظام المعرفي الوجودي داخل الحضارة الإسلامية، من أن الحركة والتحول لا يجري في عالم الأعراض فحسب، بل حتى في عالم الجواهر أيضاً، فما من شيء في الطبيعة إلا وهو في تجدد وتحول من غير إنتهاء. وإن كانت نظرية المتأخرين كما هو الحال عند صدر المتألين تضفي أبعاداً أخرى ثرية وخصبة لا تمتلكها نظرية «الحادثة». فبحسب تلك النظرية تجري هناك حالتا (صعود ونزول) هي التي تديم الاستمرارية والصيرورة نحو الكمال. فالحركة الجوهرية في الطبيعة لا تفني شيئاً إلا وتجدد في قباله شيئاً آخر عبر تزامن (الخلع واللبس). وما يحصل من فناء في هذه العملية لا يمثل العدم، بل هو عين الكمال والالتحاق من صورة الطبيعة إلى صورة أرقى منها عن طريق الإتحاد حسب قانون «السنخية»، أي من عالم (العقل السافل) إلى عالم (العقل العالي)، أو من عالم الشهادة والدنيا إلى عالم الغيب والآخرة. كما ويتزامن مع هذا القوس من الصعود قوس آخر للنزول والخلق، فمع فناء وصعود كل صورة أو «حادثة» من صور وحوادث الطبيعة، تحصل حالة خلق ونزول للصور التي يفيضها العقل من سماء التجريد إلى أرض الطبيعة، وبذلك تتم ظاهرة الديمومة بالصعود والنزول على نحو التجديد والكمال إلى ما لا نهاية له، فالحركة مستمرة، والتحول والفيض سار أزلاً وأبداً دون إنقطاع، والحوادث دائبة على الحدوث والفناء، أو الخلق والكمال .
خامساً: إن تحديد الشيء الخارجي تبعاً للحادثة لا الجسم أو الهوية يماثل ما استقر عليه المتأخرون - تقريباً - منذ صدر المتألهين من أن الأصالة للوجود لا الماهية، إذ كان قبل هذا الفيلسوف العارف، كما لدى استاذه السيد محمد باقر الداماد أو الشيخ الديواني أو شيخ الإشراق السهروردي، أن الأصالة للماهية لا الوجود الذي هو بمعنى الكون أو التحقق أو الثبوت أو الصيرورة أو غير ذلك مما يناسب «الحادثة» في قبال الجسم والذات والهوية.
سادساً: يظل هناك خلاف مستقطب حول «عدم التناهي» في الطبيعة. فعدم تناهي الحوادث لدى نظرية الحادثة يكون جارياً فعلاً، وهو لا يطابق عدم تناهي الأجزاء لدى نظام الفلسفة، إذ يحصل حسب وجهة نظر هذا الأخير على سبيل القوة لا الفعل، أي أن عملية التقسيم لو اُجريت لما كان يمكن الوصول فيها إلى نهاية محددة.
هكذا نخلص إلى أن العلم المعاصر قد أعاد إحياء ما كانت عليه حضارة الفلسفة والتصوف في تبنيها لوحدة الوجود، فضلاً عن الإعتبارات (العقلية ـ الروحية) المضفاة على الوجود الخارجي.
من هنا يمكن القول أن حضور اليونان في حضارة الغرب يعبّر عن حضور الغرب قديماً وحديثاً، الأمر الذي جعل الكتابات الغربية منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا تكرس إهتمامها لوحدة التاريخ واستمراريته، مستفيدة في ذلك من فكرة «التقدم»، وحاذفة من بالها كل ما لا علاقة له باوروبا وفكرها.. فتاريخها الذي تطمح أن تعممه على الإنسانية جمعاء هو تاريخ يمتد من اليونان فروما، وبعد ذلك إلى اوروبا. فهي تبدأ بالغرب ثم تعود لتنتهي إليه دون إشارة إلى دور الحضارات القديمة وأثرها على اليونان، سيما حضارة مصر الفرعونية، وكذا دون مرور بالحضارة الإسلامية ولو من بابها الآخر، فهي تطمح لهيمنة العقل الاوروبي على الإنسانية جمعاء، وتتجاهل الحضارة الإسلامية التي كان لها دور كبير في قيام الغرب وتقدمه. تشهد على ذلك طرق الإنتقال العلمي المتمثلة بصقلية والاندلس والشام وفلسطين وغيرها. ولم يكن هذا الأثر مجرد وساطة لنقل التراث اليوناني إلى الغرب، بل كان في كثير من الأحيان يعبّر عن الأصالة والإبداع، وقد شهد على ذلك الكثير من الاوروبيين، حتى أن بعضهم يرى بأن جميع مجالات العلم والثقافة الغربية كان مصدرها الحضارة الإسلامية عبر الاندلس، بما في ذلك المنهج التجريبي الذي قام عليه العلم الغربي. فعلى ما ذكره بريفولت في كتابه (بناء الإنسانية)، فإن روجر بيكون قد درس العربية وعلومها وقام بنقل ذلك المنهج إلى اوروبا من العرب . واعترف بعض آخر بأن العلماء الاوروبيين من أمثال روجر بيكون وكيبلر وكوبرنيك وغيرهم قد حصلوا على معارفهم العلمية عبر مصادر عربية أو بربرية مغربية .
لكن لا ينكر أن ما أثرت به الحضارة الإسلامية على الغرب كان في غالبه لا يمتّ إلى جوهر إشكاليتها، ولا إلى عقلها الأساس بصلة. فقد لعبت الفلسفة في الحضارة الإسلامية دوراً مميزاً لبناء الغرب علمياً وفلسفياً، طبقاً لما تضمنته من مادة معرفية وعناصر علمية. يشهد على ذلك تحول كل من طب الرازي وإبن سينا وبصريات إبن الهيثم وفلك البطروجي وفلسفة إبن رشد وإبن عربي وغيرها إلى الغرب.
بهذا تكون الحضارة الإسلامية حسب إشكاليتها المعيارية المتمثلة بعلوم نظرية التكليف، عبارة عن دائرة انفصال ضمن دائرتي اتصال. أما لو قرأنا حضارتنا بكل ما تحمله من «بضاعة»، فلا شك أنها ستكون حلقة وصل وإمتداد وإثراء وعطاء بين حضارة الأم (الفرعو ـ يونانية) ورضيعتها (الغرب). الشيء الذي يعني أن الحضارة الإسلامية تمثل حلقة فصل ووصل في آن واحد، فهي فصل من حيث الإشكالية التي هيمنت عليها والعقل الذي استوعبها، لكنها عبارة عن حلقة وصل وعطاء، وذلك لأنها قد منحت مفاتيح الوجود للحضارة الغربية، عبر بابها الآخر.

سؤال النهضة على لسان الغربيين
نعود الآن بعد أن شارفنا على نهاية البحث إلى طرح تساؤلات تكمل ما بدأنا به خاتمتنا، فقد سبق أن طرحنا تساؤلات حول علاقة حضارات العالم الثلاث ببعضها، ثم أردفناها بأخرى تخص شؤون حضارتنا «الغائبة». أما ما بقي معنا من تساؤلات فهي على صنفين، أحدهما يتعلق بتصورات البحث العلمي حول علة ضمور حضارتنا وغيابها، في حين يتصف الصنف الآخر منها بعاطفة «محمومة».
لنبدأ أولاً بتصورات البحث العلمي، إذ ظهرت منذ أكثر من قرن تساؤلات قوية لم تجد لها أجابة واضحة وحاسمة لحد الآن حول ما أصاب حضارتنا من ضمور وانحلال. وهذه التساؤلات كما أنها ظهرت في أوساط المسلمين فإنها كانت حاضرة أيضاً في الأوساط الغربية المختصة. بل يمكن القول أن للتفكير لدى هذه الأوساط الأخيرة أهمية خاصة. فليس فقط لكونه يعد إعترافاً ضمنياً من «الآخر» بحق ما كانت تحمله الحضارة الإسلامية من إمكانات التواصل والتطور والازدهار، بل الأهم من ذلك هو أنها أدركت بالدليل القاطع أن السبب الأساس الذي جعل النهضة العلمية الغربية تبدأ شوطها هو ذاته كان مسبوقاً من قبل المسلمين، إن لم نقل أن ما حصل في النهضة العلمية الغربية إنما كان مأخوذاً عن المسلمين انفسهم، بشكل أو بآخر. ولست أقصد بذلك الترجمات الكثيرة لعلوم العرب والمسلمين التي بدأت منذ القرن الثاني عشر الميلادي فصاعداً، بل ما قصدته هو أنه رغم ما أصبح من المسلمات العامة بأن النهضة العلمية الغربية قد بدأت بفعل الإنقلاب الحاصل في علم الفلك خلال القرن السادس عشر الميلادي، والذي يؤرخ بأنه نقطة البداية للعلم الحديث، إلا أن هذه النقطة كانت مسبوقة لدى المسلمين بأكثر من قرن ونصف من الزمان.
فقد تناول الكثير من المسلمين والمختصين الغربين البحث في علة ضمور وإنحلال الحضارة الإسلامية بعد اعتلائها عرش العلم والقوة والسيطرة كأعظم حضارة في العالم؛ إلى الدرجة التي كادت تبتلع فيه هذا العالم بأسره. الأمر الذي حيّر المفكرين منذ ما يزيد على قرن من الزمان، سواء المسلمين منهم أم ذوي الاختصاص من الغربيين. فمن أبرز من اهتم بهذا الشاغل من المسلمين عبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان وابو الحسن الندوي وغيرهم.
أما الغربيون فالكثير منهم يعترف بأن هذه الحضارة كانت متقدمة على غيرها من الحضارات الأخرى في جميع المجالات العلمية والأدبية، كما ويعترف في مساهمتها بقيام النهضة الغربية الحديثة، وكونها توسطت بنقل الحضارة الاغريقية إلى الغربية. فقد استفاد الاوروبيون إفادة عظيمة لما بذلوه من جهود في ترجمة الكتب والنصوص العربية، مثلما استفادوا من التعرف على الحضارة الاغريقية عبر الترجمات العربية، ولولا ذلك ما كان لهم أن يعرفوا الكثير عن تلك الحضارة، بل ولا كان بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً مهماً حول ما تمّ لهم من نهضة. وبالتالي ما الذي يجعل حضارة عظيمة بذلك القدر والقوة إلى أن تقع في الضعف والإنحلال؟
فهذا السؤال ما زال مطروحاً لدى الكثير من ذوي الاختصاص. وسبق للمستشرق (توبي هف) أن قارن في كتابه (فجر العلم الحديث) بين ثلاث حضارات عظيمة هي الحضارة الصينية والإسلامية والغربية، ورأى أن الصين رغم أنها كانت عظيمة لكنها لم تستطع الاستمرار والنمو لإعتبارات يتعلق بعضها بلغتها المعقدة وكونها منغلقة على نفسها. وهو أمر لا ينطبق عما حدث للحضارة الإسلامية، وظل اللغز محيراً لدى العديد من المفكرين المختصين، رغم ما يذكر من أسباب متعددة أدت بهذه الحضارة إلى أن تنكمش وتتحنط شيئاً فشيئاً. فالمحير لدى هؤلاء هو أن الحضارة الإسلامية وصلت في بعض مراحلها التاريخية إلى أن تكون حضارة عالمية لا تضاهى قوة وعلماً، سيما فيما يتعلق بالقوتين الإقتصادية والعسكرية كما يشير (برنارد لويس) إلى ذلك. وكذا فيما يتعلق بالقوة العلمية الهائلة كما يشير إليها (توبي هف).
وبالتالي كان العديد من المختصين الغربيين يتصورون بأن من المفترض أن تكون النهضة الحضارية الأعظم هي للحضارة الإسلامية لا الغربية، بإعتبار أن جميع شروط التقدم العلمي كانت متوفرة لدى هذه الحضارة، لكن الأمور مع ذلك أخذت مجرى آخر، مما جعل السؤال ملحاً حول علة توقف هذه الحضارة، بل وتراجعها مع أنها أمدّت أكسير الحياة إلى غيرها. وهو سؤال محير، سيما أن هذا التراجع قد اقترن بنهضة الغرب وتطوره.
ومع أن الغربيين كثيراً ما يوردون الأسباب الدينية والسياسية والقانونية كموانع لتواصل الحضارة الإسلامية وتطورها، لكنها عوامل غير كافية؛ سيما المتعلقة بالأسباب الدينية، إذ لو كانت هي نفسها عامل إعاقة؛ كيف نفسّر ما حدث من تطور كبير جعل الحضارة الإسلامية في وقتها أعظم وأقوى حضارة في العالم؟
فمثلاً أشار المستشرق (برنارد لويس) إلى جملة عوامل معيقة جعلت المسلمين يأخذون بالضعف شيئاً فشيئاً، من أهمها العامل السياسي، حيث الإنقسامات الداخلية ضمن الخلافة الإسلامية والتي طالت قروناً طويلة، وما أتبعها من حروب داخلية ألهت المسلمين عن عدوهم الخارجي المتربص وانهكت قواهم. فهذا هو السبب الرئيسي الذي أفضى إلى ضعف الخلافة الإسلامية وإضمحلالها. يضاف إلى ذلك هو أن المسلمين لم ينتبهوا إلى التطورات النامية التي حدثت في الغرب طيلة قرون عديدة بما في ذلك القرن السابع عشر الميلادي، والتي شكلت فيما بعد دوراً مهماً في القضاء على الخلافة وتقسيم البلاد الإسلامية وإضعافها أكثر فأكثر. فعندما فتح المسلمون بعض البلاد الاوروبية وجدوها غارقة في التخلف والهمجية. وبحسب وجهة نظر هذا المستشرق أن الخطأ الذي ارتكبه المسلمون هو أنهم لم يغيروا النظرة التي رأوا فيها الغرب بربرياً همجياً، فرغم تقادم الزمن بقرون طويلة ظل المسلمون ينظرون إلى الغرب بذات النظرة المسبقة دون إلتفات إلى ما تحقق فيه من تقدم وتطور، سيما خلال ذلك القرن الذهبي (السابع عشر)، إذ ظهرت فيه كتابات اوروبية غزيرة دون أن يترجم المسلمون منها شيئاً لعدم علمهم بها. وفي هذا القرن بالذات كان هناك عدد كبير من التجار الاوروبيين يفِدون الديار الإسلامية دون أن يدرك المسلمون خطورة دورهم تبعاً لتلك النظرة المسبقة عن الغرب، فقد كانوا يقدّمون لأوروبا كل ما تحتاجه من معلومات تتعلق بما يجري في الشرق، الأمر الذي سهّل على اوروبا غزو البلاد الإسلامية ومن ثم استعمارها. وأكثر من هذا أنه ظهرت لدى الغرب في ذلك القرن مهن وثروات كبيرة من غير علم المسلمين أيضاً. ولا شك أن كل ذلك قد ساعد اوروبا في أن تبني نفسها بمعزل عن المعوقات الخارجية، في الوقت الذي حرم المسلمين من الاستفادة من الإمكانات الغربية الجديدة، بل وجعل منهم الفريسة التي تقاسمها الغرب فيما بعد .
فمنذ نهاية القرن السابع عشر فقدت الخلافة العثمانية الكثير من الأراضي بسبب الإنقسامات الداخلية، وأصبحت من الناحية العسكرية ضعيفة. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين كان التفاوت بين الغرب والمسلمين كبيراً جداً، إذ انقلبت المعادلة فأصبح الضعيف المتخلف قوياً متقدماً، كما أصبح القوي المتقدم ضعيفاً متخلفاً. وبالرغم من الكثير من الصيحات والدعوات التي نادت بالإصلاح والنهضة في العالم الإسلامي، منذ أكثر من قرن وحتى يومنا هذا، فإنها جميعاً باءت بالفشل.
وبرأي برنارد لويس فإن المصلحين من المفكرين في العالم الإسلامي كانوا وما زالوا واقعين في الخطأ نفسه عند تحليلهم لما حدث لهذا العالم من ضعف وإضمحلال، فهم يضعون اللوم في ذلك على (الآخر)، ويتصورون أن مسؤولية التخلف وعدم القدرة على النهوض والتقدم إنما مبعثه هذا (الآخر)، شبيه بما يطلق عليه اليوم (منطق المؤامرة الخارجية). فالعرب كانوا يضعون اللائمة على الأتراك بسبب الحكم العثماني، والمسلمون يعدون مشكلتهم مع التخلف قد بدأت بفعل الغزو المغولي، وبعد ذلك بسبب مجيء المستعمر الغربي، وبعده اعتبروا المسؤولية ملقاة على اليهود، وأخيراً على أمريكا.
هكذا تتعلق اللائمة دائماً بالآخر، في حين أنه على رأي لويس فإن القضية معكوسة، وهو أن الاستعمار لم يتحقق إلا نتيجة ضعف المسلمين وتخلفهم، وليس سبباً لهما. فلولا الضعف والتخلف ما كان هناك استعمار قط. ورأى أن على المسلمين أن يكفوا عن إتهام (الآخر) لتفسير علة عجزهم وضعفهم، وأن يغيروا صيغة السؤال المطروح لديهم (أين الخطأ؟) ويستبدلوه بسؤال أكثر تحديداً، وهو:
ما الذي فعلناه خطأً؟
ويقترب الكاتب في هذا السؤال من مقالة مالك بن نبي حول الدور الذي تلعبه القابلية على الاستعمار لنفوذ هذا الأخير.
لكن النتيجة التي يخلص إليها هذا المستشرق كجواب عما تضمنه إسم كتابه من سؤال (أين الخطأ؟)، هو أنه اعتبر الدين، ومنه الدين الإسلامي، من أكبر المعوقات والمحددات للتطور، بإعتباره ليس مؤهلاً لإعطاء المزيد من الحرية مقارنة مع ما عليه قيم الحداثة. ورغم إعتراف هذا المستشرق بالتطور الذي حققه المسلمون في السابق، لكنه لا يرى ذلك كافياً، بدلالة أن المسلمين خلافاً للكثير من الأمم المتقدمة ليس بوسعهم النهضة والتقدم. والشاهد الحاضر عنده هو تقدم الغرب بفعل عزل الدين عن الشؤون العامة، حيث مهّد ذلك لإطلاق الحريات ومنها الحرية الفكرية والعلمية والإقتصادية والسياسية، الأمر الذي تشكلت منها الحضارة الغربية الحديثة بما لا نظير لها.
وبالتالي فالحل الذي يرجوه هذا المستشرق هو العمل بمثل ما قام به الغرب في فصله للدين عن السياسة وتبني مبدأ العلمانية، لتحرير العقل عن الدين وقيوده. مع أن شاهد تركيا الحديثة لا يؤيد مسعاه.
مهما يكن فما زال البحث جارياً لدى الباحثين المختصين حول علة التراجع الذي أصاب الحضارة الإسلامية، ومن المتوقع أن يزداد ضوء البحث على مجمل هذه الحضارة بعد أحداث 11 سبتمبر (ايلول)، سواء من حيث طبيعتها ومقوماتها الذاتية، أو من حيث علاقاتها الخارجية. فالسؤال الذي سيتجدد حولنا من قِبل «الآخر» هو ذلك الذي يبحث عن هويتنا، بكل ما تثيره هذه الكلمة من أبعاد موضوعية وقيمية :
فمَن نحن؟!

النهضة والتساؤلات المحمومة
أخيراً بقيت معنا التساؤلات المشبعة بالعاطفة «المحمومة»، إذ تضيق لها الصدور لما تثيره فينا من «هم وغم»، فما زال السؤال الشاغل الذي يهيمن على نفوسنا هو: لماذا تخلفت الحضارة الإسلامية وتقهقرت فعاشت مرحلة السبات والغيبوبة لعدة قرون؟ فهل أن ذلك يعود إلى نظامها المعياري بإعتبارها حضارة تكليف قد استنفدت طاقة النص والعقل بالكامل، فلم يبق لديها شيء آخر تتفاعل معه سوى أن تؤاكل نفسها بنفسها، كالذي حصل في مؤاكلة العقل للعقل ذاته، والإجتهاد للإجتهاد؟
فمن المعلوم أن حضارتنا الغائبة هي غير حضارة اليونان الممتثلة. فإذا كنّا لم نجد «صرخة» تطالب بإعادة تأسيس الحضارة اليونانية من جديد، لكونها قد امتثلت في حضارة أخرى هي الحضارة الغربية، أو لأنها ماتت وانتهت على أقل التقادير، مما يعني أن السكوت المتعمد بالمطالبة بتلك الدعوة يضع الحضارة اليونانية موضع «الشيء المهمل» الفاقد لمبرر قيامه توظيفاً وتشغيلاً.. فإذا كنّا لم نجد مثل تلك الصرخة مع الحضارة اليونانية، ومثلها الحضارات القديمة، فإن الأمر مع الحضارة الإسلامية يختلف كلياً. فمن جهة أن «الصرخة» للمطالبة بإعادتها ليست غائبة ولا ميتة كما هو الحال مع سابقاتها. كما أن هذه الحضارة - من جهة أخرى - ليست ممتثلة ولا أنها فقدت روحها كالجثة الهامدة.
فروح الإجتهاد - على حدودها الشكلية - ما زالت عالقة بأوصالها، كما أن صرخة المطالبة بإعادتها لا زالت تتردد منذ الإصطدام بالحضارة الغربية والتوسع الاستعماري أوائل القرن التاسع عشر والى يومنا هذا.
والحقيقة أن هناك صرختين ظهرتا خلال هذه الفترة، تنفصلان أحياناً وتتحدان أخرى، إحداهما تدعو للنهضة القومية، سيما النهضة العربية، سواء من خلال الإلتحام بالتراث الإسلامي أو بالانفصال عنه كما لدى الدعوات العلمانية. أما الأخرى فتدعو للنهضة الإسلامية بغض النظر عن الجانب القومي. وعلى الرغم من طول مدة ما أُطلق عليه «النهضة» على الصعيدين العربي والإسلامي، إلا أنه لم ينحسم المخاض بين النهوض والنكوص حتى يومنا هذا، رغم مخاض العقود الأخيرة لنهاية القرن العشرين التي شهدت تطورات ليس لها نظير في تاريخنا القديم والحديث.
إن التفكير في النهضة ومدتها يطرح في ذاته تساؤلاً «محموماً» حول ما إذا كان العجز متأصلاً في عروقنا، أم أن هناك عاملاً مغيّباً ينبغي تجهيزه كشرط مقوم للنهضة والوقوف على الأقدام؟
لقد صوّر لنا القوميون العرب مرارة ما شهدناه خلال القرن العشرين من تجربة قومية فاشلة لمشروع النهضة العربية. فالوعي النهضوي الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر قد تحول منذ أواخر الخمسينات إلى وعي ثوري، لكنه ما لبث أن نكص وتراجع بعد هزيمة (1967)، فخيبة الأمل والشعور بالإحباط والفشل قد أعاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، ألا وهو الوعي النهضوي الذي ما زال يملأ وجدان الضمير العربي. ومن القوميين العرب من عبّر عن هذه الأزمة تعبيراً مشبعاً بالعاطفة وحمّة الوجدان، كما هو الحال مع الاستاذ شاكر مصطفى الذي تساءل في ندوة له: «لماذا تطلّب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل، ودون جدوى؟» ثم أضاف قائلاً: «هذا السؤال المصيري، النازف كالجرح في ضمير كل عربي ملتزم، إذا كان ما يزال يأخذ يوماً بعد يوم أبعاداً مأساوية متزايدة فلأنه قد مضت على ارتطام هذه الأمة بالحضارة الحديثة وبمعطياتها وآلاتها سنون بعيدة بعيدة. كتلة الأقاليم العربية مضت عليها الفترة الزمنية الكافية لتكون في مستوى العصر وتكنولوجيته وفيضه الحضاري. معظمها على الأقل إنطلق قبل الصين التي بدأت منذ ربع قرن، بعضها قبل روسيا التي بدأت منذ سبعين سنة. ومع ذلك فهذه الأمم وصلت. كلها وصلت، بينما لم يصل أي اقليم عربي طليعي إلى شيء بعد. مأساوية السؤال إنما تنبع من إحتمالات الأجوبة عليه: فهل وصلت الأمة حقاً مرحلة الشيخوخة فهي إلى الإدبار والعقم الحضاري؟ أو أضاعت الطريق؟ وأنى الطريق؟ أم ثمة من الأمراض المعقدة في تكوينها العام، ما يشل المفاصل أن تسير السير الذي يقتضيه ايقاع العصر؟ تلك هي المسألة» .
ويأتي منظر قومي آخر هو الاستاذ محي الدين صبحي ليلاحظ أنه منذ القرن التاسع عشر - المدعو بعصر النهضة - وحتى يومنا هذا ومحاولات النهضة لا زالت تتكرر: «قامت مرة على يد محمد علي.. وفي مرة ثانية بدأت بين الحربين نهضة استهدفت التحديث حصلت خلالها أمور كثيرة: كان الغرب في عصر النهضة الصناعية الأولى، عصر البخار، فاجتاز تلك النهضة ودخل عصر الطاقة والكهرباء، ثم الثورة الإلكترونية، كما حدثت ثورات إجتماعية كثيرة أيضاً، بدأت بالثورة البلشفية وتلتها الثورة الصينية ومؤخراً الثورة الفيتنامية، ولم يستطع العرب أن ينجزوا أي نوع من أنواع الثورتين: العلمية أو الإجتماعية السياسية، ولم يستطيعوا أن يقيموا دولتهم القومية أو أن يقدموا الضمانات القانونية الضرورية لنشوء العمران». وأكثر من ذلك أن المسافة بين تخلف العرب وتقدم الغرب أخذت «تزداد ولا تنقص: في القرن التاسع عشر كانت المسافة بسيطة نسبياً بين المجتمع المصري والشامي وبين المجتمعات الغربية الصناعية.. كان العرب إلى حد ما على اطلاع بما يجري في العالم، وكانوا أكثر قدرة على محاكاته، أما الآن فالمسافة تتسع وتنظيم المجتمع يتعقد ومعطيات السياسة العالمية تتشابك، ويضيق على العرب شيئاً فشيئاً بحكم تصارع القوى» .
وهناك منظر عربي آخر عبّر عن مأساوية الوضع الذي نحن الآن فيه، وعن مخاوف المصير التي تهددنا، فكما يقول الاستاذ غالي شكري في مجلة (دراسات عربية، 1980): «ولعلنا نصاب بالهلع إذا تذكرنا أن المسافة الزمنية التي تفصل بين نهاية ازدهار الحضارة العربية الإسلامية الأولى وبداية النهضة الحديثة في القرن الماضي تبلغ حوالي ألف سنة، بما يثير تساؤلاً مروعاً هو ما إذا كنا قد دخلنا بالفعل مرحلة انحطاط جديدة ستدوم ألف سنة أخرى. ولكن الجواب الأكثر ترويعاً هو أنه إذا كان ممكناً لأسلافنا أن يناموا كأهل الكهف عشرة قرون، فإن العصر الجديد يخلو من الكهف ويستحيل فيه النوم الحضاري الطويل، بل هو يضعنا في مفترق طرق حاسم لا رجعة فيه: فإما التقدم وإما الإنقراض، ولا طريق ثالث أو وسط بينها» .
أما الدعوة إلى النهضة الإسلامية فقد اجتازت مرحلتها إلى التطبيق والثورة منذ الربع الأخير للقرن العشرين، لكن مع ذلك فلا زال المخاض لم يحسم الموقف لصالح النجاح أو الفشل.
إن هذه التجربة الجديدة جاءت على عقب تجربتين فاشلتين مرّ بهما العالم الإسلامي، إحداهما التجربة القومية العربية بعد منتصف القرن العشرين، والاخرى التجربة العلمانية التي مرت بها تركيا بعد إنتهاء الخلافة أوائل هذا القرن. الشيء الذي يعني أن هناك المزيد من المخاوف من الوقوع في نفس الفشل الذي لاح كلا التجربتين القومية والعلمانية.
وإذ لا نكتم الإعلان عن مخاوف الوقوع في الفشل وما يترتب عليه من آثار باهضة، فإنا نراهن على أن حل مشكلة كهذه يرتبط أساساً بعلاج طبيعة التفكير الذي هيمن علينا مما له علاقة وثيقة بنمط الإشكالية التي تستحوذ على عقولنا. إن التعرف على هذه الطبيعة سيدلنا على إدراك العلة الأساسية وراء الجمود والسكون الذي اجترته حضارتنا طيلة قرون، بل أنه كذلك سيضيء لنا الطريق المناسب للتحرر والخلاص.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحركة العقلية الاسلامية وتطوراتها
- الصراع والتكامل بين الفلسفة التقليدية والعرفان
- الجابري والخلط بين مفكري اللحظة المغربية
- آليات قراءة النص الديني
- صدور كتاب جديد ليحيى محمد بعنوان منطق فهم النص
- علم الطريقة وفهم الخطاب الديني
- مقارنة بين العقل المثقف الديني والعقل الفقيه
- منطق السنخية والتنظير الفلسفي داخل الحضارة الإسلامية
- مع مشروع نقد (نقد العقل العربي)
- الفهم الديني: سننه وقوانينه وقواعده ومستنبطاته
- القطيعة بين إبن سينا وأرسطو (قراءة في مشروع المفكر محمد عابد ...
- ابن رشد وعلاقة الفلسفة بالدين


المزيد.....




- فن الغرافيتي -يكتسح- مجمّعا مهجورا وسط لوس أنجلوس بأمريكا..ك ...
- إماراتي يوثق -وردة الموت- في سماء أبوظبي بمشهد مثير للإعجاب ...
- بعد التشويش بأنظمة تحديد المواقع.. رئيس -هيئة الاتصالات- الأ ...
- قبل ساعات من هجوم إسرائيل.. ماذا قال وزير خارجية إيران لـCNN ...
- قائد الجيش الإيراني يوضح حقيقة سبب الانفجارات في سماء أصفهان ...
- فيديو: في خان يونس... فلسطينيون ينبشون القبور المؤقتة أملًا ...
- ضريبة الإعجاب! السجن لمعجبة أمطرت هاري ستايلز بـ8 آلاف رسالة ...
- لافروف في مقابلة مع وسائل إعلام روسية يتحدث عن أولويات السيا ...
- بدعوى وجود حشرة في الطعام.. وافدان بالإمارات يطلبان 100 ألف ...
- إصابة جنديين إسرائيليين بجروح باشتباك مع فلسطينيين في مخيم ن ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - حضارة بين حضارتين(مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارتين اليونانية والغربية)