أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - غازي الصوراني - كيف تقدم الجبهة الشعبية غسان كنفاني ؟















المزيد.....



كيف تقدم الجبهة الشعبية غسان كنفاني ؟


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 3059 - 2010 / 7 / 10 - 10:10
المحور: القضية الفلسطينية
    


محاضرة  أ.غازي الصوراني بعنوان : كيف تقدم الجبهة الشعبية غسان كنفاني ؟
في الندوة المعقودة  بمناسبة الذكرى الثامنة والثلاثين لاستشهاد غسان كنفاني
(قاعة الهلال الأحمر الفلسطيني – غزة – 8 / تموز/ 2010)
 
الأخوات والإخوة الأعزاء ...الرفيقات والرفاق الأعزاء...
 
في ذكرى غسان ، وفي رحاب هذا اللقاء في ظروف الحصار والانقسام والهبوط، سأبدأ كلمتي بهذا السؤال .. ماذا لو كان غسان كنفاني لا يزال على قيد الحياة ؟ "يعتكز عصا عادية ويحدق في خيبة غير عادية"، ماذا لو عاد إلى الوطن وهو على هذه الحالة من الانقسام وتشتت الهوية والشعب والقضية ، وألقى كلمة في جمع  لا يعترف بأعماله ولا يستلهمها أو يهتدي بها حتى لو عرفها..!؟ .
لقد باتت قضيتنا اليوم محكومة –عموماً- لقيادات سياسية استبدلت المصلحة الوطنية العليا برؤاها وبمصالحها الخاصة ، ففي ظل الانقسام والصراع بين الأخوة الأعداء ، يحتفل عدونا الإسرائيلي بقيام دولته، ومرة أخرى نستعيد نحن الفلسطينيون في الذكرى الثانية والستين للنكبة ، أطياف ذكريات ماضية ، ولكن في وضع مؤسف عنوانه "تزايد الصدام بين قطبي الصراع" وانسداد الأفق السياسي بالنسبة للدولة أو المشروع الوطني لا فرق ، والسؤال هو: ما هي تلك الغنيمة الهائلة التي يتنازع قطبي الصراع المتصادمين عليها؟ لا شيء سوى مزيد من التفكك والانهيارات والهزائم .. فالحرب بين الفلسطيني والفلسطيني لن تحقق نصرا لأي منهما ، وإنما هزيمة جديدة لمن يزعم انه انتصر ، يؤكد على هذا الاستنتاج الواقع الراهن الذي يعيشه أبناء شعبنا في الوطن والشتات .
وفي مثل هذه الأوضاع المختلةِ والمفاوضات العبثية  فإن الحديث عن دولةٍ فلسطينيةٍ ذات سيادة كاملة على الأراضي المحتلة 67 نوع من الوهم ولا حل سوى في النضال القومي التحرري الديمقراطي من أجل استرداد حقنا التاريخي وإقامة فلسطينَ الديمقراطية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد ، انطلاقا من أن الصراعَ هو عربيٌ صهيونيٌ بالدرجة الأولى ، شرط استناده إلى حركة ثورية قومية عربية تتجاوز أنظمة الخضوع والذل والارتهان الحاكمة في بلادِنا حتى اللحظة، رغم إدراكِنا العميق بأن المشوارَ ما زال طويلاً وشاقاً ،فبعد مرور حوالي اثنين وستين عاما على "دولة إسرائيل" ، لا يزال الفكرُ السياسي الفلسطيني في غير مكانه المطلوب .
 
وبالتالي فإن الحديثُ عن غسانَ الكاتبِ الروائي المناضلِ والمثقفِ الجبهاوي –كما الحديثِ عن الحكيمِ ووديع وأبو علي مصطفى ومحمد الأسود وأحمد سعدات وكلِ الثوريين- لا معنىً له ولا قيمة إن لم يكن تحريضا ثوريا ًوديمقراطيا من أجل تغيير وتجاوز هذا الواقع الفلسطيني والعربي الذي بات اليوم خاضعاً ومرتهناً للتحالف الامبريالي الصهيوني ، لكن هذه الخطوة ستظل بلا معنى ان لم نبدأ في التحريض عبر النضال الديمقراطي الداخلي على طرفي الانقسام ، فتح وحماس، اللذان أسهما فيما وصلت إليه أوضاعُنا الفلسطينيةِ من طريقٍ وأفقٍ مسدودٍ على كافةِ الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، حيثُ بات من المؤكدِ لكم ولكلِ أبناءِ شعبِنا في الوطنِ والمنافي ان استمرارَ هذا الانقسام هو خدمةٌ صافيةٌ للعدوِ الصهيوني مدعوماً من ألّدِ أعداءِ الفلسطينيين والعرب وكلِ فقراء العالم ،الولاياتُ المتحدة الامريكية ..لذلك أتوجه من هنا من قطاعِ غزةَ ..سفينة نوحٍ الفلسطينية الأم الولادة للهوية الوطنية ..الى كل أبناءِ شعبِنا وقواه السياسية والمجتمعية في كل ِمدن ومخيمات الضفة والقطاع وكل مخيمات المنافي واللجوء ان يتوقفوا عن صمتهم وأن يبادروا إلى ممارسة الضغط الشعبي الجماهيري عبر الاعتصامات والمظاهرات بشعارٍ موحدٍ هو "انهاءُ الانقسامِ" والعودة ُالى الاحتكام للشعب والدستور الفلسطيني ووثيقةُ الوفاق الوطني، اذ لا معنىً ولا قيمةً او مصداقية لأي نضال ٍوطني سياسي أو كفاحي في ظل هذا الانقسام.ولا امكانية لتحقيقِ أي برنامج ٍتنموي او اجتماعي او اقتصادي او صحي او تعليمي في ظل الانقسام ..فهو أولويةُ الأولويات ولا معنى او مصداقية أو امكانية لأي هدفٍ فلسطيني في الضفة او قطاع غزة او المنافي دون الخلاص من هذه الحالة الانقسامية التي كرست عوامل َالقلقِ والاحباطِ واليأس في صفوف أبناءِ شعبنا في كل أماكن تواجدِه في الوقت الذي يستمر الصراعُ بين فتح وحماس على المنافع ِوالمصالح الفئوية الضيقة في كيفية اقتسام سلطةَ الحكم الاداري الذاتي بينهما وفق برنامجين متناقضين، ما يعني بقاء الانقسام وتزايد مظاهر الاحباط واليأس في صفوف أبناء شعبِنا ، مع تزايد عدوانية العدو الصهيوني وشروطه المذلة عبر مفاوضات عبثية لن تحقق سوى المزيد من التفكك وانسداد الآفاق  ... لذلك فإن من واجب كل فلسطيني وطني مخلص ، ومن واجب من كل القوى الوطنية التي لا مصلحة لها  في الانقسام أن يبادروا جميعاً إلى تأطير الحركة الجماهيرية لكي يمارسوا معاً كل أشكال الضغط الشعبي المتصل حتى انهاء الانقسام ، لكي نستعيد معا صمودَ ومقاومةَ شعبِنا لعدوِنا الصهيوني باعتبار ان تناقضَنا التناحري الوحيد لن يتوجه َالا اليه ، فلنبدأ أيها الاخوة بالاستعدادِ والتحضير لهذا الحراك الجماهيري ، الكفيل وحده  -عبر المظاهراتِ والاعتصامات - بإنهاءَ هذه الحالة من الانقسامِ كمدخل وحيدٍ لصمود شعبنا ومقاومته ووحدته وتعدديته الديمقراطية .
أعودُ للحديث عن المثقف غسان كنفاني ، وهو حديث يحملُنا إلى رؤية ِالجبهة منذ تأسيسها للثقافة والمثقف، التي ترى أن الثقافةَ َهي بالمعنى العام إنتاجٌ اجتماعي ، وهي بالمعنى الخاص القدرُ من المعرفةِ الذي يتسلح به الإنسان عموماً – وعضوُ الحزب الثوري خصوصاً-  في مواجهةِ كلٍ من الطبيعةِ والمجتمع من أجلِ تطوير قواهُ المنتجةُ  وعلاقاتُه الإنتاجيةُ و تطويرِ وعيُه هو نفسه، وفي ضوء هذا التعريف ، فإن الثقافةَ بالنسبة لرفاقِنا في الجبهةِ هي : جملةُ ما يستوعبُه ويراكمُه ويبدعُه هذا الرفيقُ او ذاك على صعيدِ الفلسفةِ الماركسية ومنهجِها ، والتاريخِ الوطني والقومي من ناحية ، وعلى صعيدِ العلم ِوالأدبِ والفنِ بالارتباط ِالوثيقِ بمجالاتِ الحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصادية ِوكافةِ مجالاتِ الحياةِ المادية والروحية  من ناحيةٍ ثانية ، من اجل استخدامِها  للإجابةِ على أسئلةِ الجماهير الشعبية المطروحة على الجبهة  في كل مرحلة ٍمن مراحل مسيرتِها الثوريةِ من أجل التحررِ والديمقراطيةِ والتقدم ، في إطار العلاقة الجدليةِ بين الأهدافِ الوطنيةِ والقومية ، وهنا تتجلى خصوصيةُ الواقعِ العربي وتخلفِه التاريخي ، واستتباعِه وخضوعِه الراهن عبر الشرائح الكومبرادورية البيروقراطية الحاكمة للنظام الامبريالي ، كما تتجلى أيضا في دروسِ وعبرِ الشهيد غسان كنفاني الذي أدرك وناضل من أجلِ تغيير هذا الواقع من خلال استلهامِه الخلاّقِ للثقافة الثورية التقدمية بكل أبعادِها ومكوناتِها العلمية، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية وأهميةِ تكريسِها في صفوف رفاقِه الجبهاويين ، إن رؤيتَه هذه للثقافة تبلورت في إطار التزام الجبهة بالثقافة العضوية وبالمثقف العضوي دون تجاوزِ الإبداعِ الأدبي أو الفكري أو الفني لدى هذا المثقفِ الحزبي أو ذاك، وهنا بالضبط ترسخت العلاقةُ الجدليةُ التبادلية بين شهيدِنا غسان وجبهتِه الشعبية على قاعدة الفهم المشترك لدور المثقف العضوي الذي يمكننا تعريفَه وتحديد َمعالمِه وفقَ رؤية الجبهة ، بأنه : العضوُ المنتمي للحزب الماركسي الثوري ، هو الحامل ُلرسالةٍ، لموقفٍ، لرؤيةٍ نظرية مستقبلية من ناحية وهو أيضاً ، "الداعيةُ" "الاختصاصيُ" "المٌحَرِّضُ" "صاحبُ الايدولوجيا" أو حاملُها، المدافعُ عن قضايا وتطلعاتِ الجماهير الشعبية ، الملتزمُ بالدفاعِ عن قضيةٍ سياسية، أو قيم ثقافية ومجتمعية أو كونية، بأفكاره أو بكتاباته ومواقفه تجاه الرأي العام، هذه صفتُه ومنهجيتُه، بل هذه مشروعيتُه ومسئوليتُه تجاه عملية التغيير التي يدعو إليها.
لذلك فإن الجبهةَ الشعبيةَ حينما تقدم غسان كنفاني ، لا ترى أي انفصام بين غسان المثقف المبدع  حاملِ الرسالة، وغسان المثقف العضوي الملتزم تنظيمياً بمبادئِها وأهدافِها، بحكم تقاطع أو توحد الرؤيتين في نقطةِ التقاءٍ هامةٍ، وهي الوظيفةُ النقديةُ للمثقف، والوظيفةُ النقدية هنا تتخطى التبشيرَ أو الرسالةَ إلى الثورة والتغيير وتجاوز الواقع عبر محددين رئيسيين هما : قوةُ رسوخِ ووضوحِ الهويةِ الفكريةِ ، الماركسية ومنهجِها المادي الجدلي من ناحية ، وقوة ِرسوخ ووضوح الانحياز الطبقي للكادحين وكل المستغَلين والمضطهدين من ناحيةٍ ثانية ، وبهذا المعنى لابد من أن أشير إلى انحسار دور هذا المثقف العضوي الماركسي في بلادِنا بصورةٍ مريعةٍ ومقلقة، في هذه المرحلة التي تغيرت فيها مراتبُ القيم ِ"فتقدمت قيمُ النفاقِ السياسي والتلفيقِ الفكري والمصالح الشخصية الانتهازية والفردانية، حتى أصبح لها مُنظّروها ومشرّعوها الذين صنعتهم انساقُ وآلاتُ السلطة أو النظام الرسمي ، أو أولئك الذين صنعتهُم وأفسدتهُم منظمات NGO S  كما هو الحالُ في وضعِنا الراهن في فلسطين –على سبيل المثال وليس الحصر- عبر مروجي ما يسمى بثقافةِ السلام والسلام الاجتماعي والسلام الاقتصادي والحكم الصالح ، إلى آخر هذه المفاهيم التي تم تصنيعُها وتركيبُها خصيصا للتداول في بلادنا وغيرها من البلدان المتخلفة من اجل التشكيك في صحةِ أفكارِ فصائل وأحزاب اليسار وتفكيكها وتخريبها من داخلِها بما يضمن تكريسَ تبعيةِ هذه البلدان واستمرارِ تخلفِها وخضوعِها للنظام الامبريالي ، ولذلك نقول إلى كلِ من يرفع شعارَ الليبرالية الجديدة في بلادِنا:  إن النيو - ليبرالي ليس ديمقراطياً ولا حتى ليبرالياً بل تختزلُه التجربة ويختزلُ ذاتَه إلى مجردِ ممسوسٍ بلوثةِ عداءٍ فَقَد بريقَه لكل ما هو تقدمي او ديمقراطي ثوري.
لقد كان غسان – وما زال– تجسيداً للمثقف العضوي الحداثي والعقلاني التنويري والوطني والقومي الماركسي في آن واحد ، لكنه لم يكن صاحب رؤية أحادية معرفية يقينية ، قومية أو ماركسية يلتزم بجمود نصوصها بقدر ما كان مبدعاً في أدبه الثوري عبر تأويله للنصوص وتفسيره لها بما يقترب أو يتناسب أو يتطابق مع الواقع المعاش، فلم يكن ناطقاً باسم النص بل كان ثورياً يسعى إلى تغيير الواقع عبر وعيه له واستخدامه للمنهج المادي الجدلي في اكتشافه من جهة وعبر قناعته الموضوعية الثورية بمبادئ وأهداف الجبهة الشعبية من جهة ثانية.
 
هكذا أدرك غسان مهمة المثقف العضوي التي جسدها في انتماءه للجبهة والتزامه الخلاق بهويتها ومبادئها ومواقفها الوطنية والقومية والأممية ، مدركاً أن مهمة المثقف هي ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاماً بما ينبغي أن يكون عبر وظيفته النقدية بالمعنى الموضوعي ، وهي تتناقض كلياً مع وظيفة التبرير ، أو الاعتراف بالأمر الواقع ، هنا يتداخل عضويا مفهوم المثقف مع مفهوم الطليعة بالمعنى المعرفي والسياسي التي ترى الالتزام بأهداف النضال الوطني ضمن الإطار القومي تجسيداً لرؤيتها .
ولعل ذلك ما دفع "جرامشي" إلى التأكيد على دور "المثقف المتمرد" ، أو المثقف العضوي الملتزم، فالمثقف بالمعنى الحقيقي هو الذي لا يرتضي بالأفكار السائدة أو المألوفة، هذا هو المبدأ الذي جسده غسان حتى لحظة استشهاده .
لذلك كله ، ينبغي علينا في الجبهة الشعبية، التمييز بين من يمارسون الفكر من أجل تغيير الواقع والثورة عليه، وبين من يمارسون تحطيم الفكر والوعي حفاظاً على مصالحهم وتبريراً للنظام أو السلطة أو الواقع البائس الذي يحتضنهم .
فما قيمة الثقافة التي لا تتعاطى وتتفاعل مع الهموم الوطنية والطبقية للجماهير الشعبية، وما قيمة المثقف الذي لا ينخرط في العملية التغييرية ؟ فإذا ما تفككت وتآكلت أو تراجعت جبهتنا الثقافية وأقصد بذلك بوضوح ، هوية حزبنا الفكرية ، الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، فإننا لا محاله سنخسر كل الجبهات الأخرى ، السياسية والتنظيمية والعسكرية الكفاحية .. تلك هي كلمات القائد الراحل جورج حبش الذي أدرك أهمية الجبهة الثقافية في الواقع العربي المهزوم ، ليس كجبهة أخيرة فحسب ، بل أيضا كمنطلق لرفاقه ولكل الماركسيين القوميين العرب في مواصلة نضالهم واستعادة دورهم من اجل الثورة على هذا الواقع المهزوم وتغييره ، استجابة لنداء وتطلعات شعبنا وشعوبنا العربية وشوقها الكامن من اجل الحرية والنهوض والوحدة في ظروف تحولت فيها هذه الأمة إلى نعاج تنتظر الذبح..! أليس هذا ما آلت إليه هذه الأمة بسبب أنظمة فقدت وعيها الوطني والقومي بعد أن تحولت –بحكم مصالحها الطبقية- إلى أداة في خدمة التحالف الامبريالي الصهيوني ..؟ إن رفضنا في الجبهة الشعبية لهذا الواقع لن يجد مصداقيته إلا في الممارسة الثورية المدركة – وبوعي عميق- بمبادئ وهوية ودور حزبنا الطليعي في هذه المرحلة تأسيساً للمستقبل، شرط أن نعمل بعزيمة وثبات على الخروج من حالة الأزمة التي تعيشها الجبهة اليوم صوب النهوض الذي يتطلع إليه كل رفاقنا، فبالرغم من التجربة الطويلة والغنية، وما جسدته الجبهة الشعبية من نهج ثوري مميز، إلا أنها تعرضت للعديد من الاهتزازات الداخلية والخارجية التي لا يتسع المجال هنا للاستفاضة بها، ولكن أهم هذه الاهتزازات هو حالة التراجع الفكري والسياسي والتنظيمي الذي تشهده راهنا ، لكننا واثقين بإمكانات وقدرات رفاقنا وإيمانهم بهويتهم الفكرية ومنطلقاتهم الوطنية والقومية من الخروج من هذه الأزمة صوب النهوض .
ولذلك نحن مع غسان حينما يقول ما معناه :  لن يكون الكفاح الفلسطيني مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم، ولن يكون القائد الوطني الماركسي جديراً باسمه إلا إذا كان واجبه التحريض على هذه الإرادة وخلق أشكال سياسية بلا مراتب وبلا رعية وأعيان أو محاسيب أو شلل داخل الحزب ، إذ أن استمرار هذا الوضع لن ينتج سوى قيادة رخوة عاجزة وغير متجانسة ستدفع بالحزب إلى مزيد من التفكك والخراب .
وهنا أود التأكيد على أهمية انحياز المثقف الماركسي لمصالح وأهداف الطبقات الشعبية الفقيرة، إذ أن هذا الانحياز الواعي والمسئول هو الأساس الأول في تحديد ماهية موقفه السياسي، ورؤيته الفكرية أو الأيدلوجية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية.
 وفي هذا السياق أشير إلى ما اسميه الهوّة أو الفجوة التي اتسعت بصورة غير مسبوقة بين أحزاب اليسار من جهة والجماهير الفقيرة من العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة من جهة ثانية، في مقابل نشاط وتوسع أحزاب الأنظمة الحاكمة عموماً وأحزاب التيار الديني، الإخوان المسلمين وحركة حماس خصوصا،ً وهي ظاهرة تستدعي التأمل، خاصة وان حركات وأحزاب الإسلام السياسي رغم إقرارنا بتناقضها مع العدو الصهيوني ورفضها الاعتراف بدولته ، إلا انها -كما هو حال الأنظمة الحاكمة- لا تتناقض جوهرياً مع النظام الرأسمالي ، بل إن منطلقاتها السلفية ورفضها الاحتكام إلى العقل والاستنارة الدينية ، يخدم –بصورة مباشرة وغير مباشرة- في استمرار حالة احتجاز التطور والتبعية والتخلف في إطار الصراع مع قوى ومفاهيم النهضة و العقلانية والحداثة العلمانية في بلادنا، الأمر الذي يفرض –كضرورة تاريخية راهنة ومستقبلية – أن تتحمل قوى وأحزاب اليسار مسئولياتها في المجابهة الديمقراطية الرافضة لكل مظاهر وأدوات التخلف والتبعية ، وإعادة بناء أحزابها وفق منطلقات سياسية قومية وأيدلوجية ماركسية، كمدخل وحيد لاستعادة دورها وقيادتها لحركة التحرر القومي والديمقراطي من أجل تجاوز وتغيير هذا الواقع المهزوم صوب مستقبل النهوض القومي والتحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية .
على أي حال لا بد أن أتدارك إصراري على مركزية الموقع الطبقي وأهميته في صوغ المثقف وتحديد ماهيته ، لأقول أو أتقاطع مع شمولية مفهوم المثقف التي تتضمن الموقع الطبقي بالإضافة إلى مواقع أو رؤى إبداعية أخرى .. مثل المثقف المتخصص في مجال العلم أو المجتمع والعلوم الإنسانية،  لكنني في كل الأحوال أرى نفسي منحازاً للمثقف وفق ارتباطه بالموقع الطبقي... فهذا هو الأصل عندي رغم أي خلاف بيني وبين الآخرين في هذا الجانب .
أما بالنسبة لاجتهادي المنحاز لشمولية مفهوم المثقف، فإن الشمولية التي أقصدها هنا لا تتناقض مع التعريفات التي عبّر عنها مجموعة من المفكرين في تعريفهم للمثقف بأنه " هو الإنسان الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع" أو هو المفكر المتميز المسلح بالبصيرة كما يقول ماكس فيبر، أو هو الذي يمتلك القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي والسياسي أو هو المفكر المتخصص المنتج للمعرفة، وهي تعريفات عامة لا تحرص على تحديد الزاوية أو الموقع الذي ينطلق منه ذلك المثقف في ممارسة النقد الاجتماعي أو السياسي أو في صياغته للنظرة الشاملة للتغيير .. والزاوية التي اقصدها هي الموقع الطبقي بالتحديد (عبر الالتزام التنظيمي بالحزب الماركسي) ، فهو الغاية والقاعدة المنتجة والمحددة لكل رؤية فكرية ثقافية أو لكل ممارسة نقدية .
وعلى ضوء ذلك ، فإننا نتفق تماماً مع جرامشي –كمفكر رائد- الذي ميز بين نوعين من المثقف وهما : المثقف العضوي، والمثقف التقليدي .
فالمثقف العضوي (أو الحزب بالمعنى الجمعي) عند "جرامشي" هو الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المٌشَكّلة من العمال والفلاحين الفقراء ، وهذا ما أدركه غسان ورفاقه في الجبهة منذ تأسيسها ، أما المثقف التقليدي فهو الذي يوظف أداوته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الطبقة أو الكتلة التاريخية السائدة منذ (العبودية والإقطاعية) أو عصر البرجوازية كما في البلدان الرأسمالية الحديثة، أو في البلدان التابعة والمتخلفة حيث يحتدم الصراع على السلطة والمصالح ، بين جناحي البورجوازية الرئيسيين ، وكلاهما يحمل نفس المواصفات والسمات الجوهرية التي تؤكد على تبعية وتخلف ورثاثة هذه البورجوازية في بلادنا ، ولذلك فإن الصراع القائم بين هذين الجناحين ليس جوهريا او نقيضا للرأسمالية او النظام الامبريالي ، بل هو صراع شكلي بين الجناح الليبرالي الرث –في السلطة والانظمة الحاكمة- المتواطئ والخاضع للشروط الامريكية ، وبين الجناح الآخر المحمول برؤية تراثية دينية نقيضه لليبرالية والديمقراطية دون ان تشكل خطرا او نقيضا لجوهر النظام الرأسمالي وحرية السوق والتجارة او الاقتصاد الحر كما هو الحال في بلادنا في إطار الصراع على السلطة والمصالح بين فتح وحماس ضمن هويتين متناقضتين وبرنامجين متناقضين من حيث الشكل ، لكنهما من حيث الجوهر ليس هناك ثمة تناقض أساسي مع النظام الرأسمالي العالمي وأدواته في بلادنا ، ويبدو أن السبب في ذلك يعود بدرجة أساسية إلى التفكك البنيوي الداخلي للحركة الوطنية عموما ولأحزاب وفصائل اليسار خصوصا التي تعيش اليوم حالة من غياب الدافعية الذاتية وغياب الوعي بالواقع وبالنظرية الثورية من ناحية وعجز وفشل هذه الفصائل والأحزاب بسبب أزماتها القيادية وضحالة الوعي في صفوف كوادرها وقواعدها من ناحية ثانية، الأمر الذي أدى إلى تراكم متغيرات طبقية وانتهازية معاً في صفوفها ، وإلى الإسهام في تكريس التبعية والتخلف والفساد السياسي الاقتصادي والإداري الذي خلق بدوره مناخاً ملائماً لاتساع وتضخم دور تيارات الإسلام السياسي .
 
ولذلك نرى أن أعمال غسان كنفاني تضمنت رؤية استشرافية وواقعية استدعت التحريض على هذا الواقع المأزوم بمثل دعوتها الصريحة إلى المقاومة ، فهي رؤية ثورية مختلفة عن تلك التي تضمنتها العديد من أعمال الروائيين العرب الذين نقدر دورهم في تشخيص الواقع الاجتماعي دون الدعوة الصريحة إلى التغيير والثورة كما هو الحال عند محمود تيمور وتوفيق الحكيم و نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبدالله على سبيل المثال ، ذلك إن روايات غسان كانت مسكونة بروح التحريض والتغيير الثوري، وهي بالتالي تقاطعت مع روائيين تقدميين من أمثال حنا مينا وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس ويوسف القعيد وعبد الرحمن منيف وحيدر حيدر وإلياس خوري بناحيتين أساسيتين [1]:
هناك أولاً وحدة المعاناة الشخصية والوطنية والمجتمعية بحيث نشهد كما يقول – حليم بركات- توجهاً نحو الدمج بين هوية الفرد وهوية المجتمع ، فتصبح الأماني والأزمات والانتصارات والهزائم والآلام والأفراح واحدة ، لان قضية المجتمع هي قضية الإنسان، والعكس صحيح ، فيصبح خلاص الأول هو خلاص الآخر، وهنا بالضبط تأثر غسان بالثورة كما عبرت عنها مبادئ الجبهة الشعبية وقبلها حركة القوميين العرب ، وكان إبداعه الأدبي نتاجاً لذلك التأثير .
وهناك ثانياً : مسألة المشاركة الفعلية والخوض في المعارك الوطنية الحقيقية التي يعيشها الشعب إلى جانب المعارك التي يعيشها المجتمع ، مما يؤدي لحصول تحول في المضمون وليس في الأسلوب فحسب، وفي مثل هذه الحالة تنبثق الأفكار والمشاعر من صميم الواقع المعيش ، وليس من مفاهيم مجردة، فقد شدد غسان في دراسته " العمل الفدائي ومأزقه الراهن عام 1970 " على ضرورة الترابط العضوي بين النظرية والممارسة والتنظيم وبين البعد القومي والبعد الطبقي، وكل منهما مسألة محورية ، كما انتقد التنظيمات الفلسطينية قائلاً بأنها " أضحت بعد سنوات قليلة من نشوئها مكتبية بيروقراطية"[2].
من هذه الناحية ، تشترك رواية التغيير الثوري –لدى غسان- مع رواية التمرد الفردي برفضها الثقافة السائدة وبتشديدها على أهمية الإبداع الفني في الكتابة الروائية. غير انها تختلف في الوقت ذاته عن رواية التمرد الفردي بالتشديد على القضايا السياسية والخلاص المجتمعي والوقوف إلى جانب الطبقات المسحوقة ، ما يعني أن الدعوة للنفير الثوري عنده ، انطلقت من اهتماماته الذاتية التي توحدت مع رؤية الجبهة الشعبية السياسية التحررية ، الوطنية والقومية من ناحية والاجتماعية الطبقية من ناحية ثانية .
فقد تناول غسان الواقع الفلسطيني ، بمختلف جوانبه وتناقضاته وتعقيداته ، والتزام في نصوصه الروائية بتشخيص وتفكيك معظم جوانب المعاناة السياسية، والاجتماعية ، والإنسانية، للفلسطيني، دونما أن يشكل ذلك الالتزام الجبهاوي لديه قيداً على حريته الإبداعية وتعامله النقدي والتحريضي للواقع حيث اتخذت مضامين رواياته أشكالاً وصوراً جديدة وفريدة عكست مخيلته التي جسدت فنياً مبادئه السياسية التي عاش واستشهد في سبيلها .
هكذا كانت رواياته صورة خلاقة عن قراره الذاتي ربط مصيره الشخصي –بشكل مباشر وغير مباشر - بمصير شعبه كتابة وعملاً ، فتوحدت معاناة شعبه بمعاناته الخاصة، وتمثل في صوته ، صوت الفلسطينيين المقتلعين – المنفيين – المسحوقين – المكافحين . لقد تمثل في صوته خاصة ، صوت الجماهير الذين دفعوا غالياً ثمن الهزائم بحياتهم قبل ممتلكاتهم القليلة. ليس غريباً ، إذاً ، أن نكتشف في كتاباته المكونات المغفلة في المعاناة الفلسطينية. ففي روايته "رجال في الشمس" يظهر بشكل فريد كيف ان الفلسطيني مهدد في صلب حياته بالموت من دون أن يسمع له صوت مهما دق ناقوس الخطر، لأنه مقتلع وبلا وطن لا يستطيع أن يكون عزيزاً في أي بلد آخر ، حتى ولو كان بلداً عربياً ، بل خاصة في البلدان العربية في ظل الأنظمة السائدة بما فيها النظام الفلسطيني نفسه "[3].
وبعد حوالي عامين على هزيمة حزيران 1967 ، ينشر غسان روايته " أم سعد" التي يحرض فيها الفلسطيني مجدداً على التحرر الذاتي الداخلي بما يمكنه من التحرر من السجن الكبير الذي فرضه النظام العربي على الفلسطينيين بعد النكبة ، ففي هذه الرواية نلاحظ وعي غسان لحياته بأنها سجن في حد ذاتها ،  فيتساءل : " أتحسب أننا لا نعيش في الحبس ؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب ؟ الحبوس أنواع .. المخيم حبس ، وبيتك حبس ، والجريدة حبس والراديو حبس .. أعمارنا حبس ، والعشرون سنة الماضية حبس ... أنت نفسك حبس"[4] إن بداية مثل هذا الوعي هي بداية الدعوة من أجل التغيير الثوري، في ضوء إدراك الفلسطيني "أن التخلص من الوحل في المخيم لا يكون بجرفه كلما هطل المطر ، بل بسد مزراب السماء، ذلك أن الاكتفاء بجرف الوحل هو تكيف مع الواقع التعس وتصرف خضوعي انسجامي ، أما سد مزراب السماء فتحول راديكالي باتجاه التعامل مع مصادر المشكلة التي لا تحل من دون تغيير الواقع الذي نشأت عنه " [5].
 
إن أعمال غسان كنفاني ورواياته التي حرصت على إعادة صياغة الواقع ، لم تكن مجرد عمل فني قائم بذاته، أو انعكاس للبنية الاجتماعية والنشاطات والقيم والمعتقدات فحسب، بل هي أيضاً نتاج فني فريد لعملية الدمج الخلاق بين إبداعه والتزامه وانتمائه الحزبي للجبهة حيث تجلى هنا المعنى الثوري لمفهوم الالتزام في الرواية الأدبية كما هو حال غسان في كتاباته السياسية الأخرى ، حيث استطاع أن يكيف موهبته وإبداعه الذاتي مع قناعاته الثورية كما عبرت عنها وجسدتها الجبهة الشعبية، فجاءت رواياته تعبيراً عن مكنوناته الإبداعية التي حملت في نصوصها خطاباً متنوع المضامين والمفاهيم الثورية والتحريض المتفاعلة مع معاناة شعبه والتي شكلت في نفس الوقت "نوعاً من التنفيس أو التطهر الذاتي والمعرفي العام"[6].
إن الرواية كعمل فني أدبي -عن غسان وغيره من رواد الأدب المفهوم- لا تعترف بتجزئة المعرفة والفصل بين الفن والفلسفة والعلم. انها منظور معرفي ثوري يقوم على البحث في طبيعة المجتمع والإنسان كبقية الاختصاصات المعرفية، فلا تقل عن العلم والفلسفة دقة وعمقاً واكتناهاً لأسرار الحياة وأقانيمها .
لكن غسان – كما هو حال الروائيين العرب التقدميين الثوريين – كان مدركاً لسمات وتعقيدات المجتمع العربي المعاصر من حيث تخلفه وتبعيته وعجزه عن مواجهة تحديات تاريخية مهمة ،  فهو مجتمع محكوم لأنظمة طبقية لا هم لها سوى مصالحها المتماهية مع مصالح المشروع الإمبريالي بما يجعل من الشرائح الاجتماعية الفقيرة حائرة بين الخوف والقلق واليأس والاستسلام أو التمرد والثورة ، من هنا كانت روايات غسان نوعاً من تحدي مظاهر القلق واليأس ، محرضة على التغيير والثورة ، وفي هذه النقطة بالذات تتجلى الدلالات الثورية لرواياته التي كانت وما زالت – بمثابة بيانات ثورية إبداعية تداولها قراءه من المثقفين والجمهور عموماً ورفاقه خصوصاً في حياته بمثل احرازهم على الاحتفاء بها وبه كل عام بعد استشهاده .
فبمثل ما حملت رواياته روحاً نقدية وتحريضية على الواقع المعاش ، فقد التحمت عبر نصوصها – بصورة مباشرة أو غير مباشرة- مع روح مبادئ ووثائق حزبه الثوري .. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، في إطار التحديات والأحداث التاريخية التي مر بها والتي أدت إلى ولادة روايات غسان وأدب وشعر المقاومة، شعبنا الذي انشغل بموضوعات وقضايا الثورة والتحرر والتحرير والصراع الطبقي والتمرد ، كانت بالنسبة لغسان كنفاني نوعاً من العلاقة الجدلية الرائعة بين أيديولوجيا الجبهة وهويتها الماركسية القومية من ناحية وبين تحديات الواقع بكل مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية من ناحية ثانية، ولم يكن ذلك غريباً على الروائي المناضل الحزبي غسان ، فلم يكن بإمكانه ان يكون جزءاً من هذه الصورة الاجتماعية المحكومة بالمعاناة والظلم والتشرد دون أن يهتم ومن ثم يلتزم جبهاوياً بقضية التحول الثوري وانحيازه الواضح إلى جانب المضطهدين وكل الكادحين الفقراء من أبناء شعبه ليس ذد العدو الصهيوني أو ضد القوى الرجعية الحاكمة فحسب، بل أيضاً ضد الثقافة الرجعية الرخيصة السائدة وضد التيارات التقليدية السلفية ، مؤكداً بذلك انحيازه الواعي مع ثقافة التنوير والحداثة والعقلانية والثورة على كل مظاهر التبعية والتخلف . وهو ما يجعلنا نؤكد أن غسان أسهم في الثورة عبر التحاقه بالجبهة ، بمثل ما أسهمت الجبهة ومفاهيمها ومبادئها الثورية في تحويله وبلورة اهتماماته بحيث كان هذا الإسهام جزءاً لا يتجزأ من موهبته الذاتية، وقد كان لهذين العنصرين: موهبته الخلاقة أولاً وانتماؤه لحركة القوميين العرب ثم الجبهة الشعبية ثانياً، الفضل الأكبر في ان يصبح غسان مبدعاً متميزاً وكبيراً ، مشغولاً وملتزماً بقضايا شعبه وأمته وفق رؤية ثورية تحررية ونهضوية ، فلم يكن روائياً توفيقاً أو خاضعاً لهذه السلطة أو تلك ، بل كان روائياً محرضاً على التغيير والثورة، والخلاص من أشكال الاضطهاد والظلم الوطني والطبقي ، وفي هذا الجانب ،   يجدر بنا أن نميز بين مصدرين من مصادر رواية التغيير الثوري، وإن كان من الصعب الفصل بينهما ، فيتمثل المصدر الأول بأعمال روائية تنطلق في الأساس من منظور نفدي اجتماعي إنساني وحس حدسي فني إبداعي ، ويتمثل المصدر الثاني بالانطلاق من مواقف أيديولوجية ، وقد يجتمع المصدران معاً في تلاحم عضوي. وأشير بالروايات الثورية إلى تلك الأعمال التي كتبها يوسف إدريس وبعد الرحمن منيف وغسان كنفاني وإميل حبيبي وإدوار الخراط وصنع الله إبراهيم ولطيفة الزيات وعبد الرحمن الشرقاوي ورضوى عاشور ورشيد بوجدرة والطاهر وطار ومحمد برادة وإلياس خوري وحيدر حيدر وبهاء طاهر وهاني الراهب .
 
إن تجربتنا مع العدو الإسرائيلي أكدت بوضوح رفضه لإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة ، وليست في جدول أعماله كما هو الحال بالنسبة لحق العودة ، ولا معنى لكل النضال بدون حق العودة، والآن بعد اثنان وستين عاما من اللجوء والمعاناة والنضال ، نقذف بالسؤال في وجه فتح وحماس ، على ماذا تتقاتلون ؟ وجوابنا السريع أنكم تتصارعون على السلطة وتقاسمها وعلى المصالح في إطار عربي وإقليمي ودولي لم يعد معنياً بعملية السلام أو عدالة القضية الفلسطينية إلا وفق الرؤية الأمريكية الإسرائيلية . وفي هذا السياق يقول الروائي الياس خوري " إذا حللنا عملية التسوية منذ مدريد حتى الآن ؛ نكتشف أن الإسرائيليين لا يريدون تسوية بل استسلاماً ، وبالفعل استسلم الفلسطينيون في " أوسلو" لكن الإسرائيليين يريدون أكثر من ذلك " [7].
فقد تحولت المقاومة الفلسطينية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، لتشكّل "شبه حكومة" و "دولة ضمن الدولة" ، فتعرضت بذلك إلى مزيد من الضغوط العالمية والعربية في سبيل التقبل التدريجي لحل سلمي كبديل وليس كمتمم للكفاح المسلح. وبذلك نشأ جناح يبحث عن الاعتراف الدولي، وتعزز الجانب المؤسسي البيروقراطي على حساب الجانب الثوري، كما كتب غسان كنفاني في حينه، بمعنى أن قيادات منظمة التحرير أصبحت هي وأساليب عملها وانتقالاتها واتصالاتها وتشكيلاتها ومراكزها مكشوفة تماماً [8].
إن هذا الموقف ، تجاه بيروقراطية م.ت.ف ، يتطابق ، بل ويعكس مفهوم التغيير الثوري كمحدد رئيسي لروايات غسان ، وذلك عبر رفضه للنظام السائد ودعوته التحريضية للثورة على الوضع القائم ورفضه للثقافة السائدة المعبرة عن مصالح الشرائح الحاكمة وولاءاتها الرجعية التقليدية تأكيداً لرفضه لمفاهيم الثقافة الموروثة .
 
إن الشعب الفلسطيني هو اليوم أمام امتحان نهاية مرحلة كاملة من تاريخه ، أي انه أمام امتحان بداية جديدة ، كما يقول الياس خوري ، لكن البداية "هذه المرة لن تكون في فراغ ، فلقد سال دم كثير وحبر كثير، ومن مزيج الدم والحبر ولدت حكاية رسمت صورة وتشكلت هوية" ، هي الهوية الوطنية في وحدتها مع هويتها القومية العربية .. ذلك هو المستقبل ولا شيء سواه .
لذلك لا بد من استعادة البعد القومي ليصبح النواة المحركة للنضال الفلسطيني ، بالقطيعة عن "القرار الوطني المستقل" وعبر استعادة روح ونصوص الميثاق القومي الذي تأسست م.ت.ف بموجبه عام 1964 ليكون المحدد الأول في بنيتها يحررها من نتائج وآثار الاعتراف بدولة العدو ، ومن الخضوع للهبوط السياسي الذي يحمل رايته بعض قيادات فتح الذين يرون في جدول الأعمال الأمريكي الإسرائيلي مخرجهم الوحيد .
فإذا ما تأملنا مسيرتنا الوطنية من أجل التحرير نكتشف أننا نسينا أو تناسينا في غمرة تفاؤلنا، التوقف أمام قضايا أساسية : ما هي طبيعة الكيان الصهيوني الذي نحاربه ؟ ما هو دور ووظيفة هذا الكيان في إعاقة تحرر واستنهاض ووحدة شعوب الأمة العربية ؟ وما هي العلاقة بين الكفاح المسلح والعمل السياسي ، وهل يتكاملان ويتفاعلان ، أم أن لكل منهما قناة منعزلة عن الأخرى، ما علاقة الكفاح المسلح بالتسييس داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، وما قيمة صراع الفلسطينيين مع العدو إذا كان معزولا عن محدده الأول والأخير كصراع عربي صهيوني ... باختصار نستذكر كلمات الشهيد غسان ومأثوراته وانتاجه الادبي والسياسي .
فعلى الرغم من استشهاد رفيقنا غسان عن عمر لم يتجاوز الستة والثلاثين ، فقد ترك لرفاقه وأبناء شعبه وأمته العربية عموماً والفقراء والكادحين خصوصاً، أضعاف ما تستوعبه تلك السنين القليلة، عبر مشاعل مضيئة ما زالت تغوص في معانيها مشاعر المناضلين، وعقول وأقلام المثقفين الذين كتبوا آلاف الصفحات عن زخم إنتاج شهيدنا المثقف العضوي المناضل والروائي المبدع والكاتب السياسي والإعلامي غسان كنفاني الذي استطاع أن يصنع هالته الفريدة، وترك لنا تاريخاً حافلاً بالإبداع والشموخ والتحريض على التغيير والثورة، يعتز به ويسير على هداه رفاقه في الجبهة الشعبية الموزعين على مساحة الوطن الفلسطيني كما في الشتات والمنافي وفي كل أرجاء هذا الكوكب ، يناضلون اليوم من أجل تحقيق الأهداف الوطنية والقومية ، التحررية والديمقراطية ، دون القفز عن المتغيرات التي أصابت القضية والمنطقة منذ استشهاده إلى اليوم .
في ذكراه الثامنة والثلاثين ، ربما نسأل أنفسنا ، ترى لماذا لا زال يُكتَب حتى اليوم عن غسان كنفاني وكأنه اغتيل أمس أو كان أدبه كتب قبل لحظة، والجواب بسيط ، غسان كنفاني مبدع متعدد الأوجه والدلالات والأفكار وعمق الرؤية ، فمع كل مرة تقرؤه تكتشف جديداً، كلما رأيته اكتشفت في وجهه ملامح جديدة ، المؤسف أننا نستطيع الزعم بان العدو اكتشف مواهب الرجل قبل أن يكتشفها كثير من الفلسطينيين والعرب، فحسم أمره في حين لا زال البعض في الساحة الثقافية الفلسطينية والعربية غير منتبه إلى ذلك الكائن السري الساكن بين حروف كنفاني .
اغتاله الأعداء لأنه حمل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلاً سيعثر على أداة التعبير عن فاعليته في سلاح الوعي بالنظرية الثورية والواقع وفي صيرورة بناء الحزب الثوري – الجبهة – ضمانة رئيسية ووحيدة للمقاومة بكل أشكالها[9].
لقد كان ثوريا من حيث هو كاتب ثوري ، كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب ، كان ممتلئا بحيوية نادرة ، كان مسكوناً بكهرباء لا تنضب –كما يقول محمود درويش[10]- . ولم يترك لنشاطه الواعي مجالاً واحداً للراحة ، كان يجدد وقوده الإبداعي بتبذير قواه، كان يتزود بالطاقة تلقائياً ، فهل كان هاجس الموت يستدرجه لصب طاقاته في وقت قصير ؟ هل كان استشرافه لهذه النهاية – البداية دافعاً لتناول كل أشكال التعبير من قصة ورواية ومسرحية ودراسة وبحث ونقد، ليسجل دمه على أصابعنا وذاكرتنا ؟ وهل كان يسبق الموت إلى الحياة في الكتابة ؟ ربما ، وربما كان هذا السياق أحد أجمل تجليات "الأنانية " الخلاقة والتفاني في آن واحد .
كان أكثر من كاتب .. لكن ما أفدح الخطأ الذي يرتكبه صغار النقاد والصحفيين ويخدعون به الناس حين يضعون واو العطف ( للتمييز ) بين الكاتب والمناضل كأن يقولوا : كان كاتباً ومناضلاً. ليس الأمر في مثل هذا التفصيل فقد كان غسان كنفاني كاتباً مناضلاً .
كثيراً ما يجابه الكاتب الفلسطيني بأسئلة تأتيه من البراءة أو الاتهام : هل أنت كاتب أم مناضل؟  وقد بقي غسان كنفاني مطارداً بهذا السؤال إلى أن بلغ الشهادة ، فهزم السؤال وانتصرت كتابة غسان .
هذا هو غسان الذي لم يكن مبدعاً أو روائياً فحسب بل كان مناضلاً وكاتباً سياسياً ملتزماً بأهداف ورسالة الحزب والجبهة واستشهد في سبيلها.


[1] حليم بركات – المجتمع العربي في القرن العشرين – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – يوليو 2000 – ص771.
[2] مجلة مواقف – العدد 8 – ابريل 1970 – بيروت – ص56.
[3] حليم بركات – مصدر سبق ذكره – 773.
[4]  غسان كنفاني  ، أم سعد ( بيروت : دار العودة ، 1969 ).
[5] حليم بركات – مصدر سبق ذكره – ص773
[6] المصدر السابق – ص774 .
[7] الطريق – العدد الأول – فبراير 2001 – بيروت – ص143 .
[8] حليم بركات – المجتمع العربي في القرن العشرين – مصدر سبق ذكره – ص585.
[9] محمود درويش – مقدمة غسان كنفاني – الآثار الكاملة – المجلد الرابع – مؤسسة الأبحاث العربية – 1998 – 12-13.
[10] المصدر السابق-ص13 .



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانتماء القومي وإشكالية الهوية [1]
- ماذا بعد وصول حل الدولتين إلى أفق مسدود ..؟
- هل انتهت الفلسفة
- كتاب - التحولات الاجتماعية والطبقية في الضفة الغربية وقطاع غ ...
- كتاب- التحولات الاجتماعية والطبقية في الضفة وغزة-
- وعد بلفور ومسار الصراع العربي الصهيوني
- الحصار والانقسام وآثارهما الاقتصادية والاجتماعية على قطاع غز ...
- الفلسفة وتطورها التاريخي
- حول مفهوم الأخلاق والحزب الثوري
- معظم النظام العربي يلعب دور أساسي في استمرار تقدم المشروع ال ...
- ما الماركسية ؟ الصوراني يدعو كوادر الجبهة للتمسك بالماركسية ...
- حول تطور م.ت.ف من عام 1968 – 1974*
- تطور الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر إلى بداية القرن الحادي ...
- ورقة حول : أنفاق رفح وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسي ...
- حول فشل الحوار الوطني
- الأزمة المالية العالمية وتداعياتها على الاقتصاد العربي
- حول الثقافة ودور المثقف
- حول حوارات اليسار الفلسطيني - هل يمكن لليسار الفلسطيني أن يت ...
- تلخيص كتاب : التطهير العرقي في فلسطين تأليف: إيلان بابيه
- معطيات وأرقام حول الشعب الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - غازي الصوراني - كيف تقدم الجبهة الشعبية غسان كنفاني ؟